التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
إمانويل كانت (1724-1804م)
لن يستطيع المرء حين يتصفح للمرة الأولى كتاب كانت «نقد العقل الخالص» أن يهتدي على التو إلى أسباب التأثير الضخم الذي أحدثه ذلك الكتاب؛ فهو يحفل بغوامض ومعميات عظيمة التجريد، تبدو لأول وهلة بعيدة عن المشاكل التي تحير الأذهان البشرية المعتادة. وأسلوبه شديد التعقيد، يصدم دون شك من ينتقل إليه مباشرة بعد قراءة كتاب مثل فولتير أو هيوم. وفضلا عن ذلك، فإن افتقار كتابة كانت إلى ذلك الوضوح واللمعان الكلاسيكي الذي يرتبط عادة بعصر التنوير، لا تعوضه أية نفحة من الحماسة والبلاغة الجديدة التي كان روسو، أمير الرومانتيكيين، قد أدخلها على النثر الفلسفي منذ عهد قريب. ومع ذلك كله فقد كان ذهن كانت من أكثر الأذهان في تاريخ الفكر البشري جرأة وأصالة. وقد انطوى نقداه المعقدان للعقل الخالص والعملي، كما أدرك بعض معاصريه، على انقلاب فلسفي عميق.
ولقد قدم إلينا الشاعر «هينه» وصفا موجزا لكانت يغني، في تعبيره عن أهم خصاله، عن مائة صفحة مكتوبة عن تاريخ حياته؛ فهو يقول: «من العسير كتابة تاريخ حياة إمانويل كانت؛ إذ لم تكن له حياة ولا تاريخ، وإنما كانت حياته حياة أعزب عجوز، مجردة آلية التنظيم، في شارع هادئ منعزل في كونجزبرج، تلك البلدة القديمة الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا. ولست أعتقد أن الساعة الضخمة للكاتدرائية القائمة هناك كانت تؤدي عملها اليومي على نحو أكثر دأبا وانتظاما مما كان يؤديه مواطنها إمانويل كانت؛ فقد كان يلتزم وقتا محددا في استيقاظه، وشربه القهوة، وفي كتابته وقراءته محاضرات الجامعة، وأكله ومشيه، وكان جيرانه يدركون أن الساعة قد بلغت الثالثة والنصف بالضبط، عندما يبارح إمانويل كانت باب داره بمعطفه الرمادي، وفي يده عصاه الخيزرانية، ويسير في شارع «شجرة الليمون» الذي لا يزال يسمى ب «طريق الفيلسوف»، تخليدا لذكراه. فما أشد التعارض بين الحياة الخارجية لذلك الرجل، وبين تفكيره الهادم المحطم للعالم! والحق أن مواطني كونجزبرج لو كانوا قد أدركوا من بعيد المعنى الحقيقي لتفكيره ، لأحسوا عند مرآه بهلع يفوق هلعهم من رؤية جلاد متخصص في قتل البشر. إن هؤلاء السذج لم يروا فيه سوى أستاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم في الوقت المحدد، كانوا يحيونه تحية الصديق، ويضبطون ساعاتهم عليه. ولكن إذا كان إمانويل كانت، الهادم الأكبر في عالم الفكر، قد فاق ماكسميليان روبسبير بكثير في الإرهاب، فقد كان بينه وبين هذا الأخير أوجه شبه عديدة تغري على المقارنة بينهما؛ فكل منهما يتسم، أولا، بنفس الشعور الصارم، القاطع، الجاف، الجاد، بالشرف والنزاهة. وكل منهما يتميز بالقدرة الفائقة على الارتياب، وهي قدرة مارسها أحدهما على الأفكار وأسماها بالمذهب النقدي، وطبقها الآخر على الناس وأسماها بالفضيلة الجمهورية. ومع ذلك فقد كان كل منهما يمثل «برجوازية» المواطن العادي أصدق تمثيل؛ فقد شاءت لهما الطبيعة أن يقوما بوزن القهوة والسكر، ولكن القدر أصر على أن يقوما بوزن أشياء أخرى، وهكذا وضع أحدهما ملكا، والآخر إلها في الميزان، وتعادلت كفتا الميزان تماما.»
1
ولقد كان تطور كانت الفكري بطيئا إلى حد غير مألوف؛ فقد تشبع وهو طالب بمذهب عقلي كان يحظى باحترام كبير في ذلك الحين، وهو مذهب «كريستيان فون فلف
Christian von Wolff »، وهو تلميذ غير لامع لليبنتس العظيم. ولم يبدأ كانت في التغلب على هذا التأثير إلا في أواسط حياته. وكان أول ما أعانه في هذا الصدد كتابات روسو وهيوم. وهذان، بالإضافة إلى ليبنتس، يمكن أن يعدوا المؤثرات الرئيسية الثلاثة التي شكلت فكره الناضج. ومن المحال أن يفهم المرء فلسفة كانت ذاتها إلا إذا ألم بعض الإلمام بطبيعة هذه المؤثرات.
فقد كانت مشكلة المعرفة تشغل جانبا كبيرا من اهتمام مدرستين فلسفيتين رئيسيتين، ابتداء من عصر ديكارت، هما العقلية والتجريبية. بل إن من الشائع وصف هذا الاهتمام بأنه هو المميز للفترة «الحديثة» في تاريخ الفلسفة من الفترتين القديمة والوسطى السابقتين عليها. ومع ذلك فإن أحدا من السابقين على كانت لم يتصور لحظة أن مسائل المنهج هي نقطة النهاية في الفلسفة، بل لقد كان معظمهم يعدون نظرية المعرفة، أو الأبستمولوجيا، كما تسمى، مجرد نقطة بداية ضرورية للتفلسف الحقيقي، الذي هو تحديد الطبيعة الحقيقية للأشياء، وشروط سعادة الإنسان؛ فغاية ديكارت من كتابة مقاله المشهور في المنهج لم تقتصر على إيضاح ما عده منهج العلم، الذي كان يتفق في رأيه مع طريقة المعرفة بوجه عام، وإنما كانت أيضا تطبيق نتائجه في حل المسائل الميتافيزيقية الكبرى المتعلقة بطبيعة الذهن والمادة وعلاقاتهما، وعلتهما، التي أسماها بالله. ولقد كان ديكارت وخلفاؤه في المدرسة العقلية؛ أي اسبينوزا وليبنتس، يعدون أنفسهم علماء ذوي وعي ذاتي عميق، مهمتهم إيضاح نفس المناهج التي أحرزت أخيرا ذلك النجاح الباهر في ميادين الرياضيات والفيزياء، ثم تطبيقها على المشاكل الأعم المتعلقة بالوجود، والتي عالجها الفلاسفة منذ عصر ما قبل أفلاطون. وقد تصوروا أنفسهم علماء هندسة أو علماء فيزياء من مرتبة أعلى - إن جاز هذا التعبير - ولم يداخلهم شك في أن أبحاثهم الميتافيزيقية ذاتها كانت في أساسها امتدادا لأبحاث العلوم «الخاصة»، وكانت الميتافيزيقا؛ أي علم الوجود، لا تعدو في نظرهم أن تكون «ملكة العلوم»، أما الأخلاق فليست سوى نسق من «القوانين الطبيعية» التي تحدد شروط تحقيق الإنسان لطبيعته. ولم يدر بخلدهم وجود أي نوع من التمييز القاطع بين قوانين الطبيعة والمبادئ المعيارية، على حين أن هذا التمييز كانت له أهميته الكبرى في فلسفة كانت.
ولقد استبق كبار خصوم المذهب العقلي، وهم لوك وباركلي وهيوم، كثيرا من أفكار كانت. ولكن إذا كان لوك، في كتابه المشهور «بحث في الذهن البشري»، قد سار مترددا في الطريق المؤدي إلى مشكلة النقد العقلي عند كانت، فإن فهمه للمشكلة قد ظل غير واضح؛ فتحليله للذهن البشري لم يتضمن خروجا صريحا على مسلمات ديكارت المنهجية الأساسية. كما أنه لم ينظر إلى هدفه الخاص بتحديد «يقينية المعرفة البشرية ومداها» على أنه هدف يختلف اختلافا شديدا عما نطلق عليه نحن اسم علم النفس التجريبي (
empirical ). وكان اهتمامه بالمسائل الخاصة بأصول أفكارنا، واتباعه لما أسماه ب «المنهج التاريخي الصريح»، دليلا قويا على أنه لم يشعر بوجود فارق أساسي بين الأبحاث النفسية للعلل المتحكمة في أفكارنا ومعتقداتنا ، وبين التحليلات الفلسفية لمعنى أفكارنا وصحة معتقداتنا.
Bilinmeyen sayfa