فالموضوعات التي كانت تندرج تحت اسم «الفلسفة»، كانت في عمومها تشتمل دائما على أمور تزيد على ما ينطوي عليه معنى «الأيديولوجية» مهما توسعنا فيه؛ ف «الفلسفة» توحي بحب المعرفة فضلا عن الحكمة العملية، حتى لو توسعنا في العبارة الأخيرة بحيث تشمل «حكمة العالم». وكثير من الفلاسفة، قبل كانت وبعده، كانوا يعتقدون أنهم يساهمون بنصيب، لا في زيادة الحكمة اللازمة للسلوك في الحياة فحسب، بل في مقدار المعرفة أو المعلومات النظرية المتعلقة بالعالم أيضا؛ فالفلسفة كانت، ولا تزال، أم العلوم ذاتها، أو على الأقل كانت هي مربية هذه العلوم وراعيتها. ولقد كانت العلوم، شأنها شأن كل الأبناء، تميل دائما إلى إنكار آبائها عندما تبلغ سن الرشد، غير أن الفلاسفة كثيرا ما كانوا يثيرون بطريقتهم النظرية أسئلة أجاب عليها العلماء فيما بعد بطريقتهم التجريبية. وقد ظلت الفلسفة في القرن التاسع عشر مستودعا لمشاكل لم تحل قبل ذلك، حول طبيعة الأشياء. وساهم فلاسفة القرن التاسع عشر بدور أصيل مفيد في ميداني النظريات الاجتماعية وعلم النفس بوجه خاص. فهيجل مثلا كان له تأثير عميق في النظريات القانونية التالية، كما أن شوبنهور ونيتشه قد ساهما بدور كبير فيها يسمى الآن ب «علم النفس المتعمق». وكذلك لم يكتف أوجيست كونت بنحت ذلك الاسم الأجنبي غير الموفق
7
لعلم الاجتماع، بل ربما كان أول مفكر وضع علما عاما للمجتمع. تلك كلها مساهمات هامة، حتى لو كانت مهمة إيضاحها وتأكيدها قد تركت للآخرين.
ومن الصحيح مع ذلك أن الجهود الرئيسية لفلاسفة القرن التاسع عشر كانت متجهة إلى غاية أخرى؛ فهناك هوة شاسعة بين كتابين مثل كتاب «الأخلاق» لاسبينوزا، وكتاب فشته «نظرية العلم
Wissenschaftslehre
أو علم المعرفة
Science of knowledge
كما تشيع ترجمته خطأ في الإنجليزية. ومن مظاهر التباين بينهما، ذلك التحول الأساسي في المفهوم الفعلي أو الممكن للمباحث الفلسفية الرئيسية، كنظرية المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق؛ فاسبينوزا، الذي كانت كتاباته تمثل مركزا تتلاقى فيه المفاهيم السابقة لهذه المباحث الفلسفية، وبالتالي لمهمة التفلسف ذاته، لم يكن يهدف إلى أقل من البرهنة، من خلال بديهيات وتعريفات واضحة بذاتها، على الحقائق الأساسية الضرورية المتعلقة بالله، والإنسان، وسعادة الإنسان. وقد استخدم نفس المنهج الهندسي الذي استخدمه إقليدس، لا لشيء إلا لأنه كان يعتقد أنه المنهج «الوحيد» الذي يمكن به الوصول إلى معرفة علمية لأي موضوع. وقد حاول اسبينوزا في كتاب «الأخلاق» أن يحول الحكمة الشعبية القديمة لدى الأنبياء إلى علم للأخلاق، وأنظار القدماء في الطبيعة إلى حقيقة ميتافيزيقية ضرورية. ففلسفة الإيمان والوحي اليهودية والمسيحية القديمة قد استعيض عنها، من وجهة نظره، بعقيدة للعقل، هدفها الوحيد هو معرفة ما هو كائن. وهكذا عمد اسبينوزا - وكأنه يحاول في ذلك إقناع القارئ نهائيا بأن الدين والفلسفة والعلم لها كلها نهج واحد - إلى وضع عبارة «وهو المطلوب إثباته
quod erat demonstrandum » عند نهاية البرهان على كل نظرية في «الأخلاق»، سواء أكانت هذه النظرية تقول بوحدة الله، أم بعدم وجود إرادة حرة على الإطلاق، أم بأن غاية الحياة البشرية هي الحب العقلي لله.
كل هذا بعيد تماما عن نظرة فشته إلى موضوعه؛ فالميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق تبدو بالنسبة إليه مباحث معيارية في أساسها، مهمتها تحليل وتقدير وإعادة تكوين المبادئ الأساسية التي ينبغي علينا أن نفكر ونحيا بها. وإذا كان هو ومعاصروه قد أطالوا الحديث عن «عالم الواقع
Bilinmeyen sayfa