Assertive »، إن جاز هذا التعبير، وسلامتها لا تقاس بمطابقتها نقطة فنقطة لموضوع خارج عنها. والمذهب الميتافيزيقي لا يختلف عن الصورة في هذا الصدد، وإن تكن غاياته أقرب، على الأرجح، إلى الأخلاق منها إلى الفن. غير أن أهدافه أشمل من أهداف الأخلاق؛ لأن التكيفات التي يسعى إليها ليست تكيفات العدل بين الأشخاص فحسب، وإنما تكيفات الشخص بأكمله مع بيئة الطبيعة والاجتماعية والداخلية في مجموعها. فإذا أخذنا آراء كانت وكونت معا في المعرفة البشرية مأخذ الجد، كما أفعل، فلن نعود نرى في المثالية المطلقة، ولا في الطبيعية التطورية، مذاهب كفيلة بتوسيع نطاق معرفة الإنسان العلمية للعالم. بل إنهما معا محاولتان «ميتافيزيقيتان» لوضع إجابات نقدية على أشمل وأبعد الأسئلة التي يستطيع الفرد أن يسألها عن تنظيم الحياة البشرية والفعل البشري في مجموعهما. وليس من المهم أن تكون هذه الإجابات «معرفية» أو «صحيحة» أو «باطلة» بالمعنى العلمي، وإنما المهم هو أن صورة الواقع كما تعرضها علينا قد تتيح لنا تنظيم طاقاتنا على نحو أسلم لإرضاء مجموع حاجاتنا بوصفنا بشرا. عندئذ تكون «صحيحة» بالمعنى الوحيد الذي يكون فيه هذا اللفظ جديرا بالبحث.
ولقد بدأنا مرة أخرى ندرك، كما يدرك الناس دائما في أوقات الأزمات الحضارية الحادة، أن الحاجة الميتافيزيقية؛ أي الحاجة إلى نظرة متكاملة إلى مصير الإنسان وأمله، لا يمكن أن تكبت على نحو دائم. وعندما تختفي فترة قصيرة عن الأنظار، فإن معنى ذلك أن أفراد مجتمع ما إما متكيفون مع المطالب الرئيسية التي تلقيها نظمهم على عاتقهم إلى حد لا يترك لهم مبررا لإثارة أسئلة جدية عن هذه النظم، وإما أن التزاماتهم الأساسية متأصلة وأن قبولها عام شائع إلى حد أنه لا توجد فرصة للصعود بها إلى مجال الوعي وإخضاعها لنقد أساسي. وإن فترات الرضاء الاجتماعي والتماسك الحضاري لنادرة جدا، ولا سيما في مجتمع دينامي «مفتوح» كمجتمعنا.
7
أما في الأحوال المألوفة، فإن التفكير الميتافيزيقي القوي هو علامة أساسية على النمو الحضاري، وهو أيضا شرط أساسي للتقويم الذاتي سواء بالنسبة إلى النظم أم إلى الأفراد؛ ففي عصر منهمك في الصراع الأيديولوجي بكل قوة، كعصرنا الحالي، يغدو هذا التفكير الميتافيزيقي ثانية أداة لا غناء عنها لإيضاح طريقتنا في الحياة بأسرها، ولتطهيرها وحفظها. مثال ذلك أن معارضة الشيوعية دون المثابرة على اختبار التزاماتنا الأساسية وإيضاحها لأنفسنا من جديد، قد ينطوي على خطر ترك الصراع يتردى إلى مجرد تنازع على القوة، بل قد تكون النتيجة أسوأ، فنفقد تراثنا في الحرية أثناء محاولة الدفاع عنه.
ولكن قد يكون أمامنا درس يلقنه إيانا مصير المثالية في ألمانيا؛ فقد بدأت المثالية هناك فلسفة «للحرية»، أكدت ضرورة ربط كل معيار اجتماعي بمطالب كل فرد، وكل مبدأ عقلي بالعمل الذي ينبغي على الأفراد القيام به لتحقيق ذواتهم، وانتهت نهاية مشينة، أصبحت فيها دفاعا شبه رسمي عن النظام القائم وإهابة شبه ذليلة ب «التراث»؛ فالمثاليون حين اكتشفوا أن العقل ذاته متحفظ حتما، وأن المعايير العقلية لكل مجتمع ينبغي أن تكون متأصلة في تراث حضاري مقبول لدى الجميع، قد ارتكبوا خطأ نسيان ما أطلق عليه «سانتايانا» اسم الحاجات «قبل العقلية»، والإشباع «بعد العقلي» الذي ينبغي على العقل ذاته العمل على تحقيقه، والذي يكون للقيام بأي نقد للعقل مبرر في ضوئه ومن أجله.
إن الخطأ الروحي الأساسي الكامن في أي نظام تقليدي، وبالتالي «عقلي» للأشياء، ينحصر في أننا نتجه حتما إلى أن نجعل منه صنما معبودا. والأمر هنا كأن مصير المعقولية ذاتها، في أي مجال، يحتم عليها أن تصبح صنما معبودا لدى من يخضعون لها. ولكن القرن التاسع عشر يكشف لنا في هذه الحالة أيضا عن الداء ويصف الدواء. فهيجل قد أدرك بفضل وعيه التاريخي أن للعقل ذاته جذوره التاريخية، وأن مفاهيم المعقولية ذاتها تتغير بتغير الظروف الحضارية. ولقد كان هيجل ذاته «متحررا» من المزاعم المسرفة التي كانت الفلسفات السابقة تدعي بها لنفسها صحة شاملة؛ إذ إنه رأى فيها تكيفات متجددة تاريخيا، وبالتالي قابلة للتغير وفقا لبيئة اجتماعية متبدلة. ومن سخرية الأقدار أنه لم يدرك أن فلسفته مقيدة بزمانها أيضا، وأن الديالكتيك التاريخي لم يتجمد بصورة نهائية قاطعة في منطقه الخاص.
لقد كان هيجل يفتقر إلى ذلك التواضع المحمود الذي نستطيع تعلمه من فلسفة التجربة عند مل؛ فمل يلقننا إمكان قيام تراث يقوم ذاته، ويأتي بترياق لميله الخاص إلى أن يصبح صنما معبودا. فهنا، باختصار، نظرة إلى العقل، أطلقت عليها اسم «مذهب اشتراط المعقولية
reasonablism »، تكيف ذاتها مقدما مع الأسئلة الجبرية التي قد يسألها الناس عن أي نظام من نظمهم، مهما كانت قداسته. تلك هي الحرية الأساسية التي دافع عنها مل. غير أن في الدفاع عنها دفاعا عن الفكرة القائلة إن نقد العقل، وبالتالي نقد الحضارة، أمر ضروري على الدوام. وإن إمكانية الثورة على الصور الخاصة التي قد يتخذها العقل هي دائما إمكانية مشروعة؛ فالبحث عن أسباب عقلية، إذا ما سار شوطا كافيا، يولد دائما أخطارا تهدد النظام القائم، وأعظم ما في فلسفة مل هو أنها تدافع عن هذه الأخطار بل تدعو إليها، وبذلك تعرف كيف تروضها. والواقع أن ما يقدمه إلينا مل إنما هو تراث آخر، وهو تراث لا يلتزم في أساسه إلا بمبدأ اشتراط المعقولية ذاته؛ أي المبدأ القائل إن من الواجب البحث عن سبب لأية قضية، وإنه ليس ثمة مبدأ بمنأى عن النقد، طالما أن هذا النقد يتم بأمانة وبنية طيبة.
وهكذا يبدو لي أن فكرة نقد العقل، ومثله الأعلى، الذي ساهمت فيه جميع المدارس الفلسفية في القرن التاسع عشر بنصيب كبير، ربما كانت لا تزال هي أعظم ما ساهمت به فلسفة القرن التاسع عشر. وليس معنى ذلك على الإطلاق أن في هذا دعوة إلى اللامعقولية أو افتقارا إلى الإيمان بمبادئ العلم. ومع ذلك يبدو للأسف أن كثيرا من المستنيرين يعتقدون بوجوب ترك حقوق العلم بمعزل عن مخاطر عملية النقد، وأن مجرد الشك في وجود هوية بين «المعقولية
rationality »، والصواب
Bilinmeyen sayfa