factual ) إلى قضايا عن العلاقات بين الإدراكات الحسية، وإنما بالمسألة الأهم، الخاصة بطبيعة الدليل الذي يمكن الإتيان به لتأييد أي اعتقاد واقعي
factual . وليس التخلي عن هذا المبدأ بالأمر الهين؛ فعليه يتوقف، إلى حد غير قليل إمكان المعرفة التراكمية وتقدم العرفان، بل يتوقف عليه إلى حد بعيد إمكان قيام مجتمع من الأحرار الذين يتعايشون في عالم مشترك. وليس في هذه المسألة فارق كبير بين ماخ وبين كانت ذاته. وهكذا تكون قصتنا قد أتمت على هذا النحو دورة كاملة. •••
والمقتطفات الآتية مختارة من الفصل الرابع، وعنوانه: «التطور الشكلي لعلم الميكانيكا»، من كتاب ماخ «علم الميكانيكا».
2 ⋆ (6) «وهكذا فإن الفكرة القائلة إن اللاهوت والفيزياء فرعان متميزان للمعرفة قد استغرقت، منذ بوادرها الأولى لدى كوبرنيكس حتى صياغتها بشكل نهائي على يد «لاجرانج»،
3
قرابة قرنين من الزمان حتى أصبحت واضحة في أذهان الباحثين. وفي الوقت ذاته لا ينكر أحد أن هذه الحقيقة كانت دائما واضحة في أذهان أعمق العلماء، مثل نيوتن. فرغم تدين نيوتن العميق، فإنه لم يخلط أبدا بين اللاهوت وبين المسائل العلمية. صحيح أنه قد ختم كتابه في «البصريات»، الذي ظل ذهنه الواضح الباهر لامعا فيه حتى صفحاته الأخيرة، بصيحة توبة ذليلة عن غرور الأشياء الأرضية الفانية، غير أن أبحاثه المتخصصة في البصريات لا تحوي أثرا للاهوت، على عكس الحال في أبحاث ليبنتس. ومثل هذا يمكن أن يقال عن جاليليو وهيجنز
Huygens ،
4
فكتاباتهم تتفق اتفاقا شبه مطلق مع وجهة نظر لاجرانج، ويمكن أن تعد في هذا الصدد كتابات كلاسيكية. غير أن الآراء والميول العامة لعصر ما، ينبغي ألا يحكم عليها تبعا لأعظم أذهان ذلك العصر، وإنما لأذهان الأوساط فيه.
ولكي نفهم العملية التي نشرحها ها هنا، ينبغي أن ننظر في الأحوال العامة السائدة في تلك العصور؛ فمن الطبيعي أن ينظر الناس إلى الأشياء من وجهة نظر لاهوتية، في مرحلة للمدنية يكون الدين فيها هو المصدر الوحيد للتعليم، ويكون هو النظرية الوحيدة عن العالم، وأن يعتقدوا أن هذه النظرية هي السليمة في جميع ميادين البحث. ولو رجعنا بأذهاننا إلى العهد الذي كان فيه الناس يعزفون فيه على الأرغن بقبضة يدهم، ولا يستطيعون إجراء العمليات الحسابية إلا إذا كان أمامهم جدول الضرب، ويؤدون بأيديهم كثيرا من الأعمال التي يؤديها الناس اليوم بأدمغتهم، فلن يكون لنا أن نطلب من الناس في وقت كهذا أن يختبروا آراءهم ونظرياتهم بطريقة ناقدة. غير أن هذا التحامل الذهني قد اختفى ببطء وتدريجيا باتساع الأفق العقلي بفضل الكشوف والمخترعات الفنية والعلمية والجغرافية في القرن الخامس عشر والسادس عشر، وبكشف مجالات كان من المستحيل إحراز أي تقدم فيها في ظل النظرة القديمة إلى الأشياء، لا لشيء إلا لأن هذه النظرة قد تكونت قبل معرفة هذه المجالات. وسيظل من العسير دائما فهم حرية الفكر الهائلة التي ظهرت في حالات فردية في العصور الوسطى المتقدمة، بين الشعراء أولا ثم بين العلماء. فلا بد أن التنوير كان في تلك الأيام مبنيا على جهود قلة من الأذهان الخارجة تماما عن المألوف، ولم تكن تربطه بآراء جمهرة الناس إلا خيوط واهية إلى أبعد حد، أحرى ببلبلة هذه الآراء منها بتقويمها. ويبدو أن المذهب العقلي لم يجد مسرحا واسعا للعمل إلا عند ظهور أدب القرن الثامن عشر؛ ففي هذا الأدب تقابل العلم الإنساني والفلسفي والتاريخي والفيزيائي، وشجع كل منهم الآخر. والحق أن كل من تتبعوا جزئيا تجربة هذا التحرر الرائع للعقل البشري في أدبه، سيظلون يشعرون طوال حياتهم بأسف رثائي عميق على القرن الثامن عشر. (7) وإذن فقد تم التخلي عن وجهة النظر القديمة، ولم يعد تاريخها يتلمس الآن إلا في صورة المبادئ الميكانيكية. وستظل هذه الصورة غريبة عنا طالما أننا نجهل أصلها. وقد حلت بالتدريج محل النظرة اللاهوتية إلى الأشياء نظرة أخرى أشد صرامة، واقترنت هذه بكسب كبير في التنوير كما سنبين الآن بإيجاز.
Bilinmeyen sayfa