ومع ذلك، فحتى لو قبل هذا الوصف على علاته، فما زال من الممكن الدفاع عن الرأي القائل بأن القرن التاسع عشر كان عصرا أيديولوجيا؛ فلفظ الأيديولوجية، يعني، في أحد معانيه المتعددة، «التأمل النظري أو الفكري المجرد». غير أن مثل هذا الوصف لفلسفة القرن التاسع عشر بأسرها وصف غير كامل؛ فهو يغفل ذلك الاتجاه والاندفاع الأساسي للتفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر، حتى في إطاره الميتافيزيقي ذاته. ولو رجعنا إلى قاموس «وبستر
Webster »، لوجدنا معاني أخرى للفظ «الأيديولوجية» لها ارتباط أوثق بتلك المعاني التي أقصدها حين أطلق على هذه الفترة اسم «عصر الأيديولوجية»؛ ففي أحد هذه المعاني يشير اللفظ إلى «نسق من الأفكار بشأن الظواهر، ولا سيما ظواهر الحياة الاجتماعية؛ طريقة التفكير المميزة لطبقة أو فرد.» غير أن هذا التعريف يغدو أكثر غموضا كلما أمعن المرء التفكير فيه؛ ذلك لأن الجزء الأول فيه يوحي بنظرية عن الظواهر، ولا سيما الاجتماعية منها، في حين أن الجزء الثاني لا يوحي بنظرية، وإنما بطريقة في التفكير أو نسق من المواقف. فالأول يبعث في الذهن قضايا موضوعية تصف شيئا موجودا في العالم، والثاني لا يوحي بقضايا يجوز فيها الصواب أو الخطأ، وإنما بشيء أكثر ذاتية، يعبر عن الطريقة التي ينظر بها فرد أو جماعة إلى عالم الواقع. هذا الغموض أو ازدواج المعنى، هو في رأيي كامن في الاستخدام المألوف لكلمة «الأيديولوجية»، وهو أيضا ازدواج يكمن في صميم التفلسف المميز للفترة التي نتناولها ها هنا بالبحث؛ ذلك لأن نظرة معظم فلاسفة القرن التاسع عشر إلى أية قضية ذات صورة فكرية على أنها شيء يتصور، ويوضع (أو يؤكد)، ويرغب فيه، ويتاق إليه، هي ذاتها التي تجعل من العسير علينا أن نعرف متى يتحدثون عن طريقة التفكير ومتى يتحدثون عن موضوعه. وهم كثيرا ما يتحدثون عن الأمرين معا، أو على الأصح، عن علاقة بينهما يعدونها أساسية لهما معا. أما السبب في تحدثهم على هذا النحو، فإنه يؤلف جزءا كبيرا من مشكلتنا في هذا الكتاب. وعلى أية حال فسواء أكانت هذه الفكرة صحيحة أم باطلة، فإنها تمثل خروجا على طبيعة التفلسف النظري السابق، وهي تؤدي آخر الأمر إلى نظرة جديدة تماما إلى عملية التفلسف ذاتها.
ولقد كان الفلاسفة في الفترة السابقة على القرن التاسع عشر يهتمون كثيرا بمشكلة المنهج، ولكنهم في عمومهم لم يشكوا كثيرا في وجود حقيقة مستقلة موضوعية يمكن فهمها على نحو ما .
1
كما أنهم لم يرتابوا في وجود طريقة موضوعية للتفكير في الواقع، مشتركة بين كل الحيوانات العاقلة، ولا تؤدي إلى تغيير أو تشويه أساسي للشيء المعروف. فهم في واقع الأمر لم يتعمقوا كثيرا مفهوم الموضوعية ذاته، بل اقتصروا على استخدامه للتعبير عن إيمان شبه شعوري بقدرة الملكة العاقلة على بلوغ موضوعها، وعن التطابق بين الشيء في ذاته والشيء كما يعرف. وقد نظروا إلى ما أسموه ب «العقل
reason »، على أنه الملكة العاقلة التي تدرك بها قوانين الطبيعة، وعلى أنه في الآن نفسه مبدأ النظام أو القانونية اللذين تدركهما الملكة العاقلة في الطبيعة. وهكذا نظر إلى العلاقة بين تفكير الإنسان في الواقع وبين الواقع ذاته على أنها علاقة «تطابق»، شفاف، وعدت أيضا علاقة خارجية صرفا، لا تؤثر بحال في الخصائص الكامنة في الشيء المعروف.
2
أما الانسجام المقدر بين الذهن العارف والموضوع الحقيقي للمعرفة فهو، تبعا لهذا الرأي، معجزة إلهية لا يملك الإنسان إلا أن يعرب عن امتنانه لها.
أما منذ وقت كانت، فقد أصبح افتراض وجود تطابق مقدر بين الذهن وموضوعه، يعد افتراضا دجماطيقيا (توكيديا) غير ناقد.
فإذا كان العقل الكامن في الأشياء هو ذاته العقل الذي نعترف بأنه معيار التفكير السليم في أي موضوع، فما ذلك إلا لأنا نحن أنفسنا قد حددنا مقدما الشروط التي ينبغي أن تتوافر في أي موضوع حتى نعده «حقيقيا
Bilinmeyen sayfa