4
لم يقل عبد الله أول الأمر إنه العسكري الأسود، كل ما قاله ردا على استفسار شوقي: ده يا بيه مشكلته معقدة، وحالته حال، ما لنا احنا بيه؟! ما تسيبه للحكيمباشي لما ييجي الصبح يعرف شغله معاه.
كان شوقي في ذلك الوقت مشغولا بإحدى عملياته الصغيرة، كان يبحث في دفتر الإشارات التليفونية التي ترسل للمكتب لتطلب توقيع الكشف على العساكر أو الضباط المرضى، وكان يفعل هذا لحكمة ومصلحة؛ فقد جرت عادته أن يجرد الإشارات ليختار منها واحدة يكون العنوان المذكور فيها قريبا من عيادته إذا كان يريد الذهاب للعيادة، أو من بيته، ويختارها هكذا لكي يوفر على نفسه ركوب الترام أو الأتوبيس أو استعمال عربته الخاصة؛ إذ في هذه الحالة تقوم عربة المكتب الحكومية «الاستيشن واجن» بتوصيله خلسة بعد الانتهاء من المهمة، في محاولة بحثه عن الإشارات عثر على الدوسيه، وبسؤال عبد الله عنه تطوع الرجل بذكر حكاية العواء والهبهبة، وما لبث أن أعقبها بتلك النصيحة، ونصائح عبد الله لم تكن مجرد نصائح، كانت في معظم الأحيان أوامر واجبة النفاذ؛ إذ رغم أنه تومرجي المكتب الذي بالكاد يجيد القراءة والكتابة إلا أنه لطول عهده بالعمل كان هو الحافظ الوحيد تقريبا لكل لوائح وقوانين القسم الطبي؛ وبالتالي المرجع الأساسي لحل المعضلات إذا نشبت معضلات، وفتواه هي النافذة؛ إذ كان يثبت في النهاية ومهما ثار الحكيمباشي والأطباء عليه أن رأيه هو الصحيح، وهو الذي ينطبق تماما مع كل ما جرت به اللوائح والقوانين، وشوقي بالذات كان لا يناقشه؛ إذ كان أخوف ما يخافه أن تحل الكارثة مرة فيخطئ في حق لائحة من اللوائح أو قانون من القوانين، هو الذي بدا عدوا لكل قانون، أصبحت المسئولية هي عدوه الوحيد اللدود يفعل المستحيل ليتجنبها، ومستعد أن يسير أميالا إذا كان في السير ما يجنبه فقرة واحدة يتحمل فيها درهم مسئولية، إلى درجة كان يخيل إلي فيها أحيانا أنه يود لو يشف جسده ويشف حتى يصبح كائنا أثيريا لا يتحمل مسئولية إيجاد مكان له فوق سطح الأرض، أو نظرة يلقيها عليه إنسان، ومع هذا تعجب لتمسكه بالحياة ونهمه إلى الدنيا بطريقة يكاد معها أن يبتلعها - لو استطاع - داخل جوفه.
أي كائن بالغ التعقيد كان قد أصبحه شوقي!
المهم، انتهزت فرصة النقاش الدائر بين عبد الله وشوقي ومددت يدي وتناولت الدوسيه؛ ملف خدمة ذلك العسكري، تناولته وقد انبثق في نفسي حب الاستطلاع الكامن تجاه هذا النوع من الدوسيهات، كثيرا ما رأيتها في أقسام المستخدمين، وقد دمغت بكلمة: «سري جدا»، وكثيرا ما أردت تقليبها، ووقف النظام الذي يقضي بألا يطلع عليها إلا الرؤساء - وفي حالات الضرورة القصوى - حائلا بيني وبين ما أريد، رحت أقلب صفحات الدوسيه الكثيرة أكثر من مائتي صفحة، في أولها شهادة ميلاد، وتوافق مضحك أن أجد أن عباس محمود الزنفلي صاحبها وصاحب الدوسيه قد ولد في نفس العام الذي ولدت فيه، والذي يسبق مولد شوقي بأشهر، كنت أتصور صاحب الملف عجوزا، أو على الأقل في الأربعين، فإذا به، لدهشتي، من نفس جيلنا الحائر التعس، مضيت أقلب الصفحات، ما كان أشبه الملف بكتاب ضخم، عن حياة إنسان! كان واضحا أنها من أولها مضطربة غير مستقرة لم تمش أبدا على الصراط المستقيم، خدمته نصفها الأول كله جزاءات، تتراوح بين الخصم والتكدير، وتقارير تمس السلوك (رغم الشهادة المرفقة بالمسوغات، والتي يقر فيها اثنان من الموظفين أنه حسن السير والسلوك)، ثم فصول أخرى تتعدد فيها حركته وتكثر التنقلات والانتدابات، وينتهي بذلك الخطاب المتوج بشعار مجلس الوزراء الذي يطلب نقله إلى حرس الوزراء، ومن تلك الصفحة لا خصوم ولا إنذار، وإنما تفاجأ بقرارات بعلاوات، ثم أمر بترقيته إلى رتبة أومباشي، بعدها قرار آخر بترقيته استثنائيا إلى شاويش، ثم صورة من خطاب شكر وتقدير من وزير الداخلية، ثم صورة قرار آخر بمنحه نوط الواجب من الدرجة الثانية «تقديرا للجهد المشكور الذي بذله في أداء واجبه والتفاني في خدمة مصالح الدولة العليا.»
ولكن هذا كله لم يستغرق من الدوسيه إلا أقله؛ إذ أغلب الصفحات كانت ما تلت، وكلها طلبات بإجازات مرضية، وخطابات متبادلة بين الحكمدارية ووزارة الداخلية، وقومسيون طبي المحافظة مؤرخ أولها في نوفمبر 49 وآخرها بعد سنوات، وبالتحديد في اليوم السابق لذلك اليوم الذي كنت فيه مع شوقي في مكتبه، ورد خطاب أرسلته المحافظة إلى الحكيمباشي تطلب فيه توقيع الكشف الطبي على نفس عباس محمود الزنفلي لإثبات عجزه الكامل تمهيدا لفصله من الخدمة.
وما كدت أنتهي من إغلاق الصفحة الأخيرة حتى كانت أذني تلتقط أخريات الحوار الدائر بين شوقي والتومرجي، والأخير يقول وكأنه يهم بإطلاعه على سر: عارفشي حضرتك عباس محمود الزنفلي يبقى مين؟
وقبل أن ينطق شوقي أو يسأل، وجدت عبد الله يقول: ما هو ده اللي كانوا بيسموه العسكري الأسود يا بيه، حضرتك ما سمعتش عليه ولا إيه؟!
ولم يجب شوقي، كل ما حدث أنه ثبت على وضعه وثبتت ملامحه على تعبيرها السابق، لم يقل شيئا، ولم يدهش أو يستنكر، ظل هكذا وقتا، ثم دون أن يغير من وضعه أو يتحرك شيء في ملامحه مد يده وتناول مني الدوسيه، ومضى يقلب صفحاته صفحة صفحة، وبإمعان تقرأ عيناه كل سطر، وأيضا دون أن يختلج وجهه أو لسانه أو وضعه بانفعال، كم من الوقت مضى على شوقي وهو يقرأ؟ الله وحده يعلم! إذ كنت في الحقيقة مشغولا عن الوقت بما هو أعظم، بالاهتمام البالغ الذي لفرط خطورته غير باد على شوقي، ولكنك تحس وجوده، تكاد تلمسه، تعتقد لا بد أن شوقي تحول إلى كتلة اهتمام رابضة تقرأ وتقلب الصفحات، أول مرة في علاقتنا طوال سنين أراه يكرس نفسه كلية لشيء، فنفسه دائما كانت كالأشعة المارة من خلال عدسة مقعرة لا تسقط على شيء بذاته أو لذاته، ولا تتركز في نقطة، وكلما حاولت تبددت وتفرقت، وكأنما هناك تنافر مشحون بين أجزائها يمنعها أن تلتقي أو تتوحد، كان دائما معك ومع نفسه ومع أشياء أخرى لا تمت بصلة إلى الزمان أو المكان.
5
Bilinmeyen sayfa