وتمر أيام أخرى. وتموت زوجة عبد الحليم، وتقصد البنت إلى أبيها. - أبي، قد كبرت. ولم تعد تستطيع أن تظل على هذه الحال. - وما هذه الحال؟ - تحتاج إلى لقمة طيبة وهدمة نظيفة ونومة هادئة. - أما اللقمة فأنا، كما تعلمين، لا يغريني الطعام. وأما الهدمة ... - أعرف، أعرف أنك أنظف إنسان في القرية، ولكنك يا أبي أنت الذي تغسل جلبابك كل ليلة. - من يريد أن يكون حرا لا بد أن يكون نظيفا. - والنومة الهادئة؟ - أتحسين يا ابنتي أني أنام في العراء لأني لا أجد بيتا؟ - أتحب أن تنام في العراء؟ - قولي لي، كيف أعيش منذ تركت الخدمة؟ - تؤدي الطلبات لأصدقائك في البلاد الأخرى وفي البندر مقابل أجر ضئيل. - يكفي لقمتي وسيجارتي. - وما شأن هذا بنومك في العراء؟ - هل أعدم سقفا عند أصدقائي هؤلاء؟ إنما أريد أن أرى الليل وأقيم فيه. إنه يخيل لي أن الليل نفسه لا ينام إلا إذا رآني أنام تحت سمائه. أنا يا ابنتي مخلص لأصدقائي كما تعرفين. الليل هو أحب أصدقائي إلي، وهو أيضا أوفى الأصدقاء لي.
حين يشيخ البحر
مرت بنا في الإسكندرية أيام خيل إلينا فيها أن البحر قد شاخ، وأنه أصبح عاجزا عن أن يموج ثانية. كانت المياه منه تصل إلى الشاطئ عاجزة لاهثة، كأنها حيوان أخذ منه الجهد مأخذه؛ فهي ترتمي على الرمال ارتماء من يتشبث بالحياة، وينشب فيها أظافر يائسة مرتعشة توشك أن تموت.
وكان الهواء قد مات فعلا، حتى لقد خيل إلينا أنه يبتسم أبدا.
وإذا كان هذا حالنا ونحن على شاطئ البحر في الإسكندرية، فالله في عون البعيد عن الشاطئ.
في هذا الجو يجمل بنا أن نتناول حديثا بعيدا عن السياسة؛ فالسياسة إن أعجبت قوما أغضبت آخرين، وإن رضي بحديثها بعض ضاق به بعض أكثر.
والأخذ في غير حديث السياسة أمتع للقارئ وأيسر للكاتب، وخاصة إن كان الكاتب مثلي مرن على كتابة الرواية والقصة، وعرف بهذا اللون بين الناس، وأصبح عذره بين يديه إذا هو قدم إلى قارئه من حين إلى آخر حكاية. وقد يسأل من يسأل: فما لك لا تصوغ هذه الحكاية قصة قصيرة تضاف إلى مجموعة جديدة، أو رواية طويلة تضاف إلى ما كتبت من روايات؟
وأيسر إجابة على ذلك أن أبطال هذه الحكاية يفسدون الحبكة الروائية، ويدمرون الصدق الفني؛ فهم بأعمالهم الخارقة للعادة يحولون دون جعل قصصهم أعمالا فنية؛ لأنها أعمال يرفضها التصديق ويأباها المنطق، ولا بد للعمل الفني أن يتسم بالصدق جميعا.
ومع كل هذا فالحكاية التي أقدمها قد وقعت في الحياة فعلا؛ ذلك أن الحياة لا يعنيها في كثير أو قليل أن يصدق الناس ما تؤلفه من قصص وروايات، وإنما يعنيها أن تؤلف، وليس يعنيها من يستقبل العمل الفني. •••
ولعل أبيات شوقي في قصيدته الخالدة مصاير الأيام خير دليل على ما أذهب إليه.
Bilinmeyen sayfa