إهداء
في الحب: منزلة الشبح
سجن وسجان
القبر: روضة من رياض الجنة
رسالة: الأصدقاء لا ينسون
نوار سعد: لا وقت للأقنعة
في القرية: ابتسامة الرمل
في القرية: نحو العاشق البدوي
في المدينة: تمارين نيفاشا
كتابات: رسائل إلكترونية
كتابة: مخلوقات لذيذة
الكهف مرة أخرى: الخير
جماليات الكوارث: فصل في المال الحلال
قوالات
سابا تخلي: في مديح الحبشيات
في الكهف مرة أخرى
كلاب: لصوص وطلاق
القديسة: سهير حسان
زهرة الزقوم
العاشق البدوي: اسم الطين
رسالة: العاشق البدوي
في بيت مايا زوكوف
قالت لي القديسة ذات مرة
أمين السوداني: ينام مع الفئران
الحكمة: امرأتان
النهايات:عفة الخيانة
الخير علي: رجل من الطمي
نوار سعد: الحياة تعني الكثير
المحراب: القلب الذي يعشق
مايكل: جنوبي جميل
الشرطي: يعني دائما رجل الأمن جمال
البلاد الكبيرة: السودان بيت التعب
أمين: أمين محمد أحمد
رسالة: كتبت نوار طه إلى محمد آدم
إهداء
في الحب: منزلة الشبح
سجن وسجان
القبر: روضة من رياض الجنة
رسالة: الأصدقاء لا ينسون
نوار سعد: لا وقت للأقنعة
في القرية: ابتسامة الرمل
في القرية: نحو العاشق البدوي
في المدينة: تمارين نيفاشا
كتابات: رسائل إلكترونية
كتابة: مخلوقات لذيذة
الكهف مرة أخرى: الخير
جماليات الكوارث: فصل في المال الحلال
قوالات
سابا تخلي: في مديح الحبشيات
في الكهف مرة أخرى
كلاب: لصوص وطلاق
القديسة: سهير حسان
زهرة الزقوم
العاشق البدوي: اسم الطين
رسالة: العاشق البدوي
في بيت مايا زوكوف
قالت لي القديسة ذات مرة
أمين السوداني: ينام مع الفئران
الحكمة: امرأتان
النهايات:عفة الخيانة
الخير علي: رجل من الطمي
نوار سعد: الحياة تعني الكثير
المحراب: القلب الذي يعشق
مايكل: جنوبي جميل
الشرطي: يعني دائما رجل الأمن جمال
البلاد الكبيرة: السودان بيت التعب
أمين: أمين محمد أحمد
رسالة: كتبت نوار طه إلى محمد آدم
العاشق البدوي
العاشق البدوي
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى مريم بنت أبو جبرين
أمي
عبده بركة
في الحب: منزلة الشبح
الإنسان هو مشروع فاشل لمخلوق أسمى، ولو أنه لا يزال يحتفظ بقدر ضئيل من ملامح ما كان يجب أن يكونه، وبقدر واف من صفات المسخ الذي هو عليه الآن. وأنا أكتب ذكرياتي وأسجل وقائع حياة ما كانت ستصبح قاسية ومؤلمة لولا ذلك الكائن السامي، وما كانت تغدو جميلة وثرية لولا ذلك المسخ الحطيط، سوف أحكي هنا عن الإنسان؛ فقيرا ومؤلما كما العقرب، ولطيفا حلوا كالفراشة، وبعيدا عن هذه الثنائيات أحاول أن أكون صادقة وواضحة، وأحاول أن أقول أشياء هي غائمة الآن في ذهني، ولكن آثارها جلية في روحي وفي جسدي، سوف أحاول ألا أخجل للآخرين أو منهم.
أقول إنني سوف أكشف عري العراة، وعورة جحيم عشته بعمق، على الرغم من ذلك أرجو أن أكون رحيمة بجلادي، ولو أنني أصبحت جلادته؛ فلقد قتلته عدة مرات.
لا أعرف من أين أبدأ. اسمي سارة حسن، وستعرفون عني الكثير كلما حكيت لكم الكثير، فأنا لست براوية بارعة، ولم تكن لي جدة تحكي عند المساء، ولم أقرأ في حياتي كلها سوى حفنة من القصص، سيشاركني الروي جميع الناس الذين سوف أحكي عنهم، سيحكون عني وعن أنفسهم، سيروون شهاداتهم كما شاءوا، كلهم أبطال ورواة، بعضهم متمرس بل وماهر مثل سهير حسان أو القديسة كما يسميها أصدقاؤها، وبعضهم لا خبرة له في الحكي مثلي، وأخشى أن يكون ذلك مربكا، ولكن لكي أقول على الأقل معظم ما علي قوله، لا بد من ذلك، اسمحوا لي أيضا أن أبدأ حكايتي بالمشهد الأعمق في ذاتي الذي لن أنساه ما حييت.
حدث ذلك ذات يوم في سجن لئيم، يبدو أن اليوم كان جمعة؛ لأن الشرطي الوسيم لم يتبختر عبر زنازين النساء؛ لينثر عطره الوقح في كرم وبجاحة إلا متأخرا، أي بعد الثالثة ظهرا، وهذا استثناء لا يحدث سوى مرة في الأسبوع، حيث إنه يستعد لصلاة الجمعة طيلة فترة الصباح. في الطبع والعادة، في غير أيام الجمعة، كان يحضر إلينا عند السابعة صباحا ثم يختفي، ثم يظهر مرة أخرى عند الواحدة بالضبط، ثم في غرفة الاستجواب - قاعة الاحتفال - ما بعد الواحدة بعد منتصف الليل .
قال لي الشرطي الوسيم وقد دخل إلي دون أية مقدمات، ملأ عطره القوي المستفز زنزانتي تماما، وزكم منخري وهو يقف أمام وجهي، يكاد يلمس أنفه فمي، لولا أنني كنت أنسحب للخلف تدريجيا، حتى كدت ألتصق بالحائط: أحبك يا سارة، أحبك جد، ولو وافقت على الزواج عندما تطلعي من هنا حنتزوج.
قلت له: أنا ما بحب ولا فاضية لمواضيع فارغة، ولو حبيت ما بحب في الوقت دا، ولا في المكان دا، ولا في الظروف دي، ولا واحد زيك.
قال في برود وقد كف عن التقدم نحوي: أنا عارف الشيوعيين عندهم رأي في العساكر، وناس الأمن والشرطة ... وكثير من الناس يعتبروننا بدون أحاسيس، ولكن المشاعر الإنسانية مفروض تكون ليها مكانة خاصة ... وبعدين العسكر ذاتهم خشم بيوت، زيهم زي أي زول؛ فيهم الصالح وفيهم الطالح.
قلت له من بين أسناني: وفيهم اللي مثلك.
قال ساخرا: اللي مثلي نادر.
ثم أضاف ضاحكا: أنا مش أسيبك ... وفي يوم ما حتلقي الحقيقة ... ونتزوج، وأنا جاد.
وما كنت أظن أن اليوم (الما)، هو نفس الليلة، على الرغم من أن الحوار الذي أداره معي يعني في عرف المكان أنني ضمن صيد اليوم.
عندما أخذنا الحرس من السجن السري بعربة، وأعيننا مغمضة إلى المكان الآخر، دعوني أسميه المكان الآخر؛ لأنني إلى الآن لا أدري أين هو أو أعرف اسمه الحقيقي، كنا ثلاث فتيات من ثلاث زنازين مختلفة، لم أرهن من قبل، وكانت تظهر عليهن علامات الضرب والتعذيب، قلن لي فيما بعد إنهن طالبات بالجامعة في السنة الأولى، وإنهن يعرفنني جيدا، وكنت أمثل لهن نموذج المرأة المناضلة، وحكين عني الكثير من المواقف والبطولات التي ما عادت تهمني الآن، كان تفكيري كله ينصب في أمر واحد؛ الحرية، أريد أن أخرج من هذا المكان بأسرع ما يمكن، يكفي هذا الأسبوع الطويل الذي قضيته في هذا المكان المرعب.
بعد أن قدموا لنا وجبة العشاء بدأ التحقيق، وفي ربع الساعة الأولى من التحقيق أحسست بالدوار يتملكني، كنت أرى كل شيء وأسمع كل شيء كما لو كنت في الحلم، ولكن عضلاتي لا تستجيب لأية حركة، قامت الطالبتان بتجريدي من ملابسي ووضعي على فراش بالأرض، من ثم جاء الشرطي الوسيم ومارس الجنس معنا الثلاثة، البنتان سعيدتان تضحكان وهن يهيئنني في أوضاع مختلفة ويرضعن صدري، بل يفعلن بي أسوأ من ذلك. عندما استيقظت في الفجر وجدت نفسي وحيدة في حجرة، كانت أصوات المعتقلات تأتي من بعيد مختلطة بهمهمة العسكر ولجبهم وكركبة معالجة السلاح والأقفال. يؤلمني ما بين فخذي، جرح أحس به عميقا في روحي، عميقا في مشاعري، عميقا في كبريائي وإنسانيتي، ثم جاءني الشرطي، تحدث مباشرة وكأنه يكمل كلاما كان قد بدأه سابقا: كنت مدفوعا لعمل دا ... مدفوعا ما من زول، ولكن بالحب، الحب وحده.
قلت له مغتاظة: حا أقتلك إذا خرجت حية من هنا.
ابتسم وهو يقول: حتخرجي حية من هنا، وأنا أعرف وما حتقتليني، ما تقدري تقتلي نملة، المهم تعرفي أنا بحبك وما أخليك، كوني مثل صاحباتك هم الآن أحرار، وأخير ليك تفضلي معاي، كوني مثل صاحباتك هم الآن يستمتعوا بكل لحظة يقضوها هنا، وحياتهم الليلة أكثر سعادة من الأول ... حرية تامة هنا ... أي شيء هنا بدون ذنب، ذنبك كله علي وعلى الحكومة، أنا قبلان أنو أدخل النار عشانكم. فأنت سجينة في يد غيرك وتصرف غيرك، وذنبك برضو على غيرك ... هي فرصة إنك تعملي أي شيء كنت محرومة منه ... وأنا ماشي وما عايز رد الآن ... فكري في الموضوع.
كنت أحس أنه يسخر مني، وهذا فصل من التعذيب آخر، قتل الروح المعنوية وتدمير الذات، كان كلامه ينخر في عظمي كالسوس. وذهب.
يبدو أن المكان الذي نحبس فيه الآن معتقل كبير عتيق، ولو أننا لا نرى منه غير الحجرة التي نشغلها، ولا نعرف غير الذين هم نحن، ولا يمر علينا من السجانين غير اثنين: الشرطي الوسيم والآخر، ولو أننا نسمع كثيرا من الأصوات ليلا ونهارا، كنا فيما يشبه قاعة كبيرة في عمارة شاهقة، وكان هذا إحساسنا جميعا، ربما كنا في الطابق الرابع أو الخامس، نسبة لما يبدو حركة بشر وأصوات تأتي من تحتنا.
كان شميم المكان هو الموت، أصواته نواح وألم، ملمسه جثث باردة، منظره حزن عميق ومأساة، كان كل شيء فيه يثير غرائز النهاية والاستسلام.
سجن وسجان
أخذت سارة حسن إلى الجزء الجنوبي من المحراب، الجزء الذي له مكانة خاصة عند المختار حيث القطية الكبيرة، قطية الروح، محاطة بشجر عرديب كثيف شديد الخضرة، حدثتني عن أشياء تعجبها في نوار سعد، ودرس تعلمته في السجن.
وقالت أن علاقة نوار سعد بأمين محمد أحمد هي ذات العلاقة بين سجين وسجان، الفرق هنا أن السجين هو أمين محمد أحمد والسجان هو نوار سعد، والسجن ليس إلا فكرة ملحة في ذهن كليهما. قرأنا معا ما كان مكتوبا على بوابة المحراب من طواسين الحلاج:
لو علمت أن السجود لآدم ينجيني ...
لسجدت.
ولكن قد علمت أن وراء تلك الدائرة دوائر.
فقلت في حالي: هب أني نجوت من هذه الدائرة ...
كيف أنجو من الثانية والثالثة والرابعة؟
المحراب نظيف، وفراش المختار يشع جمالا وسكونا، كتبه على المنضدة، مصحفه على المقرأة، حذاؤه الجلدي المركوب الفاشري على المحذأة، يفوح عطر الصندل من كل أنحاء المكان، المصلاة مهيأة موجهة إلى القبلة، كل شيء يؤكد أن المختار موجود الآن، وأنه خرج ليتوضأ ويعود بعد لحظات قلائل، إنه الآن يدخل المحراب، طويلا يرتدي الدمور الأبيض، يسلم على السيدتين ولا ينتبهان، كانت سارة حسن تحدثني عن السجن والشرطي الوسيم ... قالت وهي تكتب: إذا جمعنا قبح العالم كله لن يساوي شيئا يسيرا من قبح البنتين السجينتين وفجورهما، جاءتا إلي في الزنزانة في ذات الصباح وطلبتا مني العفو، قالتا إنهما يفعلان ما يؤمران، وإنهما يفضلان الحياة بمائة مرة على الموت، وإنهما يرغبان في الخروج من المعتقل؛ يستكملان دراستهما، يتزوجان وينجبان أطفالا مثلهما مثل كل النساء ... - وأظنك كذلك تحبين الحياة.
قالتا إنه لا أخلاق في هذا المكان ولا دين ولا رب ولا رسل ... هنا فقط الضابط الوسيم؛ الأول والأخير.
بصقت في وجه إحديهما، مسحت البصقة بظهر كفها، طلبتا مني العفو مرة أخرى مما أحرجني؛ فاعتذرت لها.
فاغتصبني في ذات الليلة بدون عشاء مفخخ، رغم الجرح والألم، رغم النزف، لكني لم أستعطفه، لم أرجه، لم أصرخ، كنت أبصق في وجهه كلما امتلأ فمي باللعاب؛ يبتسم.
ثم بعد ذلك طلب مني أن يتزوجني، مؤكدا أنه اكتشف أن كل ما كان يدور حولي من تهم مجرد افتراء حكومي بغيض، وتكفي عذريتي التي انتهكها شاهدا على براءتي. قال ذلك وفي فمه ما يشبه الموت.
تزوجني بحضور شهود لهم جلابيب بيضاء وعمامات بيض وأوجه قبيحة، وقرءوا ما تيسر لهم من القرآن، وأخذت إلى شهر العسل في الفندق العجوز الذي اكتشفت أننا القاطنان الوحيدان به. حراس، عسكر الدورية، وأنين يأتي من البعيد ليلا ونهارا. كان مكانا مرعبا فارغا لا حياة فيه سوى الفراغ، الصالات الضخمة الفارغة، البهو الكبير الفارغ عند المدخل، عشرات الحجرات الكبيرة الفارغة، الممرات التي تمضي بين هنا وهنالك في صمت وفراغ، صدى طرقات الريح على الأبواب والنوافذ، هبوبها في المماشي الفارغة، صليل أنفاس الفراغ، صدى صرخات الوطاويط الحزينة السجينة بالمكان، رائحة الموت.
لحق بنا مايكل وبرهاني وأمين، خلعوا الأحذية عند المحراب، لم ينتبهوا إلى ما كتب مقابلا للمدخل من مقالة إبليس في طس الدائرة، دخلوا، جلسوا على الأرض في أدب جم.
أضافت سارة جملة أخيرة إلى دفتر مذكراتها قبل أن تخلد إلى أصحابها: كان شخصا مرعبا ومعقدا ... ولا يمكن فهمه مطلقا.
القبر: روضة من رياض الجنة
كنت وجمال الأمين، وهو الشرطي الذي تزوجني، نجلس عند الحديقة المتوحشة الصغيرة الداخلية للفندق العجوز المهجور، كان هذا الفندق في أزمنة الاستعمار الإنجليزي قصرا فخما لاستضافة كبار الشخصيات القادمين من العالم المسيطر، ذا قاعات وغرف شاسعة بسقوف عالية ترفعها أعمدة من الرخام في غطرسة وشموخ، تحول القصر بعد الاستقلال إلى فندق خمس نجوم، لم يغيروا فيه الكثير، ربما أضافوا إليه حديقة صغيرة في الجزء الخلفي، وهي التي نجلس عليها الآن، وعدلوا في نظام الصرف الخاص به؛ حيث إنه كان يعتمد على التفريغ اليدوي والميكانيكي، وتحول إلى نظام المجاري الذي يصب في النهر مباشرة وبدون أية معالجة. الفندق يقع على ضفة النهر الشرقية، ولا يفصله عنه سوى شارع النيل. لأسباب لا يعلمها أي من المواطنين الشرفاء تحول هذا الفندق إلى بيت من بيوت الأشباح، تستغله السلطات في أغراض أمنية بحتة.
كانت الإضاءة خافتة كما يفعل من لا نراهم دائما. حدثني عن عمله المرهق، قال إنه سينزل المعاش وسوف يأخذني إلى القاهرة لكي نعيش هناك في أمن وسلام، حيث نقدم للهجرة إلى كندا، أستراليا، فرنسا، أو إذا ضرب حظه وأصابه اللوتري الأمريكي، فيا حظنا! - فأنت شيوعية معروفة، وأنا بإمكاني أجيب ورق من رئاسة أمن الدولة بأنك كنت تحت الاعتقال، وثائق حقيقية من ملفك الشخصي مباشرة، وثائق تفتح قدامك أبواب الدول العظمى كلها في لحظة واحدة، بداية بإسرائيل نهاية بأمريكا، وبالتالي نبعد من البلد دي ومشاكلها.
قلت له وقد أحسست بإهانة بالغة تخنقني: أنت ساذج ولا بتفتكرني أنا ساذجة؟ - أنا بتكلم عن مصلحة، أنا زول عملي، وما عندي أية مصلحة في الحكومة دي، ولا البلد دي، ولا الناس ديل، في الحقيقة أنا زول غلبان زيك، لا أحلم بتغيير الكون ولا السيطرة على العالم، عايز أعيش وبس.
قلت له بجدية ووضوح تام: أنا عكسك تماما، أنا ما غلبانة، وعندي مصلحة في البلد دي وفي ناسها وحتى حيواناتها، وبحلم بتغيير العالم للأحسن، يعني أنا عارفة عايزة شنو، وبعمل في شنو؟ وأنت لولا أنك مستخدم سلطتك ضدي والله ما بسلم عليك في الشارع ... أنت زول تافه وزيك زي أي حثالة. - أنا؟
نهض فجأة في حركة مسرحية، دائما ما يقوم بها عندما تغلبه الحيلة فيحاول إخافتي.
إذ برجل عار يصرخ وهو يجري في الحديقة باحثا عن مخرج، يتجه نحونا صارخا طالبا النجدة، وإذا برجلين أبيضين ملتحيين سمينين كانا يتعقبانه، يلقيان به أرضا بضربة حرة في مؤخرة رأسه، يلحقها به أحدهما فيسقط متأوها، يجرانه على الأرض جرا، ثم يختفي الجميع في ظلامات الفندق العجوز المهجور، تتبعهم همهمة واستعطاف هزيلان. حدث ذلك كما لو كان شريطا سينمائيا سريعا، كما لو كان كابوسا طويلا، كما لو كان فيلما هتشكوكيا. - دا شنو؟
صرخت في رعب، قال ببرود وكأن شيئا لم يحدث: أحد الخونة هرب من الاستجواب.
قلت له في غيظ: من التعذيب ولا من الاستجواب؟
قال مبتسما: من الاستجواب.
قلت له وأنا أرتجف خوفا: الزول دا جسمه كله مجرح ومحرق والدم سايل من ظهره! أنت ما لاحظت؟
قال في برود وهو يهز ساقيه بإيقاع داخلي: يكون وقع في مصيبة عوقته.
قلت له: وديل شنو الناس البيض ديل، شياطين؟
قال وهو يجلس في مقعده بهدوء: ديل خبراء تحقيق من أبناء عمومتنا العرب، كانوا في أفغانستان، حاربوا الروس الشيوعيين هناك، عندهم خبرة كبيرة في التعامل مع اليساريين والجواسيس بصورة عامة.
قلت له بطريقة جادة وأنا أنهض من الكرسي: خلينا نخرج من المكان دا ...
قال مبتسما: لوين؟ - لأي مكان تاني. - لا يوجد مكان أهدأ من هنا ... الحدث دا ما حيتكرر تاني، أوعدك ... أنا حاحسم الموضوع دا نهائيا. - أفضل نمشي من هنا، بس نطلع من هنا. وأنت ليه ما عايز توديني البيت، مش خلاص عرستني؟ - أنت قبل شوية ما قلت أنا تافه وما حتسلمي علي في الشارع؟ - أنا اتراجعت، حاسلم عليك، بس وديني بيتنا. - بيتكم! - أيوا! - ولكن ... خلي التحقيق معاك ينتهي، أنت لسه في نظر القانون خاينة، وخطرة على الدولة، وهم طالبين منك طلب بسيط وأنت ما عايزة توفي بيه. - كويس لو بقينا هنا؟ ... حاقتلك ... - تقتليني أنا؟ عملت ليك شنو؟ - نعم ... حاقتلك أنت، ومن الأحسن تاخد المسألة مأخذ الجد.
قال محتارا أو مراوغا: إذا نمشي وين؟
قلت له بحدة: نمشي إلى الكهوف. - ياتو كهوف ... - كهوف مايا زوكوف ...
سأل ضاحكا: مايا زوكوف؟ - نعم. - كهوف كلية الفنون اللي كلها قبور وشياطين؟ - نعم. - لكنهم ما بيسمحوا لينا نمشي هناك. - بإمكانك تدبيره ... أنت موظف كبير ومسئول، وأنت اللي بتسمح واللي ما بتسمح.
قال وقد تراجعت ضحكته إلى ابتسامة بائلة: خليني أفكر في الأمر.
ثم أضاف بعد صمت طويل: أنت شيطان بحق وحقيقة، وأنا مسكين وقعت في حبك.
كنت أعرف أنه كاذب وتافه وحقير، ولكني لم أستطع أن أكتشف ماذا يرمي من وراء لعبة الحب هذه، وهو ينال كل شيء مني بإرادة السلطة والقهر، والآن بشرعية الزواج، لا أعرف ماذا بعد، ولم يجب، أعادني إلى المعتقل. بعد خمسة أشهر أجريت لي أول عملية إجهاض، كانت عنيفة ومؤلمة، في الحقيقة كان إجهاضا جماعيا، كنا عشرين فتاة، جميعهن من الجامعة، جميعهن تم اغتصابهن بواسطة ذات الشرطي، وتم زواجهن جميعا له بمأذون زيف وآيات وأحاديث وسنة وشهود منتهكين ...
كنا في عنبر كبير من الزنك متسع، تفوح منه رائحة الوطاويط، يسكنه البوم والصراصير. جاء - حدث ذلك بعد أسبوعين من مأساة الإجهاض الجماعي - وقف عند المدخل منتفخا كأنه رب حجري من الحصى والرمل والطين، رافعا رأسه للسماء بهتلرية بائدة بائلة، يرفع كلتا يديه في تحية للعالم الذي تحت قدميه، قال بصوت عال: لا تخافوا، حتحملوا تاني من جديد، وتستمتعوا بحريتكم بعيدا عن الأسرة والقوالات، يا حبيباتي الشيوعيات الصغيرات الطاهرات العاهرات، ما أجمل أن يجد الرجل نفسه بكون كله من الشراميط!
شراميط زي الورد!
ثم طلب من الحرس أن يأخذني إليه، قلت للحرس: لن أذهب.
ولكنه أكد أن الريس لا تعصى أوامره، وأنه فوق كل ذلك يقدرني بشكل خاص، وهذه مكانة لا ينالها شخص في قلبه سوى حبه للنبي وآل بيته. - يعرف النبي؟ هذا الذئب، هل يعرف الله؟
تذكرت أنه قال لي ذات مرة إنه مسلم ملتزم، وإن ذلك لا يتناقض مع ما يقوم به من معاص وذنوب؛ لأنه عندما يتوضأ للصلاة فإن الوضوء يغسل عنه الذنوب الصغيرة جميعها؛ مثل ضرب المعتقلين وتعذيبهم، بعض التجاوزات المالية الصغيرة والكبيرة منها، كل أنواع الكذبات والاحتيال، النظر إلى النساء ولمسهن، وما شابه ذلك. أما ما يقترفه من كبائر مثل شرب الخمر، الزنا، القتل - نادرا ما أقوم به - وما شاكلهم، فإنه بحجه السنوي لبيت الله الحرام - الذي تكلفه له الحكومة وتحرص عليه - يخلص نفسه منها، ويأتي كما ولدته أمه؛ نقيا نظيفا عفيفا.
وأكد لي أن الله يغفر الذنوب جميعا، ما عدا أن يشرك به. بالتالي يا سارة أنا مهما عملت؛ قتلت، نكت، سرقت، ضربت، كذبت، وعملت السبعة وذمتها، ذنوبي لا تساوي ذرة من آثام الشرك اللي في رقبة شيوعي واحد صغير اتجند ليه يومين.
أنتم لا تصلون، لا تصومون، بالتالي لا تتوضئون، لا تحجون بيت الله الحرام، والأدهى والأمر تشركون به.
أكد لي الحرس ببرود بغيض: من الأحسن أن تحتفظي بالشيء اللي ما ينقال في سرك، وعلى كل حال حتمشي ليه، حتمشي ليه.
أول مرة أرى مكتبه، كان أفخم مكتب أراه في حياتي، أعظم مما يقال عنه، وكان يلبس كأبهى ما يكون، يفوح من المكتب عطر عظيم يتخلل المسام ويلج إلى القلب مباشرة، كنت قد غسلت وغيرت ملابسي وهيئت للقائه. قال: الآن سأحقق رغبتك، حنمشي إلى كهوف مايا زوكوف فلاديمير، أو مايا العزيز، أو كهل المخابرات الروسية في العهد الشيوعي البائد، الرقم تسعين زيرو زيرو ... حنمشي برانا ونكمل شهر العسل هناك ... عايز فقط أبرهن ليك حبي ... - برانا! - نعم برانا، أنا لا أخاف إلا الله، وأعرف أن الله لا يفعل بي إلا خيرا، حرسي هو الله، وأنا حآخذ إجازة من اليوم، عايز أتفرغ ليك شوية، أديكي حقك الشرعي، زوجتي الأولى قضيت معاها ستة شهور في العسل. - وحبيباتك الشيوعيات؟
ضحك، بل قهقه قائلا: أحبك أنت فقط، وأنا راجلك أنت بس، والبقية أقوم بواجبي الوظيفي تجاههن لا أكثر.
وقبل أن أقول شيئا دخل الحرس، أكد له أن كل شيء جاهز، وخرجنا بعد أن قبلني بعمق واعتذر لي في مسألة الإجهاض، وقال ذلك تم بسلطات أعلى من سلطاته، ولا ذنب ولا يد له في ذلك. - ولو علي كنت احتفظت بعيالي كلهم، أنا أحب الأطفال، وكل طفل مات كأنه قطعة من كبدي انقطعت.
وقال لي إنه مسئول فقط عن نشاطات الشيوعيات، هنالك من هو مسئول عن نشاطات حزب الأمة، آخر للاتحادي، آخر لأنصار السنة، وآخر للحزب الحاكم نفسه حين يجب الضرب بيد من حديد: في اللحظات الحرجة لا فرق. هنالك أيضا رجل صديق مسئول عن البعثيات التابعات للعراق، وآخر لمن يتبعن سوريا. وحدثني عن خبراته الكبيرة المتراكمة في هذا المجال؛ حيث إنه يستطيع التفرقة ما بين الشيوعيات الماركسيات الملحدات منهن والمسلمات، وذلك بمجرد أن يولج ذكره في الواحدة منهن، قال إن التروتسكية ... ثم ضحك حتى سال الدمع من عينيه وهو يقول: الزملاء الذين يتعاملون مع أنصاريات السنة والجبهجيات والأنصاريات وغيرها من أحزاب اليمين يقولون شيئا عجيبا ... لا يمكن ... نعم، لا يمكنني قوله؛ لأنني سأموت من الضحك. ثم استغفر الله وواصل القول: إن دخول هذا الشيء في امرأة غصبا عنها لأمر مدهش، لولا ارتباط ذلك بالمهنة لأصبح أمرا مسليا، ولألفنا فيه كتبا كثيرة. قال: التروتسكاويات تبصق الواحدة في وجهك مباشرة، وبالنسبة للفرد المدرب يجب ألا يغيظه ذلك بقدر ما يجب عليه أن يسجل ملحوظة صغيرة في ذهنه العملي؛ إن الزميلة تروتسكية، وأن يستفيد من ذلك في التحقيق، وقد يقوم بلحس البصقة في متعة تغيظ المتهمة أكثر.
الماويات يكتفين بالصراخ والضرب وسب الدين، أما أنت فعرفتك بإشارة لن أقولها لك مطلقا.
ضحك، دخن سيجارة، نزلت العربة عن طريق الأسفلت متخذة الطريق البري إلى كهوف مايا زوكوف، يبدو أن أحدهم قد سبقنا إلى الكهف، فكان نظيفا، تفوح منه رائحة العطور الخشبية وبه كرسي مريح، أمامه منضدة وبالقرب منه حافظة ماء كبيرة نظيفة، على الحائط توجد معاول وجاروف ليسا بعيدين عن باب الكهف. جلس على الكرسي مباشرة حيث لا يوجد مقعد آخر، جلست أنا على مقعد حجري كبير كان قد نحته طلاب كلية الفنون في عصر مايا العزيز، وكنت واحدة منهم، قال لي إنه بالداخل يوجد سرير ومفارش مهيأة، سوف نقضي ما تبقى لنا من شهر العسل هناك يا حبيبتي ... وأنا لا أحب أن أكرر الأوامر، ولا أحب أن يغدر بي، أنا وحدي مسموح لي بأن أغدر بالجميع؛ لأن غدري في المصلحة العامة، علينا أن نتفق على كدا.
كل ما تحتاجين إليه تجدينه على الحائط قرب القبر، أنا سوف أسترخي قليلا. بالمناسبة ... المفروض يكون جوه القبر دا، لكن للأسف لا يعرفني جيدا، كان صديق دراسة، لعبنا سوا واتشيطنا سوا، يعرفني المرحوم دا حق المعرفة، نعم كنا شباب متطلعين للحياة، لكن كل واحد منا كان يرى المستقبل بصورة مختلفة عن الآخر، بينما شلت أنا سكة الحياة، هو اختار سكة الموت، والنتيجة هي زي ما شايفة.
منو مننا الأبقى؟
ومنو مننا الهالك؟
منو الخسران؟
ومنو مننا اللي ربح البيع؟
لقد أدخلوه في مفرمة كبيرة تستخدم لسحق عظام العجول ... ها. ها ... يا حبيبتي الجميلة الطاهرة، نحن في قسم النساء مهماتنا صعبة، حقيقة، وأنا بالذات أكثر زول في الأفراد تعبان. ضحك في هستيرية، ثم أضاف: لولا أن صادفت فحلا مثلي لما استطاع كائن ما كان أن يقضي المهمة في ليلة واحدة ... صدقيني ... لقد أكبرت فيك التزامك بالخلق الحميد، خلق يليق بكم، يا لكم من شيوعيين وبعثيين ومطاليق! تكفرون بالله ورسوله ولا تفرطوا في غشاء بكاراتكم؟
أنتم توفرون لنا اللذة في تمامها. أنا سوف أسترخي قليلا، وإذا بدت منك أية حركة سوف أقتلك فورا ... ثم آخذك إلى الحجرة الداخلية بالكهف الصغير حيث أعد لك الرجال قبرا جميلا يليق بمقامك ... نحن لا نترك شيئا للصدفة. لكنه لم ينم.
توقفت سارة حسن عن الكتابة، كانت تتذكر الحوادث كما لو أنها تجري الآن نصب عينيها، شربت جرعة كبيرة من الماء، أطفأت نور السراج الصغير، ذهبت نحو الفراش، أزاحت قدم آدم قليلا، أزاحت عنه الغطاء كلية، استيقظ مذعورا، ضحكا، تعانقا، مسح بكفه على شعرها، حرره من رباط الحرير، كان شعرها ناعما له رائحة عطرة، بأناملها تعبث في شعر صدره، تحب ذلك المكان، يثيرها ملمسه الخشن، قبلها بعمق.
منذ أن هربت سارة من المعتقل أصيبت بفوبيا من الجماع، وكان آدم يحاول أن يخلصها منها، إلا أنها تنكمش في اللحظات الأخيرة على نفسها، وتصبح مثل كرة مغلقة من المعدن، وقد تصرخ، ولا يمكن التعامل مع جسدها بعد ذلك إلا إذا ضربت، وآدم لا يفضل ذلك، ولكنها تجبره على ضربها حتى تستسلم للفراش، ربما لهذا السبب بالذات اختارا قطية تقع على أقصى جنوب المحراب، تقريبا على ضفة النهر الصغير.
بجسدها خرائط لبلاد لا عناوين لها، صنعتها عصا الجلاد، وتبدو الجروح العميقة مثل نهيرات جفت منذ عصور سحيقة، والحروق أخاديد وأطلال براكين. يعرف آدم كل أثر في أي موضوع كان، رسم ذلك مرات عديدة في لوحات جميلة مرعبة، كان يسميها قديسة العذابات والشهيدة الحية مرة، يحبها آدم كما هي وبما هي عليه بالضبط، ما يؤلمه حقا أنه يضربها مضطرا، وذلك لأجلها، يضربها بسوط له فرقعة مدوية، ولكنه لا يؤلم كثيرا، بل يؤلم كثيرا، قال له الطبيب النفساني: هي مسألة وقت لا أكثر.
كنت أجلس قربه وأنا في غاية القلق والتشاؤم، الدنيا تضيق في عيني أكثر في كل لحظة يأس تمر بي، لماذا أنا هنا؟ في الحقيقة لم تفدني كل التبريرات التي خطرت بذهني في تلك اللحظات، ما يخص الدافع الوطني والإنساني والبطولي، انتهاء بالواجب الحزبي، لقد كفرت بكل شيء، لولا أنني لا أعرف إجابات مقنعة لأسئلتهم لجاوبت، فلقد كانوا يطلبون مني المستحيل، كانوا يريدون أن أدلهم على قوائم العضوية، وعناوين الحزبيين، وأين يختبئ الذين لا عنوان لديهم، الذين لم أسمع بأسمائهم ولم أرهم من قبل، ومن هم وماذا يفعلون الآن؟ كانوا لا يصدقون أنني لا أستطيع الإجابة عن أي من هذه الأسئلة؛ لأنني ببساطة لا أمتلك الإجابات الصحيحة لها، فكنت أؤكد لهم أنني لست سوى طالبة جامعية نشطة، تكره فيما تكره السلطة الحاكمة، وتحب فيما تحب اليسار، المسألة ليست أكثر من إعجاب، وإذا كنت أعرف أية معلومة تخرجني من هذا الجحيم لقلتها بدون تردد.
يبدو في هذا اليوم سعيدا، ومتفرغا لمتعه الخاصة، وقد عبر لي أكثر من مرة أنه لا يخدم وظيفته بأكثر مما يمتع نفسه، وعندما يتعارض الهدفان فإنه يتبع هواه، وقال لي: الآن أنا أتبع هواي.
كان الكهف صامتا، إلا ما تتسرب إليه من أصوات قبرات وأطيار ليل من بعيد، وقد يسمع صفير ضب أو صرير جندب بين الفينة والأخرى، كنت أرتدي كامل ملابسي، بل وحذائي أيضا، عكسه تماما؛ حيث إنه يبدو كما لو كان في بيته، مسترخيا في ملابسه الداخلية، حافي القدمين. كان رأسه الحليق يعكس أشعة الضوء الخافت وهو يهتز مجاريا إيقاع أغنية يؤديها في صمت.
قال لي بهدوء مرعب وهو ينظر في عمق عيني: تعالي يا حبيبتي.
قال الكلمة الأخيرة كما لو كان يؤدي أغنية.
ثم أخذ يهذي كالمجنون: «الحبيبات لا يخلفن ميعادا.»
أخرج من حقيبة صغيرة زجاجة خمر مكتوب عليها
DRY GIN . قال لي: كنت عايز أنوم، ولكن قلت من الأحسن نشرب مع بعض شوية جن وننوم سوا. وشايفك متوترة ومزاجك عكران، ولابسة لبس ستة، تعالي اشربي شوية جن يمكن تروقي حبة.
قلت له، وأنا أقف بعيدا عن يده الممدودة في إلحاح: أنا لا أشرب الخمر ولا أحبها.
قال وفي فمه ابتسامة بنية: دا خمر مستورد، جن إنجليزي، وهو ليس من الخمور المحرمة، والعرب ما كانوا بيعرفوه في زمان الوحي، بالرغم من أنهم أول من قطر الكحول في العالم، ولكن فاتت عليهم حكاية الجن دي.
قلت بصورة قاطعة: محرم أو غير محرم أنا ما بشربه.
قال ملوحا لي بالزجاجة: طبعا بتكوني مسلمة، فإذا كنت مسلمة أنا أعدك بأن ذنبك علي.
قلت له في إصرار: برضي ما بشربه.
قال وهو يبتلع جرعة ضخمة، ويدفع بحزمة كبيرة من الهواء خارج جوفه: كلنا مسلمون، ولكن شوية معصية من أجل الاستمتاع بالحياة والقبض على اللحظة ما فيها مشكلة. ثم أضاف: أنت عارفة يا سارة، لو شربت شوية وشعشعتي، وبعد داك مارسنا مع بعض حتعرفي قيمة الحب، ما في أجمل من الخمرة والجنس سوا، والجن بالذات بيهيج الزول.
قلت له من بين أسناني: أنا هنا سجينة وبس، وما عندي أي رغبة في شيء لا جنس ولا خمر، كل ما أحتاج ليه حريتي، عايزة أمشي بيتنا وبس.
قال بعد أن ابتلع جرعة أخرى: ولكن أنت مش اخترتي براك المكان دا؟
قلت له: أنا عايزة أكون حرة؟ الكهوف برضها سجن.
قال دون مبالاة، وكأنه يتحدث إلى طفلة: إن شاء الله قريبا جدا حتاخدي حريتك، وحنحتفل سوا بالمناسبة دي، بس اشربي شوية دواقة ما أكثر، بقة بقتين.
ومد لي الزجاجة فرفضتها وذهبت بعيدا في عمق الكهف تاركة إياه، كان يغني بصوت عال والغريب في الأمر كان يمتلك صوتا جميلا شجيا وهو يغني مقلدا صلاح الضي:
يا طير يا ماشي لأهلنا
بسراع وصل رسايلنا
أتيت إليه مهرولة على إثر سماع فرقعة الزجاجة على الحائط، قال: آسف، أنا لمان أكمل القزازة أحتفي بها بجدعها. انخلعت؟
ثم سألني بصوت سكير وهو يحرك يديه في الهواء: أنت عارفة صلاح دا قتله شنو؟ صلاح دا قتله الحب، كان أروش ما بيعرف يحب، والحب زي الحرب؛ عايز استراتيجية وتكتيك، صلاح كان لأ، أنا بعرفه، كان يرمي بنفسه في ميدان المعركة دفعة واحدة ثم يفكر في الهجوم أو الانسحاب. كنا سوا في ليبيا، غنينا وسكرنا ومدحنا، صلاح دا أحسن مداح في الدنيا، وأحسن زول خلقه ربنا في الزمن داك، آآآآآآآه، زمن والله ...
ثم أخرج زجاجة أخرى ثم أخرى ...
ثم طلب مني أن أخلع ما تبقى من ملابسه جميعا، وأن أخلع ملابسي ونذهب للسرير، كان قد بدا ضعيفا وهزيلا وهو يقول ذلك، ولكنه فجأة غير رأيه قائلا: سارة، يا سارة.
أجبته في ضيق: نعم؟
قال لي آمرا: امشي جيبي الكوريك.
سألته: لييه؟ - عايز أوريك حاجة.
كان الجاروف في موقع ليس بالبعيد عن باب الكهف، في خطوتين نحو المخرج التقطته.
قال لي: اضربي به على القبر كما ضرب سيدنا موسى عليه السلام على البحر.
قلت له: ما فاهمة. - يعني ما عارفة كيف سيدنا موسى ضرب بعكازه البحر لما سكاه الفرعون؟ أنت ما مؤمنة؟
ثم أضاف وهو ينظر إلي بعينين حمراوين من فعل الخمر، وفي فمه ابتسامة مخمورة: اضربي القبر يا زولة، القبر دا.
مشيرا إلى قبر صديقنا حافظ الذي قتل ودفن في الصحراء، وعندما عثرنا على قبره بعد جهد جهيد ومغامرات ورشاوي، قمنا بإعادة دفنه هنا في كهوف مايا زوكوف، حيث إنها كانت أحب الأماكن لقلبه. - اضربي بقوتك كلها كشيوعية، لا تخشي في الضرب لومة لائم.
وأخذ يضحك. وقررت بيني وبين نفسي، قررت.
وبمجرد أن ضرب على القبر ضربة قوية بالجاروف، إذا بالقبر ينهار وتسقط القبة الخارجية للداخل، وهي تصدر صوتا مرعبا، ثم تظهر حفرة عميقة مظلمة لا نهاية لها ... قال ضاحكا: انظري، فالقبر كما يقولون إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ... إنه قبر صديقك: روضة أم حفرة؟ نعم، نسيت أن أقول لك إننا أخذناه من هذا الجحيم وأعدناه للصحراء مرة أخرى؛ لأننا نحتاج للحفرة دي في الشغل ... ما رأيك حنقضي جزء من شهر العسل هنا ... جو الحفرة دي، هل في الكون رومانسية وحشية أكتر من كدا؟
لا أدري كيف، ولا من أين أتتني قوة مدهشة في القلب واليد؛ لأنني دونما أشعر وجدت نفسي أضربه على صدره بالجاروف ليسقط على الأرض والدم يسيل من أنفه، كنت أضربه بدون توقف، بسرعة، بخوف، دون تردد أو رحمة، دون تفكير في كل مكان بجسده، إلى أن همد تماما، ثم قمت بسحبه إلى الحفرة ورميته فيها، فذهب لعمق لا أعلمه، مصدرا دويا هائلا ثم صمت. بقيت واقفة أنظر في عمق الهاوية لزمن لا أعرف مقداره قبل أن أخرج، أطلق ساقي للريح في الفلوات دون هدى، عندما انتبهت إلى نفسي وجدتني على مشارف المحراب ... وهنالك بدأت قصة هروب أخرى استمرت خمس سنوات ... وسأكتب ذلك تحت العناوين التالية: الجثة، الحرية، الكهف مرة أخرى.
رسالة: الأصدقاء لا ينسون
أسوأ ما في الموت أنه يحرمك من التسكع ليلا في الشوارع، هي الفكرة الوحيدة التي توصلت إليها من خطاب دوشكا تودروف، صديقة وربما حبيبة مايا زوكوف، وهي السيدة التي أخبرتنا بموته أو انتحاره. لكي أقرأه مرة أخرى وضعته تحت المخدة وخرجت. الفصل صيف، أخذت الأشجار تسقط أوراقها بكثرة عندما ترك عليها عصافير الدوري الصغيرة أو عندما تعبث بها أنامل الريح، تعلمت من المختار ألا أتضجر من الأوراق المتساقطة؛ لأنها كما يقول: هي ما أوساخ قد تكون أي شيء آخر ... لكنها ما أوساخ.
الآن أحس بها أقرب إلي من كل شيء ، كنت أجمعها برفق وأضعها في حوض ضخم، قام بحفره أمين محمد أحمد، لم يحفره من أجل أوراق الأشجار، ولكنه يود أن يفعل شيئا واضحا، ولا يمكن محوه أو نسيانه بسهولة ليذكره بما سماه: أكثر أيام حياتي دهشة.
ولم يكتف بالحفر، ولكن بنى صرحا من الأسمنت كتب عليه:
أشكرك يا ربي على هذا اليوم المدهش
على أرواح الأشجار المتقافزة في اخضرار
على حلم السماء الأزرق الحقيقي
وعلى كل شيء طبيعي
وكل شيء غير متناه
وكل شيء نعم.
قال إنها قصيدة للأصلع الأمريكي إدوار أسلن كمنجز، اكتشف أنها أحب مكان لأوراق الأشجار المتساقطة وهي ترقد في باطنها باطمئنان.
القديسة تقيم وحدها بالمحراب بعد وفاة المختار سيد المحراب وأبيها الروحي، على الرغم من محاولة الأصدقاء إثناءها عن ذلك، لذا كانوا يزورونها يوميا، وقد يقضي كثير منهم الليل معها بالمحراب، بل كانت سارة وآدم ومايكل فيما يشبه إقامة دائمة بالمحراب، أما سارة فكانت تجده المكان الذي يلهمها وينشط ذاكرتها ويدفعها قدما على كتابة مذكراتها، كان قبر المختار قد توسط الحديقة، تقع عليه ظلال الأشجار الباسقة، وهو ما بين الدومتين العجوزتين، شيدت عليه القديسة وأصحابها قبة ضخمة، فأصبح كقبر لأحد أقطاب الصوفية في وسط البلاد الكبيرة، وهو أيضا مزار يؤمه الأصدقاء والأصحاب والمريدون. لم يكن بالأمر السهل على القديسة أن تتجاوز أزمة موت المختار، لم يكن سهلا أن ترى العالم في غياب حكمته اليومية وطلعته وابتسامته، بل في عمق نفسها ما كانت القديسة تظن أن المختار قد يموت، بل كانت توقن أنه هو الذي سوف يشرف على دفنها. لم يأت أحد من أقاربه ليسأل عنه طوال هذه السنوات الثمانية التي مضت منذ أن فارق الحياة، وإنه قد جاء من العدم وعاد إلى العدم مرة أخرى. كان صديقها أمين محمد أحمد يقول لها دائما كلما طرقا سيرة المختار: المختار كان مجرد فكرة في رءوسنا، ولا وجود فعلي له، وربما إذا نبشنا قبره فلن نجد فيه شيئا.
أشياء كثيرة تغيرت منذ أن توفي المختار، تغيرت السلطة السياسية بانقلاب عسكري، وقعت اتفاقات سلام مع فصائل إقليمية متمردة، أهمها اتفاقية السلام مع الجيش الشعبي لتحرير السودان، نشبت حرب أخرى ضروس ما بين الحكومة ومواطني دارفور، مات فيها الآلاف وتشرد الملايين. أما على مستوى الأصدقاء، فقد كان الأمر مختلفا، فسارة بالذات التي أخذت تنعم بالحرية بدأت حياتها من جديد، تمكن أمين محمد أحمد من الزواج من نوار سعد أستاذة الفنون، وهي في الحقيقة تكبره بأعوام كثيرة لم يستطع أحد التحقق منها، وسيحكى في الصفحات القادمة الكثير من هذه المغامرة العجيبة التي خاضتها نوار وأمين محمد أحمد، لا أدري ماذا يكون تعليق المختار على هذا الأمر إذا كان حيا، لا بد أنه سيندهش، ولكنه - كما أعرفه - لا يرفض العلاقة على كل حال.
نوار سعد: لا وقت للأقنعة
كتب أمين محمد أحمد إلى القديسة:
بعد أن تزوجنا أنا ونوار سعد، فجأة يا صديقتي، أحسست بأنه ليست هنالك أية جاذبية أنثوية تخصها، لا أعرف كيف أشرح ذلك، ولكنها لم تعد تلك التي جعلتني ذات يوم أذوب في حضنها مثل ثلج على سطح صفيح ساخن ... ربما السبب الوحيد أنه لم تعد هنالك مغامرة ومخاطرة أو تحد. إن سهولة امتلاكها ... لا، أنا لا أريد أن أفكر بتلك الطريقة، ولكن ربما كان الشيء الذي دفعني للزواج منها أنها جميلة ومشتهاة، وأن كل رجل أعرفه يفضلها على عشرات النساء، وحتى المختار نفسه ... كان رحمة الله عليه لا يستطيع أن يخفي شبقا بنوار في كل حركة يقوم بها ... خاصة حركة أنامله. كنت ألاحظ ذلك، أنا أعرف أشياء كثيرة ... وكنت كلما أحس برغبة الآخرين بها، أسعى نحو امتلاكها بقوة أكبر، أنت تعلمين مقدار التضحية التي بذلتها في سبيل هذا الزواج. صراحة يا صديقتي القديسة الجميلة، أنا سأكون واضحا مع نفسي وشجاعا وحاطلقها، إذا لم يكن اليوم فغدا، سأطلقها.
قرأت الخطاب للمرة المائة، وكلما أذكره به يطلب مني تمزيقه، أهدده بأنني سأريه لنوار سعد، ولكنه كان يصر على القول إنه يحبها وسوف يحبها للأبد. - كويس اللي كتبتوا دا شنو؟ - حالة جنون، حالة ... ما عارف ... كتبت اللي كتبتوا ... ما في داعي للابتزاز. أرجوك مزقي الجواب! أو اديني ليه.
الفصل صيف، والدومات الشاهقات أنضجن ثمارها البنية، المختار يحب ثمار الدوم، في مثل هذه الأيام يمارس رياضة تسلق الأشجار؛ حيث نجني ثمار تسلقه دوما، دليبا وبلحا، في بعض الأحيان كوارث، قد يسقط من علو شاهق فجأة، أكثر من مرتين كسرت يده اليمني، لكنه يكابد الألم في صبر إلى أن يشفى، ثم يتسلق الأشجار مرة أخرى، صلينا على روح المختار قرب النهر جميعا؛ سارة حسن، أمين محمد أحمد، آدم، مايكل كولي صديقنا الحبشي أخو سابا الأصغر، برهاني، كل صلى وفقا لما يعتقد، سبح مايكل وأمين وعبرا النهر للضفة الأخرى، أصبح عبور النهر هوايتهما المفضلة منذ أن اكتشفا بيض السلاحف المدفون تحت الرمال على الشاطئ، بالذات بعدما أعجبا بطعمه في طبيخ الزقني الحبشي مع الدجاج.
كما ينتفض الكلب، انتفض الكلب، جرى بعيدا على شميم كلبة. سارة حسن أصبحت سمينة وقصيرة وأكثر سوادا، تشكل بريق غريب بعينيها، كان هذا جزءا من حصاد السنوات السبع التي قضتها في معتقلات متفرقة، ولكن سارة تضع في الحسبان خسارات أخرى كثيرة، أهمها تجربة الاغتصاب والحبل والإجهاض القسري، والأسوأ يا صديقتي القديسة: ادعاء الحب.
التقطت أذن مايكل كولي الجملة الأخيرة، كررها في سره بنشوة خاصة، كان يجفف ملابسه على رمال الشاطئ النظيفة، أمين لم يسمع شيئا، طائر مالك الحزين يقف على حافة مركب قديم على الشط الآخر، خلفه تمتد جزيرة التماسيح، وفي البعيد جدا يوجد كهف مايا. - ولكن الأسوأ يا مايكل هو أن الضمانة الوحيدة لسلام الحكومة والحركة هي الولايات المتحدة الأمريكية، والضمانة الوحيدة للولايات المتحدة الأمريكية مقابل التزامها بحراسة هذا السلام هي موارد السودان البترولية ... بمعنى آخر: استبعاد الصين أو فطمها.
قال مايكل في قرف: أنا أكره الصينيين، هم الممول الرئيسي للمحرقة في دارفور.
بصق ثم أضاف: أمقتهم.
ولكنه أيضا قال مبتسما: ولكن الأسوأ يا صديقتي القديسة هو ادعاء الحب.
التقط مالك الحزين سمكة كبيرة، حجل بها بعيدا عن المركب العجوز. مرت سحابة داكنة تحت الشمس، رأى الجميع الكلب وقد التصق بالكلبة وأعطى كل منهما مؤخرته للآخر. - نعم!
في القرية: ابتسامة الرمل
كان وجه السماء المورد يوقظ واحة إلى العاشق البدوي.
غونار أكلف
توقفت عربة نوار سعد التي يقودها أمين عند منزل قديم مهجور في وسط تل من الرمال مشرف على النهر، تجمع قليل من الأطفال ذوي البشرة الترابية والملابس الغبشاء، يلتفون حول العربة ويتفرسون الغرباء. جاءت امرأة عجوز منسلة من شيخوخة المكان، تتوكأ عصا من الصفصاف، فاجأتنا قائلة: سلام يا بت سعد.
ردت عليها: أهلا أمي أم الخير، كيف حالك؟
رغم مرور الأعوام الكثيرة تعرفت علي وتعرفت عليها، عشرون عاما منذ أن تم آخر لقاء بيننا، حدث ذلك عندما توفي والدي سعد، وأتذكر أنها آخر من ودعنا أنا ونور، التي كانت تقيم مع أبيها وحدهما بالقرية. - جيتي تشوفي البيت؟ ناس القرية كلهم رحلوا؛ كل الشباب والناس اللي فيهم فايدة، وخلونا نحن العجايز وشوية أطفال، لمان يكبروا هم برضو حيمشوا الخرطوم أو بلاد بره. - وين الخير يا أمي؟ - ديل هم عيالو، هو يعمل في الساقية، وغير الخير ما في راجل في القرية كلها يقولوا عليه. الخير وشاب شابين وبس ... كلهم سافروا.
من على بعد عشرات الأمتار ظهرت ابتسامة الخير واضحة جلية، وبدت أسنانه البارزة للأمام قليلا أكثر بروزا وهي تعكس أشعة شمس الظهيرة الحارقة، ارتمى ومن غير تحفظ في حضن نوار سعد، وكأنه حبيب عائد من آلاف السنين، لفها بجلبابه الكبير ويديه الطويلتين، احتضنته نوار سعد بطفولية حميمة، ظهرا وكأنهما سيصيران شخصا واحدا إذا استمرا في عناق كهذا لثانية أخرى. هذا ما لا يعجبني في نوار سعد؛ إنها تتعامل مع جميع الناس مباشرة دونما تمييز للنوع، وأحسست حينها أنها بعيدة عني، بعيدة جدا، بل لا أعرفها، ثم انتبه لي الخير ورمى بنفسه في حضني بنفس التلقائية، ووجدت نفسي أحتضنه، حلف علينا بالطلاق مباشرة إذا لم نذهب معه إلى المنزل. قدمتنا نوار بمرح: دا زوجي أمين محمد أحمد، أمين دا الخير .
سأل الخير مندهشا: زوجك!
قالت له نوار وهي تنظر إلي وكأنها تراني لأول مرة: أيوا، أمين محمد أحمد زوجي.
قال وهو يمشي أمامنا في خطى واسعة نحو بيته: أهلا، أهلا وسهلا.
أمه التي يبدو أنها لم تسمع شيئا من الحوار كانت مشغولة بإعطاء الأوامر للأطفال بأن يحضروا ماء للشرب بأسرع ما يمكن.
طفنا القرية خرابة خرابة، وطللا طللا، هنا كان دكان اليماني صالح، هنالك طاحونة المجنون دودا، شوف، شوف الكوشة اللي جرحتني فيها قزازة، جرح لا أنساه أبدا، عند العالي، هيا نذهب إلى هنالك، عند تلك الربوة العالية كانت الأنادي، بقايا أغطية زجاجات البيرة والشري، عظام النيفة، البلاط الذي كانت توضع عليه البراميل، اللالوبة التي قتل فيها العوض ود جبريل، قتله سالم الجزار، هي اللالوبة ذاتها اللي مات تحتها سالم الجزار في خريف العمر، من هناك يبدأ السوق بعد الخور الصغير مباشرة - خور الحلب - ويمتد إلى قرب النهر حيث الموردة والمراكبية النازلين من الجنوب، أو الطالعين إلى دنقلا، في المكان دا بالذات يا أمين كان يرقد أبوي الله يرحمه وهو سكران واقف ظمبرليلي، وحوله كلابه وقربه نور ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه، حتى أمي نفسها عليها رحمة الله. كان الأطفال القلائل الغبش ذوو الشفاه الجافة والأرجل الحافية المتشققة من سخونة الرمال وجفاف الجو وحرقان الشمس، يجرون خلفنا، ويسألون: كم الساعة؟ الساعة كم؟
بعض الكلاب العجفاء بين هنا وهناك تنبح في ذعر وغضب، استطاعت نوار أن تميز أحد الكلاب، وتؤكد على أنه من سلالة كلاب والدها، وأيد ذلك الخير. - أمين، شايف الخراب دا، كان في يوم من الأيام جنة.
ابتسمت، وكنت أعرف وهي أيضا تعرف أن تلك الجنة كانت نوار وأسرتها فيها مشردين، ويفتك بهم الجوع، ونصيبهم منها نصيب الطير، وهي نفسها قصت لنا ذلك فيما قبل. - أمين، الأنادي دي كانت احتفالية شعبية مدهشة.
الجروف، المزارع، النيل، السوق، عم محمد زين بائع النيفة ود دينار، أوشيك، ود الكشيمبو بت كرار، حريرة أم جبرين، حواية بت أم دقة، كرارية، بت جادين ، ود النذير وحوش ود النذير ... عبد الله على الله، الرفاعي، طيارات، كبسون السماك. - هناك، تتذكري، جنب حلة الشراميط، الله يرحمه ود النذير. - كان راجل شهم. - أمين، حأحكي ليك في يوم ما عن ود النذير وكلبه اللي عنده فك واحد.
كانت نوار سعد مثل طفلة صغيرة، استيقظت فجأة ووجدت اللعبة التي تحبها وتحلم بها، سنوات من الطفولة المعذبة الطويلة. كانت فرحة ومبتهجة وهي تقفز على الرمال والخيران وبقايا المنازل القديمة المهجورة الجميلة، وهي تسأل، تجيب، تبحث وتتذكر، تتكلم بدون انقطاع، تربت على رءوس الأطفال؛ تعطيهم بعض العملات النقدية، تقبض على يد الخير فجأة ... - أمين، أنا والخير دا لعبنا سوا، دخلنا المدرسة في يوم واحد، تتذكر يالخير، مدرسة الجبوراب المبنية من الكرانك.
في تلك الليلة التي قضيناها في منزل الخير أعطتني نوار سعد نفسها بعمق وحب لم تفعله من قبل ولا من بعد، فيما بعد عرفت أنها ما كانت تهب نفسها لي أنا بالذات، ولكن كان ذاك هو الخير، كانت ترقد معي وتقبلني وتهبني الحياة واللذة العظيمة والألم والحب، جسدي أنا: روح الخير، وربما كان العكس صحيحا أيضا، روحي أنا وجسد الخير.
قالت لي ذات يوم وهي مخمورة: الليلة التي قضيتها مع الخير في القرية كانت أسعد لحظات حياتي.
ذبح لنا الخير عند الفجر حملا سمينا، أكلته النسوة الجيران معنا، تجمع بعض الشيوخ والأطفال تحت الراكوبة الكبيرة، وأخذوا يعيدون شريط الذكريات ويحكون عن أبنائهم المغربين وأصدقائهم الذين عبروا للحياة الأخرى، عن القرية التي أصبحت خرابة كبيرة، حتى النيل لم يعد كما هو ... ودعت أهل القرية، وعدتهم بأنني سأزورهم كل عام، وعدهم أمين أيضا بذلك، قد أحب الجميع، ولو أنهم سخروا قليلا مني؛ لأنني تزوجت «شافع» صغير، قالت لي امرأة عجوز في مكر، وكانت تعرف كما عرفت القرية كلها في اللحظات الأولى لقدومنا أن أمين هو زوجي: الود دا راجلك ولا سواق؟ - راجلي يا أمي. - مش كان أخير ليكي تعرسي الخير يا بتي؟
ضحكت زوجة الخير زينب الصغيرة وأكدت أنها ترحب بالفكرة، فقط علي أن أطلق أمين، والشرط الآخر أن تذهب هي وعيالها، والزوجة الأخرى زينب الكبيرة وعيالها أيضا معنا إلى السكن في الخرطوم في صحبة الخير. ضحك الجميع ولكنني فهمت الدرس.
أنا والخير نحتسي الشاي في ديوانه الكبير بعد أن غادر الذين جاءوا للتحية والتفرس في زوج نوار سعد الصغير، الذي هو أنا. كان يحكي لي حكايات جميلة عن المكان والناس والحيوانات؛ حميره، كلابه ونسائه، وقال لي بصورة واضحة وبلذة غريبة أنه زوج لنساء كثيرات بالحلة وبالقرى القريبة، وعندما سألته ما إذا كان ذلك تحت مظلة شرع الله ورسوله، قال: مش بعيد شديد عن شرع الله ورسوله ... يعني.
قلت له إنني لا أفهم، قال وهو يصب لي مزيدا من الشاي: البلد دي كلها نساوين، وأنا الراجل الوحيد، يعني أعمل شنو؟
قلت له ضاحكا مدعيا أنني فهمت: الضرورات تبيح المحظورات.
قال وكأنه لم يفهم ما أرمي إليه، أو أنه يريد أن يقول شيئا آخر لم أفهمه أنا، أو ربما يريد أن يضللني: الزواج سنة.
ثم سألني سؤالا مباغتا: لييه ما تتزوج مرا تانية؟ أنت لسع صغير وبإمكانك تتزوج وتنجب، والبنات كتيرات.
قلت له مراوغا: ما أظنني أتزوج زولة تانية مع نوار.
وكدت أقول له أنني أحب نوار، لولا أنني استدركت أن ذلك قد لا يعني شيئا لدى معظم الناس بالريف، بل قد يعتبرونه ضعفا إذا لم يكن قلة أدب.
فصب لي كوبا من الشاي آخر في ذات الكوب الذي فرغت من شربه للتو، قال متجاهلا ردي بصورة تامة: أنا حآجي الخرطوم.
أخذ الخير عنواننا في الخرطوم وقال: عندما ينزل للخرطوم سيمر علينا أولا، ثم إلى بيت أخيه حمد مدير الضرائب.
كانت نوار سعد تغط في نوم عميق طوال الرحلة، منذ أن اتخذنا طريق الأسفلت العام، ولم تستيقظ إلا عند مشارف الخرطوم، حيث تولت هي القيادة ونمت أنا، وحلمت بالمختار ومايا العزيز يجلسان تحت شجرة عرديب ضخمة في الجنة، وهما يلعبان الشطرنج بقطع مصنوعة من الزجاج الشفاف، قال مايا العزيز لي، وهو يحرك قطعة كبيرة في حجم إنسان طبيعي: كش ملك.
استيقظت على شجار عادة ما يجري بين نوار سعد وعسكر نقاط التفتيش. نمت مرة أخرى، حلمت بالخير يراودني عن نفسي، استيقظت على شجار نادرا ما تلجأ إليه نوار سعد مع رجال شرطة المرور.
في القرية: نحو العاشق البدوي
غادرنا جميعا إلى المدينة في يوم السبت، حيث تبدأ فترة عملي من السبت إلى الثلاثاء بالمستشفى الحكومي، تركنا في المحراب مايكل، كان يستعد للجلوس لشهادة التويفل، ويحتاج إلى مكان هادئ للاستذكار والمراجعة، وسوف يقوم بحراسة المحراب من مخافات لا ندريها. اتفقنا على ترتيب مسألة الزواج بيني وبين مايكل أكول بعد أن ينال شهادة التويفل؛ حيث تتاح له فرصة جيدة في العمل مع منظمة أمريكية، كان قد اجتاز جميع معايناتها وتبقى له شرط هذه الشهادة.
وجدت المستشفى كما كنت أجده دائما مكتظا بالمرضى، مكتظا بمرافقيهم، مكتظا بالممرضين والأطباء ورائحة البنسلين والديتول، والملاريا والبعوض والذباب، مكتظا بالأوساخ، مكدسة عند الأركان حاويات الأدوية الفارغة الزجاجية والبلاستيكية، الحقن القديمة والدربات الفارغة وعليها بقايا المحاليل والدماء الباردة، بقايا الأطعمة على أكياس البلاستيك أو في العراء تتدافع عليها القطط السمينة، الذبابات والكلاب الضالة، الموتى يخرجون من المستشفى وقد حمدوا الله على الراحة الأبدية، المرضى الذين من الله عليهم بالخروج سالمين. في الحوائط إعلانات دائمة لفنانين سوف يقيمون حفلات بهيجة بأسعار زهيدة على كازينو النيل الأزرق احتفاء بالسنة الميلادية، بقايا مخرجات بشرية هنا وهنالك. - دقيقة يا دكتورة سهير.
قفزت علي قطة صغيرة تعبث بحاوية بلاستيكية استخدمت لنقل دم لمريض، بها بقايا الدم شاهدة على ذلك. - دقيقة يا دكتورة سهير. - أهلا. - أنا أبو حازم، صحفي بجريدة الخرطوم، وعايز أعمل تحقيق صحفي عن المستشفى، لو سمحت عايزك تجاوبي لي على بعض الأسئلة، وكنت في انتظارك منذ الساعة السابعة صباحا، ومعي المصور جمال زكريا، تسمحي نأخذ صورة مع بعض! - لا بالتأكيد، إذا كانت عندكم أسئلة اسألوها لإدارة المستشفى، أنا طبيبة فحسب. - معليش، سألنا إدارة المستشفى وسألنا الأطباء، فبقيت أنت فقط. - أنا لن أجاوب على أي سؤال بالرغم من أنني لا أعرف ما هي أسئلتكم، انظروا يمينا ويسارا وتحتكم، ثم اسألوا أنفسكم وجاوبوا على أنفسكم، وخذوا صورة تذكارية مع الكدايس.
وذهبت، اعتبرت أن هذه بداية غير مشجعة ليوم عمل صعب يحتاج عادة لروح معنوية عالية، تسلمت ورديتي من زميلة بدت مرهقة وحزينة، تبادلنا جملا قصيرة معتادة، ذهبت.
اثنان من طلاب كلية الطب يسألون ويكتبون في هدوء وأدب، بنت وولد، سألتني البنت سؤالا مفاجئا: الناس ديل عايزين يبيعوا المستشفى؟ - ياتو مستشفى؟ - المستشفى دي اللي نحن فيها الآن. - لمنو؟ - لشركة أجنبية. - تعمل بيها شنو؟ هل ستصدر المرضى للخارج والضبان والبعوض والملاريا؟ - آسف يا دكتورة، سمعت الناس بيقولوا كدا. - والله لا علم لي بشيء. - قام المرضى أمس الجمعة بمظاهرة لمان سمعوا الخبر. - ما سمعت بالموضوع دا، كنت في الغابة. - ياتو غابة؟ - مكان بعيد أسكن فيه ويسمى الغابة، لا عليك. - حيدخل الأطباء في إضراب عن العمل بداية من يوم الخميس القادم. - كويس، من وين بتجيبي المعلومات دي يا دكتورة؟ - كل الناس هنا بيعرفوا، والصحافة والشارع و... و... و... و... - الآن فهمت. - تخشي إضراب مع الدكاترة؟
لأول مرة أنظر إلى وجهها بتمعن وعناية، كانت صغيرة لها وجه طفولي مستطيل، وعينان جميلتان ومتسعتان، شفة سفلى أطول قليلا من العليا، سمينة، على وجهها شبه ابتسامة دائمة، كان الطالب يمشي خلفها في صمت ويبدو مشغولا بكتابة بعض الملحوظات، سألتها: أنت طبيبة ولا صحفية؟
قالت في خجل: متأسفة يا دكتورة.
قلت في نفسي: هل هنالك شخص في هذه الدنيا يشتري كوشة على مقابر قديمة؟
نهضت في ذهني الكوشة الكبيرة في قريتنا، التي تقع خلف السلخانة، ما وراء المقابر، ليس ببعيد عن شاطئ النهر، نطلق عليها ونحن صغار «كوشة حريقا»، لها رائحة الجيفة، رائحة الجلد المشوي، رائحة الموت، ترعى فيها طيور الأبو خريطة العملاقة، وليس ببعيد تقف حاوية الماء والوابور عليه عم توتو بصورة دائمة ونهائية، وكأنهما خلقا معا، بل من مادة واحدة، صورة لا تأتي إلا متكاملة.
في المحراب أفهمتني سارة كل شيء، وأكدت لي أن الأمر تم فعلا، وسوف يعلن رسميا في الإذاعة والتلفزيون والجرائد كأهم حدث طبي في البلاد الكبيرة، شركة ماليزية سوف تقوم بتأهيل المستشفى وفقا للمواصفات العالمية، هكذا وافتنا الجرائد بالنبأ، ونحن في طريقنا إلى قرية الفزراء من مدينة القضارف، ثم غادرنا الأسفلت على أرض صلبة سوداء، سافرنا جنوبا، ثم جنوب شرق، عبر غابات الهشاب والطلح واللالوب الخضراء، ومزارع الذرة والسمسم التي تدخل في النفس عالما من المرح والطفولة. سافرنا نحو الجنوب الشرقي، سافرنا سفرا حلوا ممتعا، غنينا، قرأنا شعرا، تناكتنا، تحاكينا.
توقفنا عند بركة ماء حولها بجعات بيضاوات، بعض الأوز، طار كل شيء بمجرد أن توقفت العربة، حطت بعض الطيور بعيدا تراقبنا عن كثب، اقتربت بعض النعاج الخجولة، الأرض تحتنا لينة خضراء باردة ورحبة، جلسنا تحت ظل شجرة جوغان ضخمة، فرشنا على أوراقها وبقايا ثمارها القديمة الكبيرة فرشة من البلاستيك، أطيار الكلج كلج تصدر ضجيجا حلوا، قطان بريان يمران أمامنا في سرعة البرق ويختفيان بين أعشاب الخريف، آدم وسارة تمشيا في عمق الغابة الصغيرة، أما مايكل وبرهاني وسابا وطفلتها الصغيرة نوار، كنا نتحدث في وقت واحد، نوار سعد وأمين، لكن كانت لمايكل ملاحظات جيدة حول فكرة موت مايا العزيز: مات مقتولا.
وجمنا جميعا في انتظار حيثيات الفكرة. جمع مايكل قدرا كبيرا من الطين الأحمر من حافة بركة المياه، صنع جبلا صغيرا زينه بأرياش الأوز وما تساقط من ريش البجعات ومالك الحزين، خلط الطين والريش مع أوراق الأشجار المتعفنة من فعل الماء والرطوبة، جرت نوار الصغيرة نحو جبل مايكل الصغير، صعدت عليه بصعوبة، ابتسمت لنا جميعا في براءة وهي تنزل بولا أخذ لون الطين وهو يتدحرج من الجبل الصغير، صفق لها الجميع، خطفتها والدتها وجرت بها بعيدا، كانت نوار تحتج معبرة عن ذلك بالرفس والصراخ، لا تود أن تبرح جبل مايكل. - ليس لدي فكرة بعينها، كنت أحاول أن أرتب أفكاري حول مقتل مايا زوكوف فلاديمر العزيز، ولكني أحاول أن أصنع من كومة الطين امرأة هي في الحقيقة ليست سوى سهير حسان ؛ القديسة ذاتها، كانت تعرف ذلك، ويعرف الجميع أنني أصنع القديسة، ولو أنني لم أشكل غير الفخذين الكبيرين كاملين وجزء من الصدر، في الحق خجلت من نفسي لأنني عريتها، عريت نفسي وبدوت واضحا أكثر مما يجب، وقد استجابت سهير لذلك بعد ثلاثين يوما؛ حيث إنها جعلتني ألتصق بما نحت من الطين بلحم إنساني حي طازج وبهيج، وهذا هو الدرس الذي لم نتعلمه من كلية الفنون؛ أن الفن طوطم الطواطم.
إنه يريد أن يقول لي شيئا فاضحا جدا، خاصا جدا، قريبا جدا ولا معنى له غير ما يعرفه هو وحده، ولكنه أذاعه للعامة، هم أصحابنا ولكن هنالك تفاصيل صغيرة تظل محجوبة عن الأصدقاء أيضا؛ لذا أعلنت أنا أيضا لهم: أنا ومايكل كولي حنتزوج عندما يتحصل على شهادة التويفل في أغسطس الجاي.
قالت سابا ضاحكة: قولي عندما يسلم.
قلت لها في إصرار: عندما يتحصل على التويفل وبس.
قالت بذات القدر من المرح المعروف عنها: ومنو حيخليكم تتزوجوا؟ هو مسيحي وأنت مسلمة، لو كان العكس ممكن.
قلت لها، وكأنني كنت مواجهة بهذا السؤال منذ سنوات مضت: لا أحد. - ولكن زواجك حيكون باطل.
قلت لها بثقة: إن في هذه الأيام في البلاد الكبيرة لا تستطيع الحكومة الوقوف ضد أية زيجة ولا ضد أي سلوك، الحكومة ستفكر فيما يطيل عمرها فقط. الآن الوطن أصبح مفتوحا للعالم، المنظمات الدولية التي ترعى حقوق الإنسان، أمريكا، أوروبا الموحدة، النموذج العراقي وأفغانستان، اتفاقية السلام ... كل ذلك سوف يحمي زواجنا، كما أننا لا نحتاج التصديق من شخص آخر، فالزواج مسألة شخصية. - حتى أبوك؟
وضحت لها أن أبي وأسرتي سيتعامل معهم مايكل بالصورة التي يراها مناسبة. ربما أسلم وتشهد تماشيا مع فقه الضرورة، وقد نهاجر، وقد يصلي لأجلهم، قال إنه لا يمتلك أبقارا ولا ذهبا يعطيه لهم. فسألتني: لماذا لا يفعل الشيء نفسه مع الحكومة؟ - الحكومة لا.
قال مايكل: أنا عايز أتزوج مرا من الحكومة!
قالت سارة لآدم، وقد ظهرا من بعيد يقبضان على أكف بعضهما البعض في حب وحميمية: لا يؤمن الإنسان بالله إذا لم ير مثل هذا المكان.
قالت سارة: عشان كده الخرطوم ملآنة بالكفار.
ضحكا ضحكا عاليا.
وصلنا القرية عند العصر، بعد عشرين عاما من الوعود التي لم تتحقق لمحمد آدم، كنت أترقب خروجه من قطية ما، من راكوبة ما، أو من أية حجرة من وقت لآخر يلبس جلبابه القروي، على ظهر حمار أو يجري خلف مرفعين صغير أتى به أبوه من رحلة صيد متعبة، طالما لم نلتق في الطريق إلى القرية، طالما لم يستقبلنا عند مداخلها، طالما لم يهتف مرحبا بنا ونحن ندخل الحوش الكبير الذي حدثني عنه كثيرا كثيرا ... طالما ...
قالت لي أمه: كنت دائما أتوقع زيارتك للقرية، كل سنة، كل سنة، سبحان الله! دي عشرين سنة مضت من اليوم اللي مات فيه محمد آدم، أنا كأني أشوفو الآن، لم يكبر محمد أبدا، دائما صغير ونشيط ويتكلم ويحكي ويركب الحمير ويمشي العيد مع الكبار، وكل مرة يفشل في صيد مرفعين صغير لك. «تبتسم». - كل مرة أقول أجيكم ربنا ما يطلق القدم، ومرت بي ظروف كثيرة منذ أن توفي محمد آدم، أبدا ما استقريت على وضع محدد، دراسة، سفر، مشاكل أسرية لا ليها أول ولا آخر. - وعايزة أوريك بالمناسبة دي، طبعا أنا حضرت زواجك، كان بعد سنة من وفاة المرحوم. - افترقنا، طلقني واتزوج، والآن عنده ولد وبت. ولكن بعدما شوفني الويل ونجوم النهار.
قالت متأثرة: المرحوم دائما كان يقول لي، دائما كان ... ولكن قدر الله وما شاء فعل.
ثم صمتت على صوت أطفال يلهون في الخارج ويقتربون من المنزل. - محمد آدم، يا ولد يا محمد ... تعال هنا في ضيوف، تعال سلم عليهم.
كان هو نفسه، فقط ازداد طولا بعض الشيء وربما صار أكثر نحافة، والجرح القديم الذي في وجهه اختفى تماما ولا أثر له، كان حافيا ويرتدي جلبابا به بقع من الطين الأحمر ناشفة، شعره كث، في وجهه عينان مرتابتان كعيني خروف شبع. - دي عمتك سهير حسان. دا عمك آدم زكريا. دي خالتك سارة. دا عمك مايكل كولي . آه، عمك مايكل، وزي ما شايف هو من الجنوب. دي خالتك، خالتك سابا، وبنتها الصغيرة الحلوة دي حنخطبها لك من اليوم، رأيك شنو؟
ضحكنا معا، ولكن أنقذتنا الجدة بالرد: أنت شايفها نوار شنو؟
قال دون تردد: نوار السيال.
كثيرون منا ما كانوا يعرفون السيال، وإذا عرفوه ربما لم ينتبهوا إلى نواره، وإذا انتبهوا إلى نواره مثلي، فإنهم لا يعرفون تلك الرائحة العطرة التي تفوح منه، وذلك الطعم الجميل، وصوته الشجي الذي هو طنين الزنابير عليها. شرحت لنا جدته كيف كان يرى جمال نوار.
قالت له: خالك المرحوم محمد آدم اللي أنت مسمى عليه كان يسكن مع ناس سهير في البيت الله يرحمه. - وأنا برضو عايز أمشي أسكن معاهم في المدينة، وعايز أقرأ هناك.
قالت له الجدة: إن شاء الله عندما تدخل الجامعة حتسكن معاهم في الخرطوم.
كانت الجدة في غاية السرور وهي تسحب الشنطة التي تخص المرحوم محمد آدم من تحت سرير المخرطة العجوز، الذي تجلس عليه هي الآن، وهي تحدثنا عنه؛ كان طفلا عاش طفولته بصورة متكاملة دون نقصان، وكان يملأ المنزل كله بالحياة والحركة والنشاط، يفعل كل شيء بدءا بصيد الأسماك والقنص، نهاية بحلب الماشية وصنع الروب والعصيدة، وكأنه يعرف كل صغيرة وكبيرة في القرية، سبحان الله! يا بتي سهير، كان محمد آدم يعرف تماما إنو حيموت قريب؛ قال لأخته الكبيرة الكلام دا.
تحتوي الشنطة كما شارك الجميع في حصر محتوياتها على الآتي:
20 كراسة صغيرة، منها 10 كراسات رياضيات.
10كراسات كتب في غلافها كراسة خارجية.
1 كراسة مدونة المصاريف.
10 كتب مدرسية قديمة أغلفتها ممزقة.
حذاء واحد بحالة جيدة.
جلباب أتلفته لعنة الانتظار الطويل.
أزرار من مختلف الأحجام والأشكال والألوان، وهي الهواية التي ما كنت أعرفها عنه.
قالت لي: خذيها معك وإذا فرغت منها أعيديها لنا في أي وقت، إن شاء الله بعد سنة.
تم صنع قفص صغير متين بواسطة نجار القرية، أدخل فيه المرفعينين الصغيرين اللذين تم صيدهما لنا خصيصا، قال لي محمد آدم: عندما أدخل الجامعة حأسكن معاكم في المدينة . - ما حترجع من وعدك؟
قال: إذا أم نوار ما رجعت في كلامها.
قالت سابا وهي تقبل ابنتها الجميلة في خدها: أنا ما حأرجع من كلمتي، ولكن طبعا بعد استشارة نوار لمان تكبر.
في المدينة: تمارين نيفاشا
بدأت المظاهرة بطبيب واحد وفراشة ومتسول عند الباب مر صدفة ومريض وسبعة من المرافقين الرجال، ومرافقة واحدة امرأة وهتاف: «لا لن تبيع.»
وكأنما كان الشرطيون يختبئون في المجاري وتشققات الأرض أو صفق الشجر وثنايا العشب، ظهر المئات منهم مدججين بالدروع والسلاح، خلفهم عربة المطافئ، هتف كبيرهم بالميكرفون: المطلوب من الجميع العودة إلى أماكن عملهم.
وكرر ذلك مرارا.
سقط المريض مغشيا عليه، عاد المرافقون لرعاية ذويهم، حمد المتسول الله على كل حال، وجلس على الأرض ليسأل مع السائلين عن حق الله.
قالت الفراشة للطبيب: معليش.
ومضى الطبيب وحده يهتف: لا، لن أبيع.
مشى في شارع القصر، المواطنون على جانبي الطريق يتفرجون على الطبيب، خلفه آلاف مؤلفة من الشرطة. - لا، لن أبيع.
حاول الشرطيون الاقتراب منه وإنهاء الأزمة، إلا أن ضابطا وسيما صاح فيهم قائلا: البلد حرية، حرية التظاهر مكفولة للجميع، في النهاية رجل واحد لا ينفع ولا يضر.
ثم أضاف بينه وبين نفسه: بقية الشعب كله قابل وحامد وشاكر.
كان الناس ينظرون إلى الأمر في ريبة، وبين فينة وأخرى يتوقعون حدوث شيء، ضاقت جوانب الطريق بالمارة، إلى أن أخذوا يضغطون على الشرطيين، الجميع يريدون ألا تفوتهم لحظة حاسمة قد تقع الآن، سيكونون كشاهدي عيان على مظاهرة الرجل الواحد. - لا، لن أبيع.
كان يمضي مسرعا للأمام في ثقة مفرطة ودون تردد، لا يعرف أحد الشيء الذي يجبرونه على بيعه، لا يعرف الناس إلى أين هو ذاهب، حتى الأطباء أصدقاؤه، وردة حبيبته، والمرضى والمرافقون جاءوا ليروا ما سيحدث لرفيقهم، الناس قريبو عهد بعصر القمع والحسم والضرب والاختفاء النهائي والمفاجئ، ولا أحد يصدق أن السلام يعني فيما يعني السلام، وأنه قد يعني أيضا إطلاق الحريات.
وعندما وصلت الإشاعة إلى العطالة والمتسكعين في السوق العربي والسماسرة وبائعي الكتب المستعملة ، مثل كمال وداعة، وجرحى الحرب والركاب الذاهبين إلى هامش المدينة، والسوق الشعبي والمثقفين الذين في طريقهم إلى منتدى الاثنين عند إبراهيم العوام أو البشير الريح، وسائقي الحافلات والشحاذين والسكارى والمصلين الذين خرجوا من الجامع الكبير بعد أداء صلاة الظهر، وبائعي الملابس المستخدمة والصابون والمفروشات، عبد الله الدنقلاوي، وليد إسماعيل حسن وحكيم بالسلطان الشامي، وغيرهم؛ حتى هبوا معا في لحظة واحدة وهجموا هجمة رجل واحد على سوق الذهب والملبوسات الصينية الرخيصة الجاهزة، الساعات المزيفة والبنوك والمغالق الضخمة، وبعد معارك صغيرة وكبيرة هنا وهناك، كان السوق العربي قد غرق في فوضى نهائية، ثم انتقلت العدوى إلى أم درمان المحطة الوسطى عن طريق رسائل موبتل القصيرة ووسائط سوداتل والمساعدية والسواقين، وهجم الناس على السوق هجوما عنيفا، فكسروا وسرقوا وأكلوا وضربوا وشربوا وقفلوا ونشلوا وقلعوا وأخذوا، وأصبح البعض مليونيرا في لحظات، وفرغت معروضات الذهب من مصوغاتها، والصيدليات من الأدوية، والدكاكين من ... ثم انتقلت أخبار الفوضى إلى بحري، إلى عطبرة، إلى كوستي، إلى سنكات، إلى كسلا، بورتوسودان، جوبا، ياي، القدميلة، الفاشر، النهود ثم خشم القربة، عندلة، الرصيرص، سنار ود مدني ... ثم لدهشة الجميع أن سمعوا المارشات من الإذاعات التي أوقفت برامجها العادية وأعلن المذيع: بيان هام فترقبوه.
أوقف التليفزيون برامجه العادية وظهر مذيع مرتبك أعلن للجميع: بيان مهم فترقبوه.
استمع الناس في صمت ورعب إلى الموسيقى العسكرية تنشد مارشات علي دينار، ومارشات إنجليزية بصورة متواصلة.
وكانت الفاجعة الكبرى عندما تحركت قوات المعارضة التي وفقا للاتفاق أن تبقى في الخرطوم لتقوم بهمام الأمن، وأن تثني الحكومة عن النكوص عن معاهداتها، وأن تهدي كل من تسول له نفسه بالخيانة إلى الصراط المستقيم، واتجهت نحو القيادة العامة ثلاث كتائب مدرعة وكتيبة مرابطة قرب الإذاعة بأم درمان اتجهت نحو الإذاعة، وفي ساعة واحدة كانت كل معسكرات الجيش بالخرطوم وأم درمان تخلو من الجنود، الأحياء والشوارع تخلو من المارة، والجثث تحتل فضاء المكان، ومن خلال إذاعة خارجية متنقلة قرأ أحدهم البيان الركيك التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
المواطنون الكرام ، لقد استطعنا بعون الله الانتصار على مجموعة من أعداء الشعب المرتدين عن الإسلام، المدعومين من العدو الصهيوني، الذين حاولوا الاستيلاء على السلطة عنوة، الذين تخيفهم الحرية والديمقراطية ويرعبهم السلام، المطلوب من المواطنين التزام منازلهم، وعلى الجنود الالتزام بثكناتهم وسوف نوافيكم ...
وتكرر هذا الإعلان بصورة مستمرة، وكل مرة تحسن صياغته، ولكن ظل المعنى واحدا والمذيع المرتبك مرتبكا، والمواطنون الكرام يخمنون ما حدث ولا أحد يعرف الحقيقة، والبعض وضع الأمل في إذاعة لندن وفضائيات العالم الأخرى التي لا تزال ...
كانت الشاحنات العسكرية تعبر الطريق السريع ماضية نحو الخرطوم، تبدو واضحة من على البعد، كنا ننظر إليها ونحن على فرع أشجار السيال من المحراب، كانت ثقيلة ومسرعة، مخيفة وغامضة، لا توجد عربة مدنية واحدة تذهب نحو العاصمة.
في اليوم الثالث ظهر الانقلابيون على شاشات التلفزيون العالمية والمحلية، مطأطئي الرءوس زائغي الأبصار، لهم شفاه ناشفة غبشاء، وآذان منتصبة كآذان كلاب الصيد، أسنان بارزة للأمام ليس قليلا، كانوا معروفين لدى الشارع بالاسم والصورة والأفعال والهيئة والسيرة، بصورة جيدة: إنهم الانقلابيون القدامى أنفسهم.
ذهبنا جميعا إلى المدينة نتفقد مواقع عملنا وأصدقاءنا، كانت نوار سعد وأمين محمد أحمد خارج المنزل، اتصلنا بهما كمحاولة أخيرة ولكن لا تزال شبكة الموبايل لا تعمل، أخذنا نتمشى في الشوارع الفارغة.
كتابات: رسائل إلكترونية
نوار سوف أكتب إليك لا أدرى لماذا، هل لأنني لا أستطيع أن أقول لك الشيء قولا، أو أن الشيء لا يمكن أن يقال؟
قضيت هذا الشهر بعيدا عنك، لا أدري متى تسمح لنا الجامعة بالعودة إلى الخرطوم، الآن أدرس مادة الشعر الإنجليزي للطلاب بالكلية، والطلاب كالعادة لا يفهمون إلا من رحم ربه، مصابون بالكسل الذهني ولا يقرءون إطلاقا، يأخذون معلوماتهم من المنتديات والونسات والنقاش العام بالأنشطة، وقد يحفظون خطبا بكاملها من أركان النقاش، لدي تلميذان أتنبأ لهما بغد مشرق في الحياة، أحدهما من أقصى الشمال اسمه صلاح الشايقي، والآخر من الشرق اسمه صالح سعد. لدي تلميذة أيضا تهتم ولكن بقدر أقل، وهي من الأبيض تسكن في داخلية بالخرطوم ، هذه التلميذة تذكرني بك كثيرا، هي فقيرة جدا وجميلة جدا وذكية جدا وطويلة جدا، وتكتب القصص القصيرة، وقد حضرت لك عدة محاضرات عن التشكيل في كوش، سنقضي هذين الشهرين هنا نسجل ملاحظات عن لغة العساكر، وهو بحث اللغويات المقرر في هذا العام للطلاب، وقد كلفت بالإشراف على خمسة من الطلاب. لم أكتب شيئا من الشعر يذكر، فقط هذا المقطع:
ها هو الشتاء يا حبيبتي
يزهر مرة أخرى
وها هي النعاج الخجولة تقضم الورود المرتعشة
وأنا وحدي
أحاول حشوك بالمواكب والذكريات
مثل نعجة خجولة
الخوف
قابع على عتبة بيتنا الصغير؛ يقرصه البرد.
وقد أرسلتها من قبل عبر بريدك الإلكتروني، أقصد بالأمس القريب، كتبتها في الأصل باللغة الإنجليزية وقمت بترجمتها إلى العربية، وقد أعجب بها صديقنا الأديب لولي ينج، وهو قد يترك السودان ويسافر نهائيا إلى جنوب أفريقيا، لم تستمله ما لاحت بوادره من سلام، وقال إن السلام لن يغير شيئا وسوف يكرس لما سبق بصورة أسوأ من الماضي؛ لأنه سلام فوقي، وهي عكس أفكار مايكل حبيب القديسة سهير، فهو يؤكد أن أمريكا ما دامت موجودة ومسيطرة على العالم بمن فيه وما فيه، فإن حكومة البلاد الكبيرة ستحترم مواطنيها وتعاملهم كبشر ولو على مضض، إلى أن تحل طالبان محل أمريكا، حينها فقط سأهرب ولكن للغابة أو إلى سيارا مايسترا، وليس لمكان آخر.
أنت تعرفين رأي أمي سعاد عنك، لم يكن ذلك الرأي مزعجا في الماضي، ولكنه الآن على ما أعتقد يجب أن نأخذه مأخذ الجد. سوف نتحدث عن ذلك لاحقا، لا بأس.
SEND
العزيزة سابا تخلي
كيف حال نوار الصغيرة، اشتقت لهما كثيرا، لم تحدثني عن رحلتك إلى قرية محمد آدم المرحوم، ولكني عرفت بعض التفاصيل من مايكل، وأنت تعرفين أنه لا يتحدث كثيرا، هل عاد زوجك من ماليزيا أم لا يزال هنالك؟ إنه يسافر كثيرا إلى هنالك. تحياتي، تسأل عنه نوار سعد أيضا؛ لأنها تريد أن تغير عربتها بعربة لاندكروز.
SEND
صديقتنا دوشكا تودروف
بعد أن عدت أنا من روسيا كان من أهم أهداف المرحلة عندي أن أعد لك زيارة إلى البلاد أنت وناتاشا وقوني، وقد تمت الترتيبات على أكمل وجه، والأصدقاء مستعدون لكي يتبعوا معك آثار مايا العزيز، وتبنت كلية الفنون الجميلة ذلك بنفسها، وستكون الرحلات إلى المدن التي عاش فيها مايا وتلك التي بقي فيها قليلا وتلك التي عبرها عبورا، وحتى تلك التي كانوا يتحدثون عنها وينوي زيارتها، كل ذلك سيكون في المتناول.
كما قامت الجامعة بتوزيع دعوات كثيرة إلى بعض الذين كانت لديهم علاقات بمايا في البلاد الكبيرة، وبعد ذلك ستقيم الجامعة احتفالا شبيها بالاحتفالات التي كان يقيمها مايا العزيز في منزله.
أما المنزل فتبنته نوار سعد وزوجها أمين محمد أحمد وسابا تخلي التي قد أصبحت من ذوات رءوس الأموال، بعد أن تزوجت رجلا تجاريا سياسيا له أرصدة لا حصر لها في بنوك العالم. وستعرفي الحكاية عندما تحضرين إلى البلاد الكبيرة، سيتولى هؤلاء صيانة المنزل وإعادته إلى هيئته الأولى تماما كما تركه مايا زوكوف فلاديمير في رحيله الأول من البلاد الكبيرة.
بالرغم من التشوه الذي أصاب الكهوف والتخريب الذي طالها في عهد ظلمات الحكم، إلا أن هنالك محاولات جادة يقودها نحاتون ورسامون شباب على رأسهم المعتوهان؛ كمال ذكريا ونادر جني، وما يسمونه بحاتم فان جوخ وتيسير عبد القادر وإيناس الطيب، وعشرون آخرون، قامت بتمويل المشروع منظمة اليونسكو.
ستحضر الاحتفال أسرة مداح المداح من سوريا، وأسرة الشيخ إمام من مصر، وأمل الطاهر من العراق، وخوان بيدرو من إسبانيا، والنور عثمان أبكر من دبي. نتوقع قدومك بعد يومين من موسكو، الرجاء الرد بأسرع ما يمكن.
SEND
كتابة: مخلوقات لذيذة
الكراسة التي كتب على غلافها خصوصيات كانت كلها عني، ولأنها عبارة عن خواطر طالب ثانوي في أوج مرحلة مراهقته، فقد كانت عميقة وتمثل لي كنزا ثمينا من الذكريات، بالأحرى هي مرآة لجانب من طفولتي لا يعرفه غير محمد آدم وأنا:
البنات مخلوقات غريبة، غريبة جدا لا يمكن فهمها بسهولة، أنا عارف أن سهير تحبني بحق وحقيقة، ولكن عندما أتحدث معها عن العرس تزعل وتهدد بأنها حتكلم لي أمها. ولكن سهير نفسها لما ترقد معاي في السرير تمسكني بقوة وتتمنى أنو أمها ما تجي البيت نهائيا.
وفي مكان آخر:
وأنا لاحظت أن والدها كان ينظر إلينا دائما، وكان لا يتركنا نبتعد عنه، أمها عكس أبوها، كانت ترسلنا معا لأماكن بعيدة ونحن نرحب بالفكر وننطلق بسرعة، ما أعتقد أمها كانت عندها مواضيع عايزة تناقشها مع العم حسان. ويوم العيد يوم لا ينسى؛ ذهبنا إلى البحر وما كان عميق، ويمكن المشي في داخل الماء لأكثر من عشرين مترا، وكنت وسهير نعوم في تلك المساحة، أنا أجيد السباحة، هي لا تعرف، كنت أعلمها كيف تسبح، تدق على الماء بكفتها وتدفع الماء بأرجلها للخلف في عشوائية، وبين وقت وآخر تبتلع جرعة كبيرة من الماء خطأ، فتقف فجأة على رجليها تكح، وهذا أكثر شيء يعجبني، كانت بهدومها تلتصق على جسدها، شعرها المبلل يلتصق على وجهها وكفها، وفي اللحظة دي تشبه الجنيات والحوريات، ولولا كنت خائفا من أن يجيء العم حسان والعمة فجأة ...
وقد جاء، ولكن وجدني أعلمها العوم وهي ترقد على ذراعي.
كرر العم حسان بمرح غير معهود: دي لو كان الحجر بيعوم هي برضو حتعوم.
مما جعلني أطمئن وأستمتع بالتصادم الخفيف العرضي اللي بيحدث بين نهديها وساعدي تحت الماء، وكان مثيرا جدا ولكن أبوها لا يعرف شيئا.
عندما يأتي وقت الكتابة كنت أحب أن أكون وحدي، حتى آدم أحبه أن يكون بعيدا؛ لأنني أحس أن الكتابة في لحظة إنتاجها ثروة يجب أن تخفى، ولكن بعد إنجازها فهي عالم يستطيع أن يعيشه الجميع.
الكهف مرة أخرى: الخير
وجدته يجلس تحت شجرة البرازيل العملاقة عند بوابة المنزل، عرفته من بعيد، كان طويلا أسود قوي البنية ولا يشبه غيره، بمجرد أن رأى العربة من بعيد وقف. - الأستاذة نوار سعد. - الخير ... ما بصدق. - جئت عشان أطمئن عليكم بعد الانقلاب الغريب دا، وأشوف أخوي برضو، ولكن قلت أولا أجيك أنت لأني وعدتك.
كانت تفوح منه رائحة الرمال والشمس الحارقة، البلح الأخضر والأسماك الجافة، فبدا كأسطورة من أغرب ضروب العطر مختلطة بعبق النيل، عيناه عميقتان كطائرين يحلقان بعيدا في الأفق، ملابسه ملوثة بغبار، ومركوبه الكبير عليه بقايا الطعام، آثار الماء وأخرى، بدا واضحا أنه أتى من سفر شاسع متعب ولئيم. قال: قبل كل شيء شاي ... عايز شاي تقيل. - مش أحسن تأكل أولا. - أشرب الشاي ثم آكل، حاسس بصداع. - نجيب ليك أسبرين. - لا، أنا حياتي ما بلعت أية دواء ولا مشيت إلى الدكتور، عايز شاي بس. بالمناسبة وين أمين؟ - أمين في مأمورية في جوبا، طبعا هو أستاذ في الجامعة. - ما شاء الله.
ثم أضاف سريعا وكأنه تذكر شيئا فجأة: أنا جبت معاي شحنة لوري بلح بركاوي وبعته في وقته، الحمد لله لقيت السوق كاشف وطبعا رمضان على الأبواب.
كان يأكل بسرعة ولكن باستمتاع خاص، ويتحدث عن كل شيء؛ عن أمه التي يحبها، العجائز، أطفاله، أنه سوف يتزوج في عيد الفطر. - البلد كلها نساوين والرجال كلهم شردوا للخرطوم، والواحد منهم عندما يبقى للزواج ويتزوج برضو من الخرطوم. أعمل أيه حأتزوج الرابعة والخامسة والسادسة.
كان يضحك بصوت غليظ مرح يطلب مزيدا من الرغيف، سألني سؤالا ماكرا: ما عندك عيال يا نوار؟
قلت له: والله ربنا ما رزقني، وإنت عارف، بتسأل ليه؟
قال وهو يمد يده في الهواء وكأنه يشير إلى جني: راجلك اللي شايفو دا ما راجل يجيب عيال، اللي زيك دي تحتاج راجل جد جد، راجل فحل يا نوار، راجل راجل.
وبصورة لا إرادية نظر إلى موقع ذكره، ضحك وهو يحملق في بطني ... ثم أضاف: ولا رأيك شنو يا بت؟
قلت له حقيقة دائما لا أحب أن أصرح بها، ولا تحب امرأة أن تقولها: كبرنا يالخير، دا كان زمان.
توقف قليلا عن الأكل، وقال في هدوء: يا دوب نحن في بداية الخمسينيات، عمر النبوة يا نوار، وأنت شباب اللي يشوفك ما يديك أكثر من تلاتين، نحن عيال متين يا بت! أنت ما شفت خالتك السرة، ولا عمتك نور الهدى، ولا أبوي الطيب، ولا جيرانكم عم سعد ولا زوجته الأولى مكة؟ حتى الآن مكة تلد الأطفال وهي أكبر مننا بسنوات، وضعت السنة اللي فاتت تيمان ذكي وذكية، خالتي سعاد كل سنة بتلد وهي في الخرطوم، أنت شوفي اللي حواليك بتقدري تعرفي نفسك. يا نوار شوفي أمي متين وقفت من الولادة، يا بت الراجل كان عنده شي لو دفقه في الحجر بيثمر، ولو ما عندو حاجة، لو بال في بت تسعتاشر ما منه أي نفع.
اقتنع بعد الأكل على أخذ حمام دافئ، واستبدال ملابسه بأخرى نظيفة، ثم أخذ قسطا من الراحة في الديوان، لحظات أخرى وعلا شخيره. استيقظت على صوته يصلي صلاة الصبح، يرتل القرآن جهرا بصوت غليظ ثم يتلو الراتب، نمت، ثم على وقع أقدامه يتجول في المنزل وهو يسبح بصوت مسموع، ثم سمعته يدير حوارا مع عم جعفر الخفير الذي يبدو أنه انزعج بعبادة الخير، وأنه استيقظ من نوم عميق، اختفت أصواتهما ربما ذهبا إلى الحديقة، في الصباح الباكر طلب مني صراحة أن أطلق محمد أحمد وأتزوجه هو، وقال إنه يعدني بأن يقضي شهرين إلى ثلاثة أشهر سنويا معي، وأنه يستطيع أن يجعلني حبلى في ليلة واحدة، ما فائدة الإنسان بدون ثمرة؟ لكني أكدت له أنني لن أفعل ذلك، وأن أمين هو زوجي النهائي إلا إذا اتفقنا على الطلاق أنا وهو. ألمح لي إثر رفض فكرته أن أمين لا يمكنه أن يشبعني جسديا، قلت له في سري: إنه مسكين لا يعرف شيئا عن تاريخ مع الرجال يخصني، كان عظيما، وكنت ملكة متوجة على عرش رغائبي، وإنني فعلت ما أستطيع من أجل إشباع جسدي، وإنني فعلا استطعت أن أجد ما كنت أطلبه من الآخر، والآن أنا أمر بمرحلة إعطاء فرصة للآخر الذي يبحث عن حاجة تخصه عندي؛ أن أجعل الحياة أجمل ولو لشخص واحد لا أكثر، هو أمين محمد أحمد، هي مخاطرة ولكن يقول شيخي النفري: في بعض المخاطرة النجاة.
فحسبي ذلك، قلت له في سري: أن الوقت الذي يخصني مضى، وأخذ نصيبك رجال شتى يتبعثرون ما بين أقصى شمال العالم إلى أقصى جنوبه. قال لي: قبل ما أسافر حاجي تاني عشان أقولك مع السلامة.
كان وهو يمضي تفوح منه رائحة المني، التمر الطازج وعرق البلح، قال لي شيطان لئيم: فكري في الأمر يا نوار.
جماليات الكوارث: فصل في المال الحلال
زوج سابا تخلي الثري الشيخ طه لم يبخل بخمسين مليونا، وهو نصيبه من تكلفة صيانة منزل مايا زوكوف، كان مبلغا كبيرا، لكن لا أحد يراه كذلك، الجميع دون فرز حتى سابا تخلي نفسها كانت ترى أن زوجها الشيخ طه قد بخل بماله بوضوح وخزي، ربما لأسباب سياسية، لمواقف عقائدية لا يرغب في الإفصاح عنها. كان أمين محمد أحمد أكثر الناس احتجاجا؛ لأنه ونوار سعد عليهما إكمال صيانة المنزل بجهدها الخاص، كان يرى أن الشيخ طه بعد أن فاز بشراء كوارث مدينة كسلا في العام الماضي صار الرقم الخامس من حيث الثراء في البلاد الكبيرة، لا يفوقه إلا رجل فاز بشراء كوارث نازحي دارفور مؤخرا.
ويقول أمين محمد أحمد وهو في حالة غضب لنوار: اشترى الكلب الكارثة كلها بمليار دينار فقط، وقد استلفه من البنك وأودعه البنك ذاته. انظري بعد ذلك عندما دمر القاش كسلا، انظري ملايين الدولارات والإعانات انهالت من جميع دول العالم، كم مليونا من الدولارات ... كلها، كلها دخلت حسابه ومخازنه. تصوري أنه في الخمس ساعات الأولى غطى ملياره من تبرعات مدينة القضارف وبورتسودان فقط، حلي، نساء، ساعات، رغيف عيش، حطب دقيق، ملابس، جازولين، شرموط، وقود فحم، لحوم، دينارات سائلة، ملح ... كان يعمل معه ألف عامل بالتمام والكمال في المحليات، في المخازن، في المطار، في الجمارك، في الطرقات، حكومات الولاية، الجيش، البوليس، عمال توزيع الأطعمة ...
كانت أية قطعة خبز في طريقها إلى فم طفل لا بد أن تمر بمحاسبيه ومخازنه، هو أولا يأخذ حقه منها ثم يرى في شأنها، وقد تصل حبة عيش أو مجرد وعد بالرغيف أو يدفع فرق السعر، وقد قدمت له الحكومة الخدمات الإعلامية من إذاعة وتليفزيون وميكرفونات وندوات خارجية وخطابات وزارية وتنظيم رحلات السفر، الأجانب وعمد الجاليات والمنظمات العالمية؛ ليطلعوا على خراب القاش بأعينهم، وقامت الحكومة بتصوير فيلم سريع ومن حر مالها؛ ليعرض في القنوات الفضائية العالمية من أجل العمل الإنساني السريع الفوري، بل إن سفير البلاد الكبيرة في الأمم المتحدة طالب كوفي عنان شخصيا بزيارة كسلا، وقد أرسل الأخير وفدا رفيع المستوى حلق بطائرة الهليكوبتر العملاقة في المدينة كلها من أجل زرع البهجة والأمل في نفوس الغرقى والمسئولين والناجين على السواء، أما طه فقد كاد أن يغمى عليه من الابتسام، قال إنه أنفق في كوارث القاش ثلاثة أضعاف ما اتفق عليه. أشك في ذلك، حتى ولو كان ذلك صحيحا، فإنه ربح من هذه الكارثة حوالي ثلاثة ملايين من الدولارات.
قلت لأمين: (...)
قال ببرود وحلق جاف: لا شيء.
ضحكنا كثيرا ... كثيرا... كثيرا. كانت سابا تخلي زوجته الثانية، الأولى لم تنجب له الأطفال وهي قريبته، كان يحبها وما زال، ولو أنه تزوج مرة أخرى رغما عنها ظنا منها أنها سوف تنجب يوما ما ... عليه الانتظار، ولكن تعجل الأمر وخاصة بعد أن ظهرت بوادر النعمة برضى المجموعة عنه، فقد وفد إليهم من حزب سياسي معارض ذي صيت، وأكد على ولائه عندما أبلى في معارك الاستوائية - قبل السلام - بلاء قيم بأنه حسن، وقتل ما لا يمكن التأكد منه من المواطنين الجنوبيين، وإنه الآن أخذ يفكر جديا في وريث لماله واسمه ولنسله، واضعا في الحسبان أنه الوليد الوحيد لأب له من البنات ثمان، الآن جميعهن ثريات وقد ظهرن مرة في التليفزيون في برامج سيدات الأعمال، بأيديهن السمينة أرطال من الذهب وألوان من الحناء، يغرقن وجوههن بأغلى الكريمات، يشوين قلوب النساء غيرة وهن يستعدلن أثوابهن الفارهة بين الفينة والأخرى، وكن في غاية الجمال والأناقة والغنج عندما يلوين شلاليفهن الكبيرة ليتحدثن.
ومن الطبيعي ألا يحكين عن شيئين: كيف وأين كن قبل أن تهبط عليهن الثروة؟ والثاني من أين لهن هذا ...؟ لكنهن أسرفن في وصف وضعهن الحالي وإدارة المال والرجال والعيال، الموضة، ولكي يصبحن أكثر حداثة، تحدثن عن دعمهن لإنهاء التمرد في دارفور والقضاء على الحركات المسلحة بتقديمهن لزاد المجاهد، بل جادت قريحة إحداهن ما أسمته المذيعة قصيدة شعر حماسية في تشجيع الجنود على الحرب.
أنجب منها نوار، وسماها نوار لأنه يكن شكرا وعرفانا كبيرا لنوار سعد التي لولاها لما كانت سابا زوجة له، سابا الجميلة الممتعة، وكان يريد منها ولدا ليضمن مسألة الوريث، ولكن عندما جاءت نوار احتفل بها واحتفى احتفاء يليق بمكانته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووضعه في الأسرة المميز، وهي السماية التي حضرها الوزراء والبيوتات السياسية وكثير من رجالات السفارات الأجنبية ورجال الأعمال والثروة وكبار التكنوقراط، وخلت تماما من المشردين الذين يضايقون الناس في الولائم الكبيرة، وتم ذلك بتعيين فرقة من البوليس وإدارة الشغب والأزمات العنيفين، الذين لا يرحمون ولا يعصون ولا يأبون، والذين يضربون، والذين إذا قيل لهم أن يقتلوا فإنهم يقتلون.
قدر أمين محمد أحمد تكاليف حفلة السماية بمبلغ 320000، ما تبقى من أطعمة جيدة وطازجة وسهلة الهضم حمل في شاحنة كبيرة إلى خارج المدينة الكبيرة قرب موقع حي فقير، وفي سبيل الله وحدة قسم للجميع؛ كرامة وسلامة.
كان جارنا، تقدم لسابا قبلنا فقبلت، وتزوجها وأنجب منها نوار، كان كريما، إلا أن الناس يريدونه أكثر كرما؛ لأنهم على الأقل يعرفون مصدر ماله.
بعد التحولات السياسية في البلاد وهي كما يلخصها آدم:
بوادر السلام/حرب دارفور.
انتباه أمريكا لمصالحها في السودان.
دعم الصين والدول العربية وإيران للحكومة عسكريا.
النموذج العراقي والأفغاني.
تلويح أمريكا بالتدخل العسكري في دارفور.
النموذج الليبي.
الشيخ طه الجيلي، مثله مثل بعض أصدقائه عندما وعي التغيرات السياسية الكبيرة والصغيرة، أخذ يحس بوخز الضمير الناتج عن الخوف من المستقبل، وبدأ يتبرع في المناسبات وغير المناسبات بمال يزكي به مالا لديه في بنوك كثيرة يعرفها، ومشروع «طريق مايا العزيز» كما سمته منظمة اليونسكو هو فرصة للتطهير والطهارة والغسل النظيف، ولكن كما يقول أمين محمد أحمد: ولكن ليس بهذه الرخصة، لا نريد منه أكثر من مليار ولا أقل.
قبلنا بغسيل أمواله فينا، ولكن فليحسن الغسيل.
طريقة التسوق الجماعية التي كنا نتبعها في السابق ما زلنا نحافظ عليها إلى اليوم، وهي الذهاب الجماعي إلى سوق المدينة وشراء مؤنة الأسبوع كله في يوم الجمعة، ولو أننا جميعا نعمل في المدينة إلا أن المجيء للتسوق مجيء للتسوق فقط.
أثر الانقلاب الذي سمي بالكاذب أو الفاشل؛ حسب المتحدث، ما زال مؤثرا بوضوح في الشوارع والناس والخطاب السياسي والجرائد، وحتى سعر السلع والمواد التموينية والكتب أيضا.
اشترينا كما اشترى الناس شراء من يخاف أن يستيقظ ذات صباح ويجد السوق وقد فرغ من كل شيء؛ لأن الشائعة التي تقول إن ذاك الانقلاب ليس بكاذب، إشاعة قوية، وإن هناك حقيقة لا يفصح عنها، وإنهم أغلقوا صحيفتين وهددوا بإغلاق أخرى؛ لأنهما ألمتا بما يشبه قلب الحقيقة، أو عين الكذب.
أجلت زيارة دوشكا تودروف إلى البلاد الكبيرة حتى يستقر الوضع قليلا، الصيانة في الكهوف تتقدم بصورة جيدة، العمال يقضون وقتا أطول في إعمار منزل مايا زوكوف، حدد الجغرافيون خارطة سير مايا منذ خروجه الأول من روسيا، رسموا مدنا كثيرة مبعثرة في العالم، عدة قرى لم يسمعوا بها من قبل، أحراشا فلوات ومغارات وصحاري، ممالك صغيرة جميلة ليست بذات أهمية، دققوا بصورة أكثر تفصيلا على البلاد الكبيرة، عندما اهتدوا إلى أحد رجالات البوليس السري، الذي كان يمثل المسئول المباشر عن تحركات مايا زوكوف، استطاعوا أن يحددوا عدد المرات التي تبرز فيها مايا زوكوف في العراء وأين.
المغنية الجميلة عفراء عبد الرضي قطعت شوطا كبيرا في التدرب على ألحان مداح المداح السورية، حتى البدوية بلهجتها العذبة، الفنان كمال زكريا يضع اللمسات الأخيرة لنصب الحدأة، الذي تم ترميمه في سنوات الظلامات؛ حيث اتفق الناس على تسميتها، رجالات الحكومة أيضا يحبذون هذا الاسم، سكرتارية الاحتفال استطاعت أن تصل إلى تسعين في المائة من الأشخاص الذين حضروا يوم تأبين مداح المداح وما زالوا على قيد الحياة، حتى المجنون الذي صعد ذات مرة على شجرة التبلدي وخطب خطبته الشهيرة، ولحسن الحظ أيضا، وافق النور عثمان أبكر على أن يتم تكريمه في الحفل الافتتاحي كأكثر شعراء البلاد جنونا في فترة ما بين تهجير أهالي حلفا القديمة، ومقتل الأستاذ محمود محمد طه، ولو أنه لم يوافق على قراءة أوراق الابن العاق كلها، واعتبر ذلك محاولة لتضليل أحبائه، الذين أعجبوا به كثيرا، بأنه يحبهم أقل.
العالم كله الذي يخصنا في انتظار زيارتك يا صديقنا دوشكا تودروف.
قوالات
قال أمين محمد أحمد لسابا عبر الموبايل: سنسافر إلى إثيوبيا مباشرة، ثم من هناك إلى أستراليا.
قالت سابا: الفكرة دي هي الأحسن؛ لأن القاهرة وسوريا كلها بلاد يمكن أن يتوقعنا فيها، وبسهولة يقبض علينا زي الكدايس. - أضفت بنتنا نوار للجواز؟ سألت سابا. - كل شيء جاهز، حتى شهادة الميلاد بالاسم الجديد غيرتها، بس ما غيرت اسمها إلا ... اسم الوالد، فقد سميتها باسم والدها الحقيقي وهو أنا: نوار أمين محمد أحمد. - ها، ها، يا ريته لو عرف، ليه ما غيرت اسمها هي برضو؟ آه، عاجبك اسم نوار سعد؟ - ما تزعلي عندما تلدي ولد، نسميه طه عشان نوزن الموضوع. - أنت نوار لسع عاجباك، وأنا عارفة كدا. - إذا كانت عاجباني ليه أهرب معاك؟ أنت المرأة الوحيدة ملخص من كل النساء وابنة طفلتي، أحبك يا لعينة. - بحبك، بحبك، بحبك، باي ... سامعة صوت في الباب، اضرب لي بعدين، لمان أعمل ليك مس كوول، باي.
سابا تخلي: في مديح الحبشيات
لا الشمس ولا القمر
ولا النجوم منحتني النور
لكنه الظلام
ونور الحب في داخلي مخترقا جسدي.
غونار أكلف
الزمن ليس كله من ذهب، في صباح جميل في الحديقة تحت ظلال الفيكس والستكا وزقزقة الكروان ونداءات الكلج كلج آتية من سدرة في الجوار، أطلقنا للأزمنة أسماءها: زمن من ذهب هو الوقت الذي يكون فيه الشيخ خارج البلاد الكبيرة، وتكون فيه نوار سعد أيضا في سفر خارج البلاد الكبيرة، حينها نغلق أحد البيتين إغلاقا جيدا ونترك ما في الخارج لله والخفير، ونمرح أنا وسابا تخلي في المنزل الآخر، نشبع هواياتنا في مشاهد أفلام الجنس بواسطة ذرن، والقمر الاصطناعي هوت بيرد، ونقرأ كتاب الكماسترا ونطبق الأوضاع التي به ، نقرأ الشعر أيضا، شعر بابلو نيرودا، عثمان بشري، غونار أكلف، نجلاء عثمان التوم، إدوارد إسلن كمنجز، وولت ويتمان، محمد الصادق، أليس ووكر، ودائما ما تتخلل السهرة أغنيات سابا تخلي الحبشية الراقصة التي نرقصها معا، غالبا ما أقدم لإجازة قصيرة من الجامعة، في مثل هذا الزمن حبلت سابا بنوار في وقت ذهبي من هذه الأوقات، هذا سر جمال نوار، نوار أمين محمد أحمد، أليس هذا اسما جميلا. هناك زمن من فضة، وهو زمن أقل جمالا ولكنه أحسن من زمن أقل منه درجة، وذلك عندما يكون الشيخ في سفرية أو نوار سعد في السفر، أي أحدهما خارج البلاد الكبيرة، هنا تحلو المغامرة وسرقة الأوقات الممتعة، لحظات الحياة التي لا تتكرر، وهنالك حقيقة أريد أن أقولها: إن سعادة الحياة مرتبطة عندي بسابا، وكل المعاني الجميلة والاشتياق، الحب، والانتظار، والتفكير، الشعر، الأغنيات، الرقص، الفرح، السفر، الليل، البيوت، السكينة، المشاوير، الكلام، الرطانات، السهر، السينما، الأقمار الاصطناعية، الأمطار، الصيف، الشتاء، الطفولة، الولادة ... كلما مر شيء بي تخللته سابا تخلي، هي امرأة خلقها الله أرق، أنعم، أحلى، ألدن، أنور، أطيب، أحب، أسمى، أنضر، لسابا ما لا يوصف، لكنها تحس، تلمس، تقبل، تعطي، تمنح، تهب، تذوب، تفيض، تضيء، هي اكتمال الأشياء كلها. هي المرأة التي يصبح الزمن كله من ذهب بين ظهرانيها، ولكني أطوع نفسي في زمن المغامرة، في زمن الفضة أيضا، كنا نلتقي - أيضا - عند قهوة الظهر مع نوار أو الشيخ، أي عند تواجدهما، لأنهما لا يشكان في سلوكنا؛ ولإننا لا ندعهما يشكان.
وهنالك زمن من برونز، وهو أن يوجد بالبلاد الكبيرة كلاهما ولكنهما يذهبان للعمل نهارا، فماذا يمنع أن نلتقي في أحد البيتين إذن؟
هناك زمن من ورق، وهو أن يوجد الاثنان والوقت عطلة، وأنهما مستقران في البيت، وهل هنالك من يحرمنا من لعب الشطرنج والليدو أو الكتشينة معا؟
هناك زمن من شوك، ونار وطين وتراب وغبار وظلام.
ولكننا أنا وحبيبتي سابا تخلي لا يحول بيننا حائل، ولا يطالنا طائل، نعمل في نقطة الأمل/المخاطرة، شعارنا الحياة مرة واحدة لا تتكرر.
نوار سعد كانت تضع لفارق السن الكبير بيني وبينها ألف حساب، ولا تؤمن بكذباتي الصغيرة عليها فيما يخص الارتباط المقدس الأبدي، وكيف كنت أحتفظ بملابسها الداخلية وأدفع فيها الغالي والنفيس لسابا التي تقوم بسرقتها، وعرفت أنها وضعت كل ذلك في سلة حرماني من حنان الأب. كانت تأخذني للتسوق في أرقى الأسواق المحلية والعالمية أيضا، وتساعدني في الزمن الورقي على التحضير لمحاضراتي القادمة، بل إن معرفتي بالشعر الإنجليزي تعمقت من خلال نوار سعد؛ حيث كانت لها اهتمامات حقيقية وفعلية بالشعر، وتعرف، بل صادقت كثيرا من الشعراء مثل أليس ووكر وأميري بركة ولولي ينج، وتعلمت منها حقيقة حبها للآخرين، فكانت سيدة مضيافة وترحب بأصدقائي وصديقاتي وخاصة الطالبات الجامعيات؛ حيث كانت تقدم لهن رعاية خاصة، فلم يحدث أن أتت صديقة معي إلى المنزل ولم تهدها نوار سعد طقما من الصابون والكريمات والأمشاط الفاخرة، زجاجة عطر قيمة، ربما فكرة تكوين منظمة خاصة برعاية الطالبات الجامعيات نبعت عندها إثر هذا العطاء، وهي المنظمة المعروفة باسم طالبات، التي ترعى أكثر من ألف طالبة فقيرة بالعاصمة وأقاليم البلاد الكبيرة، حدثتني سابا ذات مرة أن نوار سعد جمعت ما بين عمل الخير والاهتمام بالفن المرئي ... قالت: أخذت من الحياة ما يكفيني، الآن وقت العطاء ... عايزة أخليه يشوف حياتي. ولكن هذا غير صحيح، فلقد كانت تضيق علي الخناق بصورة مزعجة، ولا تدعني أفلت من كفها أو بصرها أو سمعها إلا أذا كان ذلك رغما عنها، بل كانت تستهلكني بصورة مرعبة ... عندما تحضر نوار سعد من إحدى سفرياتها كانت لا تخرج مساء إلا للتسوق قليلا، أو تزور إحدى بيوت الطالبات لتطمئن على أن ليست هنالك طالبة في حاجة إلى كريم أو صابون أو مصروف ضروري ثم نعود.
لاحظت أنني دائما ما كنت أرغبها وبصورة ملحة، وقد أواقعها في الليلة الواحدة أكثر من ثلاث ضجعات، اندهشت من نفسي، ولو كنت أؤمن بالسحر والعمل والفكية ربما قلت أن بعض ذلك حدث لي، ولو أنها تطعمني بصورة جيدة وتشحن بطني بالألبان والفاكهة والعصائر والمشروبات المستوردة، إلا أنني كنت أحس بأنني مستغل ومستهلك، وعندما عرفت السر لم أستطع أن أرفض، فكنت أرشف عصير المساء المطعم بحب الفياجرا برضاء تام وعدم فضح حقيقته، إذا كانت صريحة معي لاستبدلت عقار الفياجرا بالأعشاب الصينية الطبيعية التي سرقتها لي سابا تخلي من زوجها؛ حيث كان يستوردها بكميات كبيرة لأصحابه من الطبقة، يخزنها في المنزل، ولكن ...
هاتان المرأتان شكلتا إحداثيات حياتي، وكنت أشك فيما إذا كانت نوار سعد تعلم بعلاقتي مع سابا تخلي، وأنها تصرف السمع والبصر عن ذلك، بل وتدعي أن علاقتي بسابا كعلاقة الأخ بالأخت أمام زوج سابا الشيخ طه، بيني وبين نفسي أريد أن أحسم هذه العلاقة في يوم ما، ولكن ليس لصالح نوار سعد على أية حال. أمي تريدني أن أتزوج بنتا صغيرة من الجيران تصلح للبيت وإنجاب الأطفال، وتفضلها مكملة للثانوي العالي فقط، وكفاية يا ولدي المتاهة اللي أنت ضايع فيها دي!
أمي لا تعرف أن الرجل عندما يعجب بالحبشية لا يرى شيئا آخر، والعيب الوحيد في سابا أنها متزوجة، ولكنها تنجب لي البنات، وإذا سافرنا معا إلى الخارج سنتزوج، وسنحيا.
في الكهف مرة أخرى
استأجرنا بيتا صغيرا في ضواحي الخرطوم بأجرة شهرية لا بأس بها، وكان يخلو من المطبخ، ولكن آدم قام ببناء مطبخ صغير بالطوب الأحمر والطين وعرشه عرشا بلديا متينا، حفرنا أنا وهو مرحاضا في أحد أركان المنزل خاصا بنا بدلا من المرحاض المشترك بيننا والمستأجرين الآخرين، ساعدنا بعض الأصدقاء في بنائه وتجهيزه.
آدم يعمل موظفا صغيرا في شركة نقل تخص إحدى نساء الأعمال الثريات، وأنا دخلت عدة معاينات للعمل كمهندسة ديكور أو مصممة أو حتى معلمة للرسم والتلوين في مدرسة من المدارس، ولكن لم أوفق في ذلك. فكرت بصورة جادة أن أعمل لحسابي الخاص في المجال الذي لي باع فيه، وهو مجال النحت، وأن أعمل عملا صعبا ولو أنه شاق، ولكن حقيقيا ويشبع حاجتي وتطلعي الفني، ولا أنتظر عائدا ماديا في القريب العاجل وأن أبدأ العمل في كهوف مايا زوكوف.
أستخدم الحجارة الجيرية والترسبية والرخام الجميل الذي يتميز به ذلك الموقع، وطرحت الفكرة لآدم فاقتنع بالفكرة وطرحناها على مايكل، القديسة، نوار سعد، أمين وسابا، فأكدوا أنها فكرة شجاعة، وكونا صندوقا سريعا لشراء معدات النحت، قطع الحجارة وصقلها ومواد الطلاء، وقمنا برحلة لمعاينة المكان وتحديد موقع العمل. وجدنا كمال زكريا وفرقته يعملون في جد في صيانة الكهوف وإعادة طلاء ما أتلفته النار التي كان يوقدها البوليس في عهد الظلام لأغراض الإضاءة والطعام والتعذيب أيضا. اخترنا موقعا مواجها للكهف الكبير، حيث نصب الحدأة التي تحلق عاليا صوب الحزن.
وسميت المرسم بيت الأمل، أول قطعة رخام كبيرة بدأت في نحتها كانت تزن طنا كاملا، لونها أحمر متدرج نحو الوردي، الفكرة الأساسية هي أن أشكل عصرين؛ عصر بدأ منذ 89 واستمر إلى 2004، وينطلق نحو أسئلة كثيرة قد تكون متناقضة وقد تتوافق، ولكنها تمثل فيه تأثير النظام العالمي الجديد في واقع الحياة في البلاد الكبيرة، وأريد أن أعبر بالذات عن هذه الحرية التي نعيشها اليوم، الحرية الطلقة، حيث الضمان الوحيد لاستمراريتها أمريكا؛ لأنها لم تأت بنضال الشعب في مؤسساته الوطنية الرسمية، أو مؤسسات المجتمع المدني، أو مجاهدات مثقفيه، أو حتى اقتناع السلطة الحاكمة بجدوى الحرية والديمقراطية والحكم المدني ومؤسسيه وحقوق الإنسان. أريد أن أعبر عن كل ذلك، فأخذت أنفذ الدراسة تلو الدراسة، أمزق وأناقش الناس وأتأمل الحال، وذهبت مرات عدة إلى كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، وطرحت سؤالا للطلاب وطلبت الإجابة عليه نصا أو تخطيطا أو تكوينا مرسوما، فتحصلت على أشكال قبيحة سطحية لا تحمل أي بصمة خاصة بجيل أو مدرسة أو شخص أو حساسية، مجرد إحساس، كانوا يقلدون أو يرسمون وفي أذهانهم أساتذة لا غير.
قلت لهم: ارسموا بأحاسيسكم أنتم؛ حيث كنتم شهودا على عصر مظلم مضى وزمن جميل يأتي، قالت لي إحداهن: يا أستاذة، نعم هنالك عهد قبيح مضى، ولكن عصر قبيح أتى أيضا، أقبح نعيشه الآن، ثم أنشدت:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد.
وكان هذا ما أخاف منه بالضبط. قلت لها محاولة أن أعرف منها أكثر: والسلام؟ - السلام اللي بين الحركة والحكومة، أم ما بين الشمال والجنوب، ولا الشمال ولا الغرب ولا بين سكان دارفور من عرب وحكومة من جهة، وفور زغاوة ومساليت وداجو وآخرين من جهة أخرى، أي سلام؟ هل نضع جبال تلشي في الحسبان وحزب المؤتمر الشعبي والوطني؟ أنا لا أفهم يا أستاذة، أضيفي بعد دا كله إلى الانقلابات الكاذبة!
قلت لها بوضوح: أنا أيضا لا أفهم.
الآن اكتشفت فائدة المعتقل والسجن والتعذيب الذي نلته في الفترة الماضية، إنه يجعلك أكثر حساسية للتغيير الذي يطرأ ولو كان تغييرا طفيفا نحو الأحسن، وهؤلاء الذين لم يدخلوا جحيم العهد الماضي لا يستمتعون بجنة هذه الأيام، الذين لم يعتقلوا لا يميزون هامش الحريات، ولا يعرفون أسماء الملائكة، كان الطلاب متشائمين، وأشارت لي بنت صغيرة جميلة سوداء لها عينان كبيرتان إلى تمثال من الأسمنت قام بنحته كمال زكريا كمشروع للتخرج منذ سنوات كثيرة مضت، وهو عبارة عن عنكبوت كبير على رأس رجل، يقبض عليه بأطرافه بقوة، آكلا من جلد فروة رأسه، مسيطرا عليه سيطرة كاملة ونهائية، والرجل لا يفعل شيئا سوى الصراخ، قالت: شايفة يا أستاذة. دي هي الحكومة بالأمس واليوم وغدا، واللي يصرخ دا هو الشعب.
بدأت النحت على قطعة الرخام بعد ذلك مباشرة بدون أية اسكتشات، أو دراسات أو أفكار مسبقة، أطلقت الحرية ليدي والأزميل والشاكوش يفعلون فعلهم الأول، ثم بعد ذلك أبدأ بتوجيه الشكل، وهي طريقة استخدمتها من قبل عندما تكون لدي الفكرة ولا يغيب عني الشكل المعبر عن الفكرة، في تلك الفترة تم إعادة التيار الكهربائي إلى الكهوف، مما سهل العمل الليلي على ضوء الكشافات الكبيرة، كان آدم يرافقني في العمل بعد الدوام الخاص به في الشركة، كان متخصصا في التلوين، وله معرفة عميقة باللون صناعة واستخداما ودلالات.
وأكدت معرفته هذه الأعمال التي قام بها في إعادة تأهيل كهوف مايا زوكوف، بعدما تأجل الاحتفال بمايا إلى العام القادم أتيحت لي الفرصة أن أفتتح معرضي الأول في ذات أيام الاحتفال؛ لكي يحظى بفرجة أكبر نوعا، كيفا وكما، وقد تنفتح لي آفاق لمشاركات خارجية، وقد تشترى بعض قطعي الفنية بواسطة أجانب، حيث تنطلق إلى العالم الأكبر. كانت أعمالي كلها على الحجارة بجميع أنواعها حتى الجرانيت، واستخدمت الحصى أيضا مع الأسمنت الأبيض، واستخدمت الرمل الخشن والناعم مع مواد كيميائية لامعة، كل ما شكلته الطبيعة حول الجبل، أما العمل الأكبر هو أني استخدمت الواجهة الشرقية للجبل كلها، التي تقع في مساحة نصف ميل مربع كقطعة فنية واحدة كبيرة، قالت عنها نوار سعد: إنها أكبر قطعة نحت في العالم بعد أن دمر الطالبانيون تمثال بوذا في أفغانستان، تتكون في ألف قطعة حجر من أحجام مختلفة من الجرانيت الأسود، وقطعة واحدة كبيرة من الرخام الأبيض في شكل بيضة ضخمة لنسر خرافي تكون فضاء المربع أعضاءه كلها، التي تمثل في نفس الوقت شمسا تشرق أو تغيب. استغرق إنجاز هذا العمل ثمانية أشهر وخمسة ألف دينار - دفعتها اليونسكو - معظمها إيجار لرافعات وعمل عتالة ودربكين وقطع حجارة، كان معي خمسة عمال أشداء بصورة متواصلة، لا يكلون ولا يملون ولا يمرضون، إضافة لذلك كنت أستعين بالشغيلة والفنيين الذين يعملون في كهوف مايا زوكوف فلاديمير، ساعدني أيضا طلاب كلية الفنون، وكانوا معي كل ساعات دراستهم العملية وأوقات فراغهم، والبعض أقام مع العمال في الكهف، بين وقت وآخر يأتي من يقدم يد العون طوعا، كان عملا شاقا ولكنه مثمر، منحتني من أجله الجامعة شهادة الماجستير في النحت، وتم تعييني أستاذة بالجامعة براتب جيد. ولكن الغريب في الأمر؛ كان من ضمن الأشخاص الذين جاءوا طوعا للعمل معي والمساعدة الشرطي جمال الأمين، وكان يأتي في الوقت الذي يذهب فيه الجميع للراحة، ويطلب مني تكليفه بعمل ما، فينجزه على سرعة البرق ويختفي، طلب مني ألا أبلغ عنه أو أن أحرمه من المساعدة، وقال: أنا شخص مفيد، ولكني شديد الغدر، ولا يمكن قتله، مش كدا؟ ومن الأحسن اتعلمي كيف تحبيني، وتعتادي علي.
اللحظة التي رأيته فيها كاد يغمى علي من الرعب والخوف والدهشة، أو ربما لا شيء سوى استدعاء الصدمة التي عانيت منها، التي كان هو المايسترو وقائد أوركسترا رعبها، ولكني: ألم أقتله؟!
ألم أقتلك؟
لا أحد في ذلك الوقت أحتمي به، لا أحد يمكنه أن يسمع صراخي، لا، إذا صرخت فيهب لنجدتي لا أحد.
كنت أنحني على قطعة فخار كبيرة أقيس أبعادها، حينما أحسست بظل ثقيل يقترب مني، قال: ما في طريقة الزول يعرف بيها أخبارك إلا في الجرايد، مش كدا؟
ما يقارب العشرين عاما منذ أن قتلته في الكهف، عشرون عاما! - أنا مش قتلتك؟
قال وهو يقترب مني أكثر، فتقترب مني رائحة العرق، تبدو ابتسامته أكثر وضوحا: ورميتيني في القبر، مش كدا؟ برضو أنا سامحتك، حتى لو مت كنت حأموت وأنا ما زعلان منك، ولكن أنا عندي روح كلب، سبعة أرواح، ولو كنت أموت بالسهولة دي، سجم أمي؟
ثم أضاف عندما أحس أنني ما زلت أرغب في الهرب: أرجوك، أنا الآن في وضع مختلف، الكل يريد قتلي وعلى رأسهم الناس الذين كنت أحميهم وارتكبت كل الجرائم من أجلهم، كنت أداة مرحلة لا أكثر، وحسوا أنني أمثل ليهم شاهدا خطيرا على جرائم أكبر ويجب التخلص منه، من هذا الشاهد الهو أنا. وعايز أقول ليك، أنت هربت من الكهف بمزاجي أنا، أنا اللي أديتك الفرصة للهروب، صحيح أنا ارتكبت خطأ واحدا وكان بإمكاني تداركه في الوقت المناسب، ولكن ربنا أراد غير كدا، وكنت برضو عارفك وين مدسية، ولكني قلت لنفسي: اعمل يا جمال عمل خير ولو لمرة واحدة في حياتك.
بالتالي خليتك تروحي في حالك؛ لأنهم أنقذوني من الموت بعد أقل من ساعة من فعلتك؛ لأنني ما كنت مغفل بالصورة اللي تخليني ما أحتفظ بحرس، كنت في الأيام ديك مستهدفا من كل الأحزاب والمعارضين، فقط أنا أخرت الحرس، يجيء بعد ساعتين من وصولنا للكهف، وجاء بعد ساعة من عملتك اللي ما كنت مستبعدها تماما، ولو أنك فاجأتيني بيها.
أنا عايز أساعدك وبس، وأريد أن أقول لك حقيقة مهمة ، عشان تعرفي حسن نيتي: أنا حضرت زواجك من آدم في قريتكم، وكنت سعيدا جدا، وعشان ما أعكر مزاجك وأذكرك بأيام الاعتقال ما ظهرت ليك.
وأخذ يصف لي ذلك اليوم بأدق تفاصيله.
لا أعرف ماذا أقول، لم أعرف ماذا أفعل، لم أعرف أي شيء، كنت في صمت تام وجنون.
فقط، كانت لدي رغبة واحدة مؤكدة، رغبة جامحة وملحة، وهي أنني أريد أن أقتله، أقتله، أقتله، أقتله.
قلت لآدم زكريا زوجي، وهو شخص هادئ رقيق يأخذ الدنيا دائما مأخذ رفق وأناة، قال لي: أنا أشوف يا سارة أحسن تبعديه عنك وتنسي موضوعه تماما، «فالبلا يكفوه بالكرامة»، الزول دا أصلا ميت ميت، الحكومة حتقتله، وفي عشرين جهة أخرى عايزة تقتله، عليك الله انسي الزول دا، في أشياء أهم. - الزول دا قتلني مليون ... مليون مليووون مرة، دمي الآن يغلي، أنت ما حاسس بي؟
كلما أتذكره، كلما أشوفه، أنا لو ما قتلته بيدي دي ما حأكون مرتاحة، وما عايزة زول يقتله قبلي، أظنك فهمتني يا آدم، أنا تعبانة ومغيوظة، ومتألمة ومجرحة من جواي، مقطعة قطعا قطعا؟
قال بهدوئه المعتاد: كويس يا سارة، خلينا نشرك أصحابنا في الموضوع دا ونستشيرهم؛ سابا، وأمين، ونوار، ومايكل، وبرهاني. الموضوع دا مش سهل، أنا معاك الزول دا يستحق الصلب والحرق حيا، ولكن الانتقام رد فعل عاطفي وغير عملي، وأنت زولة فنانة وإنسانة، أنا ما عايزك توسخي يدك النظيفة بالقتل، مهما كان عادلا ومبررا ومنطقيا، ولكن أنا برضو براعي لظرفك النفسي والألم الكبير اللي سببو ليك، خلينا نفكر كمجموعة، واللي يتفق عليه الناس نعمله.
سارة حسن تحب الكتابة ليلا، يعجبها الهدوء، أذان الصبح كان يدعو الناس للصلاة في إلحاح.
كلاب: لصوص وطلاق
بعد أن منعت الحكومة الجرائد من تناول موضوع الانقلاب، وسكن الراديو والتليفزيون عنه، وهما الكديسان التابعان للحكومة الوفيان المدللان، نسي الناس الموضوع برمته، وبيعت المستشفى وسافر الطبيب إلى الخارج طالبا حق اللجوء إلى أية بلاد كانت ... غاضبا. - بلد كلها كذابين وحرامية.
كشفت نوار سعد مخطط أمين وفاجأته قائلة وهما قد فرغا من شرب شاي الغداء: أنت مسافر مع سابا؟
قلت مندهشا: وين؟
قالت ببرود وهي تحملق في وجهي دارسة إياه بالطريقة القاسية التي أعرفها فيها: إثيوبيا ثم أستراليا.
قلت وبدأت أحس بالرعب يسري في عظمي، محاولا في نفس الوقت ألا أبدو كذلك: قال ليك منو؟
قالت ولا تزال عينها في عيني: سمعك زول تتحدث بالموبايل.
بكل أنفه قمت من مقعدي، وبحركة مسرحية قلت: نعم، قلت، ما قال ليك إننا جادين ولا كنا بنهزر ونضحك! - ما قال لي، قول لي أنت!
قالتها في غنج وهي تهز كتفها: أنت رأيك شنو؟
قالت مدعية البراءة بصورة فجة وواضحة: أنا سمعت ما سمعت وأنت عليك تفسر ما قلت، كدا ببساطة، وأقول ليك أنا بصدق كلامك أنت اللي تقوله الآن قدامى وبس، في أكثر من كدا.
يبدو أنها كانت متأكدة مما تقول، وأنها افتعلت مسألة من سمع افتعالا، وأن لديها مصادر أخرى أكثر قوة ودلالة، وأنا أعرف نوار سعد عندما تكون قوية وعندما تكون في موقف ضعف، هي الآن في موقف قوة، وذلك من انبساط وجهها، ولبسها القصير جدا، والتحدث من غير أن تستخدم أصابعها في حركة جفونها، وعليك يا أمين أن تكون صاحيا دقيقا، قلت لها محاولا استطالة الحوار أو البحث عن منفذ: أنت تعرفي أن سابا متزوجة مش كدا؟ هل حأسوقها مع زوجها أو أطلقها منه؟
قالت ببرود وهي ترفع كتفيها إلى أعلى: دا شيء تحدده هي وأنت!
عندما طرق الباب تأكد لي أنني نجوت، فانطلقت أفتحه وجدت أمامي الشيخ طه يحمل ما يدعي أنها بنته على كتفه في حنان دافق، التي هي بنتي أنا بحق وحقيقة، وأستطيع أن أؤكد ذلك وخاصة بعد اكتشاف خارطة الجينوم البشري. حيا بحرارة ثم جلس، قالت له نوار: أمين قال الكلام حقيقة وهو حيأخذ سابا معه للخارج، وربما تزوجها هناك أو عاشوا سوا كدا.
فوجئت تماما، وأدركت أنني بين فكي غول، أردت أن أقول شيئا ولكنه قال بسرعة وهو يضع البنت الصغيرة في رجليه الكبيرتين: اسمعني جيدا يا أمين، أنت عمرك حاليا على مشارف الأربعين، ولكنك تتعامل بعقلية طفل صغير، والصعلكة اللي بتعملها دي أنت ما بتعرف خطورتها ولا حدودها، وتتصرف في الدنيا دي زيك زي أي كلب مطلوق ما عنده سيد وسعران، يعض اللي يجده، حتى نفسه ذاتها، نعم أنت متعلم أكثر مني، وأنا زول تخرجت من الأولية ولكن الأكبر منك بيوم بيعرف أكثر منك بسنة، وبيني وبينك على الأقل عشرين سنة، وأنا عارف كل شيء عنك، ومن الأحسن يا أمين تشوف مستقبلك وحياتك وتعود لأمك وأسرتك وزوجتك وتخلي الناس في حالهم، وأنا عارف أنت دائما بتحاول تغوي سابا، ودائما تحاول تضللها، وأنا أعرف أنك حاولت تردها للدين المسيحي، وراودتها عن نفسها ولكنها ردتك، أنا أعرف زوجتي جيدا وعايز أعيش مع أسرتي وبنتي في سلام وشرف، وهي فرصة أخيرة بالنسبة لك، وأنا قادر بعدها أحسمك بطريقة يندهش ليها الجن نفسه، موضوعك دا ما بياخد مني قدر رمشة عين. وأقول ليك: سابا تخلي بنفسها أخبرتني بمؤامرتك الأخيرة، وحتى تسجيل البنت وتغيير اسمها، وهي دي الشهادة اللي وعدك بيها القمسيون الطبي أرسلها لي بنفسه.
وأخرج الشهادة من جيبه برهانا جليا، وعرضها بصورة استفزازية وقحة: آها، رأيك شنو؟
كنت أحاول أن أكون قويا وأبدو كما لو كنت على حق مدعيا متكبرا، ولكن الإحساس بأنني أصحو أو سكران أو أن شيطانا في صحوتي يكشفني لنفسي ... كان يسيطر علي هذا الإحساس الغريب، وحاولت أن أراوغ، ولكن نوار سعد قالت لي بصورة مسرحية مفاجئة: أنت طالق يا أمين محمد أحمد!
كانت تقف أمامي مباشرة وهي ترقص ردفها بثقة في تحد، قلت وقد جف حلقي وكاد صوتي يختفي: أنا؟
قالت وما برحت مكانها بعد تبحلق في وجهي: نعم، أنت طالق!
ثم أضافت وهي تمضي بعيدا نحو سفرة الطعام: فالعصمة في يدي أنا، ودا كان شرط زواجي منك، هل نسيت؟ أنا الآن أطلقك، أنت طالق طالق طالق.
صرخت في هستيرية مفاجئة، قلت موجها كلامي إلى طه مشيرا إلى ابنتي، وقد أتتني شجاعة من حيث لا أدري: البت دي بتي!
وأشرت إلى نوار الصغيرة وهي ترقد في حضنه.
قال مندهشا وهو يقبض على نوار الصغيرة التي يبدو أنها قد نامت، أمسكها برعب كأنما هنالك نسر كبير سيخطفها منه: منو؟ - نوار. - بنتك أنت! أنت أمين القدامي دا؟ اللي طلقوك الآن زي المرا؟
مشيرا إلي بأصبعه الأصغر. - نعم، بنتي أنا أمين اللي قدامك دا.
قال ضاحكا: لو كان بإمكانك إنجاب بنت ولا ولد ولا حتى فأر لأنجبت، فأنت متزوج منذ عشر سنوات من أجمل امرأة في العاصمة كلها، وأقول لك بصراحة يا أمين، أنت ما راجل، أنت زيك زي أخواتك والناس دي كلها عارفة كدا، وأول الشهود نوار.
قال موجها حديثه لنوار: يا نوار، أمين دا راجل؟
قالت بكل وقاحة ودون تفكير وهي تنظر إلي في أم عيني: لا والله، الرجالة في وادي وهو في وادي، زي أخواته تماما ويمكن أخواته رشا ورشيدة وديل أرجل منه.
غضبت غضبا أفقدني السيطرة على نفسي، وفي ذاتي أعرف أنهما كاذبان، وأريد أن أؤكد لهما الآن في ذات اللحظة أنني رجل، ولكن كيف؟ كيف يؤكد الرجل رجولته! - أنا ما راجل، يا نوار؟
قالت وهي تنظر في أم عيني بمقلتين باردتين لا تعبران عن شيء إطلاقا: بالتأكيد، أنت يا أمين محمد أحمد، اللي طلقتك قبل شوية، اللي قدامي دا هسع، ما راجل بكل ما تعنيه الكلمة من معاني، أنت عنين وعاجز عجزا كاملا، وأنت عارف الحقيقة دي جيدا. - أنا ما راجل؟
قال الشيخ وهو يضحك بكل ما أوتي من قوة وسعة فم وبمتعة خاصة، وهو يضغط الطفلة على صدره الضخم: عشان كدا أنا ما كنت خايف على سابا منك ... لكن أنت كمان كترت المسألة، عايز تاخدها معاك لأستراليا وأوروبا، تذكرني بالطواوشة الذين يقيمون في الحريم مع نسوان السلاطين. ثم أضاف في استغراب: وتقول عندك بنت كمان، اختشي يا ابني، اختشي!
قالت لي نوار وهي تنهض وتبدو فتنتها في العيان تتبختر بملبسها القصير: يمكنك أن ترحل الآن، أنا طلقتك.
ثم أضافت في سخرية وانتقام مرين: ولمان تكمل العدة بتاعتك عليك الله قول لي عشان أرسل ليك القسيمة مع مرتضى «الود المحامي».
حاولت أن أفعل أية فعلة، ولكني عجزت، عجزت حتى من مجرد انتصاب صغير تافه أمام هذين الكلبين لأثبت لهما رجولتي، حقيقة لقد اختفى شيء عن الوجود تماما، وأحسست بأنني امرأة يطلقها رجلها الآن، ولا أدري كيف تمثل لي الشيخ طه وكأنه الزوج الذي طلقني.
القديسة: سهير حسان
لم أقبل بالطريقة التي تعاملت بها نوار سعد مع أمين محمد، التي حكيت لي بواسطة أكثر من مصدر وشخص وصديق، البعض شامت على أمين أو ساخر منه، والبعض متعاطف معه، والبعض غاضب على نوار والشيخ وسابا وأمين نفسه الذي لم يستطع أن يدافع عن رجولته، هنالك رأى مايكل أن خطأ أمين الوحيد أنه ربط الرجل بعضوه التناسلي، وأراد أن يثبت رجولته من ذاك المنطلق، وكان يمكنه فعل ذلك لو عرف أن ذكره لا ينتعظ إلا من الرأس، فالعضو لا يفكر ولا ينتفخ من تلقاء نفسه. ولكن العقل هو الذي ... قلت لمايكل: ولكنهم اتعاملوا معه بنظام الصدمات والمباغتة، ولم يتركوا له الفرصة في أن يفكر، مجرد تفكير، هم عجائز متمرسون على الشر والانتقام، وهو شاعر بسيط تجاربه الحياتية لا تتعدى رف الكتب ونوار وسابا. - الحياة مدرسة، وأمين دائما ما يعيد نفس الفصل، وقد مر بهذه الحصة من قبل ومع نفس المعلم وهو نوار سعد في نفس الفصل وهو بيتها، ولكن هذه المرة مع ناظر مدرسة جديد.
الأحداث أثرت بصورة سلبية على مجريات التحضير للاحتفال بمايا زوكوف؛ حيث إن أمين محمد أحمد الذي اختفى تماما عن دائرة الأصدقاء، سمعا وبصرا وملمسا، كان حلقة الوصل الأساسية بين دوشكا تودوروف ضيف الشرف وصديقة المرحوم مايا العزيز، وبين إدارة الجامعة وسكرتارية الاحتفال، ولكن من الجانب الآخر قام الشيخ طه بزيادة تبرعه ودعمه للمشروع وتبنى شارع أسفلت يربط ما بين الطريق العام وكهوف مايا زوكوف وأسماه طريق نوار، واشترى قطعة نحت كبيرة من سارة حسن بمليونين من الدينارات وأهداها إلى زوجته الجميلة سابا الرائعة؛ حيث كتب بماء الذهب في قاعدة المنحوتة التي تمثل امرأة حبلى بطفلة هي الأخرى، حبلى بطفلة مصنوعة من الرخام الوردي في طول المتر، وعرضها عند القاعدة نصف متر: زوجتي الجميلة سابا.
ولكننا افتقدنا أمين وروحه المرحة وقلقنا عليه؛ حيث لا خبر ولا أثر، ومن حقه علينا على الأقل السؤال. سابا قالت إنه قد عاد إلى منزل أسرته وهو معتكف هناك بعد أن أخذ إجازته السنوية من الجامعة. قالت إن برهاني الأخ الأصغر لها حدثها بذلك، فهما صديقان منذ زمن طويل. يشرف الآن برهاني بنفسه على الطريق الذي تبرع به الشيخ، بنهاية فصل الشتاء سيكون كل شيء قد تم بمشيئة الله، سارة حسن كانت تضع في اللمسات الأخيرة لمعرضها الأول، العمال والفنانون أكدوا أن ما تبقى من عمل في الكهوف هو حفل الافتتاح لا غير، جمال الأمين الشرطي يصدر بيانا عبر الإنترنت والجرائد القومية فيه اعتذار لشعوب البلاد الكبيرة كلها، واعتذار خاص لثلاثمائة فرد بالاسم والعنوان والصورة الذين عذبهم وقتل منهم عشرين، ولكن الجرائد لم تنشر مائة اسم أخرى لسياسيين وتكنوقراط شاركوا في التعذيب والقتل وأداروه بأنفسهم، لكنهم موجودون في الإنترنت بصورهم وعناوينهم وأسمائهم الحركية وأسمائهم الحقيقية وألقابهم، وكشف بأسماء أفراد أسرهم ومواقع عملهم، وإذا كانوا بالمدارس أو الرياض أو بالخارج، بل هنالك ما أسماه دليل الاصطياد، أي كيف يمكن الانتقام منهم لمن أراد ذلك، فكان هذا حديث الشارع.
بالنسبة لسارة كان الموضوع أقرب للحلم منه للكابوس، وكانت تسأل نفسها في جنون كلما تفكر فيه: الزول دا أنا ما قتلته؟
ناسية تماما كل ما قاله لها عن تلك الحادثة.
أما حديث الأصدقاء وطلاب كلية الفنون والوسط بصورة عامة، هو زواج نوار سعد من الخير وتناولته جريدة إخبارية تحت عنوان رومانسي:
بعد سنوات كثيرة من الحب، نوار سعد أستاذة الفن المرئي تتزوج حبيبها الأول الخير.
وفي الداخل كتبت عن أمين محمد أحمد كزوج أول أشارت إشارات خبيثة لعشاق كثر لا يعلم عددهم إلا الله. أخرى تساءلت في يد من العصمة في هذه المرة؟
أقام طلاب المعهد احتفالا صغيرا جميلا بالمحراب احتفاء بالزيجة المباركة، حضرنا جميعا وبعض كبار التشكيليين وغنى فيه فنانون شباب، بعض المشاهير، الهادي حامد وعفراء القربة، الشيء المدهش هو أن نوار سعد كانت أجمل سيدة في الحفل كله، كانت جميلة بصورة مدهشة وأكثرنا شبابا ورشاقة، ولا أظن أن أحدا يفكر في كم عمر هذه البنت. عمرها لا يتعدى الأربعين بأية حال من الأحوال، وهو أقرب من العمر الذي التقيتها عنده قبل عشرين سنة ماضية. قالوا إنها تستخدم عقارا صينيا نادرا، ولكن المعروف لدى الجميع أن نوار لم تقم بأية عملية جراحية تجميلية، وأنها لا تستخدم أي عقار كيميائي لمعالجة علامات الكبر أو شيخوخة تباغتها عندما تكون وحدها.
قال عنها المختار ذات مرة: إذا كان الناس جميعهم متزنين في دواخلهم مثل نوار لما لم يشيخوا قط. ولكن رأي نوار في هذا الشأن غريبا بعض الشيء؛ حيث إنها تعزي كل ذلك لمراهقتها المتأخرة التي استمرت من العشرين إلى اليوم.
قال عنها بعض الحاقدين والحاقدات، من داهمتهم الشيخوخة وهم أصغر منها سنا: المسألة تكمن في الدعارة، مع عدم الإنجاب، نوار سعد تحلب الرجال حلبا، وتستخدم ماءهم في دلك وجهها وجسدها؛ وهذا هو سر الشباب الخبيث الذي تبدو فيه.
توقع الناس ظهور أمين فجأة، ولكن مضى الاحتفال دون مفاجآت تذكر، غير أن الخير طالب بشدة بزجاجة من عرق البلح «القوي»، والشخص الوحيد الذي كان بإمكانه الإيفاء بهذا الطلب هو أمين محمد أحمد وهو غير موجود، سقى زجاجات كثيرة من الجن وحتى الفودكا، ولكنها لم ترض فيه مطلبا، فصاح هاتفا: دي بلد دي؟ بلد ما فيها عرق بلح؟ قاعدين تسووا بالليل الطويل ده كله شنو؟
يعجبني جدا العمل التشكيلي العظيم الذي تقوم به سارة حسن، العمل غير المسبوق في تاريخ البلاد الكبيرة، طالما ظل التشكيليون لأعوام طويلة يخافون من الهواء الطلق وضوء الشمس الساطع. قالت لي سارة: هي الحاجة وحدها اللي خلتني أبتكر الفكرة دي، العطالة والفقر وفشل المشروعات الكبيرة.
قلت لها : لكن العزيمة والصبر وراء دا كله. - هي عوامل مساعدة ما أكثر.
كتبت لي دوشكا تودروف تسأل عن أخبارنا، وأمين محمد أحمد الذي توقف عن الكتابة إليها، هل سافر إلى خارج السودان كما كان يأمل مع طفلته وحبيبته، لقد حدثني عنهما من قبل، وإنني أتكهن الآن بسوء العلاقة بينه وبين زوجته نوار سعد، وأتمنى أن أكون كاهنة فاشلة.
أطفالي يرسلون لكم التحايا والأشواق، سنحضر في الوقت المتفق عليه. سألني مايكل: لماذا لا نتزوج اليوم؟
زهرة الزقوم
صدر ديوان شعر جديد فجأة بعنوان:
زهرة الزقوم.
تأليف: أمين محمد أحمد.
إهداء إلى سابا.
يتكون الديوان الشعري من تسع قصائد اتفق الناس جميعا على أنها تسع قصائد سيئة، وأسوأها قصيدة العشب التي تتكون من مائة كلمة، وكل كلمة منها تصبح سببا كافيا للجنة النصوص والرقابة على الكتب والمطبوعات بأن تأمر بحرق هذا الكتاب وكاتبه، ولكن دهقون في السلطة الانتقالية اعتبر أن هذا مطلبا يسعى إليه المؤلف من أجل مكاسب أخرى غير منظورة، فسمحوا للكتاب بالتوزيع، ولو أنه بدون رقم إيداع ولا اسم ناشر ولا تاريخ إصدار.
العاشق البدوي: اسم الطين
رسالة تكتبها القديسة.
رسالة تكتبها القديسة إلى محمد آدم بعد أكثر من ثلاثين عاما من رحيله بعنوان: «العاشق البدوي».
حبيبي محمد آدم، افتقدتك الآن أكثر مما افتقدتك في أي زمن مضى، في أي مكان كان، بأية روح وعاطفة وذكرى ... أحسك هوة كبيرة شاسعة في، لا تجسر ولا تعبر ولا يملؤها موجود الكون كله، هوة تجذبني نحو الأعمق الأعمق الأعمق، حيث ينتظرني ظلام العالم كله ومواته وثعابينه وعناكبه الشرسة وشياطينه، وكل مخافة وطريق مسدود وشوك.
أنا أغفر الآن لك إن مت، فاغفر لي إن جهلناك واختلط علينا اسمك برسمك بقولك، تبدو الآن واضحا جليا، كتابتك البسيطة السهلة المزينة بالأخطاء الإملائية والنحوية والتباس المعنى، كتابتك الجميلة في صدقك وطبيعتك، أنت الآن معي ... غريبان في مكان تنتهكه العادية ويسود فيه اليومي ... أنت تعرف أنني ما نسيتك لحظة واحدة، لقد كنت معي تشاركني في اتخاذ القرارات الكبيرة التي أحتاج فيها لرأي آخر، وقد سافرت معي إلى هولندا قبل خمس سنوات، ولو أنها لم تكن تلك التي شاهدناها في أطلس الصور والرسومات، لكنها كانت أجمل بكثير، أكثر بآلاف المرات مما كنا نتصور ونتخيل ونضيف إلى الصور مما نتوقع أنهم لم يصوروه لنا، إنها بلاد مدهشة ونظيفة ... كل شيء فيها نظيف، وهذا أول ما كنت سوف تنتبه إليه، وكنت ستفاجأ أيضا بأن الطواحين التي على الأنهر الصغيرة التي كنا نتعشقها سويا، ونظن أنها على شواطئنا ونختلق القصص الغرامية، مثل تلك القصة المصورة التي قرأناها «طاحونة على نهر الفولص»، وهي القصة الأخرى الجميلة المترجمة أيضا «رسائل طاحونتي». وأخبر بمفاجأة أخرى أنني وجدت الكتاب الذي فيه قصة «الطواحين الهوائية»، وهو كتاب كبير جدا جدا ويعتبر من أقدم الروايات، وقصة الطواحين الهوائية هي واحدة من مغامرات كثيرة يحتويها الكتاب، واشتريت منه نسخة مصورة في عشر مجلدات، أعلم أنك لا تقرؤها فلقد كبرت كثيرا، ولكنها مهداة لك على أية حال، وربما إذا أنشأت مكتبة للأطفال في المدينة سأهديها باسمك، عل محمد آدم ابن خالتك ونوار ابنة سابا الصغيرين يوما ما يتطلعان عليها. في كراستك وجدت رأيك في أبي، ولو أنك كنت حادا بعض الشيء، إلا أنك اقتربت من كنه حقيقته، وربما الصفات الجميلة التي وصفته بها في آخر مقالتك كانت هي الأصدق والأدق.
أضحكتني كثيرا فكرة أنك خفت كثيرا مرة عندما ظننت أنك جعلتني أحبل، وأنهم سوف يكتشفون ذلك وسوف يفتضح أمرك، حقيقة كان ذلك اليوم يوما مدهشا، أنا نفسي كنت خائفة؛ لأنني ظننتك أصبت بسوء ... الآن وقبل سنين كثيرة عرفت أنك بلغت مرحلة الرجولة في ذلك اليوم، أما أنا فما كنت قد بلغت مرحلة الأنوثة بعد، وإلا لكان خوفك في مكانه؛ لأنك بللتني بمائك في أماكن خطيرة، وعرفت أن أمي عرفت تلك الحادثة؛ لأن للشيء رائحة مميزة، وأننا استخدمنا ثوب أمي في تجفيف جسدي، بل سألتني عما فعلنا فأنكرت، وقالت لي: في يوم حيذبحك أبوك؛ لأنك حتحملي بالحرام.
ونصحتني في مرة أخرى قائلة : ما تخلي أي زول يلمسك هناك إطلاقا، لأنو دا المكان الوحيد اللي بيدخل البنت النار يوم القيامة، والرجال كلهم هدفهم الأساسي إنو البنات يدخلو النار يوم القيامة، عشان الجنة تفضى ليهم براهم مع بنات الحور، اسمعي الكلام ده سمح.
الآن وبكل صراحة ووضوح أتمنى لو أنك فتحت لي باب الجحيم ذلك، أتمنى لو كنت عشت قليلا لتدخلني النار ثم تمضي أو نمضي معا، صدقني لم أحلم برجل إطلاقا منذ زمن طويل غيرك، فقط قبل أعوام قليلة عندما تعرفت على مايكل وهو شاب في عمرنا تقريبا مجدا ذكيا وسيما، تخرج في كلية الفنون شعبة النحت، بالرغم من أنه مسيحي إلا أننا سوف نتزوج وسوف لا نخشى أحدا، كفاية أنني جاملت كثيرا وراضيت كثيرا وأرضيت؛ من ناس ومؤسسات واتجاهات فكرية وغير فكرية، والآن حكمتي هي: «ما يفيد الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه.»
الآن سوف أربح نفسي وأخسر تيجانا كثيرة ليست في مقاس رأسي.
حبيبي محمد آدم.
الصغير الجميل القروي الطيب، الذي علمني أسماء الأشياء كلها والشياطين وأهل الكهف وكلبهم، وأسماء الشياه التي كانوا يمتلكونها واحدة واحدة، وقلت لي: «عندما يأتي المسيح الدجال والمهدي المنتظر سوف يصحو أهل الكهف ويحاربون مع المهدي المنتظر، وسوف يصبحون ملوكا إلى يوم القيامة.»
وهذا ما يذكرني بحكايتك الأخرى التي تأكدت من أنها ليست من بنيات أفكارك ... «حيث كنت تنجر الحكايات نجرا» ... إن قرية قرب قريتكم تسمى المهدية، إنهم يؤمنون بالإمام المهدي كمهدي منتظر حقيقي، وأنه لم يمت وهو في آخر الأرض يجند الناس للدعوة، وسوف يأتي في آخر الزمان، وأن المسيح الدجال هو القطار البخاري؛ لأنه بعين واحدة وصفيرا كنداء الشياطين، ويتنفش دخانا.
وقلت لي: وقالوا إنو دا هو آخر الزمان.
وعرفت أنك كنت تظن أن هذا هو آخر الزمان؛ لأن العراة الحفاة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان.
ولكني أريد أن أؤكد لك أنه أول الزمان.
نحن الآن في أول أول أول الزمان، وما زلنا في بدايات الحضارة الإنسانية وبداية تشكل الكون نفسه، لقد انسحبت أنت مبكرا من الحياة، ولو عشت مائة سنة أيضا ستمضي مبكرا، ولكن هناك تجارب كان يجب أن تحياها، تجارب صغيرة تافهة ... بلاد ومدن وبحار وبشر وسفر وموت وميلاد وحياة، لقد ولدت ومت في عصر واحد ومرحلة من الحكم واحدة، أسماها الناس اليوم «عصر الظلمات».
والآن نحن في عصر اسمه عصر «أمريكا»، وهو زمن به شران وخيران؛ أما الشران فالأول منهما أن لا أمان لاتجاهات السياسة الأمريكية؛ حيث إنها قد تتحالف مع الشيطان ذاته إذا كان يخدم مصالحها القومية العليا أو يدعم رئيسا ما لمرحلة ما. والثاني أن أمريكا تريد مقابلا تختاره هي وتقدره هي، وهو الخياران اللذان تهبنا إياهما.
أما الخيران فالأول منهما أنها تخيف حكامنا وتترقبهم وفي يدها عصا غليظة مانعة إياهم من إيذاء المواطنين تحت أي اسم أو شعار؛ دينيا كان أو سياسيا ...
أما الخير الآخر هو إتاحة فرصة أكبر للناس في المشاركة في الحكم والثروة ...
وبالنسبة لي خيرها أكثر من شرها، هي وجهة نظري ووجهة نظر مايكل أيضا.
حبيبي محمد آدم.
قرأت كل الكراسات، حتى كراسات الواجب المدرسي اليومي، كنت دائما أفتش بين السطور على معان أخرى، حتى بين سطور مسائل الرياضيات، كل شيء كان يحمل بصمتك وخصوصيتك وذاتية لا تشبه أحدا غيرك، واستوقفتني طريقتك في كتابة قصيدة النهر المتجمد لميخائيل نعيمة ... فكرت كثيرا في الشطر الأول الذي كتبته في سطر كامل بخط كبير جدا، وقرأته مرات عديدة:
يا نهر هل نضبت مياهك
يا نهر!
ماذا يعني النهر عندك؟ وفي قريتكم نهر وحكاية التمساح وفاطمة والساحرة، حكاية الجنة التي أخذت أحد أبطال حكايتك إلى أهلها تحت النهر.
موتك أنت غرقا في النهر؟
صورة الطاحونة التي في غلاف كتاب رسائل طاحونتي على نهر صغير.
الأوز، المراكب، الأسماك، الشواطئ، أشجار السنط، مالك الحزين، البجعات، الحوريات، الرمال البيضاء النقية، النجيلة، هذه الرسومات التي تنتظم كراساتك وأوراقك. كنت أحاول أن أقرأك في كل شيء وأتواصل معك وأحبك وأجدك، آخذك إلى سرير والدتي الكبير، هل تصدق الآن في المحراب عندي سرير كبير يشبه سريرنا ذاك، وغرفتي بها نعالك وجلباب لك نسيته عندنا على شماعة الملابس، أنفاسك أيضا عندي.
حبيبي محمد آدم.
سنلتقي في رسالة أخرى، اكتب لي أرجوك، أنا في انتظار رسائلك.
رسالة: العاشق البدوي
رسالة وجدتها القديسة في أحد كتب محمد آدم القديمة بالمخزن: «أمي آمنة بت الخضر، وأختي زينوبة، والحبوبة حريرة، وأبوي آدم، إن شاء الله كلكم بخير وصحة جيدة، السنة الحمد الله بدت بصورة طيبة، وعمي حسان قاعد يعاملني معاملة طيبة، وكذلك عمتي سرة وناس البيت كلهم وخاصة سهير بنت عمي حسان، أكثر زول قاعد يعاملني تمام التمام، وقاعدين نلعب سوا كل الألعاب ونذاكر سوا، ويوم قالت عايزة تجي معاي القرية عشان تشوف الطيور والثعالب، وأنا قلت ليها عندنا مرفعين صغير في البيت، وقالت لازم تجي تشوفو. عليكي الله يا أمي، قولي لأبوي يجيب جنى مرفعين من المشاريع عشان ما أكون كذاب وما يضيع القرد، وأنا برضو عايز قروش عشان أشتري بيها كتاب خارجي من المكتبة، كتاب جديد ظهر اسمه الشياطين ال 13، فيه مغامرات. عمي حسان اشترى لي واحدا منها، هي حلوة ولكن ما زي حجوات حبوبتي حريرة وخاصة قصة شبير قنتو، إن شاء الله أنا بعد أقرأ الجامعة حاكتبها في كتاب ينباع في السوق زي الكتب اللي بنشتريها دي.
سلامي إلى علي ود أبوي صالح، وسلامي لخديجة وطيبة ودار السلام، أنا جاي في الإجازة وحأجيب معاي كورة لأصحابي ومجلات فيها صور جميلة، وحأجيب معاي سهير برضو، قولي لأبوي يجيب المرفعين ضروري، ضروري، ضروري.»
في بيت مايا زوكوف
في بيت مايا زوكوف ما لا يقل عن خمسمائة شخص، أتوا من كل شوارع وزقاقات وعمارات وقطاطي وجامعات ومدارس ومعاهد وأوقات البلاد الكبيرة، وأيضا من خارجها جاء الساسة والقادة والصعاليك والأدباء والمطاليق والطالبات والطلاب والأساتذة، وجاء الشحاذون والباعة الجائلون والأطباء والممرضات والمرضى ودوشكا تودروف وأبناؤها وصديقاتها، وأقرباء مداح المداح وأقارب مايا العزيز، سوريون وسوفييت وأمريكان وعربيان خليجيان يحبان الشعر، والنور عثمان أبكر وآسيا السخيري، وفنانون مغنون ورسامون ونحاتون فرنسيون وألمان وإنجليز وإيرانيون، وبعثة خاصة من اليونسكو، وإبراهيم إسحاق بمركوبه الجميل في صحبة نفر من آل كباشي. شجيرات العرديب حديثة النمو، حيث ماتت العرديبات الشامخات، وبئر الموسيقى تصدر موسيقى الحياة وحولها الشباب وحبيباتهم، وفي الحديقة العشب البري، النجيل والمحريب العطري والأرانب والسلاحف الكبيرة وأجيالها الصغيرة المتفائلة ببطء، الكافتيريا الحديثة المبنية من الرخام والجرنيت بواسطة نحاتين بارعين وفنانين يحبون الله ويفسرون لغة الحجر تفسيرا صائبا. جزارون، بناءون، لصوص، داعرات جميلات أنيقات نظيفات، يتحدثن في الأدب والسياسة والتاريخ ومايكل أنجلو، ويحببن شاجال.
سابا تخلي الحبشية الجميلة تلبس ثوبا أبيض يعني أنها في حالة حب، تدفع عربة صغيرة أمامها مليئة بالأم بابا والحلوى والكارميلا، ويفوح منها عطر «مساء باريس»، يأخذ الناس الأم بابا من العربة يأكلونها بعطر مساء باريس، ولون الجلباب الأبيض الناصع، وشفاه سابا الشهية وهي ترحب بالجميع. - مرحبا، مرحبا.
نوار سعد، الخير، يجلسان على مقعد من أخشاب السنط صنع بطريقة جميلة بدائية توحي بجو العصر الحجري، يحتسيان عصير الكركدي وهما يتحدثان عن الخير الذي سوف يحققه خزان كجبار على حسب قول الخير، ولكن نوار سعد كانت تقول له: الآثار اللي حيغرقها الخزان، التاريخ يا الخير. - التاريخ شنو يا مرمر؟ التاريخ أهم من حياة الناس؟ الخزان دا حيجيب العالم اللي هربت من الديار راجعين تاني، في خير أكثر من كدا؟ - آها قول الناس جو، حيعملوا شنو؟ - يزرعوا ويحصدوا يأكلوا ويشربوا ويعرسوا ويلدوا، في أحسن من كدا؟ - آآها يعني شنو؟
صمت الخير في غضب.
الناس الذين لم يروا مايا العزيز من قبل الآن يتفرسون في النحت الذي يحمل عنوان «مايا العزيز»، اللي قام به كل النحاتين الذين شاركوا في إحياء المنزل والكهوف، كما قال ممثل الأمم المتحدة: مايا العزيز، كان الشخص الذي أكد لنا أن العالم قرية صغيرة فعلا، وليست مقولة أطلقها موظف كبير في الأمم المتحدة.
في بيت مايا زوكوف النعامات يثيرهن الضجيج والموسيقى، ويندهشن من كثرة الناس الذين جاءوا فجأة، من أين؟
معمل عرق العرديب القديم الذي يعمل الآن في حضرة الجميع ، الشرطة والقضاء والساسة والدينيون جنبا لجنب مع الكفرة والعلمانيين وكريم الديانات الأخرى وعم سيف، محسن طه لوكو، والمنظرون ...
وقال أيضا: في ظل الدولة المدنية أنت حر ما لم تتعد حريتك حقوق الآخرين.
تحدث آخر من الشارع فقال: شكرا للنظام العالمي الجديد.
شكرا حبيبتي أمريكا.
مما أثار حفيظة رجلين وسيمين نظيفين قال أحدهما بصوت جهور: سوف ينصرنا الله على اليهود والكفرة قريبا، قريبا.
وكادت تنشب معركة صغيرة، ولكن البوليس الوطني قام بحسمها في الوقت المناسب، وأكد الضابط المسئول: لكل شخص الحق في التعبير عن أفكاره، ولكن بالطرق السلمية فقط.
الصحفيون، كتاب الأعمدة، ملاك العقارات والجرائد، الحزبيون، المثقفون، القرويون، رابطة سنار الأدبية، مجنونون، مسافرون، شاهدوا جمهرة الناس والعربات فنزلوا، الأستاذ مبارك الصادق، التلفزيون القومي والراديو، قناة الجزيرة، والحرة والعربية ودبي، متسوقون ولصوص آثار، أعراب على حمر غير مستنفرة، لوطيون، ممثلون وفرق شعبية، كواتو، السماني لوال، جنجويد.
وقال أممي أبيض اللون أشقر بلغة غريبة ترجم له مترجم أسود اللون ذو لكنة عربية مغاربية، فمما قال: سوف تتبنى الأمم المتحدة الاحتفال بمايا العزيز سنويا.
ثم تحرك الموكب إلى كهوف مايا زوكوف على موسيقى استيف وندر:
I just call to say I Love you.
واتفق الجميع على المشي البطيء بالأقدام، الذي سوف يستغرق ساعة واحدة فقط، يمشون فيها على ذات الخطى التي مشاها مايا العزيز يوميا طوال حياته في البلاد الكبيرة، ما بين بيته وجبل المرسم.
في جبل المرسم كان بانتظارهم آلاف الأطفال وهم يحملون البالونات والأعلام الملونة، يلوحون فرحين مثل ملائكة من الألوان هبطت توا من السماء: سلاما، سلاما، سلاما.
سارة حسن تفتتح معرضها الآن، تنقل الفضائيات إنجازها الكبير للعالم كله.
كانت تتلعثم من الفرحة وهي تحاول أن تشرح لفنان شهير كيف بدأت ... - الفكرة ... الفكرة بسيطة ... بحثت عن عمل ولم أجده، أرهقتني البطالة والفلس والجري في شوارع الخرطوم، والقعاد في الأتني، فاتسع لي هذا المكان ... فكرت في بادئ الأمر ماذا أفعل بالفراغ والكتلة؟ فكرت جديا ولكني عندما بدأت، بدأت بدون أية فكرة مسبقة، بدأت بذهن فارغ ولكنه نقي، إلى أن اكتشفت الفكرة التي كان يقودني إليها عقلي الباطن، هنا فقط تدخلت الصنعة والمعرفة أو التسعين في المائة التي تحدث عنها بيكاسو.
ثم سألها عن قطعة صغيرة سوداء من الجرانيت: دي طفلة؟ - طفلة ... - نعم ... - طفلة أجهضتها في المعتقل ... - آسف، آه. - هي تجربة للناس كلهم، لا تخصني أنا وحدي، ولا أخجل منها أبدا. - نعم، نعم ... علينا نحن أن نخجل، نحن بالذات.
يقف الفنانون الذين أنجزوا الكهوف، وأعادوا إليها الحياة في زهو وفخر يتحدثون عن تجربتهم، عن حياتهم، كمال زكريا تحدث عن حبيباته، الأسر والأطفال والبدويون، الأجانب الطلاب وأصحابهم من كليات وجامعات كثيرة، فنانون ... فنانون ... فنانون من كل صنف ولون ومدرسة وعالم، كان مهرجانا بهيجا حافلا بالمفاجآت، وأعظم هذه المفاجآت أن كل شيء مر على ما يرام، في كل لحظة كنا نتوقع حدوث شيء ما، ولم يحدث.
أما الخبر الذي مر عبر كل لسان هو أن الشيخ طه هو الشخص القابض على الدخل الذي جمع بشأن الاحتفال بمايا زوكوف، وأنه يحصل من منظمة اليونسكو وحدها على ما يقارب النصف مليون دولار، غير تبرعات أصدقاء وأحباء مايا زوكوف، والدعم الذي قدمته الحكومة السورية من أجل إحياء ذكرى مايا، الذي يعني عندهم إحياء ذكرى مداح المداح، وإحياء روابط صداقة ما بين حكومة البلاد الكبيرة وبلدهم، اشترى الاحتفال بمايا بمبلغ 10 ملايين دينار محلي فقط.
بصق الخير سفة سعوط كبيرة وهو يخرج رأسه من شباك العربة. - فهموني يا جماعة، يعني كيف يشتري الزول احتفال؟ هو بقرة ولا نخلة!
قالت له نوار: لا هو نخلة ولا هو بقرة، أنت نخلة ولا بقرة، أنت ذاتك هنا يشتروك ويبيعوك.
قال وهو يلمس حجابه الضراعي بصورة عابرة: أنا اللي يشتريني ويبيعني أمو ما ولدتو.
قال له مايكل ضاحكا: نوار.
قال مبتسما: معليش ... نوار ... اللي تشتريني نوار ... ويا ريت لو سوت كدا من زمان.
ولكنه فجأة استدرك قائلا: هي مرا، والمرا كان اشترتك أنت سيدها، وكان اشتريتها أنت برضو سيدها، شوف يا مايكل أخوي اللي بطلع في أخو منو؟
فانفقع الجميع بالضحك، قالت القديسة لنوار : زولك دا مجنون، وحلبي، حلبي عديل!
ردت نوار وهي تخفض السرعة قليلا: ومتخلف.
قال الخير: الزول اللي بيقول الحق عندكم متخلف، عشان كده أخير يبيعوكم ويشتروكم زي البهايم، بس اشرحوا لي كيف زول يشتري احتفال؟ ما فاهم.
قالت القديسة: عجبك الاحتفال؟ - مدهش والله، ولكن الزول اللي محتفلين بيهو دا، مش كان أحسن تحتفلوا بالولي إدريس ود الأرباب، أو الشيخ فرح ود تكتوك، أو حتى سيدي الحسن، أنا ما شايف أي داعي للبيعملوا فيهو دا.
ردت القديسة: أنت عارف لو نحنا احتفلنا بالشيخ فرح ود تكتوك حيكون برضو في واحد عنده رأي وحيقول لينا أنا ما شايف أي داعي للي بتعملوا فيهو دا. عشان كدا، كل زول يحتفل باللي عايز يحتفل بيهو. - حتى لو كان كافر؟ - حتى ولو كان شيطان. قال الخير موجها كلامه لنوار سعد: رأيك كدا برضو يا نوار؟
قالت نوار: هو مختلف شوية، ولكن ما بعيد من رأي سهير حسان. - كيف؟ - أنت عايز تعرف التفاصيل دي ليه؟ - عشان بس أفهم حاجة. - أنت يعني ما فاهم؟
قال وهو يخرج كيس سعوطه ويبدأ في تجهيز سفة كبيرة: اللي أنا فاهمو أنتو ما فاهمنو، اللي إنتوا فاهمنوا أنا ما فاهموا ولا حأفهموا، ولكن قلت أخير يالخير تكون قريب شوية.
قال له مايكل وهو يبتسم: كلامك كله صاح يا الخير.
أنت عارف من الأحسن تكون ما عارف اللي بيحصل هناك، ونحن نكون ما عارفين اللي بيحصل هناك؛ لأننا وأنا أتحدث عن نفسي ما فاهم اللي حاصل هنا شنو. أطرش في الزفة، كفاية زفة واحدة، ما تبقى لي زفتين.
قال الخير ضاحكا: عايز أقول ليك، وبصراحة، هنا زي هناك، طالما في إبليس وفي حكومة، في كذب ونفاق وظلم، وفي ناس زي ناس نوار ديل شايلهم الموج.
قالت له نوار مغتاظة: أنت اللي شايلك الموج. - أنا، والله، أنا لو سكران، سكران واقف زمبرليلي، ما بعمل اللي عملتوه دا.
هتف مايكل وسهير في وقت واحد: أمين، أمين.
عندما توقفت السيارة، كان أمين لا يبعد عنها سوى مترين فقط، نوار التي أوقفت المحرك بصورة مفاجئة كانت أول من ترجل من العربة لتسلم على أمين محمد أحمد بالحضن وهي تسأل: وين أنت يا ملعون؟
تسالمنا بحميمية وشوق حقيقي، ترجل أخيرا الخير وسلم عليه مندهشا: وين أنت؟
قال: موجود، في البلد دي. - مرمي وين؟ في المدينة؟ - نعم، في المدينة دي. - وما طلعت منها؟ - لا، لسوريا طبعت الكتاب وعدت.
فسألته نوار مشاكسة: زهرة الزقوم؟
قال مشددا على الكلمة الأخيرة: أيوا، زهرة الزقوم.
ضحكنا جميعا ما عدا الخير، الذي كان ينظر للجميع في استغراب، عاد وجلس في مقعده في العربة، يلهي نفسه بعض شاربه ومراقبة ذلك في مرآة العربة. - زهرة الزقوم، اسم يخصك أنت وبودلير؟ - بودلير، بودلير كان عايق. - وأنت برضو عايق. - وكان تافه. - وأنت برضو تافه. - وكان خصي. - أنت برضو خصي.
ضحكنا، ضحكنا، قال أمين لي: اسمع يا مايكل أنا راض، ولكن أنت عارف تشبه منو؟
قلت له: منو؟
قال وهو يخفض صوته لأدنى مستوى ممكن: الخير.
كدنا نموت من الرعب جميعا، ولكن لم يسمع الخير شيئا، وادعيت عدم الاهتمام بالموضوع حتى لا يطيل فيه، قال: لم تسألني عن وجه الشبه.
قلت له: أعرف.
قال مصرا: لا، أنت لا تعرف، إذا كنت تعرف قول.
قلت له: خليك من الموضوع دا.
قالت نوار التي كانت تتابع الحوار باهتمام بالغ: أنا عايزة أعرف وجه الشبه.
قال دون تردد: فحل مأجور، وأنت فحل مأجور.
قالت له نوار: أنت دائما تثير المشاكل يا أمين.
قال: ووجه الشبه الآخر، أنت وهو تفكران بالجزء الأسفل في ذكوركم.
ثم أضاف فجأة: عايز أصل معاكم المركز الثقافي الألماني.
قال لي أمين محمد أحمد عندما تركنا معا بالمركز الألماني الثقافي: أتعرف أن علاقتي بسابا لا تزال جيدة، وأنني أقابلها وقتما شئت وأينما شئت، والآن بإمكاني أن أضرب لها تلفونا وتحضر إلي هنا في بحر نصف الساعة وبعربة زوجها، بل يحضرها الشيخ بنفسه ويتركها لي ويذهب. - كيف؟ كيف؟ - وأقول ليك برضو، علاقتي بنوار سعد جيدة جدا جدا.
قلت مكملا كلامه: وإذا ضربت لها تليفونا حتيجي في خلال عشر دقائق، وفي صحبة الفحل الخير نفسه، ويتركها لك ويرجع إلى البيت! مش كده؟
قال لي بصورة جادة وهو يقف على رجليه: لا، خيالك يحتاج إلى تنشيط. تعال، تعال معي.
ودخلنا إلى حجرة صغيرة في المركز خلف صالة المعرض يستضاف بها كبار الزوار، معلق على جدرانها في كل الاتجاهات لوحات للفنان صلاح إبراهيم، كان الجو باردا في الداخل، وأمام منضدة صغيرة من خشب المهوقني، على كرسي وثير، يجلس شخص أبيض يتصفح ألبوم رسومات كبير، قال لي: سلم على الخواجة دا. - هاي.
ولدهشتي أن رد لي: أهلا مرحبا.
قال لي: إنه لا يتحدث الانجليزية بطلاقة، ولكنه يعرف اللغة العربية معرفة جيدة، والفرنسية والألمانية والروسية، ولغته الأم هي الإسبانية، ثم خاطبه قائلا: هذا صديقنا، مايكل، هو فنان، ويغني أيضا بلغات محلية. - أهلا وسهلا، أنا أحب الفنانين والنحاتين والمغنين والصعاليك أيضا.
ثم التفت إلي قائلا: دا خوان بيدرو؟ - خوان بيدرو بتاع المتحف الإسباني، بتاع مسيو دل برادو؟ - أيوا، أيوا، أيوا.
قال خوان بيدرو: أتعرفني؟
قال له أمين: مايكل أحد أصدقاء نوار سعد. - ها، نوار سعد الجميلة، ستحضر بعد قليل، إنها صديقة قديمة.
لقد جئت إلى حضور الاحتفال بذكرى مرور أعوام كثيرة على وفاة مايا العزيز، وأن أرى نوار سعد.
كان تماما كما وصفته لي نوار سعد ذات مرة، أجمل رجل قبيح في العالم.
ولو أنه ستيني أو خمسيني، ولكن - مثله مثل نوار - يبدو شابا، كان يتحدث بطلاقة عن الفنانين الإسبان الجدد؛ مدارسهم وحياتهم أيضا، يبدو كما لو كان يعرف كل شيء عنهم، أدق التفاصيل، وقال لي ذلك: «إن الاهتمام بدقائق حياة الفنان هو نوع من الفن، فالفنان هو المعادل الموضوعي لفنه.»
اعتذر عن تناول طبق الزقني لالتزامه بمواعيد مع أحدهم في الغداء.
قالت لي القديسة ذات مرة
أمين يحب طبق الزقني بالدجاج متبلا بالدليخ القديم، ويبدو أنه كان يأكل بشهية كبيرة، وأنه متوازن نفسيا.
قال لي أمين محمد أحمد: أنا تعلمت الكثير في هذه الحياة ، وأقول لك سرا لا تنسه وهو: «إن الرجل الذي وطئ المرأة مرة في أي ظرف كان، بإمكانه أن يطأها مرة ومرة أخرى مهما تغيرت الظروف، زوجة كانت، عازبة، شيخة أم شابة؛ لأن حاجز العري والجنس ينكسران مرة واحدة ولا ينجبران إطلاقا.»
تحدث كثيرا ثم قال لي: ألم تقف في هذا البيت من شعري:
ليس لدى الشاعر امرأة
وليس لديه ... نشيد
قلت له: بل توقفت عند قصيدة وولت ويتمان التي يقول فيها:
Women sit or move .
To and fro .
Some young. some old .
The young are beautiful .
But the old are more .
Beautiful than the young . - أنت دائما تدعي معرفتي، أنت عارف القديسة عمرها كم؟
قلت له: لا يهم، أنا أحبها لا لأنها كبيرة وناضجة وأنا مصاب بالعقد، ولكن لأني بحبها وبس! قبل أن أسمع بقصيدة وولت ويتمان.
قال وهو يستعد لبلع لقمة كبيرة من الإنجيرة بالزقني والدليخ ساخرا: أنا برضو قلت كدا.
تركت أمين، وفي نفسي شيئان: الأول أن أمين ربما خدعني في مسألة خوان بيدرو، وأن خوانه هذا ليس إلا ممثل متواطئ، والشيء الآخر كل ما دار عن نوار وسابا فيما يخص تجدد علاقاته بهما، هو أيضا كذبة أخرى الهدف منها حفظ ماء الوجه، لكني قلت لنفسي: قد يكون صادقا فالمسافة ما بين الحقيقة والكذب هي أقرب من المسافة ما بين حقيقة وحقيقة أخرى وأقل التباسا.
أمين السوداني: ينام مع الفئران
المرفعينان الصغيران كبرا سريعا، ولأنهما يأكلان كثيرا جدا ولا يطعمان إلا بالفم؛ فإن تربيتهما أصبحت أمرا مكلفا بالنسبة لنا في المحراب، واتفقنا أنا ومايكل على التبرع بهما لحديقة الحيوان الوطنية، ورفضنا عرض المتحف الطبيعي الذي يسعى إلى تحنيطهما؛ لأننا نريدهما أحياء، لقد أصبحا من زمرة الأصدقاء.
محمد آدم الصغير لم يحضر إلى المدينة ودخل الثانوي في القرية المجاورة، ولكنه أرسل سلامه وسؤاله عن المرفعينين عن طريق أحد أقربائه، وبلغناه بفكرة إهداء الحيوانين إلى الحديقة العامة؛ لأن إطعامهما أصبح أمرا عسيرا بالنسبة لنا، وأنهما قد ينجبان مرافعين أخرى، وبذلك تصبح عملية سلامة وأمن المحراب في تلتة، وخاصة أن أسرتين من العرب الرحل جاءتا واستقرتا قريبا من المحراب، وفي القريب القريب، أي بعد مائة أو مائتي سنة سيصبح مدينة، مدينة كبيرة لا يتذكر سكانها من أين جاء اسم المحراب، ويطلق المؤرخون لخيالاتهم العنان، وسيؤلفون خطبا جميلة مسلية عن اسم المدينة، تنيم به الأمهات أطفالهن، وفاجأنا محمد آدم الصغير وأمه بزيارة المحراب.
حضرت نساء الخير إلى المدينة في صحبة جميع أطفالهن على ظهر عربة لوري كبيرة: غبر، شعث، غبش، ضاجون، ماجون، تتطاير من ملابسهم ورءوسهم الرمال البيضاء الناعمة، يثيرون الأتربة، يضحكون بدون سبب ويندهشون.
كان الأطفال أربعة عشر، بينهم خمسة أولاد وتسع بنات، ينحدرون ما بين عمر سنة إلى عشرين عاما، حفاة في ثياب رثة، ولكنهم جميلون وطيبون وأدخلوا البهجة في نفوسنا والسؤال أيضا، وأغضبوا الخير غضبا شديدا.
وصلنا نحن - أنا ومايكل ومحمد آدم وأمه - إلى منزل نوار سعد بعد دقائق من إخطار الخير بأن هناك نفرا غرباء في انتظاره بالخارج على عربة اللوري العملاقة. جئنا والمشاجرة التي ابتدرها الخير كانت في أوجها، كانت زوجته زينب الصغيرة تصرخ بالقول: أنا يا الخير كان شرطي معاك واحد فقط، أنت عارفو ونوار عارفاهو، وقلتو قدام شهود، أنت لو عرست نوار أنا وعيالي كلنا نجي ونسكن معاكم هنا في العاصمة وأنت وافقت.
وبعدما تزوجت عملت أضان «آذان» الحامل طرشا، سديت دي بطينة ودي بعجينة، والآن ليك تسعة أشهر ورجلك دي ما ختيتا في القرية، عشان كدا نحن جينا، وأقول ليك أنا ولا العيال حنرجع للقرية تاني. - وأنا كمان.
قالت زينب الزوجة الكبيرة.
كان صاحب اللوري يترجى الخير أن يدفع له ثمن الرحلة حتى يتمكن من الذهاب إلى السوق والبحث عن رزق آخر، وبعد ذلك بإمكانه مواصلة المشاجرة مع نسوانه.
قام الأطفال والمساعدون بإنزال العفش بينما ما زال الخير يجادل المرأتين، ويطلب من السائق أن ينتظر ليعدهما للقرية، وسيدفع له ثمن المشوار كاملا، خرجت نوار سعد على سماع الضجيج، ولكنها عندما تنبهت لوجودنا رحبت بنا وطلبت منا أن نتفضل بالدخول، وقبل أن يتم ذلك سلمت على المرأتين والأطفال بحميمية وجمال، وطلبت من الجميع الدخول وتناول الطعام وترك المشاجرة إلى وقت آخر، وقبل الجميع الاقتراح.
مايكل والخير والصبية ومحمد آدم قاموا بإدخال العفش، الذي لم يكن سوى أسرة من الحديد منسوجة بحبال السعف، وكثير من العناقريب والبنابر وسحارتين للعفش، وبعض ترابيز الحديد والخشب ذات الألوان البنية الداكنة نتيجة لتراكم الأوساخ عليها، أحذية قديمة، ملابس مربوطة في حزم كبيرة، جولات بها أطعمة مجففة، أدوات صناعة الكسرى والقراصة، حلل وكمش ومفاريك وملاعق، راديو ترانسستور كبير الحجم في إطار من الخشب المضغوط، مراكب قديمة، عصي، أدوات زراعة وبناء، مشلعيبات، لدايات، حطب وقود وطلح للدخان وشملات وأغطية، زجاجات سمن. ولا ينسى أحد البهائم السبع التي ربطها الخير جميعا في ركن البيت الشرقي قرب الديوان، وهو المكان الوحيد الذي يحفظ الحديقة بعيدا عن أسنان وأضراس الأغنام، كان يوثقها بالحبال وهو يسب ويسخط ويتوعد المرأتين حالفا بالأيمان الغلاظ وقبر أبيه والطلاق. - إذا لم أأدبكم أدب المدايح، يا بنات الكلب ...
كان الأطفال يحذرونه ولا يحتكون به، ويتجنبون أن تلتقي عيونهم بعينيه، كان لا يكف عن الكلام وهو يعمل هذا ويرمي ذاك ويربط تلك ويرفس ذاك. عندما صلينا صلاة المغرب في جماعة استأذنا بالذهاب إلى المحراب وخرجنا.
الحكمة: امرأتان
علي أن أتصرف بحكمة، لا أنكر أن وقع الزيارة المفاجئة كان ثقيلا، وأنه أشعل الجيرة كلها بالأسئلة، وشمت الشامتون علي ... ولكن قلت لنفسي: كوني يا نوار قوية واتجاوزي المحنة.
بعد أن ذهبت القديسة ومايكل وضيوفهما جلسنا أنا والخير و«امرأتاه»، كان الخير يصر على حل واحد لا ثاني له، وهو أن تعود المرأتان بأبنائهما، وتصر المرأتان أنهما لن تعودا، وإذا عادتا فبدون الأولاد.
المرأتان باسم واحد؛ زينب، ويفرق بينهما بزينب الكبيرة وزينب الصغيرة. زينب الكبيرة وهي الأصغر سنا، نحيفة طويلة لها سواد جميل ونعومة فائقة، وهي سكوتة أو ربما اكتفت بأن تكون زينب الصغيرة ثرثارة، وزينب الصغيرة جميلة أيضا وسمينة، طويلة لها بشرة بنية وعينان واسعتان ذكيتان عنيدتان، وتكبر زينب الأخرى بعامين، يمكنها رد أية جملة يقولها الخير بسرعة فائقة، ولها مقدرة على تفنيد آرائه ونفيها بطريقة تحسد عليها ، وهي لا تخشاه إطلاقا ولا تخاف قسمه وتهديده بالطلاق أو الضرب، كانت تصر على شيء واحد: أنا ما ماشية من العاصمة دي خطوة واحدة، ويعني ما ماشية. إذا كنت معك أو غيرك، لو طلقتني برضو حأقعد مع أولاد عمي في الثورة، أنا تاني ما ماشية للعذاب والرملة القبيحة والخرابات والخلا، عديل كدا قلت ليكم. - وأنا كمان.
قالتها الأخرى خجلة، بسرعة وبعين باهتة. قلت لهما: أنا رأيي برضو زي رأيكم، حتسكنوا في الخرطوم جميعكم عشان الأولاد والبنات يدخلوا المدارس ويتعلموا حاجة تنفعهم.
بتلقائية وعاطفة نقية وروح حلوة انقضت علي المرأتان بوسا وحضنا، وتحدثتا حديثا جعلني أبكي، لقد وصفن لي الحياة هناك، فصلتاها تفصيلا محزنا، قالتا لم يبق هناك سوى الموت، قالتا ما لم أره في زياراتي إلى القرية، وعرفت أني كنت أرى القرية وفي ذهني صورها قبل عشرات السنين، وما كنت أرى من واقعها الحالي شيئا، وحسيت بأنني كنت أنانية عندما أخذت منها عمودها الفقري ونبيها وابن نوحها.
قال الخير محتجا: والأرض؟
قالت زينب الصغرى: أنت حتمشي تبيعها لو في زول يشتري خرابة بيعها ليهو، ولو عايز تقعد فيها، أقعد اسقيها، وأحسن تنساها نهائيا. - والتمرات، التمرات برضو، أنتو بتحلموا ساي؟
قالت له زينب الصغرى: والتسعة أشهر اللي قاعدها في الخرطوم دي كانت شنو؟ دا ما النسيان ذاتو!
ثم أضافت: الحاجة أم الخير قاعدة هناك، تقوم بالواجب، مش حتمشي تشوف أمك؟ - يا ولية أنت قايمة علي كدا ليه؟
أختاي نوار ونورة تسكنان في السلمة مع أطفالهما، ولدي أنا بيت كبير هناك لا يبعد كثيرا عن منزل آدم وسارة حسن والمنزل فارغ، به الخفير فقط، أخذنا الأسرة الكبيرة إلى هناك، المشكلة الأساسية كانت في تعليم الأطفال؛ حيث إنهم لا يمتلكون شهادات ميلاد ولا يمكن إثبات أعمارهم إلا بالحكايات والقصص والمقاربات، والمشكلة الكبرى أن السنة المدرسية في نهاياتها.
والحل الذي هدتني إليه زينب الكبرى كان عمليا ومنطقيا؛ قمنا ببناء فصل داخل الحوش من الحصير والمواسير الصلبة، وأتينا بمعلمة واحدة، معلمة صف، وانتظم الجميع ؛ الأمهات وأطفالهن في الصف الأول الابتدائي من منازلهم، ولكن الخير كان «ينقنق»: أنا ما عايز أولادي يتربوا في البلد دي، كلها فساد وشر وصعاليك ومتشردين.
وأصبح موضوع العودة للقرية هو الصباح والغداء والعشاء، وخاصة عندما تمردت بنته الصغرى «ست البنات» على المعلمة وقالت: أنا ما عايزة أقرأ، عايزة أرجع الحلة.
وانضمت إلى صف الخير، ولو أن الخير كان يعرف تماما سبب تمرد ابنته، إلا أنه فضل ضمها إليه على الأقل الآن، أما في القرية فموضوع المحجوب ود المحجوب حيتعالج بسهولة.
وأخذ الخير يفتعل الشجار مع المعلمة، مع النساء، مع الأطفال، معي، الجيران، الباعة الجائلين، أصدقائنا، الشرطيين، عمال النظافة، وكل من هب ودب، وصل ذروة غضبه حينما قال لي: أنت عايزة لبناتي يصعلكوا زيك؟ - زي أنا؟ وأنا مالي؟ - أنت عارفة نفسك كويس، أنت وصحباتك وأصحابك، صنف واحد. - أنت بدأت تخرج من حدودك. - أنا حدودي أولادي ... وبس ... ارفعي يدك منهم، اطلعوا أنتو من حدودي.
عمل الخير سمسارا في سوق البلح بموقف دنقلا بالحلة الجديدة، تزوجت ست البنات المحجوب ود المحجوب ود تويسة ورجع بها إلى القرية، زينب الكبيرة عادت مع ابنتها على شريطة ألا يغيب عنها الخير أكثر من شهر واحد، وقالتها بالحرف الواحد: أنا عندي نصيب معاكم.
البهجة التي نفحتنا بها زيارة دوشكا تودروف وأطفالها الاثنين لا توصف، ولو أن حرارة الجو التي دائما ما نتجاهلها نحن وتزعجهم، بل تعتبر إحدى معاناتهم اليومية، بالإضافة إلى الذباب والغبار، إلا أنهم كانوا يستمتعون بحق وحقيقة في كل لحظة قضوها في البلاد الكبيرة، كانوا يسألون عن كل شيء. - كل شيء هنا لا يشبه كل شيء هناك، إلا بعض عربات اللادا والبطاطا والفودكا.
تجولوا في الخلاء المفتوح والغابات والأنهر والآبار، رأوا الحيوانات الطليقة والتماسيح والقرنتي والناس، أعجبهم المحراب عجبا شديدا، واهتم الأطفال بالصلاة فصلوا تحت الدومات الثلاث، لعبوا من على بعد كاف مع المرفعينين الصغيرين الجميلين ذوي الرائحة العفنة، وأطعموهما لحوم الدجاجات وأحشاء الماشية.
كانوا يقيمون في منزل مايا زوكوف، وهو ذات البيت الذي اختبأ فيه أمين محمد أحمد بعد فشل زواجه بنوار سعد؛ حيث اعتكف على كتابة ديوان «زهرة الزقوم»، أحبه أطفال دوشكا تودروف حبا جما، وألفوا أغنية قصيرة لأجله ...
أسموها «أمين السوداني ينام مع الفيران»، وأصبح منظرا مألوفا في شوارع المدينة «الخواجاية وأطفالها والرجل الأسود» يتمشون على أرجلهم في كل مكان هنا وهناك، قال لي الخير: أمين يا دوب لقي شبهه.
لم أقل له التعليق الذي خطر في بالي عند سماعي جملته، قلت: يبدو ... يبدو ... لك ...
قال: الخواجات ما عندهم مشكلة، زيهم زي البهائم، دا طالع دا نازل.
قلت: إنهم يقدرون العلاقة الزوجية ويحترمونها أكثر مننا نحن. - أنت بتظني إن دوشكا عندها زوج؟
عندما رجعوا إلى روسيا سافر أمين السوداني الذي ينام مع الفئران معهم.
النهايات:عفة الخيانة
سابا تخلي بعد عامين ستنجب طفلا جميلا، وهو الوريث الشرعي الذي سيحتفي به الشيخ طه احتفاء سيصفه كتاب صحفيون حاقدون: بأنه نوع من البذخ والترف.
الشيخ طه السمين، الذي يحب زوجته الحبشية سابا، ويحب زوجته الأولى أيضا، ويحب نساء كثيرات أخريات مر عليهن في بلدان شتي عندما سافر إلى ماليزيا في صحبة زوجته الجميلة سابا، في رحلة عمل وسياحة مرضية، معهما طفلته الأحلى نوار، وولده ووريثه الشرعي النور، قبل أعوام كثيرة، عرض نفسه لطبيب، ذلك عندما داهمه التهاب بغيض في البروستاتا، عندما فحصت حيواناته المنوية وجد أنه: «لا ولم ولن ينتج حيوانات منوية، لا حية ولا ميتة»، كل ما يستطيع أن ينتجه سائلا لزجا مثل الويكة، له رائحة الفاكهة المتعفنة، لونه أبيض، يجف بسرعة لا تتناسب مع خواصه الكيميائية إذا ترك للهواء، يمتلك منه قدرا كبيرا ولكنه لا يفيد في شيء.
لم يقل شيئا لسابا، لم يصرخ فيها، لم يوبخها، لم يتهمها بالشرمطة، لم يسألها من أين لها، لم يطلق عليها الرصاص، ولكنه فقط لمح لها ذات مرة أنه لا يرغب في أطفال آخرين: خلينا نكتفي بالولد والبت اللي ربنا أكرمنا بيهم ديل وبس.
الخير علي: رجل من الطمي
الخير علي صالح الآن هو أحد أغنى سماسرة العاصمة، والماسك النهائي لأرباح كل بلحة وردت الخرطوم من أية جهة من البلاد الكبيرة، بناته التسع الحلوات في مدارس العاصمة الكبيرة وفي معاهدها، في رقة مدنية عظيمة، ولكن عندما يشم الصبية الطائشون الخرطوميون صدورهن الناهدة، ومنبت شعورهن، تفاجئهم رائحة الصحراء، نحيب النهر البعيد، وهمهمة البلحات الطازجات ...
أبناؤه السبعة هم الأصغر سنا، ما زالت اللكنة الحلوة التي اكتسبوها من الحبوبات والخالات والرواكيب وبيوت الطين وطيور البلح والنيل، تعرف بهم.
أصغرهم محمد خير، هو ما سوف يعرف بكاتب رواية «عرق الحصي»؛ لأنها أثارت حفيظة بعض الشواذ جنسيا فحاولوا قتله، وهو لا يتعدى الخامسة والعشرين من عمره. محمد خير هو ابن نوار سعد، أنجبته من الخير ذاته ومن رحمها بالذات؛ كما يحلو لها القول.
نوار سعد: الحياة تعني الكثير
نوار سعد كتبت مذكراتها بعد أن أنجبت طفلا، لقد استفادت من التطور في علم الإنجاب الاصطناعي، وبقليل من التحمل والدولارات والسفر استطاعت أن ترفد العالم بشخص أسمته محمد الخير، بدت متفائلة سعيدة وهي تكتب عن طفولتها الشقية البائسة، وأيام الجوع والحرمان ووفاة والدتها وكلاب أبيها والرمال والجروف، مزارع البصل، الهروب إلى إسبانيا، سنوات الجامعة، الصديقات، الأصدقاء، العشاق.
وفي هذا الفصل اعتذرت أولا لطفلها محمد خير؛ لأنها سوف تكتب بصراحة ووضوح غير معتاد عليه في بلد يدعي كل من فيها أنه لا يحب ولا يمارس الجنس ولا يرتكب المعاصي، وأنه من أهل الجنة وآل البيت ... عن مايا زوكوف فلاديمير ومداح المداح. قالت: إنها لم تندم على لحظة واحدة عاشتها.
كتبت مذكراتها بصدق وحب وصراحة وجمال لا يوصف، كانت تعرف أنها سوف لا تحضر شباب ابنها ولا رجولته، بل تشك في أنها سوف تراه وهو في السادسة أو الثامنة عشرة من عمره، ولكنها كتبت من أجله فقرة تقول فيها: «فقط أعرف أنك عندما تبلغ عمري هذا ... العالم حينها سيحظى بعجوز خبير في الحياة.»
المحراب: القلب الذي يعشق
المحراب
قرية المحراب، ضريح الشيخ المختار
مايكل: جنوبي جميل
مايكل وزوجته سهير حسان وبنتاهما يحجون سنويا من أمريكا إلى قرية المحراب، في وسط فصل الخريف، حيث يحج لنفس المكان الأحياء من الأصدقاء جميعهم، آدم وزوجته وأطفاله، دوشكا تودروف وأبناؤها وزوجها أمين محمد أحمد، وأبناء الخير، ومحمد آدم، وأصحابه الطلاب بالجامعة، نوار والنور طه، وكثيرون كثيرون كثيرون.
الشرطي: يعني دائما رجل الأمن جمال
كتبت سارة حسن في دفترها، بدون تاريخ:
لم يستطع أحد أن يفهم ما معني أنني أريد قتل هذا الشرير الشرطي القذر جمال أمين، إنهم يخلطون ما بين الانتقام والعدل، ولو أن اتفق على عدم تسليمه إلى الحكومة؛ لأن ذلك يخدم كثيرا من القتلة والمجرمين الذين هم الآن لا يزالون على سدة الحكم، ولو أنهم غيروا جلودهم، ولكنهم لا يتسامحون في أن ينبش ماضيهم العفن الدامي، بالتالي أن نسلمهم إياه يعني أن نريحهم، ولن نفعل.
وبنفس المنطق يصبح قتل الشرطي جمال أمين هدية أخرى وخدمة مجانية لوزراء وولاة وتكنوقراط ونواب، الآن ترتعد فرائصهم لمجرد ورود أسمائهم في قوائم القتلة بالإنترنت.
ولكن لم تفهم وجهة نظري بأن أقتله أنا بيدي، يعني أنني أقيم العدل بأسمى معانيه وإنسانيته، أن يقتل المقتول قاتله، إنني أتشوق أن أراه يتعذب ويتألم تماما كما فعل بي، كما فعل بعشرات النساء، أن أراه يموت.
قلت لهم منهية جدلا أخذ أكثر من ساعتين ويطول: حأقوم بالموضوع دا براي.
قال آدم في هدوء: أنا معاك.
قالت نوار، قالت سابا، قال برهاني، قال مايكل، قال أمين محمد أحمد: حنقتله سوا.
وضعت الخطة بصورة جماعية في كهوف مايا، مباشرة بعد اليوم الختامي للاحتفال السنوي بمايا العزيز، حددت الأدوار والأسلحة، واتفق الجميع على استخدام القبر الفارغ بالكهف الكبير؛ لدفنه به والتخلص من جثته، على أن أقوم أنا باستدراجه إلى الموقع المتفق عليه، وهو الكهف الكبير نفسه.
وكنت أعرف مكان إقامته، لقد أخبرني به ذات مرة، إنه مكان جبلي وعر تنبت فيه أشجار الكتر ومستعمرات الحسكنيت، يبعد عن الكهوف ما يقارب الساعة والنصف مشيا على الأرجل، وصفه لي قائلا: دا واحد من الأماكن اللي أنا بقعد فيها، ربما يوم حتحتاجي لي.
قلت له في ذلك الحين: ما أظن.
ولكن احتجت إليه، نعم حدث ذلك بالفعل؛ لأنني قررت أن أقتله بنفسي، ووحدي وفي مسكنه وبدون أن يعرف أي كان ذلك.
مشكلتي الأساسية أنني لا أعرف أن أستخدم أية أسلحة، لا نارية ولا بيضاء ولا حتى العصي، بل لا أعرف مجرد الدفاع عن النفس، وهو - بلا شك - يجيد كل ذلك، ولكني أعرف شيئا آخر لا يستهان به، وهو استخدام السموم، بالذات الزرنيخ؛ حيث إنني دائما ما أستخدمه في عملي اليومي في صنع بعض الألوان الحجرية لاستطالة عمر اللون وإعطائه بهاء وبريقا خاصا يدوم لسنوات كثيرة، نسبة لمقاومته للحرارة والضوء والماء.
ومعروف أن قدرا ضئيلا من الزرنيخ في وزن حبة البن بإمكانها قتل فيل في حجم قطية، ولكن كيف يصل هذا السم إلى معدته؟
أخذت ثلاث عبوات بأحجام صغيرة، خبأتها في أماكن مختلفة؛ حقيبة اليد، وجيب البنطلون، وفي فراغ كعب الحذاء. أخبرت آدم بأنني سأقضي صباح الغد بكهوف مايا زوكوف، وربما لا أعود إلا عند الخامسة أو السادسة مساء، لدي عمل فني من الحجارة أحاول أن أقوم بإعداد دراسة له، ولأنه يعرف أنني لا أكذب؛ صدقني وأخذني بنفسه إلى الكهوف، اشترى لي ماء وطعاما من الطريق، وألح علي أن نتناول وجبة الإفطار معا؛ لأنه يظن أنني عندما أعمل أنسي نفسي من الطعام والشراب، ثم أوصاني بألا أهمل شرب الماء، مذكرا إياي بالتهاب الكلي الذي أعاني منه منذ أن خرجت من المعتقل، وذهب.
تحركت مباشرة بعد أن غادر آدم إلى المدينة لموقع عمله، كنت أمشي بسرعة فائقة، تتخبط وتتصارع الأفكار في رأسي، كل فكرة تمحو الأخرى وتنفيها وتتفهها، بمعني أنه ليست لدي فكرة معينة في رأسي، لدي الزرنيخ بوفرة، قلت لأضع بعضا منه في الماء، قد يشربه، لا لا لا لا يمكن، إنه ليس بهذه البلادة، سوف ... لا لا لا لا، إنه ... لدي الإصرار والعزيمة على قتله فقط، ولكن لا شيء آخر، دخلت غابة الكتر والحسكنيت، وانتبهت لمعركة عنيفة ما كنت قد وضعت لها أية حسابات، وهي أشواك الكتر والحسكنيت، التي استطاعت أن تعيق حركتي تماما، ولأنني أعرف الموقع ولا أعرف بالضبط المكان، لم أر قطية ولا بيتا ولا كهفا ولا حتى مجرد أجمة عشبية تقي من حر الشمس أو المطر، فكانت مشكلتي أكبر؛ حيث أخذت أدور على نفسي في ذات المكان، ذات الحسكنيت، ذات الكتر، ذات الحجارة الصماء الخرساء الساخنة، ذات ريح السموم، الشمس الحارقة، ذات الجبل الذي يحتل الأفق كله، مرت ساعتان وأنا لا أعرف أين أذهب، شربت نصف ما لدي من ماء، وما زلت أحس بالعطش وجفاف الحلق، أخذ يسري في أعضائي هبوط طفيف من فعل العرق، حيث أفقدني كثيرا من الملح، بيني وبين نفسي عرفت أنه قد خدعني، لا يمكن أن يرشدني إلى مخبئه، وهو يعرف أنني أيضا أريد قتله، لقد كنت ساذجة وبليدة وقادني الانتقام وحده إلى هذه المتاهة، ولقد قال لي آدم من قبل أن الانتقام عاطفة مضللة، ولكني لم أع الدرس، جلست تحت شجرة لالوب عملاقة لألتقط أنفاسي قبل أن أعود أدراجي إلى البيت، أحتسي بعض الماء وأطعم قليلا من الخبز، حينما أحسست بظل ثقيل يقترب مني، سرت قشعريرة مميتة في عمق لحمي!
قال بصوت أجش وهو يضع رجله على عود جاف خلفي، فيطلق تحت وزنه مضيفا للظل موسيقى تصويرية مرعبة: أنا عارف إنك حتجيني ... عارف، أنا حبيبك الأولاني، فلان الفلاني.
وأخذ يضحك بافتعال.
فنهضت مرعوبة، أخذت أحملق فيه.
قال لي: آها جيتي تقتليني، ولا جيتي مشتاقة لي؟
قلت له من بين أسناني: أنت شايف شنو؟
قال وهو يحاول أن يبدو مبتسما: بصراحة أنا شايف الاثنين سوا، حب وموت، يعني دا الحب الموت.
ثم أضاف وقد بدا على وجهه مرح غريب أخافني: يلا نمشي تشوفي بيتي، هو ما بعيد من هنا وما قريب شديد.
قلت له إن الوقت قد تأخر وإنني قضيت الساعات هنا أبحث عن بيته منذ الصباح الباكر، وإنني لا أستطيع عمل شيء سوى العودة إلى البيت، ولكنه أصر على أن أذهب معه، فقط لأتأكد من المكان حتى لا أضيع وقتي في البحث في المرة القادمة، وذهبنا.
في الطريق قال لي إنه لم يكن في بيته منذ الأمس، وإنه كان في المكان الآخر، وهذا المكان الآخر يعرفه هو والله فقط، بعد أن عبرنا ممرات تحيطها أعشاب الحسكنيت والكتر، وقفنا أمام شجرة تنضب وارفة تقوم على حافة كتلة صخرية عملاقة، يبني عليها العنكبوت بيوته وتتطفل عليها نبتة متسلقة نسميها هنا السلعلع، قال لي: دا هو البيت.
قلت له مندهشة: أنت العنكبوت ولا السلعلع؟
قال: لا العنكبوت ولا السلعلع، ولكن العنكبوت والسلعلع سوا سوا.
ثم جذب غصن شوك كبير لم ألحظه في بادئ الأمر كان يرقد ما بين التنضبة والصخرة، فظهرت بوابة لمغارة يشع الضوء من عمق سحيق فيها، قال لي: أنا أسكن هنا، من الداخل واسع ولكن مدخله ضيق ودا للتأمين، ادخلي.
قلت خائفة: لا أنا ما حأدخل، خلاص عرفت المكان وحأجيك مرة تانية.
وحاولت أن أعود أدراجي للبيت.
في الحق كنت مرعوبة وخائفة، وأحسست بالخطر يحيط بي، الخطر الفعلي، أحس بأنفاس الموت في أذني تتلاحق، ولأول مرة في حياتي ينتابني مثل هذا الرعب. قال لي: حتدخلي معاي حتدخلي معاي، وأعدك ما في حاجة حتحصل ليك.
كان يتحدث في ثقة مفرطة محتفظا في فمه بابتسامة صفراء. - لا، لو عايزني أجي تاني، خليني أمشي وأوعدك بأني حأجي.
ولكنه أصر إصرارا غريبا لدرجة أنني أحسست أنه إذا لم أدخل سيغتالني، ودخلت، مررت بحذر ما بين التنضبة وحافة الصخرة، حنيت رأسي إلى مستوى الركبة، مشيت بتلك الهيئة مترين ثم وجدت نفسي في بهو عريض في حجم حجرة صغيرة، به إضاءة خافتة تصدر من أركان كثيرة، توجد مفارش نظيفة على سرير من الخشب، ملابس معلقة على تربيزة ملابس من الحديد، هنالك دولاب من الحديد، وتفوح من المكان رائحة التراب الرطب، وشميم واهن من الفضلات الإنسانية.
قال لي وهو يشير إلى الأعماق: في غرفة تانية. - غرفة تانية؟ غريبة!
وعبر ممر ضيق كنا أمام حجرة عليها باب من السيخ تماما مثل الحراسة ، أمامها ممر في عرض المترين، وقبل أن اسأله قال لي: نحن ما وحدنا، عندي ضيوف قبلك.
ثم صاح بصورة مسرحية: رحبوا بسارة حسن يا شباب!
كما في الحلم، من خلف القضبان، وعبر الرؤية الشاحبة، حيث كانت هنالك لمبات كبيرة من الغاز في أماكن كثيرة، ظهر شبحان، وبصوت واهن ضعيف، كالفحيح سمعت شبحا يقول، بصوت جائع مخيف: سجمك يا سارة اللي جابك هنا شنو؟
بعد ذلك لم أع شيئا، كمن صعقت بتيار كهربائي، لا أدري بعد كم من الزمن أفقت، حيث وجدت نفسي عارية تماما، ففي قفص تحيط به الصخور في جهاته الثلاث، والسيخ من الجهة الرابعة، استيقظت على قهقهة مرعبة، وجدتني في صحبة امرأتين نحيفتين، تفوح من فميهما رائحة السل، تنمو الشعيرات في أطرافهما، لهما أظافر طويلة بأصابع رجليهما وأناملهما، شعرهما كأنه أعشاب في مفازة منسية مهملة، المرأتان عاريتان كما ولدتهما أمهما، يبدو أن شعرا كثيفا أوزغبا قد نما على جسديهما، كنت أحس ذلك في ملمسهما المرعب الذي تقشعر له جلدتي، تموتان، تحتضران، تتحدثان في صعوبة بالغة، تفوح من المكان رائحة البول والصنان.
كان هو في الخارج يتحدث باستمرار، يقهقه في جنون، ويحتسي الخمرة، عندما عرف أنني استيقظت قال لي: مرحبا بك في بيتي، وشوفي أنا لابس نعالك، يعني الحالة واحدة.
عبر ضوء الفوانيس استعطت أن أرى عريه التام، وحذائي الصغير يرزح تحت ثقل جسده ورجله الكبيرة الخشنة.
قلت له في غضب: أنت زول غادر ووسخ.
قال في برود: وتاني؟ - حقير. - وتاني؟ - قاتل ومجرم.
قال في برود: بس؟ - مش وعدتني إنك ما حتأذيني؟
قال بثقة: أنا ما أزال على وعدي. - واللي عملته دا شنو؟ - أنا عايزك تكوني جنبي، ودي الطريقة الوحيدة اللي بتحقق لي دا، وأنت ناسية أنك زوجتي وأنا ما طلقتك، واتزوجت علي؟ مش عيب وحرام؟ أنا زوجك بسنة الله ورسوله.
قالت لي إحداهما، في صوت واهن ما معناه أن النقاش معه غير مجد، فسكت، عرفت منهما أنه أخذهما بذات الطريقة التي استدرجني بها، وأن أملنا الوحيد في الخلاص هو الموت كما ماتت فتاة كانت في ذات القفص، وهما لا تدريان كم من الزمن مضى عليهما في هذا المكان، فقط تعرفان أن إحداهما أتت بعد الأخرى، أحضر لنا الطعام والماء عن طريق فتحات السيخ، ثم قال لي: اعرفي أنه ما في مخلوق يقدر يهرب من هنا، ومن الأحسن نحاول نتعلم الحياة مع بعض، ونحاول ما نخون بعض، ولا نعتدي على بعض، ولا نغدر ببعض، وكل اختراق للميثاق دا ولو مرة واحدة يعني الموت، والشباب ديل عارفين، مش كدا؟ أنا الوحيد المسموح لي بالغدر والخيانة.
ثم أضاف في قسوة: عايز أعرف ردك.
قلت له محاولة كسبه على الأقل إلى أن أجد حيلة للخلاص: موافقة.
ابتسم وهو يقبض على أعضائه التناسلية بيده اليسرى ووعاء الخمر بالأخرى. - في الحالة دي تعالي، عايزك.
وفتح الباب بسحبه بالقوة للخارج، أصدر صريرا مرعبا، ودون أن يقول كلمة سحبني إليه، وترك الباب مفتوحا.
هتف في المرأتين في رعب: نوم.
فانكمشتا على بعضهما وأخذتا تنتحبان في صمت.
قال لي: أنا ما حأمارس معك الجنس، ولكن أنت حتقومي بالموضوع دا، أنا بصراحة عايز أحس إنه أنا معتدى علي، حياتي كلها قاعد أعتدي على النساء، عايزك الليلة تعملي العكس، أنا منتظر آآها، اعتدي علي تعالي اغتصبيني، عايز أكون ضحية.
رقد على الأرض على ظهره في الممر مباعدا ما بين فخذيه، وضع كوب الخمرة قربه على الأرض، طلب مني أن أعتدي عليه مرة أخرى، أن أغتصبه، كان عضوه منتصبا قبيحا ومستفزا.
وقمت بذلك، بكل ما لدي من قوة وبكل ثقلي، ضربت برجلي على عضوه التناسلي، عندما حاول أن ينهض ضربته مرة أخرى في وجهه، ثم أخرى ثم أخرى، لم أترك له مجالا للنهوض، كان صامتا وهو يضع كلتا يديه على أعضائه التناسلية، ثم غاب عن الوعي، لكني لم أقف عن الضرب، كنت خائفة من أن يعود للحياة في أي لحظة ويقتلني، بحثت عن شنطتي أو بنطلوني لم أجدهما، رأيت حذائي يقبع ليس ببعيد عن الموضع، حيث كان يرتديه، بضربة واحدة للحذاء على الأرض اندفع كيس الزرنيخ للخارج، فأخذته بسرعة بالغة، سكبته في كوب الخمرة وأفرغت كل محتوياته في فمه، فابتلعه في صمت.
يبدو أن صراخهما كان عاليا جدا، بل ومرعبا، أضاف إليه الصدى بعدا شيطانيا آخر؛ لأنني كنت خائفة ومشغولة بقتله، فما كنت أسمع غير شخيره، ما كنت أرى غير الشرر البذيء الذي يتطاير من عينيه اللتين تموتان ببطء، غير شفتيه اللتين تمتصان الزرنيخ، غير مقاومته الأخيرة، عندما همد، توقف نهائيا عن التنفس، غمرتني طمأنينة باردة لزجة سرت في أوصالي كدبيب سم لئيم، حينها انتبهت لهما؛ البنتان البائستان الحزينتان الخائفتان العاريتان؛ بائستان، كانتا قد التفتا على بعضيهما كثعبانين كبيرين في هياج التزاوج، وقد اتخذتا أقصى ركن في الزنزانة القاسية التي صنعها لهما في إتقان، كانتا تصرخان في آن واحد وهما تلتصقان على السيخ القاسي، تهتفان بكلمة واحدة: لا لا لا لا لا لا لا لا.
مكررة وداوية يعبث بها الصدى المخبول.
قلت لهما في نشوة من انتصرت، لكنها لا تخلو من الخوف، بصوت لا أدري من أين خرج، في الحق كنت أحس به يخرج من استي مباشرة، أو ربما كانت تصحبه ضرطة لم أسمعها: قتلته، الحقير، ريحتكم منو، يلا، يلا اطلعوا، أنتو حرات.
وصرخت بأعلى صوتي: حرات حرات حرات!
قالت لي سوسن دون أن تنظر إلي: لأ، دا ما بيموت، حيحيا تاني، وحيقتلك ويقتلنا كلنا.
قالت آمنة وهي ترتجف في شفقة: لييه عملتي كدا؟ حرام عليكي! حيقتلنا كلنا، حيقتلنا يا سارة.
عرفت أنهما ما زالتا لم تصدقا أنه قد مات، فطلبت منهما أن تنظرا إلي وأنا أركله بقدمي، أقلبه، أبصق في وجهه، وقلت لهما: تعالوا، وبإمكانكما أن تبولا في خشمه.
صرخت فيهن.
وعندما لم تحركا ساكنا وازدادتا في الصراخ، دخلت عليهما في الزنزانة العفنة، وأخذت أسحبهما، وأفكهما من بعضهما البعض، وأنا انتهرهما في هستيريا، لقد كانتا أيضا على حق، أنا نفسي قد قتلته من قبل مرة! قتلته فعلا! قتلته قتلا لا شك فيه في كهوف مايا زوكوف، ولكن هأنذا أقتله مرة أخرى، ولا أدري كم مرة قتله غيري.
علينا أن نهرب من هذا المكان بأسرع ما يمكن. نعم، لقد ابتلع من الزرنيخ ما يقتل ألف فيل وخرتيت، وهو الآن ميت، ولكن ما ضمان أن يحيا؟ وتملكني رعب عظيم وتخيل لي أنه بدأ يتحرك، بل بدأ يتكلم، بل يصرخ، سيهجم، سينقض، داخل الزنزانة، ولأنهما كانتا مريضتين وجائعتين؛ لأنه لا يطعمهما إلا القليل الذي يبقيهن على قيد الحياة، ولأنهما مصابتان بالسل والأنيميا؛ فكانتا تستجيبان لقوتي بسهولة، كانتا لا تستطيعان المشي، فأخذتا تزحفان على بطنيهما، تحبوان كالأطفال، بدا لنا الكهف كبيرا جدا، شاسعا جدا، مظلما جدا، بليدا، عنيفا، مخيفا جدا، يتمطى «كودامبعلو» أسطوري مريع، استطعت أن أوصل آمنة إلى قرب المخرج الذي تم إغلاقه بغصن من أشواك الكتر القاسية بإحكام، عدت إلى سوسن حيث إنها أخذت تصرخ في هستيريا منادية باسمي، كانت تقول لي بصوت متقطع: حيقوم تاني، حيقتلنا.
حاولت أن أطمئنها عن طريق وضعها في حضني وضمها إلي، لكنها كانت تقاوم بشدة أية محاولة اقتراب منها، بل كانت تحاول أن تعود مرة أخرى للزنزانة المرعبة، أمسكتها من يدها، جررتها على الأرض كجوال من التبن، نعم كنت قاسية بعض الشيء، لكنه إذا أفاق من موته سيقتلنا جميعا، وقد يحيا في أية لحظة. •••
كنا في المرسم نحتسي القهوة عندما تذكرت، ليس فجأة؛ لأنها دائما ما كانت تتذكر ذلك اليوم، قالت لي: إذا كنت أمتلك أية قوة كنت قتلتك في الوقت داك.
حقيقة كنت أريد أن أتخلص منك بأية طريقة، أريد أن أبقى في الزنزانة، كنت أحس بأنه لم يمت، بل هي خدعة من خدعه الكثيرة، موتة من موتاته المرعبة، كان أحيانا يجلس لساعات وأيام عدة على الأرض لا يتحرك، لا يأكل، لا يشرب، لا يتبول، ربما لا يتنفس أيضا، حتى إذا أردنا الهرب، نهض في رعب كالشيطان وأعاد اعتقالنا وضربنا.
المخلوق دا شيطان، شيطان حقيقي، ولكن لما تركتيني، حقيقة أحسيت بخوف السنين.
كانت تضحك بعمق، لكن لا يزال باقي الخوف في وجهها، وهي تحكي كيف أنها جرت على قدميها بسرعة مبالغ فيها، وأنها سبقتني إلى غصن الشوك، وأنها هي التي أزاحته جانبا وانطلقت تعدو في غابة الحسكنيت في الخارج.
الساعة الآن تدق معلنة الواحدة صباحا، توقفت سارة عن كتابة مذكراتها، كان آدم لم ينم بعد؛ يعد العشاء، في الخارج أصوات عربات تهرب مسرعة من وقت وآخر، سارة في الآونة الأخيرة عملت على كسب صديقات من نساء الجوار، حدث ذلك بعد صعوبة؛ لأنهن كن يتعاملن معها في بادئ الأمر كامرأة مثقفة، لها اهتمامات غير اهتماماتهن، وأسلوب في الحياة غير أسلوبهن، لدرجة أنهن كن يسألن أنفسهن: كيف تبدو امرأة محددة ومثقفة مثلها في فراش زوجها؟ وافترضن بطرقهن الخاصة أنها متعالية، وتهامسن بأنها شيوعية، وعرفن بأنها مترددة سجون، وقوالات أخرى كانت حاجزا بينها وبينهن، لكنها كانت تقوم بزيارتهن بصورة متواصلة وكن يرددن لها الزيارة، لكنهن عرفن وتأكدن من أنها امرأة عادية، وواحدة من النساء الجميلات، مثلهن عندما طلبت من نسيبة جارتها أن تدعوها إذا أشعلت حفرة الدخان. - سجمي، بتدخني برضو؟
لا يزال القلم في يدها وهي تتفقد آدم في المطبخ، كانت تفوح منها رائحة دخان الطلح، وبغنج أنثوي لذيذ جعلت منخريه يمتلئان بعطر النار الشهي، عرف حينها أن سارة قد تجاوزت الأزمة.
البلاد الكبيرة: السودان بيت التعب
ظهر ديوان شعر في المكتبات بعنوان «البلاد الكبيرة»، ألفته آمنة الخير مكتوب باللغة النوبية، ومترجم للعربية ولغة الفور والهوسا والدينكا، في مقدمته كتب ناقد عجوز ما يلي:
وهذا شعر ... لا تسألني عن القافية، لا تسألني عن الوزن، لا تسألني عن انتقاء المفردة، لا تسألني عن الموسيقى الداخلية، لا تسألني عن اللغة، لا تسألني عن الأخيلة؛ لأن دا كله لا يوجد في هذا الديوان.
أمين: أمين محمد أحمد
- روسيا بغير شيوعيتها لا تعني شيئا سوى طرقات تشبه تلك التي يصفها أنطوان تشيكوف في قصصه القصيرة.
دعوني أسكر بصورة جيدة.
ها هو زوج امرأتي يحتفل بسماية ابني ويسميه كما يشاء؛ لأنه سيرث ماله الحرام. - ناتاشا، اقتربي مني أكثر. - قلت لك مرارا ، أولا حكي لي، ماذا تريد أن تفعل بي. - أنا أيضا قلت لك مرارا تعلمنا في بلدنا أن الحديث عن الجنس حرام وعيب وقلة أدب ... ولكن فعله نؤجر عليه. - أنا يمتعني الحديث عنه أكثر مما يمتعني الفعل. - إذا اقرئي الكماسترا ... أو تزوجيه.
رسالة: كتبت نوار طه إلى محمد آدم
كتبت نوار طه إلى محمد آدم في دفتر محاضراتها بينما كان يتحدث الأستاذ المحاضر عن خصائص المادة المكونة للصخر:
أحبك.
Bilinmeyen sayfa