وكانوا قد أعدوا المركبة فركبتاها معا، وسار الموكب إلى القصر وهي تتوقع أن تجد ضرغاما هناك.
الفصل الخامس
في قصر المرزبان
بلغ موكب جهان قصر أبيها عند العشاء، فرأت الحديقة تتلألأ بما أوقد فيها من المصابيح، وقد غصت بجماهير الناس وما يحملونه من الهدايا والتحف إلى المرزبان كعادتهم في مثل ذلك المهرجان. على أنهم في الأعياد السابقة كانت وجوههم تطفح سرورا وبهجة. وكانوا يقرعون طبولهم ويضربون طنابيرهم. أما اليوم فقد أتوا بآلات الطرب لكنهم لم يضربوا عليها تهيبا لما علموه من اشتداد المرض على المرزبان. فرأتهم جهان متفرقين زرافات ووحدانا في طرقات الحديقة وعلى السلم، وعليهم ألبسة العيد من الخز والديباج، وكلهم وقوف يتهامسون ويتلفت بعضهم إلى بعض وعلامات الأسف بادية على وجوههم. وبباب الحديقة الدواب تحمل التحف من الثياب والأطياب والفاكهة. والخدم يشتغلون بإنزالها وحملها إلى داخل القصر.
ولما وصلت مركبة جهان إلى باب القصر تفرق الناس إلى الجانبين وشغلوا بمشاهدتها عما هم فيه. وكانوا يحبونها ويتبركون بطلعتها ويتوسمون فيها الخير. فلما نزلت من المركبة هتفوا بالسلام عليها، وسري عنهم حين رأوا وجهها ونسوا ما كانوا فيه من القلق كأنهم يحسبون دخولها على أبيها يذهب مرضه ويعافيه.
أما هي فحنت رأسها للسلام تلطفا، وخيل إليهم أنها ابتسمت لفرط ما في محياها من الوداعة والإيناس. وكانت خيزران قد نزلت فسبقتها ومشت إلى جانبها، والناس يوسعون الطريق ويقفون احتراما حتى دخلت جهان الحديقة ماشية بجلال ورشاقة وصعدت درجات السلم المؤدي إلى إيوان القصر وهي تتفرس في الوجوه خلسة لعلها ترى ضرغاما، خائفة أن ترى الأفشين. وكان أهل القصر في انتظارها على أحر من الجمر فجاءوا لاستقبالها، ولم تجد أخاها سامان بينهم فظنته عند أبيها في غرفته. فلما لقيت قيمة القصر سألتها عن أبيها فقالت: «إنه في خير، فشكرا لرحمة أورمزد.»
فاطمأنت قليلا ولكنها ظلت سائرة إلى غرفة أبيها بين صفوف الجواري والخصيان والكل وقوف إجلالا لها. فمشت في دهليز مفروش بالسجاد حتى أتت غرفة أبيها وقد اشتدت لهفتها لرؤيته وقلبها يخفق خشية عليه. وكان بباب الغرفة حاجب من المماليك الخصيان قد اختص بباب المرزبان، فلما رأى جهان أسرع إلى سيده وبشره بقدومها، ثم عاد ورفع الستر ووسع لها، فدخلت وهي لا تزال باللباس الذي خرجت به للصيد والعصابة على رأسها، ولكنها حسرت عن وجهها وعنقها فبان إشراقهما وقد زادها القلق والتعب هيبة وجمالا، فأقبلت على سرير أبيها ووجهها يطفح رونقا وبهاء وعيناها تبرقان ذكاء وفطنة.
وكان المرزبان كهلا لم يتجاوز الستين من عمره، ولكن المرض والضعف جعلاه شيخا هرما، فابيض شعر لحيته التي تملأ صدره، وزاد الضعف في غور عينيه وتجاعيد وجهه. ولكن هذا كله لم يقلل شيئا من هيبته ولا من بريق عينيه الذي اشتد حين علم بمجيء ابنته في إبان الحاجة إليها. وكان قد استلقى على سريره المصنوع من خشب الأبنوس، تحمله أربع قوائم نزل فيها العاج، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفوقه غطاء من الديباج المزركش بالقصب على نصفه الأعلى الذي يغطي الصدر مطرف من فرو النمور الثمين، ويداه مرسلتان فوق المطرف وقد حسر عنهما كم القميص فبان هزالهما.
فلما دخلت جهان من الباب، اتجهت أولا إلى صنم مذهب نصب على عضادة بارزة من الحائط بجانب سرير أبيها وأمامه شمعة مضيئة غير المصباح المعلق بالسقف، فانحنت للصنم خاشعة على عادة المجوس، ثم سارعت إلى أبيها فجثت بجانب سريره وأكبت على يده تقبلها. وقد أثر فيها ضعفه ولكنها تجلدت تشجيعا له فابتسمت وعيناها لا تبتسمان ولكنهما تنطقان بأجلى بيان بعظيم احترامها لأبيها وشدة حبها له. أما هو فحالما رآها ابتسم والدمع يترقرق في مآقيه، وفتح ذراعيه فعلمت أنه يريد تقبيلها فألقت نفسها على صدره فقبلها واستنشق رائحة عنقها فأحست بحرارة نفسه وخشونة شعره فاستأنست بتلك الخشونة لاطمئنانها على صحته؛ لأنها كانت تخاف ألا تدركه حيا.
ثم تجلد المرزبان وتحامل على ساعديه حتى اتكأ على الوسادة وأشار إليها أن تقعد على الفراش بجانبه فقعدت وسألته: «كيف ترى نفسك يا سيدي؟»
Bilinmeyen sayfa