فأكبر الشيخ ذلك التلطف وهم بتقبيل يد ابنة المرزبان شكرا على تلطفها وتنازلها، فاجتذبت يدها منه وأشارت إلى القهرمانة فدفعت إليه بضعة دنانير وقالت له: «أعط هذه الدوانق إلى الغلام يشتري بها قوسا ونشابا يلهو بهما.» فشكر الشيخ لهما، وودعتاه وركبتا جواديهما فانطلقا بهما وخلفهما فيروز.
وبعد هنيهة التفتت جهان إلى خيزران وقالت بعد تنهد يدل على غيظ تكتمه: «والآن ماذا تقولين؟ هذا الأفشين أتى فرغانة ولا شك أنه نازل عندنا لزيارة أبي.»
قالت: «وما الذي يهمك من زيارته؟ و...»
فقطعت كلامها قائلة: «لا يهمني شيء من أمره ولا أكترث له، ولا جنده يخيفني، ولكنني أكره مجالسته و...» وبلعت ريقها، وتشاغلت عن إتمام الحديث بإصلاح عصابتها على رأسها.
ففهمت خيزران تخوفها ولكنها تجاهلت وقالت: «إن جهان العاقلة الحكيمة لا يخشى عليها من أحد ألا تزالين عازمة على المسير إلى النهر.»
فنظرت إليها جهان شزرا وابتسمت كأنها تستغرب سؤالها ولسان حالها يقول: «وكيف لا؟!»
وساقتا الجوادين وهما تنظران إلى قطيع الخيل حتى توارى وطريقه غير طريقهما، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وأثر الجوع في خيزران. أما جهان فشغلها تلهفها للقيا حبيبها عن كل عاطفة، وقضت معظم الطريق ساكتة وهواجسها تتعاظم وتتلاطم، وكلما تصورت لقاءها حبيبها اختلج قلبها ورأت أنها ارتكبت شططا ما كانت لتأتيه لولا غلبة الحب على إرادتها. وكثيرا ما يغلب الحب الإرادة ويكون الفوز له عليها، وقد تفوز الإرادة ولكن إلى أجل قريب، وإذا طالت غلبتها كان الحب ضعيفا سريع الزوال. وقد يكون المحب كبير العقل مدبرا حكيما ويرتكب في سبيل الحب أمورا لا يأتيها غير أهل الطيش. وليس استغراب الناس عمله أكثر من استغرابه هو عمل نفسه؛ لأنه يأتي تلك الأمور وعقله مشرف على عمله ينتقده ويقبحه ولا يرى له سلطانا على رده؛ وذلك لأن للعاقل الحكيم قلبا فطر على الحب الشديد، فإذا هو خالف هوى قلبه تألم ألما لا طاقة له باحتماله وقد يجن أو يصعق، وكم من عاشق ذهب ضحية النزاع بين العقل والقلب؛ فالعاقل إذا أحب انتشبت بين إرادته وعواطفه حرب لها اضطرام، فإذا كان كبير النفس قوي الجنان جارى عواطفه اعتمادا على عزة نفسه وقوة جنانه فلا يخاف أن يغلب على أمره.
وكانت جهان كبيرة العقل قوية الإرادة، ولكنها كانت كذلك كبيرة القلب شديدة العواطف، ألوفة شديدة التعلق بما تألفه. فكيف بها وهي تحب الأليف وقد عاشرته أعواما عدة حتى تمكن حبه من قلبها؟! وكانت قوية الجنان ثابتة الرأي في حبه وزادها تعلقا به تخوفها من الأفشين ونفورها من رؤيته، فلم تر بأسا من السعي لملاقاة حبيبها خصوصا أنها ذاهبة بحجة الصيد. •••
سارت جهان وخيزران حينا وهما تنظران إلى الأفق والجوادان يدلانهما على الطريق المؤدي إلى ضفة النهر، حتى أطلتا على الماء عن بعد ورأتا الشاطئ فلم تجدا عليه خياما ولا رأتا جندا ماشيا ولا راكبا. فأوقفت جهان جوادها والتفتت إلى القهرمانة وقالت: «هل ترين أحدا هناك؟»
قالت: «كلا يا سيدتي ولكننا على مقربة من الشاطئ. فهلم بنا إليه لعلنا نرى فيه أثرا يفيدنا.»
Bilinmeyen sayfa