ومشيا مسافة طويلة في أرض صخرية كثيرة الحجارة يتلمس الماشي أرضها تلمسا، وكان الظلام مخيما لا يكاد الناظر يرى ما بين يديه. وقد ساد السكون فلم يكن يسمع هناك أي صوت سوى حفيف الثعابين والحيات المنسابة بين الصخور أو رفرفة طائر يحلق بجناحيه في الجو. فكان لوقع أقدامهما صوت بذلا الجهد في إخفائه لئلا ينم عن مكانهما. ولما اقتربا من الوادي رأيا فوقه شبه جسر من الصخور يمر عليه الاثنان والثلاثة معا. فقال ضرغام: «تحدثني نفسي أن أسير توا إلى السور فأصعد عليه والناس في غفلة ومتى صرت داخله يشتد أزر المسلمين بي فيكون هجومهم أدعى إلى الظفر.»
فقال: «أخاف عليك كمينا، وأرى أن تعود معي أو أعود أنا وحدي فأدعو الرجال ونتعاون على العمل.»
قال: «اذهب أنت واتركني هنا حتى تعود بهم.»
فقال: «احذر يا مولاي أن تبرح مكانك أو تظهر أي حركة.» ثم عاد وردان إلى الفراغنة، وظل ضرغام وحده. فلما خلا إلى نفسه نظر إلى السور فوجده على بعد مائتي خطوة منه فسولت له نفسه أن يمشي الهويناء حتى يصل إلى السور فينظر ما وراءه ثم يعود. فمشى وهو لا يعرف الطريق وإنما جعل وجهته السور. وكان ينقل قدمه محاذرا سماع وقعها. ويرفع السيف بيده حتى لا يقعقع. ولما دنا من السور وجده عاليا وعليه الأبراج، ولم يسمع هناك صوتا ولا رأى نورا إلا في برج كبير فوق الباب رأى فيه ضوءا ضعيفا. ولما ازداد قربا من السور سمع حركة فوقف ويداه على قبضة حسامه، وإذا بعشرات من الرجال خرجوا من وراء الصخور وأحدقوا به وسيوفهم مشرعة كأنهم كانوا ينتظرونه فأدرك أنه وقع في كمين، فاستل حسامه وصاح فيهم صيحة أجفلتهم ووثب وثوب الأسد يضرب ذات اليمين وذات اليسار ضرب رجل شديد البأس قوي القلب لا يهاب الموت، وكانوا يفرون أماه فرار الظباء من الأسد، وهو وراءهم لا يحترس، فما درى إلا وهو يهوي في حفرة، فانقلب وسقط السيف من يده، وشدت الحبال حول قدميه وكتفيه وأخذوا في إخراجه من الحفرة. وسمع جلبة وقرقعة ودبدبة وصوت وردان ينادي لبيك يا سيدي. فتحول الكمين نحو الصوت وتركوا عند ضرغام من يخفره. وفهم ضرغام أن رجاله أتوا لنجدته من بعيد فزأر زئير الأسد ونادى: «وردان اقطع هذه الحبال.»
فما كان إلا كلمح البصر حتى قفز وردان إليه وقطع الحبال. فلما أفلت ضرغام أخذ سيفه وهجم على الخرمية وأعمل فيهم سيفه فقتل من قتل وفر الباقون ولم تمض ساعة حتى خلت الساحة منهم فصاح ضرغام في رجاله: «هلم إلى السور.» وما أتم كلامه حتى سمع صوتا هائلا كأنه دبدبة جبل يتدحرج، ثم ناداه وردان: «تنح يا سيدي إنهم يرمون بعجلات من أعلى الجبل عليها صخور كبار لا تلبث أن تدحرج علينا ولا تغني الشجاعة في دفعها.»
فتنحى ضرغام وقد كلت ذراعه من الضرب والطعن، ولو لم ينبهه وردان لهرسته واحدة منها؛ إذ لم يمض إلا يسير من الوقت حتى وصلت كالسيل الجارف أو كالرجم المتساقطة أو هي كجلمود صخر حطه السيل من عل.
ولما استقرت العجلات في آخر انحدارها التصق بعضها بالسور بحيث يمكن التسلق عليها إلى سطحه. وشاهد ضرغام ذلك فصاح برجاله: «إلى السور.» وركض أمامهم وسيفه مشرع ولم يكد يفعل حتى رأى ظهر السور قد امتلأ بالرجال وفي أيديهم النبال فأخذوا يرمون الهاجمين بها وهؤلاء لا يبالون وفي مقدمتهم ضرغام وقد وقعت قلنسوته وتمزق قباؤه وتقطعت سراويله. ورآه وردان يصعد إحدى العجلات بقرب الباب ويهم بتسلق السور ففعل فعله، وإذا بباب السور انفتح وخرجت منه فرقة من الخرمية أحاطت بالعجلة ومن عليها وألقوا الحبال على ضرغام ووردان فتحولا وأعملا السيف في الحبال فتقطعت وصاح ضرغام: «ما بالكم تحاربوننا بالحبال أين سيوفكم أيها الأنذال؟»
فلم يجبه أحد وهو واقف على العجلة يعمل السيف فيهم فزلت قدمه فجأة عن خشب العجلة فوقع وارتطم رأسه بحجر ... فلما رآه ورادن شغل به عن نفسه فتكاثر عليهما الرجال فشدوا وثاقهما وحملوهما إلى داخل السور وصعدوا بهما إلى البرج فوق الباب وألقوهما بين يدي رئيس الحامية، فأمر بالماء فرش ضرغام، فلما صحا تحفز ليقبض على سيفه ويهم بالوثوب فإذا هو موثق بين يدي صاحب الحامية، والتفت فرأى وردان إلى جانبه في مثل حاله. فعظم عليه الأمر فصاح في القوم قائلا: «عار عليكم أن تلجئوا في قتالكم إلى الحبال فإن كنتم رجالا فحكموا السيف. اقتلوا ولا تأسروا.» والتفت فرأى قائد الحامية جالسا وعليه القلنسوة والسراويل من لباس الخرمية. وشاهد بين يديه جماعة من رجال الخرمية الذين نجوا من المعركة وعليهم آثار القتال وسمعهم يتكلمون الفارسية وهو يعرفها فخاطب الرئيس بمثل ما قال بالعربية فلم يجبه وأشار إلى رجاله فخرجوا وأغلق الباب وتقدم إلى ضرغام فحل وثاقه ثم وثاق وردان وقال بالعربية: «قم يا ضرغام. قم واجلس.»
فلما سمع ضرغام الصوت أجفل والتفت إلى الرجل وتفرس في وجهه فعرفه فصاح «حماد؟!» قال: «نعم حماد.» فنظر إليه والدهشة بادية في وجهه وقال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «جئت بعد أن تركتني قرب همذان لسبب لا تجهله، وقد جندت في جيش هذا المجوسي للانتقام من صاحبك الظالم، أما كان الأجدر به أن يدخر هذه السيوف للدفاع عنه بدلا من أن تكون عليه؟»
Bilinmeyen sayfa