وقبل أن يهم جمال الدين باشا بالرحيل أخبر السلطان بمعلومة أخيرة؛ حيث قال هامسا وهو يميل نحو السلطان إن والدة جلالته كانت تبحث عنه طوال الصباح، وقد بدا عليها الاستياء الشديد. شكر عبد الحميد - وهو يلمس انحناء فكه الأملس - مستشاره على هذه المعلومة، ونهض على نحو مفاجئ قاصدا مكانا أكثر انعزالا. ولم يكن هذا لأنه كان يتحاشى لقاء والدته، بل كل ما هنالك أنه أراد أن يفكر بمفرده في سقوط بلفن وعواقبه المتعددة قبلما ينشغل بمخاوف أي شخص آخر. غادر السلطان مجمع الحمامات من باب جانبي، ثم شق طريقه حول حافة حدائق الحريم، ومر بجدران سجن القصر، ثم سار وسط الحظائر الواقعة شمال الحديقة إلى ما يعرف باسم «حديقة الفيل»، التي سميت بهذا الاسم لأسباب يجهلها.
كان مبتغاه الوصول إلى بقعة ضيقة من أشجار المشمش والكريز اللاذع في الركن الشمالي الأقصى للحديقة، وهي بستان منعزل كثيرا ما يذهب إليه قصدا للتفكير. زرعت تلك الأشجار منذ قرنين بناء على أمر من السلطان أحمد الثاني، وأصبحت بمرور السنين المكان المفضل للسناجب والطيور الصغيرة الذي يعج بثرثرتها وضجيجها. اكتشف عبد الحميد البستان الذي كاد يخلو دائما من الزوار من البشر عندما كان أميرا صغيرا في بلاط أبيه. والآن بعدما صار هو نفسه سلطانا، وصار الآن أمره مطاعا من مدينة سالونيك حتى البصرة، يذهب عبد الحميد إلى هناك كثيرا للقراءة ومشاهدة الطيور بموازاة الماء.
بعد أن تأمل السلطان عواقب انسحاب عثمان باشا، حمى عينيه من الشمس، ونظر بعيدا لتلألئ مياه البوسفور؛ راجيا أن يمسك بجمهرة مبكرة من طيور اللقلق أو مجموعة بعيدة المنال من طيور جلم الماء، ثم تتبع بنظراته سربا من طيور السمام وهي تنحني فوق الممرات المائية الممتدة من برج جالاتا إلى محطة قطار حيدر باشا الجديدة في حي قاضيكوي. وبخلاف طائر السمام، لم يكن يوجد ما يسترعي الانتباه بدرجة خاصة سوى التشكيلة المعتادة من طيور النورس وغراب البحر والسنونو. «ها أنت ذا.»
لم يكن عبد الحميد في حاجة لأن يلتفت، فهو يستطيع أن يميز صوت أمه في أي مكان. ومع ذلك استدار بالفعل، وقبل يدها ثم تزحزح ليفسح لها مكانا على المقعد. وعلى الرغم من أنها قد عمدت قصدا إلى قطع حبل أفكاره، وتجاهلت مرة أخرى أن تخاطبه باللقب الذي يليق به، فإنها أمه. «صباح الخير يا أمي. إنه صباح رائع، أليس كذلك؟»
قالت وهي ما زالت واقفة: «بلى، إنه صباح رائع. وأنا نادمة عن جد على مقاطعة استمتاعك به.» «من فضلك يا أمي اجلسي، فأنت تزيدين استمتاعي.»
قالت له: «لدي طلب صغير فحسب يا جلالتك، وعندئذ سأغادر.»
كانت أمه على قدر فائق من الجمال، حتى مع تقدمها في العمر. إنها قطعا فقدت قوامها الرشيق، وسطرت الحياة علامات الخبرة على وجهها، ولكنه ما زال في إمكانه أن يرى آثار ما جذب والده إليها بقوة.
استهلت كلامها وهي تقبض يديها خلف ظهرها قائلة: «كما تعلم، سيقيم القصر الأسبوع المقبل عشاء على شرف السفير الفرنسي وزوجته.»
قطب عبد الحميد حاجبيه؛ لقد كان السفير الفرنسي رجلا متعجرفا واضح الأغراض بدرجة مزعجة. ولم تكن زوجته أفضل منه حالا؛ فهي امرأة حمقاء بدينة كرست حياتها لإقامة الحفلات ورد التفاهات الاجتماعية. «أعلم أنك لا تميل إليه، لكن حفل العشاء تأخر طويلا، ونحن في حاجة إلى كل الدعم الذي يمكننا الحصول عليه إذا ما أردنا أن نكون قوة موازنة للروس.»
قال السلطان: «نعم، بالفعل علينا ذلك.»
Bilinmeyen sayfa