عند أحمد حصان جميل.
المدرس :
ولا هذه عبارة تكفي.
التلميذ الثالث :
ما أجمل حصان أحمد.
المدرس :
أنت أحسن قليلا، لكنها عبارة ما زالت ناقصة.
ولم تعد هنالك أصابع مرفوعة، وهنا قدم المدرس ما عنده، فقال في نطق هادئ عميق الصوت، بعد أن مد ذراعه اليمنى ليتكئ بأصابعها على منضدة إلى جانبه، وثنى ذراعه اليسرى واضعا يده على خصره! «يا له من حصان جميل عند أحمد!» ولقد مضت حتى الآن ثلاثة وسبعون عاما، منذ سمع طفل العاشرة ترجمة المدرس للجملة المعروضة، ومع ذلك فلا يزال هذا الكاتب يذكر كيف أحس النشوة بتلك العبارة الجميلة، وكيف أدرك بوجدانه أن الترجمة العربية في عبارة المدرس قد جاءت مطابقة أكمل تطابق مع الأصل الإنجليزي.
وأقول إنه أدرك ذلك التطابق بوجدانه؛ لأنه بالطبع لم يكن في تلك السن الباكرة قادرا على التحليل العقلي، وكبر الطفل شابا، فرجلا، فشيخا، وبقيت تلك اللحظة راسخة في ذاكرته، أضاف إليها على مراحل العمر قدرة تزايدت مع الدراسة، على الفهم الأشمل والأعمق، فطرح على نفسه ذات يوم سؤالا يسأل به عن المقارنة الدقيقة بين تلك الجملة عن أحمد وحصانه الجميل، في صورتيها الإنجليزية والعربية، لعله يقع على السر الذي أدركه طفل العاشرة بوجدانه، حين أدرك التطابق بين الجملة في صورتيها، فكان أول ما أجاب به هذا الكاتب عن السؤال الذي طرحه على نفسه، هو أن هناك فرقا بين مجموعتين من المفردات اللغوية المستخدمة في كل من الصورتين؛ أما المجموعة الأولى فتتألف من العناصر المشتركة بين الحالتين، والتي لم يكن لأحد مفر من أن يجعلها مشتركة، وهي في هذه الحالة ثلاثة عناصر، أحمد، والحصان، وجميل. وأما المجموعة الثانية فتتألف من العناصر المعبرة عن الوقع النفسي عند المتحدث، وهي في هذه الحالة - بالنسبة إلى الجملة العربية - «يا له من» و«عند»، وما يقابلهما في الصورة الإنجليزية، وإذا دققنا النظر في هذه المجموعة الثانية، وجدنا اختلافا واضحا بين الصورتين الإنجليزية والعربية، ولهذا الاختلاف أهمية كبرى سنشير إليها بعد قليل، فقول العربي «يا له من» بعيد عن قول الإنجليزي فيما يقابل ذلك، وقول العربي «عند» أحمد، مختلف اختلافا له مغزاه عن قول الإنجليزي «يملكه» أحمد، فبينما «الملكية» التي يشار إليها في الجملة الإنجليزية توهم بدوام العلاقة بين المالك وما يملكه، نرى «العندية» في الجملة العربية متضمنة معنى الزوال؛ لأن العندية مجرد صلة مكانية، قد تكون اليوم ولا تكون غدا.
وهنا نعرض على القارئ الأهمية الكبرى - بالنسبة إلى موضوعنا - التي نراها كامنة في الفرق بين الصورة العربية والصورة الإنجليزية لجملة واحدة مما يجري على ألسنة الأطفال، وهو فرق نستطيع بعد ذلك تكبيره، فنجده فارقا بين ثقافتين؛ الثقافة العربية من جهة، والثقافة الإنجليزية، أو قل على نحو التقريب الثقافة الغربية من جهة أخرى؛ فقد رأينا في الجملة البسيطة التي تحدثت عن حصان أحمد وكم هو جميل، مما ورد في مطالعة إنجليزية لأطفال في سن العاشرة أو ما دونها، أن الصورة الإنجليزية والصورة المتمثلة في ترجمتها العربية، تتلاقيان حتما في عناصر مشتركة، هي في هذه الحالة المعينة: الحصان ، وأحمد، وجميل ، لكنهما مختلفتان في طريقة التعبير عن وقع الجمال في نفس الرائي، كما تختلفان كذلك في تصور العلاقة بين الحصان وصاحبه، وهي علاقة عبرت عنها اللغة العربية بما يشير إلى مجرد «التجاور» في مكان واحد، كل هذا والأمر هنا هو أمر ترجمة من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية، ترجمة شهدنا لها بالدقة، فما معنى هذه المقارنة بين الصورتين؟ معناها أن الثقافتين المختلفتين، إنما تختلفان في الموقف «النفسي» تجاه الوقائع، لكنهما لا تختلفان في الوقائع ذاتها؛ فالعربي والإنجليزي معا - في الموقف الذي نحن بصدده الآن - لا يسع أيا منهما إلا أن يقر بوجود حصان وصاحبه، فإذا هما افترضا معا أن الحصان «جميل» أراد كل منهما أن يعبر عن ذلك الجمال المفترض، اختلف أحدهما عن الآخر في طريقة التعبير من جهة، وفي المضمون النفسي الذي يريد أن يعبر عنه من جهة أخرى، وذلك هو نفسه الموقف الذي نراه ماثلا أمامنا، إذا ما أجرينا المقارنة بين ثقافتين بأكملهما، لا بين جملتين وردت إحداهما في كتاب إنجليزي يطالعه أطفال صغار، وأوردنا الأخرى في ترجمة عربية لها، فإذا نحن تأملنا الجسم الضخم الذي نسميه «ثقافة عربية»، والجسم الضخم الآخر الذي نسميه «ثقافة إنجليزية» وجدنا مشاركة محتومة في «وقائع»؛ لأن الوقائع تفرض نفسها على الناس فرضا؛ فالأرض أرض، والسماء سماء، والبحر بحر، وهذا أرنب وتلك ذبابة، وإذا أراد رجلان من رجال «العلم»، أحدهما عربي والآخر إنجليزي، أن يبحثا في صخر الأرض، أو في أفلاك السماء، أو في ملوحة البحر، أو في التركيب العضوي للأرنب والذبابة، كان الاتفاق بينهما كاملا في تحديد «الموضوع»، ثم انحصر التفاوت بينهما بعد ذلك في القدرة العلمية عند البحث في تفصيلات ذلك الموضوع، وأما إذا ما كان الأمر أمر وقفة «نفسية» تجاه موضوع ما من موضوعات الواقع فعندئذ يكون الاختلاف - كبر ذلك الاختلاف أو صغر - فالكلب «نجس» عند العربي ويجب الحذر من ملامسته، مع أنه عند الإنجليزي فرد من أفراد الأسرة التي ينتمي إليها، والذبابة عند العربي شيء قد يستهان به ، لكنها عند الإنجليزي خطر مخيف.
Bilinmeyen sayfa