لكننا نختلف حتى عند هذه الخطوة الأولية، فمن هم حملة المشاعل الذين يقدمون الضوء لأصحاب الإرادة كي يسيروا على مداها؟ في رأي هذا الكاتب - وهو رأي عرضه في مناسبات كثيرة - أن حملة المشاعل هؤلاء ثلاث فئات متناقضة في أهدافها، وأساس التقسيم هنا هو موقف كل منها من ثقافة الغرب قديمه وحديثه ومعاصره؛ فهناك فئة (وهي أكثر الفئات الثلاث عددا) ترفض من حيث المبدأ أن تبني ثقافتها - وبالتالي أهدافها - على شيء منسوب للغرب لأن التراث العربي الإسلامي عند تلك الفئة فيه ما يكفي لإقامة الحياة العملية وتقويمها، أيا ما كانت تلك الحياة زمانا ومكانا. وفئة ثانية مضادة «وهي أقل الفئات الثلاث عددا» تريد الالتحام مع الغرب في ثقافته التحاما تاما، حتى لكأننا جزء منه أو هو جزء منا، وواضح أن هذه قليلة الأثر، في توجيهنا؛ لأن خطأها أوضح من أن يكون موضعا لجدال. وإن هذا الكاتب ليأسف على فترة لم تكن قصيرة من حياته الواعية، قضاها نصيرا لتلك الفئة، على ظن خاطئ منه بأن ما نجح في الغرب كل هذا النجاح الذي أضفى عليه ما أضفى من قوة وعلم وثراء، ينجح معنا إذا نحن اصطنعناه، لكنه خطأ في الرأي قد شاء الله لهذا الكاتب أن يراه فيهتدي. وأما الفئة الثالثة فقوامها أولئك الذين يرون الهداية في صيغة ثقافية جديدة تقام لنا، لتكون هي «الثقافة العربية» ثوابتها هي ثوابت «العروبة» من ناحية مقوماتها التي خلعت على العربي هويته، ومتغيراتها هي ما تغيرت به حضارة عصرنا عن حضارات سلفت.
لكن البلبلة الفكرية مكتوبة علينا، على أيدي القادرين وغير القادرين؛ إذ هنالك منا من يشيعون في الناس تقسيمات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان؛ فلا هي قائمة على منطق التقسيم الذي يشترط فيه وحدانية الأساس الذي أقيمت عليه القسمة حتى لا تتداخل الأقسام فتغمض الأفكار، ولا هي قائمة على فهم صحيح للمضمون الثقافي الذي يريدون تقسيمه وتصنيفه، فأي عجب أن نرى الفكرة العربية قد تشعبت إلى حد الغموض مع حسن النية ربما، وأن الإرادة العربية قد تهشمت إرادات مبعثرة بين أفراد، تهشما كان سوء النية - على أرجح الظن - مجدولا فيه مع حسنها، فاختلط في حياتنا حابل بنابل إلى أن يشاء رب العالمين لنا الهدى؟!
من إشعاعات التوحيد
1
أمة التوحيد لم تعرف في فترات طويلة من تاريخها كيف توحد كثرة شعوبها في هدف بعيد واحد، بل إن الوطن العربي من تلك الأمة لم يعرف سبيله إلى مثل هذا الالتقاء في ظل لواء واحد من هدف بعيد. والعجب هنا يكون أعجب؛ لأنه وطن تؤلفه لغة واحدة، ومن شأن اللغة الواحدة - حين تكون هي اللغة الأم - أن يتقارب أصحابها فكرا ووجدانا، ثم يزداد عجبنا عجبا، إذا علمنا أن الوطن العربي في هذه المرحلة الراهنة من تاريخه متآلف فعلا في فكره ووجدانه؛ فصاحب الفكرة منا قد ينشر في بلده المعين، وإذا بمواطنيه على امتداد الوطن العربي الكبير يتجاوبون غير عابئين بما أقيم من حواجز بين إقليم وإقليم، والشاعر منا يجيد الإبداع في مشرق فتتردد الأصداء في مشرق ومغرب على السواء، أو هو يجيد الإبداع في مغرب فتتردد أصداؤه في مغرب ومشرق معا، والموسيقار يعزف، والمغني يصدح بالغناء، فتصبح هذه الألحان والأنغام موضع الإعجاب عند العربي أينما كان موقعه. وهكذا قل في كل مبدعات الفكر والفن والأدب، تنتج هنا أو هناك من أطراف الوطن العربي الكبير فلا تلبث أن تكون ملكا لأبناء الأمة العربية كلها. وليس لذلك من معنى إلا أن يكون معناه هو أن ثمة وحدة عربية وثيقة العرى في جانب واسع من الحياة الثقافية. ومع ذلك فلا يسع الرائي من بعيد أو من قريب سوى أن يرى بين أجزاء الوطن العربي، بل وبين أجزاء الإقليم الواحد من أقاليمه الفرقة والخصومة والتنازع مما قد يصل بالناس هنا أو هناك حد القتال الحربي في أعنف صوره وأقساها، فمن أين جاء الخلاف والفكر بيننا موحد وهو في مستوياته العليا؟ من أين جاء الخلاف ووجداننا يلتقي ويتآخى في رحاب الأدب والفن؟ إنه ليسهل هنا على مجيب أن يجيب بقوله: إنها «السياسة» وحدها التي فرقت وأشعلت لهيب النار، لكن هذا الجواب السهل لا يقنعنا ولا يصرفنا عن معاودة السؤال عن علة الخلاف من أين جاءت؟ وكل ما في الأمر هو أن نعيد سؤالنا بذاته عن تلك «السياسة» فنقول من أين جاءها الخلاف بهذه الحدة كلها، وبهذا العمق كله، حتى لقد استطاعت أن تشعل بين الإخوة والأشقاء نيران الحروب؟ وأيا ما كان الجواب فنحن على حق حين نقول إن الوطن العربي من أمة التوحيد، لم يعرف كيف يوحد كثرة شعوبه في هدف واحد قريب أو بعيد.
إننا لا نريد بهذا أن نتجاهل ما لا بد من حدوثه بحكم طبائع الأشياء ذاتها. وابحث ما شئت في أي موجود في هذا الكون الفسيح، كبر ذلك الموجود أو صغر تجده يجمع في كيانه الموحد أجزاء يختلف بعضها عن بعض في طبيعتها وفي وظيفتها. وانظر إلى الذرة التي هي نهاية المطاف في تحليل العلم لمادة الكون تجدها مؤلفة (بمعنى التجمع والتآلف معا) من جزئيات متباينة فمنها كهرب موجب ومنها كهرب سالب، ومنها كهرب محايد، ومنها ما تبينوا فعله ولم يتبينوا طبيعته، لكن هذا التباين لا يمنع أن تكون الذرة الواحدة كائنا موحدا ثم انتقل من الطبيعة إلى الإنسان، لا من حيث هو جزء من الكون فيصدق عليه، ما يصدق على سائر الكائنات، بل انظر إليه من حيث هو مبدع لفكر وأدب وفن على نحو لا يشاركه فيه كائن آخر تجد في كل أثر من آثار إبداعه، شرطا أساسيا هو أن يجيء الأثر مؤلفا من «كثرة» شريطة أن تنخرط تلك الكثرة في «وحدة» تؤلف بينها لتجعل منها كيانا واحدا ، فالمعادلة الرياضية تحتوي على عدة رموز مختلفة، لكنها اتسقت جميعا في جسم رياضي واحد، والنظرية أو القانون من نظريات العلوم الطبيعية وقوانينها هي كذلك محتوية على عدة مفردات مختلفة، لكنها كذلك متسقة في جسم نظري واحد، ثم هي لا تكتفي بهذا الاتساق بين مفرداتها، بل تجاوزه لتحقق اتساقا آخر أوسع مجالا، وهو الاتساق بين الجانب النظري من ناحية وتطبيقه على وقائع الدنيا من جانب آخر، فعندئذ تصبح كل واقعة ممثلة لحدث مادي، وما قد بث فيه من قانون، فالتفاحة التي رآها نيوتن وهي تسقط من فرعها إلى الأرض هي تفاحة من جهة وهي من جهة أخرى مجسدة في سقوطها لقانون نظرية هو قانون الجاذبية. هذا في مجال «الفكر» الإنساني، فإذا تحولت بنظرك إلى ما يبدعه من أدب وفن رأيت مبدأ تآلف الكثرة في وحدة تضمها محققا على نحو أروع؛ فقصيدة الشعر ليست كومة من مفردات اللغة، بل هي نسق ينسق تلك المفردات على صورة فريدة، يتلقاها المتلقي كما يتلقى حقائق الحياة في شتى صورها، بمعنى أنه يرى بين يديه كثرة من أجزاء قد توحدت كلها في كيان موحد يستند كل جزء فيه إلى سائر الأجزاء، أو هكذا ينبغي للأمر أن يكون.
فلسنا نريد - إذن - أن نتجاهل وجوب أن تتكاثر الأجزاء في كل جانب من جوانب الحياة في الوطن العربي، لكننا كنا نتوقع لتلك الأجزاء أن تتآلف في وحدات متسقة، فالفرد الواحد إنما هو مع فرديته تلك سيرة تاريخية اشتملت على أحداث تعاقبت له في حياته في كثرة لا تقع تحت حصر. والشعب العربي الواحد مؤلف من ملايين الأفراد يتفاعلون بعضهم مع بعض في شتى صور الحياة في تباين شديد بين مختلف المواقف. وهكذا الحال في تفاعل الشعوب العربية بعضها مع بعض، لكن هذا الخضم الهائل من مفردات الأشخاص والأحداث لا يمنعها من أن تتوحد في حياة عربية متصلة الأجزاء، وأن الأجزاء في هذه الحالة ليتحقق لها النسق الذي يوحدها لو توحدت بحق الغاية التي يتغياها الأفراد كل في مجاله، فمن وحدة الغاية يتوحد المناخ الفكري العام، وعندئذ تختلف الاهتمامات الفردية ما أريد لها أن تختلف وتكثر الأنماط ما شاء أصحابها أن تكثر، لكنها جميعا تقع من الحياة العربية الموحدة موقع الوحدات المختلفة في بناء فني واحد.
كل هذا قد شهده التاريخ في حياة الأمم في الفترات التي استهدفت فيها الأمة المعينة بكل أفرادها هدفا واحدا، فأحاط بها مناخ فكري واحد، سواء أكان هذا المناخ مما نتفق معه أم لم يكن؛ فالعصور الوسطى في أوروبا والقرون الثلاثة التي امتدت عندنا نحن بين السادس عشر والتاسع عشر استهدفت أهدافا نرفضها نحن اليوم. وأما أوروبا إبان عصر العقل في القرن السابع عشر، وفي عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكذلك أهداف الفكر العربي في القرن العاشر الميلادي بصفة خاصة، فقد وحدتها كلها أهداف نرضاها ونتمناها. على أن الذي يشغلنا في هذا السياق من الحديث هو أن نبين في وضوح متى وكيف يتوحد الاتجاه الثقافي لجماعة من الناس في مرحلة معينة من تاريخها، وإذا كان مثل هذا التوحد ممكنا بالنسبة إلى أي شعب من الشعوب بل هو أمر قد وقع بالفعل كما أشرنا، فأجدر به أن يتحقق لأمة ركن الأساس في دينها هو «التوحيد» فالله عز وجل هو في عقيدتها واحد لا شريك له، وهو أحد صمد، وذلك واضح في أول ركن من أركان الإسلام الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا نبيه ورسوله. ولا يعقل أن يكون المقصود بشهادة المسلم على وحدانية الله هو أن تقتصر على شفاه تنطق بأحرف وكلمات، بل لا بد للمعنى الذي تحمله الألفاظ أن يفهم ويهضم حتى يتمكن منه العقل ويرسخ في القلب كأنه يساير نبضاته. ولسنا هنا نكتب ما لا نعنيه كما يكتب تلاميذنا «الإنشاء»؛ إذ يرصونها كلمات موجهة إلى أذن القارئ، وليس على هذا القارئ بعد سمعه أن يبحث عن معنى لما يقرؤه، كلا بل إننا نقول ما نقوله لنعنيه. وانظر في حياتك أنت أيها القارئ لترى الفرق واضحا بين حالتين؛ حالة أولى تجد فيها نفسك وقد آمنت بفكرة، فلم يعد في وسعك إلا أن تسلك على مقتضاها، كأن تكون والدا يؤمن بأن واجب الوالد نحو ولده هو أن يرعاه ما وسعته الرعاية، فيرى نفسه مدفوعا بدفعة تلقائية نحو أن يسلك بما تقتضيه فكرته التي آمن بها. وأما الحالة الثانية فهي تلك التي نراها اليوم واسعة الانتشار في حياتنا، وأعني أن يتظاهر الإنسان أمام الناس لفكرة هو لا يؤمن بها حقا، ولكنه يعلم أنها تعجب الناس، فإذا ما خلا لنفسه في حياته العملية، نهج في سلوكه نهجا آخر، كأن يرفع أمام الناس لواء «الاشتراكية» في وقت يعلم أن ذلك ما يرضي جمهور الناس، حتى إذا ما انفض السامر، يبحث لنفسه عن كل السبل التي يكدس بها المال والعقار والذهب وكل ذي قيمة يرفع بها رأسه، وأقصد رأسه هو ورأسماله معا، لماذا؟ لأنه لم يكن يؤمن حقا بما ادعاه.
ولا شك في أن إيمان المؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى هو من أنماط الحالة الأولى؛ فالمؤمن ينطق بالشهادة ويعنيها، ولكنه كثيرا ما يقف - برغم إيمانه - عند حدود النطق باللفظ دون أن يعنى العناية الكافية بتدبر مضمونه، ولو تدبره مليا لسرى في كيانه سريان شعور الوالد بوجوب رعايته لولده، فعمل على أن يتوحد هو بدوره ما مكنته طبيعة البشر أن يتوحد، وذلك لأن في طبيعة البشر مكونات كثيرة متعارضة، وهكذا أراد له خالقه أن يكون؛ لأن في ذلك ما يختبر إرادته ومدى تطلعه إلى التسامي بنفسه نحو ما يرضي الله جل وعلا؛ فقد ألهمت النفس البشرية أسباب فجورها كما ألهمت في الوقت نفسه أسباب تقواها، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ولكنه كذلك وضع فيه ما يمكن أن يرتد به أسفل سافلين. ولو سار الإنسان بنفسه في طريق التهذيب الصحيح لعرف كيف ينسق كل مكوناته تلك تنسيقا يوحدها تحت هدف واحد، فتصبح له مصدر قوة ورفعة شأن؛ فليس بين مكونات الإنسان جانب خلق عبثا، ويمكن تلخيص تلك المكونات تحت ثلاثة رءوس؛ فهنالك الجوانب التي أريد بها أن تصون الحياة ذاتها وأن تبقي عليها كدوافع الغذاء ودوافع النسل، ومنها مجموعة ثانية هي في وظيفتها أشبه بقوة الكهرباء في إدارة العجلات، وأعني بها مجموعة الانفعالات وما يبنى عليها من عواطف، فالانفعالات كالخوف والغضب والعواطف كالحب والكراهية، ثم هنالك مجموعة ثالثة هي وسائل الإدراك التي زود بها الإنسان ليعلم بها ما يحيط به من موجودات ليتصرف فيها على نحو ينفعه ويضمن له حسن البقاء. تلك في اختصار هي مكونات الإنسان ومقوماته، وهي بطبيعتها متنافرة إلا إذا دربت على تناسق فيما بينها، فدوافع الطعام والجنس قد تذهب بصاحبها إلى حدود يعرف عنها العقل أنها حدود الهلاك، وانفعال الخوف أو الغضب وعاطفة الحب أو الكراهية قد تطغى إلى حد يشل قدرات الإنسان، لكنها جميعا مكونات مطلوبة. وقد أخطأ كثيرون في عهود من التاريخ فظنوا أن هناك من تلك العناصر ما يجب على الإنسان أن يقتلعه من كيانه اقتلاعا، فيزهد في هذا ويترفع عن ذاك، لكن الوقفة الإنسانية الأصح هي أن تستغل فطرة الإنسان بكل عناصرها، بحيث نبحث لها عن النقطة التي يبلغ التناسق عندها حده الأعلى وتلك هي النقطة التي «يتوحد» عندها الإنسان كيانا كل ما فيه يعمل على قوة البناء، فلا تترك العناصر المختلفة ليفتك بعضها ببعض. وكلنا يعلم كيف يمكن للحياة الإنسانية أن يتشقق بنيانها لما يدب بين جدرانها من صراع.
ولعل القارئ قد عرف كثيرا عن طائفة من أوجه القصور في عصرنا هذا، مما أحدث في النفس عند الفرد العادي تمزقا ويأسا وحقدا وتمردا وعنفا وفساد طوية وضمير، وكلها علل نتجت عن عدم التوازن بين مكونات الإنسان حتى طغى بعضها على بعض ففسد الجميع؛ فهنالك حياة صناعية ازدحمت فيها الآلات، وما تقتضيه من المشتغل بها من دقة شديدة ويقظة لا تسهو، دون أن يدبر لذلك العامل الساهر عليها ما يشبع جوانبه الأخرى بنسبة يتعادل بها الميزان. وهنالك الرغبة في القوة والثروة والتملك إلى حد الجشع مما قد يتيح النجاح لواحد والفشل لكثيرين، يصبح واجبهم هو خدمة ذلك الواحد الناجح ليزداد نجاحا، فتتراكم الملايين في جيب وتخلو من الملاليم ألوف الجيوب. وهكذا وهكذا مما يعرف كل منا شيئا منه فنتج التمزق وخيبة الرجاء. ولو عنيت التربية بأن ينشأ الفرد - كل فرد - على «وحدة» تتناغم فيها عناصر فطرته لبرئ عصرنا مما يشوبه لينعم الناس جميعا بحسنات عصرهم.
Bilinmeyen sayfa