وهنا قد يستوقفني قارئ ليصرخ في وجهي قائلا: على رسلك يا أخانا؛ فقد شطحت بنا شطحا يضل ولا يهدي. إن قوله هذا إذا صح على ساكن الصحراء فكيف يصح على ساكن الوادي الأخضر؟ إننا حتى لو أخذنا بما قدمته إلينا من أن الوديان المزروعة وفي مقدمتها وادي النيل إن هي إلا واحات كبرى في الجسم الصحراوي العظيم، فهذا لا ينفي عن الواحة أنها واحة خضراء تختلف في طبيعتها وفيما توحي به إلى ساكنها، عن الصحراء ورمالها. ومثل هذا القائل يشبه من يجتزئ بقعة من رقعة أرض لينكر عليها صلاتها بما يجاورها؛ فكأن ساكن البيت الذي يطل على بحر أو على صحراء لا يتأثر بهواء البحر أو برمال الصحراء. إن الخط الرفيع الذي يفصل وادي مصر عن صحرائها هو نفسه الذي أظهر للمصري شدة الصلة بين الحياة الدنيا وحياة الخلد. لقد رأى المصري كيف يمكن أن يضع إحدى قدميه في أرضه المزروعة، وأن يضع الأخرى على أرض الصحراء؛ ليعلم علم اليقين أن النقلة من دار الحياة العابرة إلى دار الحياة السرمدية مداها خطوة قصيرة، فكان للمصري ما كان في حياته الثقافية، من دين ومن أدب وفن، مما أقامه على تلك العروة الوثقى التي تصل الدارين.
ومن هذا الانطباع الأول عن «اللامتناهي» تولدت عند «الصحراوي» نتائج تشكلت بها وجهة النظر العربية كان من أهمها وأعمقها أثرا ، فكرة العربي عن ديمومة «المبادئ» وثباتها. وأهم تلك المبادئ الثابتة الدائمة التي لا يجوز لها أن تتغير مهما تغيرت ظروف التاريخ، مبادئ الأخلاق. وهنا تجب علينا وقفة شارحة؛ فالإنسان في حياته العملية لا بد له من قواعد عامة يستعين بها على معرفة الطرق المأمونة للسلوك، لا فرق في ذلك بين إنسان العصر الحجري وإنسان الكمبيوتر والصعود إلى القمر، وتلك القواعد العامة الهادية إلى صور السلوك المأمونة من سوء العواقب هي ما يسمونها ب «مبادئ الأخلاق»، وما دام أمرها كذلك فإن الدنيا لم تعرف مجتمعا بشريا بغير أخلاق، لكن اختلاف جماعة من الناس عن جماعة، فيما يختص بوجهة النظر إلى تلك القواعد الأخلاقية يمكنهم في تصور كل منهما لحقيقة تلك القواعد ماذا تكون، وفي مصدرها الذي جاءت منه. أما هذا المصدر فقد تتصوره جماعة بأنه ما دلت عليه الخبرة البشرية فيما مضى من التمييز بين سلوك يضر وسلوك ينفع، وعن طريق هذه الخبرة تجمعت مجموعة من الصور السلوكية التي ثبت نفعها وسلامتها من سوء النتائج، فكانت هذه المجموعة هي «مبادئ الأخلاق». وهكذا كان للجماعات المختلفة وجهات نظر مختلفة عن المصدر الذي نبعث منه تلك المبادئ، يهمنا منها وجهة النظر «الصحراوية» - أو قل «العربية» - وهي أن مصدر تلك المبادئ الأخلاقية إنما هي ذلك «اللامتناهي» الذي رسخت صورته في القلوب، ثم تأيدت تلك الصور وازدادت رسوخا عندما نزل بها وحي من رب العالمين إلى الأنبياء والرسل لينشروها في الناس، حتى أصبحت الصور السلوكية المطلوبة لا تستند في صوابها على نفعها. نعم إنها بالفعل نافعة، لكن الذي يجعلها «مبادئ» هو أن نزل بها وحي من الله سبحانه وتعالى. وإنه لتنتج لنا نتيجة بالغة الأهمية عن هذا الموقف، وهي أن «مبادئ الأخلاق» لا تتبدل ولا تزول، في حين أن من اقتصر على جانب المنفعة في رؤيته للأخلاق مستعد لاستبدال مبدأ بمبدأ آخر إذا أثبتت له خبرة الحياة أن الصورة السلوكية القائمة لم تعد تصلح، فالعربي - إذن - متميز بجانبين؛ فهو أولا يجعل مصدر الأخلاق وحيا، وهو ثانيا يجعل مبادئها ثابتة لا تتحول ولا تتبدل. حتى إذا خيل للإنسان أن مبدأ معينا منها لم يعد يؤدي بالناس إلى منفعة ظاهرة، قال العربي إن الله أعلم من الإنسان بما ينفع وما يضر. وغني عن البيان أن نشير إلى الملاءمة الوثيقة عند العربي بين انطباعه باللانهائي من الكون الذي يحيط به، وبين ما يهديه إليه الوحي الديني من وجوب المبادئ الأخلاقية وجوبا لا يتغير بتغير الأحداث.
وعند هذه النقطة نختصر حديثنا في «المصري» موغلين به فيما قبل الفتح العربي الإسلامي، فماذا نجد في تاريخه الأسبق عن الرؤية الأخلاقية؟ أنراه من الجماعة التي أقامت مبادئها الأخلاقية على خبرة الحياة الماضية في هذه الدنيا؟ أم نراه من الجماعة التي تستمد رؤيتها الأخلاقية من انطباعها باللامتناهي، ومن اعتقادها - بالتالي - في خلود الحياة الآخرة؟ أظن أن الجواب واضح ليس فقط لمن «درس» التاريخ المصري القديم، بل هو واضح كذلك لمن «يحس» بروح ذلك التاريخ، فالعامل المصري القديم يعمل والفنان المصري القديم يبدع والمحارب المصري القديم يحارب، والوالد المصري القديم ينصح ولده، لا بما يتبدل خلال الحياة الدنيا من نفع أو ضرر، بل بما يرضي رب الخليقة يوم أن يكون حساب. وإننا لنرى على جدران المعابد المصرية القديمة صورة «الميزان» الذي سوف يوزن به الأعمال يوم الحساب، فها هي الرؤية «الصحراوية» للأخلاق لم يغير منها أن يكون في قلب الصحراء المصرية واد مزروع.
المثل الأعلى عند العربي - إذن - هو ثبات «المبادئ» التي على أساسها يحكم على سلوك الإنسان بالاستقامة أو الانحراف، وهو ثبات مستمد من الحقيقة الكونية كما ينطبع بها ساكن الصحراء، ثم جاءت الرسالات السماوية لتؤكده. وأود هنا أن أعيد القول مرة أخرى، دفعا للخلط الذي كثيرا ما يقع في ظنون الناس، بأن القيم الأخلاقية ذاتها لا يكاد يختلف عليها شعب مع شعب، لكن الاختلاف إنما يظهر عند عملية التنظير، فنسأل أولا عن مصدر القيم لنعلم من أين جاءت؟ وثانيا نسأل عن تلك القيم أيجوز لها أن تتغير مدلولاتها مع تغير الظروف؟ وموقف العربي في ذلك هو أن تلك القيم هي التي تحكم المتغيرات ولكنها لا تتغير معها، وأن مصدرها وحي السماء من ناحية، وما يتركه المشهد الكوني عند الإنسان من أثر ينطبع به.
ولعل سؤالا يعن للقارئ فيقول: كيف نزعم أن القيم الأخلاقية مشتركة بين سائر الجماعات الإنسانية - أو قل إنها تكاد تكون كذلك - ثم نقرر في الوقت نفسه بأن جماعة من الناس قد تقبل تغيير المبادئ الأخلاقية إذا استوجبت الظروف المتغيرة ذلك التغيير، وأن جماعة أخرى ترفض قابلية تلك المبادئ لمثل ذلك التغيير؟ والجواب الذي يزيل قسطا كبيرا من هذه المفارقة هو أن «أسماء» القيم الأخلاقية لا اختلاف عليها؛ فليس هنالك على وجه الأرض من يوصي - عن مبدأ - بالخيانة والقتل، والسرقة، والأنانية ... إلخ؛ فالكل مجمع على وجوب الأمانة، وحق الحياة وحق الملكية والتعاون ... إلخ. لكن هذه الأسماء - لحسن الحظ - ليست محددة المعاني تحديدا كالذي نجده في المصطلحات الرياضية، المثلث والمربع والدائرة. ولقد كانت هذه المسألة نفسها هي ما تعرض له سقراط؛ إذ جاء ليرفع في عالم الفكر لواء «ترييض» الأخلاق؛ أي أن تحدد مفاهيم الأخلاق على نحو ما تحدد مفاهيم الرياضة حتى لا يتعرض الناس لفوضى الفهم؛ وبالتالي يتعرضون لفوضى السلوك. وأحسب أن المسألة ما زالت تغري بالتعرض لها، وأما من الوجهة العملية فالضرورة تقضي بمرونة المعنى لأنه لا أمل في دقة رياضية لهذه الأسماء القيمية. خذ - مثلا - حق الملكية؛ فإذا أقررنا هذا الحق للإنسان فهل يجوز لرجل واحد - تبعا لذلك - أن يترك ليملك العالم إذا أوتي القدرة على ذلك، أو أن هناك إدراكا فطريا عند الإنسان يوجب وضع الحدود والقيود؟ وإذا أنكرنا حق الملكية على الأفراد - كما تتصور الشيوعية - فهل تصل بهذه الأفكار حدا يحرم الفرد من ملكية ثيابه؟ أو أن هنالك إدراكا فطريا عند الإنسان يوجب أن يترك للفرد حد أدنى من أشياء يتملكها؟ وهكذا قل في شتى القيم من حيث ثباتها وتغيرها، فلا الذي يؤمن بوجوب ثباتها «كما هي الحال بالنسبة إلى الرؤية العربية» يريد بذلك الثبات أن يؤخذ على إطلاقه كما نفعل مع مفاهيم الرياضة، ولا الذي لا يمانع في تغيير المبادئ الأخلاقية إذا تغيرت الظروف بحيث لم تعد تلك المبادئ صالحة لها، يريد بذلك أن تمحى «القيم» محوا، بل يريد أن تفهم على أسس تزيد من مرونتها حتى تتلاءم مع الأوضاع الحضارية المستحدثة.
ومثل هذا الثبات الذي تزيد فيه الدرجة أو تقل مع ظروف الواقع هو الذي نعنيه حين نجعله صورة مثلى أمام العربي. وإننا لنضغط هنا على عبارة «صورة مثلى» لأن القارئ قد ينظر إلى واقع الحياة العربية، فيرى حياة العربي - على وجه الإجمال - بعيدة بعدا شديدا من ذلك المثل الأعلى. لكن ثقافات الشعوب إنما تقاس بأهدافها، وليس بواقعها في مراحل ضعفها، كالرجل القوي تصيبه علة فتلزمه الفراش حتى يشفى، فلا تزول عنه صفة «القوة» تأسيسا على فترة مرضه.
ولا نريد أن نترك هذه الخاصة الخلقية من خواص الرؤية العربية دون أن نثبت حقيقة لغوية تلفت النظر عند من يمعن النظر في اللغة العربية؛ فعندئذ يجد في الأسماء الدالة على علاقات اجتماعية، بعدا خلقيا كامنا في صميم معناها، مما يدل على عمق النظرة الخلقية عند العربي؛ فكلمة «صديق» تقيم في صلب حروفها صفة «الصدق» كأنما يراد القول بأن «الصدق» شرط أساسي للصداقة، وكلمة «جار» تحمل في صلب مبناها أن «يجير» الجار جاره إذا استجار، وإلا بطل معناها، وكلمة «صهر» تحمل في معناها صفة «الانصهار» فإذا لم يكن هناك قابلية أن تنصهر الأسرتان عند الزواج - أعني أسرة الزوج وأسرة الزوجة - كان ذلك معناه امتناع التكافؤ، وكلمة «مرء» تقضي بحكم حروفها أن تكون «المروءة» صفة للإنسان، وكلمة «أمة» تشارك بحروفها كلمة «أم» مما يقضي أن تكون الروابط بين أبناء الأمة الواحدة هي نفسها روابط الرحم وهكذا وهكذا.
هذا الذي أسلفناه عن الوقفة الأخلاقية عند العربي، والتي هي مستوحاة في المقام الأول من روح «الصحراء» في لا نهائيتها البادية وفي ثباتها النسبي، إنما يبين للقارئ جانبا واحدا من جوانب «العروبة» كما ينبغي أن تعيها؛ فالعروبة في جوهرها «موقف » من الكون ومن الحياة، يتميز مما عداه من مواقف تقفها الثقافات الأخرى. لسنا بذلك نريد أن نفاضل بين ثقافة، وثقافة، ولكننا نميز ثقافة عما عداها؛ فليست العروبة دالة على عرق معين، بل هي اسم يشار به إلى مركب ثقافي معين من شأنه أن يهيئ لمن يتشربه ويعيش تحت مظلته «موقفا» يستلهمه عند ردود الفعل، كلما صادفه على طريق الحياة العملية حدث مثير. وننتقل إلى جانب آخر من جوانب ذلك الموقف العربي، وهو «الذوق» الفني، وسنرى أن العربي قد استوحى من الصحراء قيمه الجمالية في دنيا الفن، على نحو ما استوحى قيمه الأخلاقية كما رأينا؛ فلا يزال «المفتاح» هو نفسه المفتاح، وأعني انطباع ساكن الصحراء باللانهائية وبالثبات النسبي، فكيف ترى أن يصاغ «الذوق» الفني نتيجة لهذا الانطباع؟ إن أول ما يقفز إلى الخاطر قفزا جوابا عن هذا السؤال هو أن يكون مدار الإبداع الفني «صورة مجردة» قبل أن تنصب العناية على تحليل الأفراد؛ ومن هنا جاء الأدب العربي القديم أبعد ما يكون الأدب عن فن الرواية أو فن المسرحية كما عرفهما الغرب، وعرفناه نحن حديثا عن الغرب، ولا عجب إن رفض العرب ترجمة الأدب اليوناني القديم بمسرحياته وملاحمه - عندما ترجموا كل ما عداه من فلسفة وعلم. لقد كان المرحوم توفيق الحكيم في مقدمته المستفيضة التي قدم بها مسرحية «أوديب» قد طرح هذا السؤال: لماذا لم ينتج العربي أدب المسرح؟ ثم حاول الجواب وعرض عدة إجابات ممكنة، لكنه نقدها جميعا ليستقر هو على ما ظنه الجواب الصحيح؛ وهو أن العربي بدوي يرتحل من منتجع للكلأ إلى منتجع، فلا تمكنه حياته تلك من القرار في مدينة ولا مسرح إلا حيث الحياة مستقرة في مكان. وحدث لكاتب هذه السطور أن قرأ تلك المقدمة عند ظهورها ونشر ردا عليها يذكر منه الآن أن الاستقرار في مدن قد توافر للعربي طوال العصر الإسلامي؛ في بغداد، ودمشق، والقاهرة وغيرها من العواصم الكبرى، فلماذا لم ينشأ المسرح عندما توافرت له الظروف المستقرة؟ وأما التعليل الصحيح في ظن كاتب هذه السطور فهو أن العربي - عن مبدأ - يتعلق بالكلي المجرد أكثر جدا مما يتعلق ب «الأفراد» والمسرح، «وكذلك الرواية» بضاعتها أفراد من الناس يتفاعلون فتظهر لكل منهم شخصيته المتفردة بخصائصها خلال ذلك التفاعل.
ولا شك أن معظم الطاقة الفنية عند العرب الأولين، قد انصب على الشعر. إذن فلنمعن النظر إلى فن الشعر العربي لنلمح أخص خصائص الإبداع عند الفنان العربي، فأما من حيث الشكل فأول ما يستوقف السمع - بالطبع - تكرارا نمطيا لتفعيلات بينها مع تكرار قافية واحدة، فما الذي أوحى للعربي بهذه الصورة في إبداعه؟ أوحى بها إليه ما قد انطبع به من الواقع الكوني الذي يحيط به، وأعني طبيعة الصحراء في لا نهائيتها البادية، وفي ثباتها الظاهر. إن القصيدة العربية تعرف كيف تبدأ ولا تعرف كيف تنتهي، تماما كما يدير الإنسان بصره في أرض الصحراء وفي سمائها؛ فليس هنالك الجبل الذي يصد سرحة البصر ولا الجدار الذي يحبسها. إن تلك السرحة تبدأ جولانها من نقطة معينة ولا يوقفها إلا ضرورات الشاعر نفسه، كأن يمل السير أو أن يضعف دون المضي فيه، أو أن الزمن يعاجله، إلى القارئ الذي يكرر قافية القصيدة بيتا منها بعد بيت عندما يصل إلى القافية الأخيرة في البيت الأخير، لا يحس عندئذ بأن انتهاء رحلته قد فرضتها الضرورة، بل يحس إحساس من وقف أثناء رحلته ليستريح ثم يستأنف الحركة إذا وجد ما يسعفه. ألست ترى في هذه الحقيقة الفنية في الشعر العربي - إذا كنت قد أصبت في تصويرها - انعكاسا لطبيعة الصحراء عند من يدير البصر في فسيح آفاقها.
أتظن أن الشاعر العربي إذا وصف ناقته أو جواده، وإذا تغزل في عبلة أو في ليلى، كان يريد حقا أن يصف الكائن المفرد المعين الذي يعنيه؟ لا، ليس هذا ما يظنه هذا الكاتب على الأقل، بل إن الشاعر العربي في كل حالاته تلك إنما يصف ما يراه المثل الأعلى للجواد أو للناقة أو للمرأة؛ لأنه في عمق أعماقه متعلق بالمثال المجرد، لا بالمثل الجزئي مما يرى على الأرض؛ وذلك استلهاما لديمومة الحقيقة الصحراوية التي تحيط به، فهو مؤمن في حياته الفنية، كما هو مؤمن في حياته الدينية بأن «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك» فلماذا يحصر فنه الشعري - وغير الشعري - في زيد كما يحيا أو في عمرو كما يعيش؟ إنه يتكئ على هذا الفرد أو ذاك، على هذا الطلل أو ذاك، على هذه الواقعة الجزئية أو تلك لينفذ منها إلى ما هو أقرب إلى المثال الأفلاطوني في الموضوع الذي يعالجه. تلك هي «العروبة» في خصائصها، والعربي هو من تجسدت فيه تلك الخصائص.
Bilinmeyen sayfa