كان كل شيء في الأرض الجديدة ممهدا أمام طموحهم وأهدافهم التوسعية، ولم تكن تعترضهم سوى عقبة «صغيرة» هي أن في هذه الأرض سكانا ظلوا يعيشون فيها منذ ألوف السنين. إذن فلنتخلص منهم بسرعة، ولنحاول بعد ذلك أن نسدل ستارا من الصمت والنسيان على تلك الحقيقة «الصغيرة» المزعجة، لا سيما وأن إنجازاتنا اللاحقة كفيلة بأن تبرر في نظرنا، وفي نظر العالم، ما حدث في تلك المرحلة الأولى، المظلمة، من تاريخنا.
لقد أردت أن أجري هذه المقارنة حتى لا يشعر القارئ بالدهشة حين يجد أمريكا تؤيد إسرائيل إلى هذا الحد الذي يبدو أحيانا غير مفهوم. فإلى جانب المصالح المشتركة والسياسة الرسمية، هناك شيء في نفس المواطن الأمريكي يجعله متعاطفا مع الحجج الصهيونية؛ إذ يرى فيها ترديدا لنفس الحجج التي قامت عليها بلاده، والتي كان يستخدمها أجداده في إبادة الهنود الحمر. فهناك عنصر مشترك قوي بين التكوين العقلي والنفسي للإنسان الأمريكي والإنسان الصهيوني: هو الإيمان بأن الأرض ينبغي أن تنتمي إلى من يعرف كيف يستغلها إلى أقصى حد، أما صاحبها الأصلي فليذهب إلى الجحيم، وهو أيضا الالتجاء إلى القوة الغاشمة في سبيل إقرار حق الاستغلال، واستخدام التبريرات المعنوية في وقت لاحق، بعد أن تكون القوة المباشرة قد فرضت أمرا واقعا، وهو الاعتقاد بأن ما ينتمي إلى حضارة أكثر تقدما، بالمعنى المادي البحت للكلمة، من حقه أن يعيش على حساب المتخلفين أو حتى فوق جثثهم. صحيح أن الفرق بين الصهيوني والفلسطيني من حيث القدرة على استغلال الأرض، ومن حيث التقدم الحضاري بوجه عام، لا يقارن بالفرق بين الأمريكي المستوطن والهندي الأحمر، بل إن التمييز - في الحالة الأولى - يمكن ألا يكون قائما على أي أساس، ولكن ليس هذا هو لب الموضوع، وإنما المهم هو أن الحجج التي تقدمها الأيديولوجية الصهيونية إلى العالم، والتي تجد صدى خاصا في نفوس الأمريكيين، ترتكز على فكرة التفوق الحضاري والقدرة على الانتفاع من موارد الأرض، إلى أقصى حد، وعلى الإقلال من شأن «السكان الأصليين» والدعوة إلى نسيان وجودهم.
أليس من المعقول، والحال هذه، أن تكون الصهيونية قادرة على الضرب على وتر حساس لدى المواطن الأمريكي العادي، وأن يكون «الضمير الأمريكي» على أتم استعداد للتوافق مع العقلية الصهيونية؟ أيستطيع الأمريكي العادي أن يقول للصهاينة: «ولكن الأرض ليست أرضكم، بل كان فيها شعب يمتلكها من عشرات القرون»؟ أيستطيع أن يقول ذلك دون أن يكون قد أدان نفسه في الوقت ذاته؟
ثالثا:
ولأنتقل - بعد هذا الاستطراد، الذي هو مع ذلك ضروري بالنسبة إلى هدف بحثنا هذا - إلى العامل الثالث الذي أتاح لأمريكا أن تبلغ ما بلغته، والذي يجعل من أمريكا ظاهرة فريدة غير قابلة للتكرار. هذا العامل هو نظام الرق، الذي تفشى في أمريكا على أوسع نطاق في نفس الفترة التي كان فيها المستوطنون يبنون مجتمعهم الجديد، والذي أسهم بنصيب هائل في إثراء هذا المجتمع.
ولست في حاجة إلى أن أذكر القارئ ببشاعة الأساليب التي كان يلجأ إليها تجار الرقيق لجلب آدميين مسالمين من مواطنهم الأصلية في أفريقيا لكي يعاملوا معاملة أسوأ من معاملة الحيوانات في البلد الجديد، في نفس الوقت الذي كان فيه هذا البلد يقدم إلى العالم «وثيقة حقوق الإنسان» - الأبيض بالطبع - ذلك لأن القصة أصبحت الآن معروفة، في أغلب بلدان العالم العربي، بفضل عمل من أروع الأعمال الفنية التثقيفية الهادفة، وهو مسلسل «الجذور» التلفزيوني.
ولكن الذي يهمنا في هذا السياق هو أن نشير إلى أن استغلال عمل ملايين العبيد الأشداء، طوال أجيال كثيرة، بلا أي مقابل، كان لابد أن يسهم بدور عظيم الأهمية في تحقيق نهوض اقتصادي سريع في هذا البلد. لقد كان الجنوب الزراعي كله، والشمال إلى حد ما في البداية، يعتمد على قوة عمل العبيد المجانية، فإذا ما تساءل شخص: كيف أحرز النظام الرأسمالي هذا النجاح السريع في أمريكا؟ كان من الواجب أن نرد عليه بما قاله أحد المفكرين الأمريكيين المستنيرين وهو يتحدث عن أثر استغلال عمل الزنوج في الاقتصاد الأمريكي: إذا كان لديك تاجران متنافسان، يعمل لدى أحدهما عمال لا يتقاضون أجرا طوال حياتهم، على حين أن الآخر يدفع لعماله أجورهم بانتظام، فأيهما تكون فرصته أكبر في الربح وفي توسيع أعماله؟
رابعا:
كان موقع أمريكا المنعزل، الذي يفصله عن بقية العالم محيطان شاسعان، من أكبر عوامل تقدمها. ذلك لأن الحروب المتوالية قد مزقت سائر البلدان المتقدمة أو المؤهلة للتقدم في أوروبا وآسيا، على حين أنها تركت أمريكا سليمة لم تمس. وعلى كل من يقارن بين المستوى الأمريكي المرتفع وبين بقية دول العالم أن يسأل نفسه: ماذا لو كانت أمريكا قد ألقيت عليها قنابل ذرية كاليابان، أو استنفدت مواردها المادية والبشرية في حروب القرن التاسع عشر وفي الحربين العالميتين الرهيبتين في القرن العشرين كألمانيا وإنجلترا وفرنسا؟ ماذا لو كانت أخصب أراضيها قد أحرقت، وأعظم مدنها قد دمرت، وثلاثون مليونا من سكانها قد قتلوا، كما حدث للاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية وحدها؟
طوال تلك الحروب كانت أمريكا آمنة من كل ضرر: فلم تسقط على أرضها قنبلة واحدة، ولم يهدم فيها بيت واحد (إذا استثنينا حربا واحدة في أواسط القرن الماضي، وتلك كانت حربا أهلية بين الشمال والجنوب الأمريكيين)، ولم تجد ما يدعوها حتى إلى إطفاء الأنوار، على سبيل التحوط، طوال الحرب العالمية الثانية.
Bilinmeyen sayfa