أما الفئة الثانية فينتمي إليها أشخاص يتسمون بانحراف الوعي الاجتماعي والأخلاقي، فتغطي مشاعرهم ورغباتهم الأنانية على تقييمهم للنمط الأمريكي في الحياة. هؤلاء قد لا يكونون أصحاب مصالح مباشرة مع الأمريكيين، كالفئة السابقة، ولكنهم ينظرون إلى أمريكا على أنها مرادفة للترف، والمتعة الاستهلاكية، والمستوى المعيشي المرتفع، والسيارات الفارهة ، والأجهزة الإلكترونية الراقية. ومعظم أفراد هذه الفئة من المهنيين، ولكننا قد نجد بينهم عمالا فنيين، أو حتى مجموعات تنتمي إلى فئات أدنى. هؤلاء جميعا تتجه أمانيهم وتطلعاتهم إلى تحقيق النموذج الأمريكي في حياتهم الخاصة، وينفرون من أي نموذج آخر باعتباره مرادفا للتقشف والاقتصار على الضروريات والحرمان من متع «الحياة اللذيذة».
وتتسم هذه الفئة بأنها لا تطرح على نفسها أسئلة من نوع: هل هذا الرخاء الاستهلاكي الذي قد يجلبه النموذج الأمريكي لهم، يمكن أن يصل إلى الجميع، حتى الفقراء من الناس؟ ألن يغدو الفقراء أشد فقرا، ويزداد حرمانهم بقدر ما يزداد استمتاع الفئة المميزة في المجتمع؟ هل ينجح النمط الأمريكي في الحياة، حين يطبق على بلد متخلف أو محدود الموارد، في حل مشكلات فئات المجتمع كلها، أم أنه يرضي فئة محدودة إلى أقصى حد، على حساب أوسع فئات المجتمع؟ هذه أسئلة لا تطرحها الفئة التي نتحدث عنها من المعجبين بالنمط الأمريكي. وليس معنى عدم طرحها لهذه الأسئلة أنها دائما غير واعية بها، بل إنني أعرف - من تجربتي الشخصية - حالات كثيرة لأشخاص لديهم إدراك كامل للتمييز الصارخ الذي يجلبه الأخذ بالنموذج الأمريكي، ومع ذلك فإنهم يتعلقون به أشد التعلق لأنهم، ببساطة، لا يكترثون بمصير الفئات الأخرى ولا يضيرهم على الإطلاق أن ينعموا على حساب غيرهم. إن لسان حال كل منهم يقول: ما دامت مشكلتي الشخصية قد حلت، ففيم يهمني الآخرون؟ (3)
وتأتي بعد ذلك فئة أولئك الذين ارتبطت حياتهم، في وقت ما بأمريكا، أعنى أولئك الذين تلقوا العلم فيها، أو قاموا بزيارات لها، وهؤلاء تعود نسبة كبيرة منهم إلى بلادها وقد انطبعت بالطابع الأمريكي في تعاملها مع الناس، وأخذت تستخدم التعبيرات الأمريكية في لغتها والحركات الأمريكية في سلوكها، بل إن أعدادا منهم تعود حاملة معها تحيزات الأمريكيين المريضة ذاتها. فقد عرفت من العرب المقيمين في أمريكا أناسا كانوا يغيرون المبنى الذي يقيمون فيه لو سكنه زنجي، حتى لو كان ذا مركز اجتماعي محترم، وكان عدد منهم يردد نفس الحجج التي يرددها غلاة المتعصبين الأمريكيين عن «الملونين».
ولحسن الحظ أن بلادنا تضم عددا غير قليل من خريجي الجامعات والمعاهد الأمريكية، ممن لا يكتفون بالمشاهدات السطحية ولا ينجرفون وراء التحيزات الضيقة، وإنما تنفذ بصيرتهم إلى ما وراء المظهر السطحي البراق، ومن ثم فإنهم يحتفظون بموضوعيتهم طوال إقامتهم وبعد عودتهم. والعامل الذي يحدد الفارق بين هؤلاء وأولئك هو مدى الوعي الذي يكون الدارس في أمريكا أو الزائر لها مسلحا به. ومن هنا كنا نجد نسبة كبيرة ممن دخلوا أمريكا في مقتبل أعمارهم، بغير وعي سياسي واجتماعي متماسك، يجرفهم التيار في طياته، ويعودون إلينا بمظهر أمريكي وعادات وحركات وإيماءات أمريكية، ويحملون معهم، قبل هذا وذاك، إعجابا غير مشروط، متغلغلا في أعمق تلافيف أمخاخهم، بالنموذج الأمريكي في جميع المجالات. (4)
أما الفئة الأخيرة فهم أولئك الذين يتأثرون بالصورة الإعلامية البراقة للحياة الأمريكية. ففي «الثقافة العالمية» التي تولدت عن الثورة المعاصرة في وسائل الإعلام، تحتل نواتج الإعلام الأمريكي موقع الصدارة. وهكذا تصدر أمريكا إلى بلاد العالم - وبخاصة العالم الثالث - أفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية وأسطواناتها ورقصاتها وأزياءها. وفي هذه النواتج الإعلامية والثقافية تندس - بطريقة قد لا تكون مقصودة أحيانا، ولكنني أرجح أنها مقصودة في أغلب الأحيان - صورة براقة للحياة الأمريكية، تمر في الفيلم أو الحلقة التلفزيونية مرورا عابرا، ولكنها تؤثر تأثيرا بالغا - على المستوى الشعوري واللاشعوري - في المشاهدين، ولا سيما إذا كان الطابع الغالب على حياتهم هو الحرمان. وبمضي الوقت تترسب في أذهانهم صورة أمريكا الضخمة، الفخمة، المترفة، القادرة على كل شيء، والتي لا يقف في وجهها شيء، ويكون لهذه الصورة حتما تأثيرها في وعيهم الاجتماعي واختياراتهم السياسية.
هذه الفئة الأخيرة، الخاضعة للتضليل الإعلامي المنهجي المدروس، تؤلف الشطر الأكبر من أنصار أمريكا في بلادنا، ولكنها فئة يستطيع المرء أن يتفاهم معها دون أن يخشى من أن تطغى عليها مصالحها أو أنانيتها أو تحيزاتها. ومن ثم فإن حديثي موجه أساسا إلى أفراد هذه الفئة، وإن كنت آمل بطبيعة الحال أن يمعن النظر فيه بعض أفراد الفئات الأخرى على الأقل. ففي اعتقادي أن عرض الصورة كاملة، ومن كافة جوانبها، يمكن أن يفتح أمام الكثيرين أبوابا للتفكير ولمراجعة آرائهم السابقة. وهذا أقصى ما آمل فيه: أن يعيد المعجبون المفتونون بالنمط الأمريكي النظر في أفكارهم، وأن يراجعوا موقفهم في إطار ما سيقدم إليهم من حقائق آمل أن تكون موضوعية بقدر ما أستطيع، حتى يتبينوا بأنفسهم، في النهاية، إن كان هذا النمط هو الذي يصلح لمجتمعاتنا، أم أنه سيكون عائقا في وجه تقدمنا، فيما لو أصبح هو السائد بيننا؟
الفصل الثاني
أمريكا ظاهرة فريدة لن تتكرر
إلى المؤمنين بمنطق أن «أمريكا بنت نفسها حتى أصبحت الدولة العظمى في مائتي عام، فلنفتح لها أبوابنا حتى نضمن لأنفسنا تقدما مماثلا»، إلى هؤلاء أقول إن الظاهرة الأمريكية فريدة غير قابلة للتكرار، وأنها حدثت نتيجة لتضافر عدد من الظروف التي يستحيل أن تتجمع مرة أخرى في مكان آخر أو في زمان مختلف.
هذه الظروف التي لا تقبل التكرار، والتي جعلت من أمريكا «الدولة الأعظم» في العصر الحديث، هي:
Bilinmeyen sayfa