1 - التغلغل الأمريكي في عقولنا
2 - أمريكا ظاهرة فريدة لن تتكرر
3 - أمريكا من الداخل
4 - أمريكا وقضايانا السياسية
5 - قضية إسرائيل
6 - قضية الأيديولوجية والتنمية
1 - التغلغل الأمريكي في عقولنا
2 - أمريكا ظاهرة فريدة لن تتكرر
3 - أمريكا من الداخل
4 - أمريكا وقضايانا السياسية
5 - قضية إسرائيل
6 - قضية الأيديولوجية والتنمية
العرب والنموذج الأمريكي
العرب والنموذج الأمريكي
تأليف
فؤاد زكريا
الفصل الأول
التغلغل الأمريكي في عقولنا
على عكس ما يقول الكثيرون، أعتقد أن العالم يشهد في السنوات الأخيرة مدا أمريكيا واسع النطاق. فهزيمة أمريكا في فيتنام قد تقادم عهدها، والضربة التي تلقتها أمريكا في أفغانستان ثم إيران ضربة موجعة بلا شك. ولكن في مقابل ذلك أحرزت أمريكا انتصارين على أعظم جانب من الخطورة: أحدهما في الصين، مفتاح الشرق الأقصى، حيث أصبحت السياسة الصينية - في الآونة الأخيرة - ذيلا للسياسة الأمريكية، بل أصبحت أشد منها تحمسا في محاربة جميع خصوم أمريكا، ووصلت إلى حد محاربة حركات التحرر الوطني أينما كانت، والآخر في مصر، مفتاح الشرق الأوسط، حيث تسير السياسة الرسمية في اتجاه التحالف الصريح مع أمريكا على جميع الجبهات، وحيث يتوقع الأمريكيون من المعاهدة المصرية الإسرائيلية أن تكون الخطوة الأولى في طريق السيطرة الشاملة على المنطقة، والقضاء على الحركات المعارضة لنفوذهم في المناطق الأخرى المحيطة بالشرق الأوسط.
وربما قيل إن الأحداث الأخيرة قد أفقدت أمريكا الصداقة التقليدية المطلقة التي كانت تحملها لها بعض الدول العربية المحافظة، وإن هذا يدخل في باب الخسارة بالنسبة إلى النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. ولكن ينبغي أن نتنبه إلى أن السبب الذي تعلنه هذه الدول صراحة لغضبها من أمريكا هو أنها لا تحمي أصدقاءها بحزم كاف، كما أثبتت الأحداث الإيرانية بوضوح. وأبسط تحليل لهذا السبب يدلنا على أن الغضب في هذه الحالة لا يرجع إلى نزعة تحررية لدى هذه الدول، بقدر ما يرجع إلى خيبة أملها في تساهل أمريكا أو سلبيتها. وبعبارة أخرى، فلو كانت أمريكا قد أظهرت مزيدا من الحزم في إيران (وكلنا نفهم ماذا يعنيه «الحزم» في هذه الحالة)، وتمكنت من حماية «أصدقائها» في ذلك البلد ، لما غضب منها أحد. وهكذا فإن الصداقة المفقودة لا تحسب، في الواقع، ضمن خسائر أمريكا، لأنها تعبر عن وجهة نظر أولئك الذين كانوا يتوقعون من أمريكا أن تكون أشد بطشا، وكانوا يتمنون أن تكون قبضتها أكثر إحكاما - أي كانوا يريدون من أمريكا أن تكون أكثر «تأمركا» بالمعنى التقليدي لهذا اللفظ.
هناك، إذن، حركة توسع أمريكية في الشرق الأوسط. ولكنني أود أن أركز حديثي على منطقتنا، ومن هذه الزاوية أستطيع أن أقول إن آمال أمريكا في المنطقة قد انتعشت إلى أبعد حد في السنوات الأخيرة، إن لم يكن بسبب انتصاراتها الذاتية فعلى الأقل بسبب هزيمة القوى المناوئة لها.
ولكن الأهم من ذلك أن هناك مدا أمريكيا داخل عقولنا ونفوسنا: فالنموذج الأمريكي يفرض نفسه علينا بقوة متزايدة، والأسلوب الأمريكي في الحياة، الذي قد يرفضه الكثيرون في العلن، يقابل في السر بإعجاب متزايد، والقوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والإعلامية تبهر أعدادا متزايدة من العرب، بل إن أجهزة الإعلام في أكبر دولة عربية، وهي مصر، أصبح يسيطر عليها أشخاص لا هدف لهم سوى تجميل صورة أمريكا وعرضها بأزهى الألوان، ولن أكون مبالغا إذا قلت إن هذه الأجهزة قد نجحت بالفعل في إقناع الكثيرين بروعة هذه الصورة. ووصل هذا الاقتناع إلى حد الاقتناع السائد على أعلى المستويات بأن محاكاة النموذج الأمريكي يمكن أن يحل جميع مشكلات بلد كمصر ويدفعها بخطوات سريعة إلى الأمام ما دام هذا النموذج قد جعل من أمريكا ذاتها أعظم وأقوى دول العالم في مائتي سنة فقط.
لقد أصبحت «الوصفة» غاية في البساطة: أمريكا بنت نفسها في قرنين من الزمان، فأصبحت أعظم بلاد العالم. إذن فاتباعنا للنموذج الأمريكي سيجعلنا بدورنا عظماء متقدمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة.
هذه هي العقيدة الجديدة التي لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء، بل تتسرب بشتى الوسائل إلى عقول الناس العاديين. ولو تأملنا المحيطين بنا من الناس، لوجدنا نسبة كبيرة منهم تؤمن، داخليا على الأقل، بفاعلية هذه «الوصفة» وتقف مشدوهة أمام عظمة النموذج الأمريكي، وتتمنى في قرارة نفسها لو استطعنا أن نحاكيه في مجتمعاتنا.
هذا المد الأمريكي الزاحف، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، وعلى المستوى الفردي في عقول الناس ونفوسهم، هو الذي أقنعني بضرورة الكتابة من أجل تحليل النموذج الأمريكي تحليلا موضوعيا، وإيضاح أبعاده للإنسان العربي حتى يتخذ موقفه من هذه المسألة الحيوية بوعي وتبصر، دون أن ينجرف في تيار الدعاية أو يغرق في خضم التضليلات. •••
وليعذرني القارئ إذا بدأت هذا التحليل بتقديم نفسي من الزاوية المطروحة في صفحات هذا الكتاب، أعني من حيث علاقتي الشخصية بأمريكا. فكاتب هذه السطور قضى في الولايات المتحدة خمس سنوات من أخصب فترات حياته، وفيها أنجب اثنين من أبنائه الثلاثة، وألف اثنين من أعز كتبه إليه. وفي أمريكا يعيش شقيق له مهاجر حصل على جنسيتها، وما زالت علاقاته الشخصية بكثير من الأصدقاء الأمريكيين تحمل كل سمات الود والوفاء. وليس في تاريخ كاتب هذه السطور أي انتماء إلى أية هيئة أو حزب معاد بطبيعته، وبحكم أيديولوجيته، لأمريكا.
هذا التقديم الشخصي بدا لي ضروريا حتى يدرك القارئ الروح التي أكتب بها هذا التحليل. ذلك لأن من السهل الاعتراض على شهادة من يحكم على أمريكا من منطلق عدائي، ومن يرفض أيديولوجيتها رفضا مبدئيا دون أن يعايشها أو ينغمس في دروب حياتها. لكني أردت أن أطمئن القارئ، منذ البداية، إلى أني لن أتخذ وجهة نظر معادية بلا تفاهم، وإلى أنني عرفت أمريكا عن قرب، ومن حقي أن أدلي عنها بشهادتي في هذه الأيام التي يطرح فيها النموذج الأمريكي نفسه علينا بقوة والحاح.
من طبيعة أمريكا أنها بلد يدعو إلى الانبهار. إنها بلد جمع في داخله أكبر كمية من «أفعل التفضيل»: فهي أقوى، وأغنى، وأحدث من كل بلاد العالم. كل شيء فيها أضخم، وأسبق، وأعظم مما تجده في أي بلد آخر. إنها البلد الذي وصلت فيه سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخيرها لخدمته، وتأكيد سيادة العقل البشري على العالم المادي وقدرته على تشكيله وفقا لغاياته، إلى حد يفوق ما كان يحلم به الفلاسفة والأدباء وأصحاب «المدن الفاضلة» على مر التاريخ. هذه حقيقة لا يقدر على إنكارها من عالمنا المعاصر أحد.
ولكن القضية التي أود أن أدافع عنها، في هذه الدراسة هي:
أولا:
أن النموذج الأمريكي فريد في نوعه، حدث مرة واحدة ولا يقبل التكرار.
ثانيا:
أن هذا النموذج الأمريكي، الذي يدعو حقا إلى الانبهار، مليء بالعيوب الذاتية.
ثالثا:
أن هذا النموذج لا يصلح لأي بلد في العالم الثالث، ولا لأي بلد في العالم العربي بوجه خاص.
قلت من قبل إن المد الأمريكي يزحف، لا إلى سياستنا واقتصادنا فحسب، بل إلى عقولنا أيضا. قد نحمل على أمريكا حين ينكشف دورها في مساندة إسرائيل بصورة مفضوحة، ولكن في عقول الكثيرين منا إعجابا صامتا بها، مقرونا بالرهبة والانبهار.
وفي اعتقادي أن الإعجاب المفرط بأمريكا يظهر، في عالمنا العربي (وربما في جميع بلاد العالم الثالث) بين الفئات الآتية: (1)
هناك أولا أصحاب المصالح المباشرة. ولا أعني بذلك فقط أولئك الذين ترتبط مكاسبهم الاقتصادية بأمريكا، كأصحاب التوكيلات والشركات المتعاملة مع أمريكا، بل أعني أيضا أولئك الذين يؤمنون بأن أعمالهم، حتى ولو لم تكن ترتبط مباشرة بأمريكا، لا تزدهر إلا في جو يسوده الود والوئام مع هذا البلد.
فهؤلاء يعتقدون أن ارتباط بلادهم بأمريكا يهيئ لهم أفضل مناخ يستطيعون فيه أن يمارسوا نشاطهم الاقتصادي - الذي هو عادة نشاط حر ذو طبيعة رأسمالية - وهم آمنون على مصالحهم وكثيرا ما تجد هؤلاء يبررون مواقفهم بشتى التبريرات التي قد تغلف بقشرة معنوية أو أخلاقية أو حتى دينية، ولكن من وراء هذا كله توجد المصالح المباشرة.
هذه الفئة تتخذ موقفا صريحا، واضحا، لا يستطيع أحد أن يلومها عليه، ما دام ينسجم مع أهداف الحياة التي اختارتها لنفسها. (2)
أما الفئة الثانية فينتمي إليها أشخاص يتسمون بانحراف الوعي الاجتماعي والأخلاقي، فتغطي مشاعرهم ورغباتهم الأنانية على تقييمهم للنمط الأمريكي في الحياة. هؤلاء قد لا يكونون أصحاب مصالح مباشرة مع الأمريكيين، كالفئة السابقة، ولكنهم ينظرون إلى أمريكا على أنها مرادفة للترف، والمتعة الاستهلاكية، والمستوى المعيشي المرتفع، والسيارات الفارهة ، والأجهزة الإلكترونية الراقية. ومعظم أفراد هذه الفئة من المهنيين، ولكننا قد نجد بينهم عمالا فنيين، أو حتى مجموعات تنتمي إلى فئات أدنى. هؤلاء جميعا تتجه أمانيهم وتطلعاتهم إلى تحقيق النموذج الأمريكي في حياتهم الخاصة، وينفرون من أي نموذج آخر باعتباره مرادفا للتقشف والاقتصار على الضروريات والحرمان من متع «الحياة اللذيذة».
وتتسم هذه الفئة بأنها لا تطرح على نفسها أسئلة من نوع: هل هذا الرخاء الاستهلاكي الذي قد يجلبه النموذج الأمريكي لهم، يمكن أن يصل إلى الجميع، حتى الفقراء من الناس؟ ألن يغدو الفقراء أشد فقرا، ويزداد حرمانهم بقدر ما يزداد استمتاع الفئة المميزة في المجتمع؟ هل ينجح النمط الأمريكي في الحياة، حين يطبق على بلد متخلف أو محدود الموارد، في حل مشكلات فئات المجتمع كلها، أم أنه يرضي فئة محدودة إلى أقصى حد، على حساب أوسع فئات المجتمع؟ هذه أسئلة لا تطرحها الفئة التي نتحدث عنها من المعجبين بالنمط الأمريكي. وليس معنى عدم طرحها لهذه الأسئلة أنها دائما غير واعية بها، بل إنني أعرف - من تجربتي الشخصية - حالات كثيرة لأشخاص لديهم إدراك كامل للتمييز الصارخ الذي يجلبه الأخذ بالنموذج الأمريكي، ومع ذلك فإنهم يتعلقون به أشد التعلق لأنهم، ببساطة، لا يكترثون بمصير الفئات الأخرى ولا يضيرهم على الإطلاق أن ينعموا على حساب غيرهم. إن لسان حال كل منهم يقول: ما دامت مشكلتي الشخصية قد حلت، ففيم يهمني الآخرون؟ (3)
وتأتي بعد ذلك فئة أولئك الذين ارتبطت حياتهم، في وقت ما بأمريكا، أعنى أولئك الذين تلقوا العلم فيها، أو قاموا بزيارات لها، وهؤلاء تعود نسبة كبيرة منهم إلى بلادها وقد انطبعت بالطابع الأمريكي في تعاملها مع الناس، وأخذت تستخدم التعبيرات الأمريكية في لغتها والحركات الأمريكية في سلوكها، بل إن أعدادا منهم تعود حاملة معها تحيزات الأمريكيين المريضة ذاتها. فقد عرفت من العرب المقيمين في أمريكا أناسا كانوا يغيرون المبنى الذي يقيمون فيه لو سكنه زنجي، حتى لو كان ذا مركز اجتماعي محترم، وكان عدد منهم يردد نفس الحجج التي يرددها غلاة المتعصبين الأمريكيين عن «الملونين».
ولحسن الحظ أن بلادنا تضم عددا غير قليل من خريجي الجامعات والمعاهد الأمريكية، ممن لا يكتفون بالمشاهدات السطحية ولا ينجرفون وراء التحيزات الضيقة، وإنما تنفذ بصيرتهم إلى ما وراء المظهر السطحي البراق، ومن ثم فإنهم يحتفظون بموضوعيتهم طوال إقامتهم وبعد عودتهم. والعامل الذي يحدد الفارق بين هؤلاء وأولئك هو مدى الوعي الذي يكون الدارس في أمريكا أو الزائر لها مسلحا به. ومن هنا كنا نجد نسبة كبيرة ممن دخلوا أمريكا في مقتبل أعمارهم، بغير وعي سياسي واجتماعي متماسك، يجرفهم التيار في طياته، ويعودون إلينا بمظهر أمريكي وعادات وحركات وإيماءات أمريكية، ويحملون معهم، قبل هذا وذاك، إعجابا غير مشروط، متغلغلا في أعمق تلافيف أمخاخهم، بالنموذج الأمريكي في جميع المجالات. (4)
أما الفئة الأخيرة فهم أولئك الذين يتأثرون بالصورة الإعلامية البراقة للحياة الأمريكية. ففي «الثقافة العالمية» التي تولدت عن الثورة المعاصرة في وسائل الإعلام، تحتل نواتج الإعلام الأمريكي موقع الصدارة. وهكذا تصدر أمريكا إلى بلاد العالم - وبخاصة العالم الثالث - أفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية وأسطواناتها ورقصاتها وأزياءها. وفي هذه النواتج الإعلامية والثقافية تندس - بطريقة قد لا تكون مقصودة أحيانا، ولكنني أرجح أنها مقصودة في أغلب الأحيان - صورة براقة للحياة الأمريكية، تمر في الفيلم أو الحلقة التلفزيونية مرورا عابرا، ولكنها تؤثر تأثيرا بالغا - على المستوى الشعوري واللاشعوري - في المشاهدين، ولا سيما إذا كان الطابع الغالب على حياتهم هو الحرمان. وبمضي الوقت تترسب في أذهانهم صورة أمريكا الضخمة، الفخمة، المترفة، القادرة على كل شيء، والتي لا يقف في وجهها شيء، ويكون لهذه الصورة حتما تأثيرها في وعيهم الاجتماعي واختياراتهم السياسية.
هذه الفئة الأخيرة، الخاضعة للتضليل الإعلامي المنهجي المدروس، تؤلف الشطر الأكبر من أنصار أمريكا في بلادنا، ولكنها فئة يستطيع المرء أن يتفاهم معها دون أن يخشى من أن تطغى عليها مصالحها أو أنانيتها أو تحيزاتها. ومن ثم فإن حديثي موجه أساسا إلى أفراد هذه الفئة، وإن كنت آمل بطبيعة الحال أن يمعن النظر فيه بعض أفراد الفئات الأخرى على الأقل. ففي اعتقادي أن عرض الصورة كاملة، ومن كافة جوانبها، يمكن أن يفتح أمام الكثيرين أبوابا للتفكير ولمراجعة آرائهم السابقة. وهذا أقصى ما آمل فيه: أن يعيد المعجبون المفتونون بالنمط الأمريكي النظر في أفكارهم، وأن يراجعوا موقفهم في إطار ما سيقدم إليهم من حقائق آمل أن تكون موضوعية بقدر ما أستطيع، حتى يتبينوا بأنفسهم، في النهاية، إن كان هذا النمط هو الذي يصلح لمجتمعاتنا، أم أنه سيكون عائقا في وجه تقدمنا، فيما لو أصبح هو السائد بيننا؟
الفصل الثاني
أمريكا ظاهرة فريدة لن تتكرر
إلى المؤمنين بمنطق أن «أمريكا بنت نفسها حتى أصبحت الدولة العظمى في مائتي عام، فلنفتح لها أبوابنا حتى نضمن لأنفسنا تقدما مماثلا»، إلى هؤلاء أقول إن الظاهرة الأمريكية فريدة غير قابلة للتكرار، وأنها حدثت نتيجة لتضافر عدد من الظروف التي يستحيل أن تتجمع مرة أخرى في مكان آخر أو في زمان مختلف.
هذه الظروف التي لا تقبل التكرار، والتي جعلت من أمريكا «الدولة الأعظم» في العصر الحديث، هي:
أولا:
أمريكا قارة تنتمي إلى العالم الجديد. وهذه في ذاتها حقيقة أساسية تحكمت في تحديد مركز أمريكا وسط دول العالم منذ البداية: فالعالم القديم كان قد استهلك منذ ألوف السنين، ونضبت موارده عبر الحضارات التي تعاقبت عليه. أما أمريكا فكانت أرضا بكرا اكتشفت منذ أقل من خمسة قرون، ولم يبدأ استغلالها الحقيقي إلا منذ ثلاثة قرون، وربما اثنين. وهي لم تكن أرضا بكرا فحسب، بل كانت قارة كاملة غنية بالموارد الطبيعية إلى حد مذهل، تجاورها قارة أخرى كاملة تكون «ساحتها الخلفية» وتخضع لاستغلالها خضوعا مباشرا. وفي هذا الصدد نستطيع تشبيه أمريكا بكنز هائل ظل مخفيا ألوف السنين، ينتظر صاحب الحظ السعيد الذي يعثر عليه، ولم يكتشف إلا بعد أن كانت الكنوز المعروفة قد شبعت استهلاكا.
ولقد كان الوقت الذي اكتشف فيه هذا الكنز الجبار وقتا فريدا بدوره، أعني عصر النهضة الأوروبية ومطلع العصر الحديث؛ ذلك العصر الذي بدأت فيه أوروبا تتطلع إلى السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم والتكنولوجيا، والذي نادى فيه مفكروها وفلاسفتها الكبار بأن يصبح البشر «سادة الطبيعة وملاكها». وأن يكون العلم للسيطرة، «لا للمعرفة فحسب». في لحظة الطموح الفريدة هذه، وفي العصر الذي خرج فيه الأوروبيون من ظلام العصور الوسطى الطويل وتفتحت أمامهم آمال وتطلعات هائلة، وفي الفترة التي تخلص فيها الإنسان من عبودية الإقطاع، وانتقل إلى التحرر والطموح الرأسمالي وأتاحت له علومه الجديدة ومراجعته الجذرية لتنظيماته الاجتماعية إمكانات للتقدم بغير حدود، في هذه اللحظة بالذات، اكتشفت أمريكا.
وهكذا تضافرت عوامل فريدة في خلق الظاهرة الأمريكية: أرض مليئة بالخيرات التي لم تكد تمس، يهبط عليها فجأة مجموعة من البشر المنتمين إلى حضارة بلغت أوج نهوضها وتفاؤلها، ويحملون معهم كل خبرات العالم القديم وتراثه العلمي والفكري، وطموح الإنسان الحديث إلى السيطرة على الطبيعة وتشكيل حياة جديدة لنفسه. وإذا كانت التقاليد الأوروبية قد وقفت عائقا، إلى حد ما، في وجه هذا الطموح، فها هي ذي أرض جديدة لا حدود لاتساعها وإمكاناتها، تفتح أبوابها على مصراعيها أمام الإنسان الأوروبي وهي تبدو أمامه بلا تاريخ، ولا صاحب.
ثانيا:
ولكن هل كانت هذه الأرض حقا بلا تاريخ، وبلا صاحب؟ من الحقائق التي يعرفها الجميع أن هذه الأرض كان يسكنها شعب مسالم، أدت به عزلته النائية وعدم اختلاطه بالحضارات الأخرى إلى التخلف عن بقية العالم في ميادين متعددة، ولكنه كان صاحب حضارة مزدهرة في مناطق معينة على الأقل: في المكسيك، وأمريكا الوسطى، وأجزاء من أمريكا الجنوبية، وخاصة بيرو.
غير أن نقطة الضعف الكبرى في هذا الشعب كانت أدوات الحرب: فقد طور الغرب الأوروبي أسلحته قبل الفترة التي غزا فيها الأرض الأمريكية، إلى مستوى كان يتيح له بسهولة إبادة شعب لا يستخدم سوى أسلحة الصيد البسيطة. وكان هذا التفوق في التسلح، أي في صناعة القتل، هو العامل الأول لانتصار المستعمرين الأوروبيين على أصحاب الأرض الأصليين، ومن المؤكد أن أمريكا ظلت دائما تدرك بوعي تام أهمية التفوق في التسلح، بدليل أنها ما زالت تفوق سائر بلاد العالم في هذا الميدان الرهيب، وما زالت صاحبة «الفضل» الأول في «تحسين» أدوات الفتك والإبادة، وفي تطوير أنواع وأجيال جديدة من الأسلحة، وإرغام العالم على مجاراتها في هذا الميدان اللاإنساني العقيم.
ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى الأساليب البشعة التي استخدمت في هذا التصادم بين حضارة طموح تستهدف التوسع بأحدث وسائل الدمار المعروفة عندئذ، وبين حضارة مسالمة معزولة لم تكن تعمل أي حساب لليوم الذي سيهبط عليها فيه هؤلاء الغرباء المتفوقون، بل لم تكن تتصور أنهم موجودون أصلا. ذلك لأن أفلام الهنود الحمر، على ما فيها من تشويه وقلب للحقائق، كفيلة بإلقاء الضوء على عملية الإبادة الجماعية التي كان المستعمرون يمارسونها ضد كل من يقف في وجه توسعهم وامتداد نفوذهم - تلك الإبادة التي ما زالت تؤرق ضمائر كثير من المؤرخين الأمريكيين المنصفين حتى اليوم.
لقد كان الهنود الحمر شعبا أبيا، لا يقبل الذل، فقاوم بقدر ما يستطيع، وكانت نتيجة ذلك أن استأصله الأمريكيون من جذوره، ولم تبق منه إلا مجموعات قليلة تعيش في مستوطنات مقفلة معزولة تستغل في الأغلب لأغراض تجارية بوصفها متحفا بشريا حيا.
ولكني أود، قبل أن أترك هذا الموضوع أن أطرح على قارئي العربي سؤالا: ألم تستنتج من هذا الوصف لموقف الأمريكيين من الهنود الحمر شيئا؟ ألا يذكرنا ذلك، إلى حد بعيد، بموقف الصهيونية من فلسطين؟ لقد كانت أمريكا بدورها، في نظر المستوطنين الأوروبيين الجدد، أرضا بلا شعب، وكان الوافدون من جميع أرجاء أوروبا، الذين ضاقت بهم قارتهم القديمة أو ضاقوا بها، والذين كان منهم تجار مغامرون ورجال دين متزمتون وأفاقون وأرباب سجون ومجرمون هاربون؛ كان هؤلاء يعدون أنفسهم شعبا بلا أرض.
كان كل شيء في الأرض الجديدة ممهدا أمام طموحهم وأهدافهم التوسعية، ولم تكن تعترضهم سوى عقبة «صغيرة» هي أن في هذه الأرض سكانا ظلوا يعيشون فيها منذ ألوف السنين. إذن فلنتخلص منهم بسرعة، ولنحاول بعد ذلك أن نسدل ستارا من الصمت والنسيان على تلك الحقيقة «الصغيرة» المزعجة، لا سيما وأن إنجازاتنا اللاحقة كفيلة بأن تبرر في نظرنا، وفي نظر العالم، ما حدث في تلك المرحلة الأولى، المظلمة، من تاريخنا.
لقد أردت أن أجري هذه المقارنة حتى لا يشعر القارئ بالدهشة حين يجد أمريكا تؤيد إسرائيل إلى هذا الحد الذي يبدو أحيانا غير مفهوم. فإلى جانب المصالح المشتركة والسياسة الرسمية، هناك شيء في نفس المواطن الأمريكي يجعله متعاطفا مع الحجج الصهيونية؛ إذ يرى فيها ترديدا لنفس الحجج التي قامت عليها بلاده، والتي كان يستخدمها أجداده في إبادة الهنود الحمر. فهناك عنصر مشترك قوي بين التكوين العقلي والنفسي للإنسان الأمريكي والإنسان الصهيوني: هو الإيمان بأن الأرض ينبغي أن تنتمي إلى من يعرف كيف يستغلها إلى أقصى حد، أما صاحبها الأصلي فليذهب إلى الجحيم، وهو أيضا الالتجاء إلى القوة الغاشمة في سبيل إقرار حق الاستغلال، واستخدام التبريرات المعنوية في وقت لاحق، بعد أن تكون القوة المباشرة قد فرضت أمرا واقعا، وهو الاعتقاد بأن ما ينتمي إلى حضارة أكثر تقدما، بالمعنى المادي البحت للكلمة، من حقه أن يعيش على حساب المتخلفين أو حتى فوق جثثهم. صحيح أن الفرق بين الصهيوني والفلسطيني من حيث القدرة على استغلال الأرض، ومن حيث التقدم الحضاري بوجه عام، لا يقارن بالفرق بين الأمريكي المستوطن والهندي الأحمر، بل إن التمييز - في الحالة الأولى - يمكن ألا يكون قائما على أي أساس، ولكن ليس هذا هو لب الموضوع، وإنما المهم هو أن الحجج التي تقدمها الأيديولوجية الصهيونية إلى العالم، والتي تجد صدى خاصا في نفوس الأمريكيين، ترتكز على فكرة التفوق الحضاري والقدرة على الانتفاع من موارد الأرض، إلى أقصى حد، وعلى الإقلال من شأن «السكان الأصليين» والدعوة إلى نسيان وجودهم.
أليس من المعقول، والحال هذه، أن تكون الصهيونية قادرة على الضرب على وتر حساس لدى المواطن الأمريكي العادي، وأن يكون «الضمير الأمريكي» على أتم استعداد للتوافق مع العقلية الصهيونية؟ أيستطيع الأمريكي العادي أن يقول للصهاينة: «ولكن الأرض ليست أرضكم، بل كان فيها شعب يمتلكها من عشرات القرون»؟ أيستطيع أن يقول ذلك دون أن يكون قد أدان نفسه في الوقت ذاته؟
ثالثا:
ولأنتقل - بعد هذا الاستطراد، الذي هو مع ذلك ضروري بالنسبة إلى هدف بحثنا هذا - إلى العامل الثالث الذي أتاح لأمريكا أن تبلغ ما بلغته، والذي يجعل من أمريكا ظاهرة فريدة غير قابلة للتكرار. هذا العامل هو نظام الرق، الذي تفشى في أمريكا على أوسع نطاق في نفس الفترة التي كان فيها المستوطنون يبنون مجتمعهم الجديد، والذي أسهم بنصيب هائل في إثراء هذا المجتمع.
ولست في حاجة إلى أن أذكر القارئ ببشاعة الأساليب التي كان يلجأ إليها تجار الرقيق لجلب آدميين مسالمين من مواطنهم الأصلية في أفريقيا لكي يعاملوا معاملة أسوأ من معاملة الحيوانات في البلد الجديد، في نفس الوقت الذي كان فيه هذا البلد يقدم إلى العالم «وثيقة حقوق الإنسان» - الأبيض بالطبع - ذلك لأن القصة أصبحت الآن معروفة، في أغلب بلدان العالم العربي، بفضل عمل من أروع الأعمال الفنية التثقيفية الهادفة، وهو مسلسل «الجذور» التلفزيوني.
ولكن الذي يهمنا في هذا السياق هو أن نشير إلى أن استغلال عمل ملايين العبيد الأشداء، طوال أجيال كثيرة، بلا أي مقابل، كان لابد أن يسهم بدور عظيم الأهمية في تحقيق نهوض اقتصادي سريع في هذا البلد. لقد كان الجنوب الزراعي كله، والشمال إلى حد ما في البداية، يعتمد على قوة عمل العبيد المجانية، فإذا ما تساءل شخص: كيف أحرز النظام الرأسمالي هذا النجاح السريع في أمريكا؟ كان من الواجب أن نرد عليه بما قاله أحد المفكرين الأمريكيين المستنيرين وهو يتحدث عن أثر استغلال عمل الزنوج في الاقتصاد الأمريكي: إذا كان لديك تاجران متنافسان، يعمل لدى أحدهما عمال لا يتقاضون أجرا طوال حياتهم، على حين أن الآخر يدفع لعماله أجورهم بانتظام، فأيهما تكون فرصته أكبر في الربح وفي توسيع أعماله؟
رابعا:
كان موقع أمريكا المنعزل، الذي يفصله عن بقية العالم محيطان شاسعان، من أكبر عوامل تقدمها. ذلك لأن الحروب المتوالية قد مزقت سائر البلدان المتقدمة أو المؤهلة للتقدم في أوروبا وآسيا، على حين أنها تركت أمريكا سليمة لم تمس. وعلى كل من يقارن بين المستوى الأمريكي المرتفع وبين بقية دول العالم أن يسأل نفسه: ماذا لو كانت أمريكا قد ألقيت عليها قنابل ذرية كاليابان، أو استنفدت مواردها المادية والبشرية في حروب القرن التاسع عشر وفي الحربين العالميتين الرهيبتين في القرن العشرين كألمانيا وإنجلترا وفرنسا؟ ماذا لو كانت أخصب أراضيها قد أحرقت، وأعظم مدنها قد دمرت، وثلاثون مليونا من سكانها قد قتلوا، كما حدث للاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية وحدها؟
طوال تلك الحروب كانت أمريكا آمنة من كل ضرر: فلم تسقط على أرضها قنبلة واحدة، ولم يهدم فيها بيت واحد (إذا استثنينا حربا واحدة في أواسط القرن الماضي، وتلك كانت حربا أهلية بين الشمال والجنوب الأمريكيين)، ولم تجد ما يدعوها حتى إلى إطفاء الأنوار، على سبيل التحوط، طوال الحرب العالمية الثانية.
بل إن أمريكا لم تسلم من أضرار الحروب فحسب، وإنما كانت الحروب بالنسبة إليها مصدرا هائلا للربح، وقوة دافعة ضخمة لاقتصادها. ففي الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يقتتلون بضراوة، كانت كل معركة جديدة، وكل دماء جديدة تسيل، تعني مزيدا من الربح لمصانع الأسلحة الأمريكية، ووراء مصانع الأسلحة تأتي مئات الصناعات المساعدة والمساندة، وتعني مزيدا من فرص العمل للعمال ومزيدا من التوسع والازدهار لأصحاب الأعمال. وأقرب مثل إلينا ذلك الاختلال الذي طرأ على بنية الاقتصاد الأمريكي كله بعد انتهاء حرب فيتنام - وهي حرب محدودة، بالقياس إلى الحروب العالمية.
وهكذا لم يكن موقع أمريكا البعيد، المنعزل، مصدر تأمين لها من ويلات الحرب فحسب، بل أتاح لها أن تحول الحروب التي تدمر الآخرين إلى رصيد إيجابي يزيد من قوتها ويضاعف ثراءها.
ما الذي نستدل عليه من هذا كله؟ لقد كانت القضية التي نود إثباتها، في هذا الجزء، هي أن أمريكا ظاهرة فريدة لا تتكرر، وأن مجموعة العوامل التي تضافرت لكي تجعل أمريكا أقوى وأغنى دولة في العالم كانت بالفعل عوامل لم يتح مثلها لأي بلد آخر. ومن هنا فإن المقارنة بين أمريكا وبين أي بلد آخر، إذا كانت تأتي دائما لصالح الأولى، فإن ذلك يرجع أساسا إلى أن الظروف خدمت أمريكا على نحو يستحيل تحققه في أية حالة أخرى.
ونحن لا نعني بذلك أن الشعب الأمريكي قد وجد نفسه محظوظا بفعل مجموعة من المصادفات التاريخية الفريدة التي قدمت إليه القوة والثروة على طبق من ذهب. فمن المؤكد أن هذا الشعب قد بذل جهودا جبارة من أجل استثمار موارده. ولكن كانت هناك أيضا شعوب أخرى تبذل جهودا شاقة، دون أن تجني مقابلها ثمارا معادلة؛ لأن مجموعة الظروف التي تحيط بها غير مواتية، ولأن الموارد التي تستغلها محدودة أو شحيحة، أما في حالة أمريكا فإن كل جهد يبذل كان كفيلا بتحقيق أعظم النتائج، لأن كل شيء كان متوافرا.
وتترتب على هذه القضية نتيجة في غاية الأهمية: هي أن أمريكا لا تصلح أصلا لكي تكون «نموذجا»؛ ذلك لأن من طبيعة الظاهرة الفريدة أن تحدث مرة واحدة، وألا تقبل المحاكاة. بل إنني سأفترض افتراضا خياليا، فأقول إن أمريكا ذاتها لا تستطيع أن تكرر نفسها. فلو فرضنا أن قارة مثل أمريكا قد اكتشفت في مكان ما من العالم، في الظروف الراهنة، فإن من المستحيل أن يظهر فيها من جديد أقوى وأغنى مجتمع في العالم؛ لأن ظروف العالم الحالية لن تسمح لمستوطني هذه القارة بإبادة شعبها الأصلي بسهولة، ولن تسمح لهم بجلب ملايين العبيد واستغلال قوة عملهم بلا مقابل، لأن وجود نظم اقتصادية وسياسية منافسة لن تتيح لهم حرية الحركة والتوسع والامتداد التي كانت متوافرة لهم في القرنين الأولين من تاريخهم.
الفصل الثالث
أمريكا من الداخل
إذا كانت أمريكا، كما بينا من الفصل السابق، ظاهرة لا تقبل التكرار، ومن ثم لا تشكل نموذجا يمكن الاقتداء به في مجتمعات أخرى، فإنا نود أن نثبت في هذا الفصل أن الإنسان الأمريكي بدوره نوع فريد من البشر، وأن نمط الحياة التي يعيشها هذا الإنسان لا يصلح أصلا للعالم الثالث، وللإنسان العربي بوجه خاص.
إن الإنسان الأمريكي يتمتع، دون شك، بسعادة من نوع خاص. فهو - على وجه الإجمال - غني، تحيط به أحدث منتجات التكنولوجيا وأكثرها تطورا. وهو يستهلك بمعدل عال جدا، يفوق استهلاك الفرد الواحد فيه استهلاك عشرات الأفراد في البلاد الفقيرة، ويحيط نفسه بمجموعة من «المقتنيات» التي تحسده عليها معظم شعوب العالم.
وهو يشعر بأنه حر، بل إنه ينتمي إلى أكثر المجتمعات البشرية حرية. وبالفعل يعطيه الدستور ضمانات تؤمنه ضد تعسف السلطة، ويمنحه حق التعبير عن نفسه ومحاسبة حكومته دون عائق، ويكفل له اختيار ممثليه دون تدخل سافر، وسحب ثقته ممن يسيئون استغلال سلطتهم حتى لو كانوا في أعلى قمم جهاز الدولة. ويمتد شعور الإنسان الأمريكي بالحرية حتى يصل إلى تفاصيل حياته الشخصية: فلديه حرية كاملة في اختيار نوع التعليم الذي يريد، وليس هناك - نظريا - أية حواجز طبقية تمنع أبناء الشعب من تلقي أرفع أنواع التعليم. وهو حر في اختيار الطبيب الذي يعالجه، وفي استطاعته، لو شاء، أن يتلقى الرعاية الطبية في أعظم دور العلاج وأرقاها. وهو حر في اختيار صاحب العمل الذي يعمل عنده، وفي أن يغيره كما يشاء لو أتيحت له فرصة أفضل، بل إن الابن أو الابنة لهما الحرية في ترك منزل العائلة والبدء في حياة مستقلة، ماديا ومعنويا، منذ اللحظة التي يشعران فيها بالرغبة في الاستقلال، وهكذا.
فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود رقابة حكومية على الصحف ومصادر المعلومات، كان من السهل أن نفهم ذلك الشعور الحاد بالحرية، الذي يتميز به الإنسان الأمريكي، والذي يؤمن بأنه هو السمة الإيجابية الكبرى التي يتفوق بها نمط الحياة الأمريكي على سائر أنماط الحياة المعاصرة.
هذه هي الصورة كما تبدو على السطح، وكما يراها معظم الأمريكيين والمعجبون بنمط الحياة الأمريكي من بين أفراد الشعوب النامية. ولكن وراء هذا السطح أعماقا خفية لا تدركها العين للوهلة الأولى، وإن كان الوعي بها يزداد انتشارا يوما بعد يوم. ونحن إذ نركز حديثنا على ما وراء المظهر الخارجي، لا نهدف إلى تصيد الأخطاء أو اقتناص السلبيات، وإنما نود قبل كل شيء أن نكمل الوجه الآخر للصورة، وذلك في إطار الهدف العام الذي نسعى إليه من هذا البحث، وهو أن يكون الإنسان العربي رأيه عن النموذج الأمريكي بطريقة موضوعية متكاملة. •••
إن الثراء الأمريكي ليس مطلقا. ففي أمريكا فقراء بأعداد لا بأس بها، وفيها عاطلون يشكلون نسبة من الأيدي العاملة قد تصل أحيانا إلى العشر. وقد يرى البعض أن الفقير في أمريكا أحسن حالا، على وجه العموم، من متوسط الحال في معظم البلاد المتخلفة، وهو أمر يمكن أن يكون صحيحا إذا ما نظرنا إليه نظرة إحصائية رقمية، أما إذا تأملناه من منظور إنساني فلن يعود السؤال الرئيسي هو: ما مدى فقر الفقير في المجتمع الأمريكي؟ وإنما لماذا يكون هناك فقراء أصلا، في بلد يتمتع بكل هذا الثراء؟ وبالمثل فإن العاطل يحصل، لمدة معينة، على مبلغ من الضمان الاجتماعي قد يسد احتياجاته الضرورية، ولكن المسألة في هذه الحالة أيضا ليست مقدار هذا المبلغ، وإنما هي: لماذا يكون هناك عاطلون بالملايين، في أوقات الرخاء وفي أوقات الأزمات على حد سواء، وكيف يرضى المجتمع الأمريكي بأن تكون ظاهرة البطالة جزءا لا يتجزأ من بنيانه، ومن نظام حياته؟ ولماذا تظهر البطالة - على مستوى غير قليل - في مجتمع يملك وسائل إنتاج هائلة وإمكانات عظيمة للتوسع؟ وما هو التأثير المعنوي للبطالة في نفس الإنسان، بغض النظر عن تأثيرها المادي في مستوى حياته؟
إن التعليل المعروف لهذه الظاهرة هو أن المجتمع الذي يقوم على الاقتصاد الحر بأوضح صوره، يحتاج إلى وجود نسبة من العاطلين عن العمل كيما يساوم بهم ضد مطالبات العمال المستمرة لرفع أجورهم. وهذا التعليل يفترض، بالطبع، أن العامل الإنساني في الموضوع لا أهمية له، أي أن إحساس العاطل بالإحباط، وعدم الأمان، والانهيار الناتج عن شعوره بأنه سيظل لفترة - لا يدري إلى متى تطول - إنسانا غير منتج في المجتمع، كل ذلك لا يدخل في الحسبان ما دامت مصلحة الأعمال الاقتصادية (البيزنس) تقتضيه.
وهنا نضع أيدينا على نقطة أساسية من النقاط التي تميز مجتمع الثراء والوفرة هذا: هي اللاإنسانية. وأنا لا أعني بذلك أن الإنسان هناك يحارب أو يضطهد في كل الحالات، وإنما أعني ببساطة أن الإنسان «لا يعمل له حساب» - فهو يأتي على الهامش، بالقياس إلى ضرورات الأعمال الصناعية والتجارية. والعلاقات الإنسانية لا تدخل بوصفها عاملا يحسب حسابه عند اتخاذ قرار اقتصادي أو اجتماعي معين. «من المفارقات الساخرة أن العقل الأمريكي هو الذي اخترع علما اسمه العلاقات الإنسانية
Human Relations » وهذا العلم يتعلق بالجانب الإعلامي والإعلاني من الأعمال الاقتصادية، والمتخصصون فيه يبحثون في كيفية التأثير في العمال والعملاء، أي في المنتجين والمستهلكين، وفي كيفية التعامل مع المنافسين أو المشاركين في الإنتاج، كل ذلك بهدف واحد أخير هو زيادة الربح إلى أقصى حد، أي أنه - بصريح العبارة - هو علم «العلاقات اللاإنسانية». وعندما تكون مصلحة الأعمال الاقتصادية (البيزنس) مهددة، فإن العوامل المجردة التي لا تقيم أي وزن لما هو إنساني هي وحدها التي تؤخذ في الاعتبار. إنه شكل من أشكال قانون الغابة، ولكنه منقول من صورته البدائية إلى صورة شديدة التعقيد، تلائم أعلى مراحل العلم والتكنولوجيا وأعقد صور الإنتاج.
هذا الشعور بانعدام الأمان، وإحساس الإنسان، عن وعي أحيانا أو بلا وعي في الغالب، بأن متطلباته النفسية والوجدانية خارجة عن نطاق العمل، ولا يعمل لها حساب في جهاز الإنتاج الجبار، يخلق مناخا عاما من التعامل اللاإنساني بين البشر. ولا أود أن أطيل الحديث في موضوعات أصبحت الآن معروفة: كالقول مثلا إن نسبة الجريمة في المجتمع الأمريكي تعلو على نظيرتها في معظم المجتمعات الأخرى. ولكني أود، في صدد مسألة كهذه، أن أنبه القارئ إلى ظاهرة قد لا يجدها واضحة في التحليلات الشائعة؛ وهي الارتباط الوثيق بين «شكل» الجريمة الأمريكية، والطابع العام للمجتمع. ففي العالم كله ترتكب جرائم، والكثير منها بشع، ولكن الجريمة في أمريكا لصيقة إلى أبعد حد بالمجتمع الأمريكي ذاته: إنها أولا جريمة تكنولوجية على أعلى مستوى، تستخدم فيها أحدث الأساليب والمعدات التي يقف أمامها أعتى اللصوص في مجتمعاتنا «المتخلفة» مشدوهين بلهاء. (من دواعي السخرية أن المسلسلات البوليسية الأمريكية تتباهي بالأساليب التكنولوجية الفائقة في عصريتها، والتي تستخدمها الشرطة الأمريكية في القبض على المجرمين: من طائرات هليكوبتر وزوارق هائلة السرعة وأجهزة لاسلكية خفيفة وأدوات تحليل بارعة وعقول إلكترونية تختزن المعلومات وتعيد تقديمها في ثوان، ومع ذلك فإن صانعي هذه المسلسلات لا يدركون أن الشرطة لا تضطر إلى استخدام هذه الأساليب العصرية المعقدة إلا لأن المجرمين بدورهم يستخدمون أساليب مماثلة، أي لأن المجرمين أعتى وأشد إجراما). وهي ثانيا جريمة لا إنسانية: فنسبة جرائم القتل التي ترتكب بلا سبب، أو لأسباب لا يمكن أن تؤدي إلى القتل في المجتمعات الأخرى، نسبة رهيبة. وهكذا تكون الجريمة صورة مصغرة للمجتمع، في تكنولوجيته الرفيعة المقترنة باللاإنسانية.
أما ظواهر التعصب العنصري، الذي لا تزال آثاره باقية بوضوح، وخاصة في الجنوب الأمريكي، فأمرها معروف. وأما إدمان المخدرات، وتفكك الأسرة وانحلالها وانعدام المشاعر الإنسانية الحميمة فيها، فتلك أيضا ظواهر أصبح الجميع على وعي بها، وأصبح الكتاب الملتزمون في أمريكا نفسها يدقون ناقوس الخطر بشأنها بلا انقطاع. ولكن الشيء الذي أود أن أوجه إليه نظر القارئ العربي بالذات هو الطابع «العبثي» لهذه الظواهر في المجتمع الأمريكي: فالفنون الأمريكية تقدم إلينا كل يوم أعمالا تعرض فيها صراعات بين الأب والابن مثلا، ولكن المرء حين يتأملها جيدا لا يرى «مشكلة» على الإطلاق، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله الصراع في مجتمع شرق مثلا، لأمكن حله بسهولة تامة، دون أن يصاب أحد بعقدة مستعصية. وحين يتأمل المرء ظاهرة إدمان صغار المراهقين للمخدرات، وارتكابهم شتى أنواع الجرائم أو الرذائل في سبيل «حقنة» من المخدر، يشعر بأن المجتمع الذي يسيطر على مادة الطبيعة على أكمل وجه، قد وقف عاجزا تماما عن السيطرة على الإنسان، وأن الدقة الكاملة التي يتسم بها الإنتاج المادي يقابلها تسيب كامل واختلال أساسي في السلوك البشري.
ولكن، ماذا نقول عن الإحساس بالحرية، الذي يعده الأمريكي مفخرته الكبرى، والذي وصل إلى حد إطلاق اسم «العالم الحر» على الاتجاه الأيديولوجي الذي تتزعمه أمريكا؟ •••
إن في بعض الضمانات الفردية التي يمنحها الدستور الأمريكي للمواطن، وفي الإحساس بوجود «قانون»، لا بد من احترامه - قانون يسري على الجميع، ولا يستثنى منه أحد - في هذا نموذج يمكن أن يتعلم منه الإنسان العربي، والحكومات العربية، الكثير . لكن مع تسجيلي لإعجابي الخاص بهذا الجانب من «الحرية» الأمريكية، فلا بد من تنبيه القارئ إلى أن هذا الحكم لا يمكن إطلاقه دون تحفظات هامة. •••
إن القانون هناك يحترم حقا، والدستور لا يخرق، وعندما يحدث انتهاك صارخ تكون العواقب وخيمة، حتى لو كان المنتهك أكبر رأس في البلاد. هذا صحيح بلا شك، ولكن لنسأل أنفسنا: من الذي يضع القانون هناك؟ إن المؤسسات الدستورية قائمة، وهي تمارس عملها بكفاءة تامة في إطار الشرعية السائدة في البلاد. ولكن من الذي يصل إلى السيطرة على هذه المؤسسات؟ وما نوع القوانين التي يتوقع من هؤلاء المسيطرين أن يصدروها؟
في الانتخابات الأمريكية، سواء على مستوى المجلسين المنتخبين (الكونجرس) أو محافظي الولايات أو رئاسة الجمهورية، نجد نموذجا واضحا لطبيعة هذه الحرية الدستورية؛ فكل شيء يتم بحرية كاملة، ولا يمكن أن يحدث تدخل من جانب الحكومة لتزييف إرادة الشعب أو توجيه عملية الانتخاب لصالح مرشح معين. ولكن من المحال أن يكون أي شخص قادرا على ترشيح نفسه على نحو يعطيه أملا في النجاح إلا إذا كان منتميا إلى طبقة الأثرياء، لأن النظام يجعل من المستحيل أن ينجح مرشح، على أي مستوى، ما لم ينفق على الدعاية أموالا طائلة. وليس هناك - خارج مجموعة قليلة من المفكرين الناقدين - من يطرح أسئلة مثل: لماذا تكون قوة الدعاية والإعلان عاملا أساسيا في النجاح؟ ولماذا يعين كل مرشح، حتى على مستوى أعضاء الكونجرس مكتبا كاملا للاتصال والعلاقات العامة والدعاية، مهمته تحسين صورته أمام الناخبين؟ وهل يعد النجاح الذي يتم إحرازه بفضل تدخل عامل كهذا، مقياسا لحرية اختيار حقيقية لدى الناخبين؟ والأهم من ذلك كله: ما نوع القوانين التي سيصدرها مرشح كهذا حين ينجح، وما هي المصالح التي سيدافع عنها في هذه القوانين؟
وتنطبق تساؤلات مماثلة على حرية الصحافة وسائر أجهزة الإعلام؛ فبالرغم من أن الرقابة الحكومية غير موجودة، فإن هذه المرافق مؤسسات تجارية في أغلب الأحيان، تستهدف الربح وتعتمد على إيراد الإعلانات، ومن ثم فإنها لا تستطيع أن تعبر عن سياسة مضادة لمصالح الشركات التي تقدم إليها أموالها اللازمة عن طريق الإعلان، ولو فعلت ذلك لكان أيسر السبل لتأديبها أو لإسكاتها هو حجب الإعلانات عنها.
وتتدخل المصالح التجارية ذاتها في ميادين كالتعليم، حيث تدار أهم الجامعات على أساس تجاري، وتعتمد اعتمادا أساسيا على منح المؤسسات وهباتها، ومن ثم كان لهذه المؤسسات دائما صوت في إدارة سياستها. وإذا كان الشاب «حرا» في اختيار نوع التعليم الذي يريده، فما قيمة هذه الحرية إذا كانت نفقات التعليم باهظة، وما قيمة حريتك في اختيار طبيبك إذا كان المرض ذاته من أكبر المصائب التي يمكن أن تحل على الإنسان، نتيجة لما يتكلفه علاجه من نفقات باهظة، وإذا كان إجراء عملية جراحية كارثة لمن كان دخله محدودا، وإذا كانت نقابة الأطباء الأمريكية - وهي من أكثر الهيئات رجعية في العالم - تقف بكل صلابة، منذ عشرات السنين، معارضة لأي نوع جاد من تأميم الطب، أو حتى أي شكل من أشكال رعاية المجتمع لصحة الفقراء أو المسنين؟
إن الأمثلة لا حصر لها، وكلها تدل على أن «الحرية» موجودة قانونا، ومحترمة شكلا، ولكن كل شيء يتم تحت السطح وبطريقة «قانونية» أيضا، بحيث تفرغ هذه الحرية من مضمونها الحقيقي، وتكون إطارا خارجيا يختلف عن محتواه الداخلي كل الاختلاف. •••
إن تجاهل الاعتبارات الإنسانية عنصر أساسي من عناصر نمط الحياة الأمريكي: فالهدف هو أن تدور عجلة الإنتاج بكفاءة، وأن يزداد الربح وتتوسع الأعمال بلا انقطاع. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا يقام وزن للعوامل الإنسانية، بل ينظر أحيانا إلى الاهتمام بها على أنه سمة مميزة للمجتمعات الأكثر تخلفا؛ لأن الكفاءة الصناعية والإنتاجية ينبغي أن تكون لا شخصية، مجردة.
هذه حقيقة أشار إليها الكثيرون، وإذا أكدناها فلن نكون قد أضفنا جديدا إلى ما كتبه مئات الكتاب عن ضياع الإنسان في المجتمع الصناعي الضخم، وعن طغيان قيم النجاح والتوسع والربح على القيم الإنسانية. ولكن، في هذا الوقت الذي يعرض فيه النموذج الأمريكي على الأمة العربية بقوة وإلحاح بوصفه نموذجا ينبغي أن نأخذ به لكي نعوض تخلفنا، وفي هذا الوقت الذي يتطوع فيه بعضنا للدعاية لهذا النموذج وغرسه في عقولنا بكل قوة، لا بد لنا من أن نشير إلى مفارقة غريبة تنطوي عليها الدعاية الأمريكية التي تهدف إلى «بيع» نموذجها لبلاد العالم الثالث.
ذلك لأن أمريكا تقدم نفسها على أنها حامية القيم المعنوية والروحية والإنسانية، وتكرس جزءا كبيرا من دعايتها لإثبات أن خصومها الأيديولوجيين (المعسكر الاشتراكي) هم الماديون، على حين أنها هي التي تتجاوز المادية وتعلو عليها. ولما كان هدفنا من هذه الدراسة هو إلقاء الضوء على النموذج الأمريكي ذاته، فسوف نترك جانبا ما تقوله أمريكا عن خصومها، ونختبر هذا النموذج من تلك الزاوية بالذات.
إن المفكرين المدافعين عن نمط الحياة الأمريكي يفخرون بأنه يتيح للإنسان كل فرص الربح، ويؤكدون أن دافع الربح أساسي في الإنسان؛ فهو القوة المحركة التي تحفزه إلى المزيد من العمل والتجديد والابتكار. وعلى الرغم من أن هذه القضية قابلة للنقاش على أوسع مدى، وعلى الرغم من أن الإنسانية قد عرفت نظما تنادي بحوافز أخرى للعمل والمجهود غير حافز الربح، كالسعي إلى تحقيق مصلحة المجموع، أو تحقيق الإنسان لإمكاناته الخلاقة وما ينتج عنه من إرضاء معنوي إلخ، فإننا نود أن نتوقف عند نقطة واحدة: هي التناقض الصارخ بين تأكيد دافع الربح، وبين ادعاء حماية المعنويات واتهام الخصوم بالمادية.
إن أمريكا، وفقا لأيديولوجيتها المعلنة صراحة، لا بد أن تكون أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر. وليس هذا اتهاما وإنما هو إقرار لحقيقة بسيطة واضحة. فحين تقول إن حافز الربح هو القوة الدافعة إلى العمل والابتكار، وحين تتهم خصومك بأنهم لا يعطون الإنسان فرصة كافية لكي يربح إلى أقصى مدى تسمح له به إمكاناته، يكون معنى ذلك أن فلسفتك مادية حتى النخاع، وأن تشدقك بحماية المعنويات والروحانيات ليس نفاقا فحسب، بل تناقض صارخ يرفضه أبسط عقل منطقي. إن الإنسان هناك لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع. وقد تكون هذه حقيقة من حقائق الحياة، وقد يكون هذا هو بالفعل أقوى الحوافز التي ثبت، حتى المرحلة الحالية من تاريخ البشر على الأقل، أنها هي التي تحرك الإنسان إلى الإنتاج وبذل الجهد، هذا كله جائز، ولكن ليست هذه هي القضية التي أناقشها، وإنما الذي أود أن أقوله ببساطة هو: إذا كنت من أنصار هذا الرأي فكيف تدعي أنك خصم للمادية، وكيف تنصب نفسك حاميا للمعنويات وحارسا لإنسانية الإنسان؟
هذا التناقض يمثل، في رأيي خدعة من أخطر الخدع الفكرية التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث. وعلينا أن نتنبه بكل وعي إلى هذه المغالطة في الوقت الذي يطرح فيه النموذج الأمريكي على الساحة العربية بقوة وإلحاح؛ ذلك لأن مجتمعاتنا ما زالت حريصة كل الحرص على وجود حد معين من القيم الإنسانية والمعنوية، وما زالت تؤمن بأن ما يحرك الإنسان ليس الماديات وحدها (رغم اعترافنا بأهمية الماديات)، وبأن في الإنسان قوى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء. فإذا تقدمت إليها الدعاية الأمريكية على أنها هي التي ترعى هذا الجانب المعنوي في الإنسان، وإذا ظهر بيننا من يبدي إعجابه غير المحدود بالنموذج الأمريكي، فلنقل له: في استطاعتك أن تعجب بنمط الحياة الأمريكية كما تشاء، ولكن عليك أن تعترف بأنك تسعى، في هذه الحالة، إلى إقامة مجتمع مادي بصورة صريحة مباشرة في صميم كيانه، وعليك في نهاية الأمر أن تتحمل العواقب اللاإنسانية المترتبة على هذا الجري اللاهث وراء المادة، وهذا التجاهل التام للجانب المعنوي في الإنسان.
الفصل الرابع
أمريكا وقضايانا السياسية
منذ الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد، أصبحت أمريكا طرفا في القضايا السياسية التي تقرر مصير الأمة العربية؛ فطوال الفترة التي سبقت تلك الحرب، كانت هناك قوى عظمى أقدم عهدا، مثل بريطانيا وفرنسا تشغل القدر الأكبر من اهتمام العرب، لأنها كانت تمثل الاستعمار التقليدي، أو قوى منافسة له، تمثل شكلا جديدا من أشكال السيطرة يريد بسط نفوذه على العالم بالقوة العسكرية المباشرة، كألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية. وكانت المشاكل التي تعترض الفكر السياسي العربي إزاء هذه القوى الاستعمارية التقليدية واضحة وبسيطة: فالصراع بين الأمة العربية والدول الكبرى كان ينحصر، عندئذ، في السعي إلى الاستقلال الوطني وإخراج المحتل من الأرض. ومن جهة أخرى فإن المعسكر الآخر، المنافس، الموجود في ذلك الحين لم يكن يقدم نفسه إلى العالم العربي على أنه يمثل نظاما متكاملا للحياة والفكر والسياسة الاجتماعية والاقتصادية، أي على أنه صاحب أيديولوجية تسعى إلى الانتشار عن طريق الاقتناع ثم الاعتناق، بل كان أقصى ما يغري الآخرين أو يهددهم به هو أنه مجتمع عسكري قوي يحشد كل طاقاته من أجل الغزو والتوسع والحصول على مزيد من المجال الحيوي.
على أن تغيرا جذريا قد طرأ على هذه الصورة المبسطة المباشرة منذ الحرب العالمية الثانية. فقد دخلت أمريكا إلى المنطقة بكل ثقلها، وكان تحقيق الاستقلال الوطني من الاستعمار التقليدي من أهم العوامل التي ساعدتها على التغلغل السياسي في البلاد العربية، بل إنها في بعض الحالات ساعدت الدول العربية إيجابيا على تحقيق استقلالها الوطني لكي تزيح الدول الاستعمارية القديمة وتفسح لنفسها مجال التغلغل في المنطقة بأشكال جديدة، ولأهداف جديدة. وفي الوقت ذاته لم تعد القوة المنافسة لأمريكا هي النظم الفاشية التي لا تمتلك شيئا تقدم به نفسها إلى العالم سوى قوتها العضلية - إن جاز هذا التعبير - بل أصبحت أيديولوجية متكاملة، قد تتخذ شكلا معتدلا هو الاشتراكية، أو شكلا متطرفا هو الشيوعية، ولكنها في كل الحالات تقدم نفسها إلى المنطقة باعتبارها بديلا جديدا يقدم حلوله الخاصة المتكاملة للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوطنة في مجتمعاتها. وكان على أمريكا، أمام هذا المنافس الجديد، أن تضاعف من جهدها من أجل صد التيار الأيديولوجي المنافس لها من جهة، وإقناع دول المنطقة بتفوق النموذج الأمريكي وصلاحيته للتطبيق في مجتمعاتها، أو على الأقل تخويفها من الخصم الأيديولوجي إلى الحد الذي يدفعها إلى الاحتماء بأمريكا عسكريا وسياسيا.
وهكذا وجدت الدول العربية نفسها، بعد الحرب العالمية الثانية؛ تواجه خيارا جديدا كل الجدة لم تألفه طوال العهود السابقة التي كان العدو فيها محددا بوضوح، وكانت طرق النضال فيها معروفة ومباشرة. فقد أصبح عليها أن تحدد موقفها إزاء معسكرين متضادين، لم يكن أي منهما يحتلها احتلالا عسكريا مباشرا، ولم يكن المنهج الذي يتبعه والهدف الذي يسعى إليه أي منهما معروفا بوضوح لدى جموعها الشعبية حتى أواسط القرن العشرين. وبعبارة أخرى، فقد وجد العرب أنفسهم يواجهون، لأول مرة، مشكلة الأيديولوجيات التي أصبحت هي الطابع المميز لصراعات القوتين العالميتين الرئيسيتين بعد الحرب العالمية الثانية. وكان جزء كبير من الجهود التي تبذلها أمريكا من أجل التغلغل في المنطقة العربية، يتخذ طابع الهجوم الأيديولوجي على المعسكر المضاد، والتبرير الأيديولوجي لأسلوبها الخاص في الحياة.
ولكن، لماذا سعت أمريكا إلى التغلغل في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية؟ السبب الذي يعرفه الجميع، بالطبع، هو البترول، الذي كان قد ظهر بالفعل في البلاد العربية قبل تلك الحرب، ولكن إمكاناته الهائلة في المنطقة العربية، ودوره الحيوي في مستقبل العالم الصناعي، لم تظهر بوضوح إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعبارة أخرى فإن العوامل التي كانت تدفع الدول الاستعمارية التقليدية إلى احتلال أجزاء من الوطن العربي، كالموقع الجغرافي والسيطرة على طرق برية أو بحرية حيوية ... إلخ، لم تعد تحتل المكان الأول في سياسة الدولة الكبرى التي ورثت الاستعمار التقليدي (وإن كانت تلك العوامل قد ظلت تحتفظ بقدر غير قليل من أهميتها)، وإنما حلت محلها الرغبة في السيطرة على موارد مادة حيوية بدونها يتوقف نبض الحياة في مصانع العالم الغربي، ويوجد أهم مخزون عالمي منها في المنطقة العربية.
على أن أمريكا، في سعيها إلى بلوغ هذا الهدف، كانت تحتاج إلى وسيلة تختلف عن الوسائل التقليدية التي كانت تلجأ إليها الدول الاستعمارية السابقة. وسرعان ما اهتدت إلى تلك الوسيلة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، عندما حللت الموقف في المنطقة العربية وظهرت لها الإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها الطموح الصهيوني إلى إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وسرعان ما تبنت قضية الصهيونية، وساعدت بكل قوة إلى إقامة الدولة الإسرائيلية وعلى استمرار وجودها وتوسعها، متخذة من هذه الدولة أهم أداة لها من أجل تحقيق هدفها في السيطرة على المنطقة، وعلى مواردها. •••
وهكذا يتبين لنا، من العرض الموجز السابق، أن بين العرب وأمريكا ثلاث قضايا رئيسية، هي: الاختيار الأيديولوجي، والبترول، وإسرائيل.
وفي اعتقادي أن مناقشة هذه القضايا الثلاث كفيلة بإلقاء الضوء على طبيعة العلاقة بين أمريكا والعرب على المستوى السياسي، ومن ثم فإنها تعيننا على تحديد موقفنا من أمريكا على أسس فكرية أكثر رسوخا. وسوف نناقش هذه القضايا الثلاث بالترتيب الذي أراه منطقيا، فنبدأ بقضية البترول، ثم إسرائيل، وأخيرا الأيديولوجية. (1) قضية البترول
ليس من الصعب أن يستنتج المرء أن قضية البترول هي القضية الأساسية والحاسمة في تحديد موقف أمريكا من العرب، وموقف العرب من أمريكا، طوال الأعوام الثلاثين الماضية. صحيح أن هناك قضايا أخرى هامة تثيرها العلاقة بين هذين الطرفين، ولكن تلك القضايا لا تكتسب أهميتها إلا بقدر تأثيرها - إيجابا أو سلبا - في القضية الرئيسية، وهي البترول.
وربما اعتقد المرء أن هذه القضية لا تؤثر إلا في علاقة أمريكا بعدد من الدول العربية فقط، هي الدول البترولية، ولكن الواقع أن الممارسات السياسية التي تقوم بها أمريكا مع الدول غير البترولية تستهدف بدورها هذه الغاية نفسها؛ فموقف أمريكا من مصر، ومن اليمن الشمالي، على سبيل المثال، يتقرر إلى حد بعيد على أساس مصالحها البترولية، أي أنها حين ترسم سياستها إزاء هذين البلدين غير البتروليين تضع في ذهنها أساسا تأثير هذه السياسة في مصالحها البترولية. وأستطيع أن أقول، بوجه عام، أنه منذ اللحظة التي تبين فيها وجود البترول بكميات هائلة في العالم العربي، سواء من حيث ما يستخرج منه أو ما يختزن في جوف أراضيه، ومنذ اللحظة التي اتضح فيها مدى اعتماد الاقتصاد الغربي كله على هذه المادة الحيوية، تحددت لأمريكا سياسة معينة في المنطقة، وأصبحت هذه السياسة جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية العامة في العالم المعاصر.
والآن، ما هي الأهداف الرئيسية التي تسعى إليها أمريكا في سياستها البترولية إزاء العرب؟ «الهدف الأول هو الربح» وهذا هو الهدف المباشر، والتقليدي، في كل مرة تعثر فيها دولة متقدمة تكنولوجيا وعسكريا على مادة خام ذات أهمية اقتصادية في أراضي دولة أقل منها تقدما. فالشركات الأمريكية تجني أرباحا طائلة من كافة عمليات النقل والتأمين والتكرير والبيع إلخ، هذه قصة معروفة، ولكنها تظل حقيقة ذات تأثير دائم؛ إذ إن الحرص على استمرار الأرباح وزيادتها يشكل عنصرا أساسيا من العناصر التي تأخذه أمريكا في اعتبارها عندما تحدد سياستها إزاء أية دولة عربية، أو أية حركة سياسية أو اجتماعية تظهر في هذه المنطقة من العالم. «والهدف الثاني هو استمرار التدفق» وقد ظهرت أهمية هذا الهدف بالذات بعد الحظر البترولي المؤقت الذي مارسه العرب خلال حرب أكتوبر 1973. ومنذ ذلك الحين أصبحت أمريكا أكثر وعيا بأهمية هذا العامل الذي يمكن أن يشكل أداة ضغط رهيبة يمارسها العرب ضد المصالح الغربية بوجه عام. ومن هنا فقد حرصت على أن تفعل كل ما من شأنه ألا يلجأ العرب إلى استخدام هذا السلاح مرة أخرى، ولم تتردد حتى في اللجوء إلى التهديد باحتلال منابع البترول إذا اقتضى الأمر ذلك. «أما الهدف الثالث في سياسة أمريكا البترولية فهو أن تحول - بكل الطرق الممكنة - دون أن يصبح البترول العربي أداة مضادة للمصالح الأمريكية» مثال ذلك أن البترول لا ينبغي أن يؤدي إلى أن يصبح العرب قوة اقتصادية قائمة بذاتها، تعتمد على نفسها وتنمو بصورة مستقلة عن أطماع الدول الكبرى، وإذن فلا بد من رسم السياسة التي تمنع العرب من انتهاز الفرصة البترولية المتاحة لهم (لفترة زمنية قصيرة بالنسبة إلى عمر الشعوب) من أجل إحداث نهضة حقيقية في بلادهم. والوجه الآخر للعملة، في هذه السياسة، هو عمل كل ما من شأنه تحويل تلك الفرصة البترولية إلى مصدر نفع للغرب بوجه عام، وأمريكا بوجه خاص، بدلا من أن تنفع أصحابها الأصليين.
هذه باختصار، هي أهم الأهداف التي تسعى أمريكا إلى تحقيقها في العالم العربي فيما يتعلق بتلك القضية الجوهرية، قضية البترول. ولما كان الكلام عن هذه الأهداف سيأتي، بشيء من التفصيل، في آخر فصول هذه الدراسة، فإننا سنكتفي الآن بذكر هذه الأهداف دون تعليق عليها، وحسبنا أن نشير إلى مسألتين جوهريتين تتعلقان بالجانب السياسي لقضية البترول:
المسألة الأولى:
هي أن التهديدات الأمريكية بالاحتلال لا تعدو أن تكون عملية تخويف مقصودة. فهي تظهر دائما في مناسبات معينة، وتسرب بطريقة مدروسة، وتخدم أغراضا محددة بعناية ولكن تنفيذ هذه التهديدات، في ظروف العالم الحالية، أمر يصل في صعوبته إلى حد يقرب من الاستحالة. ففي وقت الخطر، ليس أسهل من قيام عمليات تخريب واسعة النطاق تعطل إنتاج الآبار وقدرة الأنابيب على النقل لمدد طويلة، وهو أمر تعرفه أمريكا جيدا، ولا تستطيع منعه لو تطورت الأمور إلى الحد الذي يستدعي حدوثه. ومن جهة أخرى فإن التوازن الدولي الدقيق، وخاصة بعد سياسة الوفاق، يمنع أمريكا من ممارسة هذه السياسة العدوانية في منطقة قريبة كل القرب من حدود خصمها الرئيسي، وهو الاتحاد السوفيتي؛ فقد تجاوز العالم إلى غير رجعة تلك المرحلة التي كانت فيها الدول الكبرى تستخدم السلاح دون رادع من أجل أي بلد تطمع في موارده الاقتصادية، بل أصبحت كل دولة تعمل حسابا لعشرات العوامل قبل أن تقدم على أبسط خطوة عسكرية. ولو كنا في القرن التاسع عشر، لاحتلت أمريكا منابع البترول في غمضة عين دون أن يوقفها أحد، أما في ظروف العالم الراهنة فإن التهور العسكري لم يعد ممكنا. وأوضح دليل على ذلك هو موقف أمريكا من أحداث إيران؛ فلو كانت فكرة الاحتلال المباشر قابلة للتنفيذ لكانت إيران أحق من غيرها بذلك، ولكن التوازنات الدولية الدقيقة شلت حركة أمريكا عن التدخل، وقدمت بذلك إلى الثورة الإيرانية خدمة كبرى.
أما المسألة الثانية:
فهي أن البترول، مثلما أنه هو بيت الداء، فهو أيضا أصل الدواء. لقد كان البترول هو نقطة البداية في الاهتمام الأمريكي المكثف بالمنطقة العربية، منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان بالتالي هو العامل الأساسي الذي يكمن وراء كل التدخلات الأمريكية في المنطقة، وكل السياسات التي تهدف في النهاية إلى أن تضمن دوران بلدان المنطقة في حلقة النفوذ الأمريكي. فإذا شاءت شعوب المنطقة أن تتحرر حقيقة من هذا النفوذ الأمريكي، وأن تسير في طريقها المستقل، فلا بد أن يكون البترول أحد المفاتيح الرئيسية التي تستخدمها من أجل الخروج من سجن التبعية والانقياد.
وحين أقول ذلك، فأنا لا أعني بالضرورة أن تقوم الدول العربية باستفزاز أمريكا، أو الغرب، بتروليا، إلى الحد الذي يدفع أمريكا إلى المغامرة، اعتمادا على العامل الذي أشرنا إليه منذ قليل، وهو أن موازين القوى لا تسمح الآن بالتدخل العسكري السافر؛ فمثل هذا التهور المتطرف ليس من مصلحة أحد. وكل ما أعنيه هو أن العرب يجب أن يقفوا بحزم في وجه أية تدخلات سياسية أمريكية تتم بحجة تأمين الموارد البترولية التي لا يستغني عنها الاقتصاد الغربي.
إنني أذهب إلى حد القول بأن المصالح الأمريكية والغربية، في الميدان البترولي العربي، لا يمكن أن تتعرض لتهديد حقيقي، حتى في أسوأ الظروف (من وجهة النظر الأمريكية)؛ ذلك لأن أي نظام حكم عربي، مهما كان تطرفه، لن يقطع البترول نهائيا عن الغرب. وحتى لو تحقق تأميم كامل، في جميع المراحل، للصناعة البترولية، فلا ينبغي أن يكون هذا ذريعة لتدخل أمريكا بحجة تأمين موارد البترول؛ ذلك لأن التضاد بين التأمين والتأميم هو تضاد زائف، مصطنع، لسبب بسيط هو أن البترول سلعة لا بد أن تباع، ولأن خصوم أمريكا في الكتلة الشرقية لديهم ما يكفيهم وزيادة. فأين يذهب البترول في هذه الحالة، وهل يحتمل أن توقف الدول العربية، مهما كان تطرفها، نموها الداخلي من أجل معاكسة أمريكا؟ هذه كلها افتراضات خيالية، ولكن الشيء الحقيقي هو أن ما يتعرض للخطر في هذه الحالة ليس الإمداد بالبترول، وإنما هو شروط معينة للتعامل في هذه السلعة الحيوية؛ فالخطر الذي تخشاه أمريكا، هو رفض الاستغلال والسيطرة واستمرار الإنتاج بالمعدلات التي تحتاج إليها السوق الغربية، لا وفقا لاحتياجات البلد المنتج من الدخل البترولي. ولو قبلت أمريكا التعامل مع الحكومات المنتجة - مهما كانت درجة تطرفها - بشروط متكافئة، لما أصبح هناك شيء مهدد. ومعنى ذلك، باختصار، هو أن التهديد بالاحتلال يرجع إلى الرغبة في استمرار الاستغلال، لا في تأمين موارد مستمرة من البترول.
وإذن ففي القضية الأولى من القضايا السياسية التي تطرحها علاقة العرب بأمريكا، أعني قضية البترول، تقف هذه الأخيرة موقف الطرف المتحكم الذي يستغل قوته من أجل فرض شروطه الجائرة. وعلى الرغم من أنه لا يتعرض لتهديد حقيقي، فإنه يلوح في أوقات محددة مدروسة باستخدام القوة الغاشمة، ويهدد بالاحتلال، لا لشيء إلا لكي يحافظ على العلاقة غير المتكافئة في التعامل بهذه السلعة الحيوية، مما يشكل أسلوبا في العلاقات الدولية عفا عليه الزمان، ويضفي ظلالا قائمة على النموذج الأمريكي الذي لا يزال يبهر الكثيرين!
الفصل الخامس
قضية إسرائيل
لا بد لكل من يبهره النموذج الأمريكي، ويحلم بتحقيقه في بلده العربي، أن يواجه مشكلة أساسية، هي التوفيق بين إعجابه المفرط بأمريكا، وبين ما يعرفه عن الارتباط الوثيق بين أمريكا وإسرائيل. والذي يحدث عادة هو أن المعجبين بأمريكا يصورون هذا الارتباط بصورة مشوهة، أو مخففة، لا تعبر عن حقيقته، وإنما تعبر عن رغبتهم - الواعية أو غير الواعية - في الاحتفاظ بصورة نقية لأمريكا من جهة، مع عدم التفريط في موقفهم تجاه إسرائيل من جهة أخرى. وتدور هذه الصورة المشوهة عادة حول فكرة رئيسية، هي أن الارتباط بين أمريكا وإسرائيل مؤقت، وأن في استطاعة العرب، لو أجادوا استخدام الأساليب السياسية والدبلوماسية، أن يفكوا هذا الارتباط، ويوجهوا السياسة الأمريكية نحو الانحياز لهم، وأن يضمنوا على الأقل وقوفها على الحياد، بحيث تتخذ في نهاية الأمر خطا متوازيا بين الطرفين.
هذه الفكرة تستهدف في واقع الأمر، أن توفق بين شيئين لا يمكن أن يتلاقيا، وهما الحرص على إرضاء أمريكا من جهة، والتصدي لإسرائيل من جهة أخرى. والواقع أنه، إذا كانت أحداث الأعوام الثلاثين الأخيرة قد أثبتت شيئا، فهو أن الارتباط بين أمريكا وإسرائيل ارتباط عضوي لا ينفصم، وأننا لا يمكن أن نكون جادين لو حاولنا أن نحتفظ بصداقتنا لأمريكا، وأن نقف في الوقت ذاته موقفا حازما في وجه النزعة التوسعية الإسرائيلية. فهذان موقفان لا يجتمعان، وكل تجاربنا السياسية الماضية تثبت ذلك.
فكل من يختار البديل الأول، أعني صداقة أمريكا وتأييد اتجاهاتها العامة وترك المجال أمامها لكي تتغلغل استراتيجيا واقتصاديا في المنطقة، لا بد أن ينتهي به الأمر إلى موقف متهاون في القضية الأخرى، قضية إسرائيل. وكل من يأخذ البديل الثاني مأخذ الجد، أعني من يريد الوقوف بحزم وصلابة في وجه الأطماع الصهيونية، لا بد أن يصطدم، بشكل أو بآخر، بالمصالح الأمريكية، وأن يتخلى عن وهم الاستعانة بأمريكا من أجل زحزحة إسرائيل عن مواقفها.
هذه هي القضية في شكلها البسيط، الصريح، الذي لا يعرف الالتواء أو المواربة. •••
إن موقف أمريكا من إسرائيل يرتبط ارتباطا جوهريا وأساسيا بقضية البترول، ومنذ اللحظة التي أدركت فيه أمريكا خطورة الثروة البترولية الكامنة في الأرض العربية على مصالح الغرب كله، اقتصاديا واستراتيجيا، اتخذت قرارها الحاسم: وهو أن تقف إلى جانب إسرائيل على طول الخط، وأن تحافظ على وجودها كما لو كانت ولاية أمريكية، أي كما لو كان الاعتداء عليها اعتداء على أراضي أمريكا ذاتها، وأن تؤيد جميع مطالبها، مشروعة كانت أم غير مشروعة، على حساب العرب.
وإني لأكاد أجزم، عن طريق الاستنتاج وحده، بأنه يوجد في مكان ما من أدراج مكاتب صانعي السياسة الأمريكية، تقرير أو تخطيط استراتيجي أساسي وضع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يوجه السياسة الأمريكية إلى تأييد إقامة دولة لإسرائيل على أرض فلسطين، وإلى تبني القضية الصهيونية، والاعتماد على إسرائيل بوصفها الركيزة الكبرى للسياسة الأمريكية في المنطقة. هذا التقرير لا بد أنه يستند إلى أساسين مترابطين:
الأساس المباشر:
هو أن إسرائيل خير ضمان لتدفق البترول العربي، بإمكاناته الهائلة، إلى مصانع الغرب وشركاته.
والأساس غير المباشر:
هو أن وجود إسرائيل سيخلق مشكلة سياسية وعسكرية وحضارية كبرى لسكان المنطقة العربية، تحتل مكان الصدارة في تفكيرهم، وتشغلهم عن قضاياهم الأخرى، وتمتص طاقاتهم الاقتصادية وتوقف نمو بلادهم، بحيث تظل في حاجة دائمة إلى العون الخارجي والعون الأمريكي بوجه خاص، وبحيث ينتهي بها الأمر إلى الاستعانة بأمريكا نفسها ضد إسرائيل، أي بأمريكا ضد أمريكا!
وأكاد أجزم بأن هذا التقرير الأمريكي يحذر صانعي السياسة في هذا البلد من أن إمكانات العرب البترولية يمكن أن تخلق في المنطقة العربية دولة كبرى في المدى الطويل، وذلك إذا تجمعت الثروة البترولية مع إرادة الوحدة بين شعوبها، وإذا أمكن التوفيق بين ضخامة الموارد البشرية لبعض البلاد العربية (مصر مثلا)، وإمكانات الاستغلال الواسعة النطاق في بعضها الآخر (السودان والعراق مثلا) وتوافر الموارد المالية عند بعضها الأخير (البلاد البترولية). مثل هذه الدولة ذات الإمكانات الضخمة يمكن أن تشكل خطرا جسيما على مصالح الغرب، لأنها ستوجه مواردها لخدمتها هي ذاتها قبل كل شيء، ومن هنا كان لا بد من الحيلولة دون سير تاريخ المنطقة العربية في هذا الاتجاه.
وأكاد أجزم أيضا بأن هذا التقرير قد انتهى إلى أن هناك وسيلتين رئيسيتين لتوجيه الأحداث في المنطقة العربية على النحو الذي يحول دون إقامة هذه الدولة العربية القوية، الموحدة، الغنية، المستنيرة.
الوسيلة الأولى:
هي إقامة إسرائيل كجسم غريب، مدجج بالسلاح، في قلب الأرض العربية.
والثانية:
هي إدخال لعبة الانقلابات العسكرية في الوطن العربي، وإخضاع أهم وأكبر شعوب المنطقة لأنظمة حكم أحادية الرأي، أحادية الاتجاه، تقمع كل معارضة، وتتخذ من الاستمرار في الحكم هدفا يعلو على كل هدف آخر.
ولو تأملنا الارتباط الوثيق بين هاتين الوسيلتين، والتوافق الزمني العجيب بين قيام دولة إسرائيل ووقوع أول انقلاب عسكري في المنطقة، لأدركنا إلى أي حد نجحت أمريكا في تنفيذ هذا المخطط الاستراتيجي الأساسي. •••
على أن الأمر الذي أود أن أؤكده، في هذه الدراسة، بوضوح قاطع، هو أنه لم يحدث حتى الآن ما يدعو أمريكا إلى تغيير هذه الاستراتيجية الأساسية. فهناك كثيرون، في وطننا العربي، على استعداد للاعتراف بأن الخط السياسي العام لأمريكا كان يسير في هذا الاتجاه، ولكنهم يعتقدون أن هذا الخط قد تغير في السنوات الأخيرة. وسبب هذا التغير، في رأي هؤلاء، هو تبني بعض الدول العربية خطا معتدلا، مما جعل أمريكا تشعر لأول مرة بإمكان حفظ مصالحها في المنطقة العربية عن طريق العرب أنفسهم، دون الحاجة إلى الاستعانة بإسرائيل وحدها، أو بإسرائيل قبل غيرها.
وفي رأيي أن هذا الاتجاه مخطئ في أساسه، وأن الخط العام للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، الذي يتخذ من إسرائيل الركيزة الكبرى لهذه السياسة، ما زال قائما، بالرغم من مظاهر هذا التغير السطحية التي يفسرها البعض خطأ بأنها تحول جوهري.
أما الأسباب التي أستند إليها في هذا الرأي الذي أدافع عنه فهي:
أولا:
إن إسرائيل تنتمي حضاريا إلى الغرب؛ فهي قطعة من حضارة الغرب أقحمت بالقوة على أرض عربية. وكل باحث في الحضارة الغربية يجعل من «العبرانية-المسيحية» أو من عقيدة «العهد القديم والعهد الجديد»، أصلا أساسيا من أصول هذه الحضارة. وعلى الرغم من كل التقلبات التي مرت بها علاقة الأقليات اليهودية بالمجتمعات الغربية التي تعيش بينها، فإن رواد الصهيونية، وأهم الوافدين إلى إسرائيل، وأبرز زعماء الدولة الجديدة، كانوا ينتمون في صميمهم إلى الحضارة الغربية، وكانوا غرباء، عقليا ونفسيا وثقافيا، عن المنطقة التي أصبحوا يعيشون فيها.
ثانيا:
إن النظام الذي تطبقه إسرائيل في بلادها يتفق أساسا مع النظم الغربية؛ فإسرائيل دولة رأسمالية ذات أهداف توسعية، ومهما قيل من وجود تجارب ذات لون «اشتراكي» في الظاهر، كالكيبوتز وغيرها، أو عن المنظمات العمالية الضخمة، كالهستدروت، فإن هذه التنظيمات تدين أساسا بالأيديولوجية الغربية الرأسمالية، وتدافع عن مصالحها بكل قوة، وأحزاب الأغلبية فيها تسير وفقا لبرامج تنظر إلى إسرائيل على أنها جزء لا يتجزأ من المعسكر الغربي الرأسمالي، بل على أنها عضو شديد التطرف في هذا المعسكر.
ثالثا:
إن إسرائيل، بنظامها الغربي الليبرالي، هي النظام الوحيد المستقر في المنطقة. وليس المقصود بالاستقرار هنا - كما يفهمه بعض العرب - أن تكون هناك حكومة واحدة تظل متربعة على كرسي الحكم وتتقن فن الإمساك بزمام البلاد والحيلولة دون وصول أي منافس إلى السلطة، بل إن المقصود به هو أن إسرائيل، شأنها شأن معظم الدول الغربية المتقدمة، قد اهتدت منذ وقت طويل إلى الصيغة التي تجعل انتقال الحكم من جماعة سياسية إلى أخرى يتم بطريقة سليمة منظمة بدون انقلابات أو إراقة دماء، أي أنها اهتدت إلى الصيغة التي عجزت جميع الدول العربية عن الاهتداء إليها حتى الآن، وهي أن يتغير الحاكم بهدوء عندما تتخلى عنه الإرادة الشعبية، ويترك مكانه لغيره مغادرا قصر الحكومة سائرا على قدميه إلى بيته، لا محمولا إلى قبره أو منقولا في عربة سجن أو - إذا كان سعيد الحظ - مشحونا على طائرة حربية تقله إلى خارج البلاد.
وهكذا فإن إسرائيل من وجهة نظر المصالح الأمريكية، هي وحدها المضمونة. ومن الواضح أنه لم يحدث، طوال الأعوام الثلاثين الماضية، أي شيء يدعو أمريكا إلى إعادة النظر في العوامل التي تدفعها إلى الاعتماد الكامل على إسرائيل.
ولكن، قد يتساءل البعض: ألم يحدث في السنوات الأخيرة بالذات تغيير في اتجاه أمريكا إزاء هذه القضية؟
نعم، حدث نوع من التغيير، ولكنه تغيير تكتيكي فقط؛ ففي السنوات التي توالت منذ إنشاء دولة إسرائيل، كانت أمريكا تتخذ من إسرائيل حارسا مسلحا لمصالحها، وكانت الحروب الدائمة التي تشنها إسرائيل على العرب هي الوسيلة التي تحقق لأمريكا أهدافها البعيدة والقريبة في المنطقة. أما في السنوات القريبة فقد لاحت بوادر تكتيك آخر؛ فبدلا من أن يضطر العرب إلى تخصيص مواردهم المتزايدة لمحاولة الحد من انتشار هذا السرطان المخيف في جسم الأرض العربية، وبدلا من أن يهملوا مشاكلهم الملحة تحت تهديد السلاح الأمريكي المقدم إلى إسرائيل، أصبحت السياسة الأمريكية تتجه الآن إلى دفع العرب إلى الدخول باختيارهم في معسكر أمريكي واحد، إلى جانب إسرائيل، وحلت أساليب الوعد والإغراء محل أساليب التهديد والتخويف، وظهرت بوادر تعطي أمريكا أملا في أن يقبل العرب بالتدريج، وبمحض إرادتهم، ما لم يكونوا يقبلونه قبل ذلك إلا تحت تهديد السلاح.
التكتيك إذن هو الذي طرأ عليه التغيير، أما الاستراتيجية العامة فتظل على ما هي عليه؛ حماية المصالح الأمريكية عن طريق ركيزة أساسية هي إسرائيل، وكل من يقبل التعاون معها لتحقيق هذا الهدف. •••
في ظل هذه الاستراتيجية تظل مصالح أمريكا مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بإسرائيل، أما الدول العربية فإن أمريكا تدرك جيدا أن المصالح الحقيقية لشعوبها تتعارض معها، ومن ثم فإنها لا تعتمد عليها إلا بقدر ما تسير حكوماتها على سياسة مغايرة لأماني شعوبها، وهو أمر تعلم أمريكا حق العلم أنه لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ولذلك كان اعتمادها على أي نظام عربي أو تحالفها معه مؤقتا بطبيعته مهما طال أمده، وكان دائما ثانوي الأهمية بالقياس إلى اعتماده على إسرائيل.
وعلى أساس التحليل السابق يتضح لنا أن هناك خطأين أساسيين في أسلوب تعامل العرب مع أمريكا، فيما يتعلق بالقضية الإسرائيلية:
الخطأ الأول:
هو استخدام السلاح الأمريكي، إذا كان الهدف الحقيقي من هذا السلاح هو أن نحارب به إسرائيل؛ ذلك لأن أمريكا هي المورد الرئيسي لأسلحة إسرائيل. ولما كانت مصالحها متطابقة معها تطابقا تاما، فمن العبث أن نتصور أنها ستقدم إلينا من السلاح ما يكفينا للوقوف في وجه المطامع الصهيونية؛ فكل قطعة سلاح تعطى للعرب، لا بد أن تعطى أضعافها لإسرائيل، فضلا عن أن التسلح عن طريق أمريكا لا بد أن يكشف لإسرائيل، من خلال حليفتها الكبرى، عن مدى قوة العرب ومواطن ضعفهم أولا بأول، مما يتيح لها أن تجري حساباتها معهم على أدق الأسس الممكنة.
إن المنطق السليم وحده يكفي لإقناعنا بأن استيراد السلاح من أمريكا من أجل محاربة إسرائيل عملية مناقضة لذاتها. ولعل في موقف أمريكا من مصر، في مناسبتين مختلفتين، ما يؤكد هذه الفكرة بكل وضوح: (أ)
ففي حرب أكتوبر 1973، عندما كان السلاح المصري غير أمريكي، حرصت أمريكا، بعد أسبوع الانتصارات الأولى، على أن تعوض إسرائيل عن خسائرها وتضمن تفوقها في أكبر وأسرع عملية نقل سلاح عرفها التاريخ، وكانت حجة كيسنجر هي أنه لا يمكن أن يسمح للسلاح الروسي بإثبات تفوقه على السلاح الأمريكي، ولكن السبب الحقيقي هو أن أمريكا - وفقا لاستراتيجيتها الأساسية - لا يمكن أن تسمح بتفوق حقيقي للعرب على إسرائيل، ولا بد أن تجعل لإسرائيل اليد العليا في أية معركة مع العرب.
فإذا كان هذا تصرف أمريكا في معركة لم تكن فيها هي التي وردت السلاح للعرب، فماذا يكون تصرفها لو كانت هي التي توزع بنفسها الأسلحة على الطرفين؟ (ب)
وفي الآونة القريبة لم توافق أمريكا على توريد أسلحة لمصر على نطاق واسع إلا بعد معاهدة 26 مارس مع إسرائيل، أي أنها لم تقبل تقديم أسلحتها إلينا إلا بعد أن ضمنت أن هذه الأسلحة ستستخدم لأغراض أخرى، غير محاربة إسرائيل.
ويبدو لي أن هذا المبدأ الأخير هو الذي تفرضه أمريكا في حالة أي بلد عربي يطلب منها السلاح على نطاق واسع، بحيث لا توافق على هذا الطلب إلا بقدر ما تكون واثقة من أن لهذا السلاح أهدافا أخرى غير إسرائيل.
أما الخطأ الثاني:
فهو الاعتقاد بأننا نستطيع أن نفكك التحالف بين أمريكا وإسرائيل، أو نضعفه عن طريق إقناع أمريكا بأن مصالحها مع العرب أهم من مصالحها مع إسرائيل؛ فهذا النوع من التفكير يفترض عدة أشياء، كلها باطلة.
فهو يفترض أولا أن العرب يمكنهم أن يخدموا المصالح الأمريكية دون أن يتهاونوا ويتخلوا عن أماني شعوبهم، أي أن من الممكن أن تتطابق مصالح العرب مع مصالح أمريكا، وهو أمر يدخل في باب المستحيلات. وهو يفترض ثانيا أن أمريكا تقبل بأن تجد لنفسها حليفا أو حارسا لمصالحها غير إسرائيل، وهو بدوره أمر مستحيل. وكل ما قلناه في هذا الفصل إنما كان محاولة لإثبات استحالة هذين الافتراضين.
وهكذا تتضح لنا الصورة على حقيقتها؛ فقد يكون في إمكاننا أن نستعين بأمريكا في أمور كثيرة، ولكن ليس في صراعنا مع إسرائي؛ ذلك لأن من يستنجد بأمريكا لكي تعينه على الوقوف في وجه إسرائيل هو، كما يقول المثل العربي البليغ، كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كمن يستعين بزعيم العصابة ليحمي نفسه من تهديدات عضو صغير من أعضائها - عضو له حقا مطامعه الجزئية الخاصة، ولكنه في نهاية الأمر يأتمر بأوامر الرئيس، ولا يستمد كيانه إلا من انتمائه إليه.
الفصل السادس
قضية الأيديولوجية والتنمية
طوال هذه الدراسة، حاولت بقدر ما أستطيع أن أتجنب الألفاظ والمصطلحات الضخمة، وأن أعرض أفكاري للقارئ من خلال لغة عادية خلت من تلك التعبيرات المعقدة التي اعتادها مثقفونا، والتي قد تصلح في مناقشاتهم الداخلية، ولكنها حين تستخدم في مخاطبة الجماهير العريضة تؤدي إلى فجوة واسعة بين المثقف وجمهوره، لا يملؤها إلا فراغ من عدم التفاهم.
لذلك فإنني حين أستخدم كلمة «أيديولوجيا» في عنوان هذا الفصل الأخير، لا أود من القارئ أن يتصور أنني خرجت أخيرا عن هذه القاعدة، وخضعت آخر الأمر لعادات المثقفين في استخدام الألفاظ الرنانة. فالأيديولوجيا كما تستخدم هنا، لا تعني أكثر من مجموعة الأفكار الأساسية التي تشكل نظرة المجتمع إلى نفسه وإلى العالم أو الموقف الأساسي الذي يعبر به المجتمع عن اتجاهاته في الحاضر وأمانيه في المستقبل.
ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن يكون هناك ارتباط وثيق بين الأيديولوجيا - مفهومة بهذا المعنى - وبين قضية التنمية؛ فالتنمية ليست مجرد «نمو»، كما قد يوحي أصل اللفظ ذاته، وإنما هي مسيرة شاملة تسترشد في سعيها إلى التقدم بأفكار رئيسية توجهها، ومن واجب كل من يتصدى لعملية التنمية في مجتمعه أن يجيب عن أسئلة أساسية مثل: لمصلحة من تتم هذه التنمية؟ وهل تكون التنمية اقتصادية فحسب، أم تشمل المجال الاجتماعي والثقافي بدوره؟ وما نوع المجتمع الذي نريد أن نحققه عن طريق هذه التنمية؟ ولو أمعن المرء التفكير في هذه الأسئلة، لوجدها كلها أسئلة أيديولوجية، أي أسئلة تتعلق بمجموعة الأفكار التي يرسم بها المجتمع طريقه في الحياة. ومن هنا كانت التنمية التي تقوم على أساس رأسمالي، مثلا، مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي تهدف إلى إقامة مجتمع اشتراكي؛ لأن الاختيار الأيديولوجي الذي ترتكز عليه التنمية مختلف في الحالتين. •••
على أساس هذه المقدمة الواضحة، نود أن نعالج الآن آخر الموضوعات التي سنعرض لها في هذه الدراسة، وهو في الوقت نفسه ربما كان أهم موضوعاتها جميعا؛ فالنموذج الأمريكي مطروح اليوم، بقوة وإلحاح، على العالم العربي بوصفه نموذجا مثاليا للتنمية، وأنصار هذا النموذج يؤمنون بالأيديولوجية الأمريكية، ويعتقدون أن الأسس التي ترتكز عليها تصلح للانطباق على المجتمعات العربية، بل إنها هي التي تحمل في طياتها إمكانات حل المشكلات المزمنة التي تعاني منها مجتمعاتنا. فما مدى صحة هذا الاعتقاد؟
في معالجتنا لهذا الموضوع الحيوي، لا بد أن ننظر إليه من زاويتين مختلفتين، هما زاويتا البلاد العربية الغنية والفقيرة، لأن مشكلات التنمية في كل منهما تختلف في نواح كثيرة. (1) الدول الغنية
هناك أسباب كثيرة تجعل الدول الغنية أكثر من غيرها تعرضا لإغراء النموذج الأمريكي في التنمية، وأكثر من غيرها ميلا إلى اختيار الأيديولوجيات الأمريكية. ولعل في واقع الثراء ذاته، وارتفاع مستوى الدخل القومي والفردي، ما يفسر هذه الظاهرة إلى حد بعيد. فالأيديولوجيات التي تسير أمريكا وفقا لها تفتح الباب على مصراعيه أمام فرص الإثراء، ولا تضع حدودا لما يمكن أن يملكه الفرد، على حين أن الأيديولوجية المضادة التي تحاربها أمريكا تحد من فرص الامتلاك وتضع مصالح المجتمع كضوابط وحدود لما يمكن أن يحرزه الفرد من ثروات.
ومع ذلك فإن من واجبنا أن ننفذ بنظرتنا إلى ما وراء السطح الخارجي للظواهر، وأن نتساءل: هل يصلح نمط التنمية الذي تشجعه أمريكا للانطباق على البلاد العربية الغنية، وهل يؤدي هذا النمط إلى خدمة المصالح الحقيقية لشعوب هذه البلاد؟
لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد لنا من الإشارة إلى ثلاث حقائق أساسية:
الأولى:
هي أن ثروة البلاد العربية، في وضعها الحالي، توظف - فيما يتعلق بفوائضها ومدخراتها على الأقل - من أجل خدمة الاقتصاد الغربي، وعلى رأسه الاقتصاد الأمريكي. وعلى الرغم من كل الروابط المتينة، سياسيا واقتصاديا وتعليميا وثقافيا ... إلخ، بين الدول العربية البترولية وبين أمريكا، فإن هذه الأخيرة لم تسهم في وضع أي برنامج يساعد الدول الغنية على الانتفاع من أموالها في إرساء دعائم اقتصاد داخلي متين، معتمد على ذاته، قادر على مواجهة الظروف التي ستجد عندما تنضب موارد البترول.
هذه حقيقة مألوفة، نقرأ عنها في صحفنا كل يوم، ولكنها تظل - بالرغم من ذلك - شيئا يدعو إلى التأمل العميق؛ فكيف تكون هناك كل تلك الروابط الوثيقة بين البلاد العربية البترولية وبين أمريكا، دون أن تحاول هذه الأخيرة مساعدة الأولى في الإفادة من إمكاناتها الاقتصادية الهائلة؟ أي نوع من النموذج أو من المثل الذي تضربه تلك الدول الكبرى في علاقتها بدول صغيرة تحتاج إلى الإفادة من تجارب الآخرين كيما تشق لنفسها طريقا مستقلا؟ أليس ذلك هو نموذج الاستغلال فحسب - أعني الاستغلال الذي يخدم مصالح الطرف القوي ولا يكترث بالمطالب الحيوية البعيدة الأمد للطرف الضعيف؟ ولماذا لا تساعد أمريكا الدول العربية البترولية على وضع برنامج للتنمية توظف فيه معظم فوائضها المالية في الداخل بدلا من أن تودعها في بنوك غربية وأمريكية لخدمة اقتصاد هو أصلا قوي معتمد على ذاته؟ أليس هذا دليلا على التعارض بين النموذج الأمريكي وبين أبسط متطلبات المستقبل لدى الدول العربية الغنية؟
والحقيقة الثانية:
هي أن أمريكا لا تكتفي بالإفادة من فوائض الأموال العربية لخدمة مصالحها الخاصة، ولا تكتفي بالامتناع عن الإسهام في أي برنامج شامل يضمن للدول العربية الغنية مستقبلا مأمونا، بل إنها تضع نصب أعينها استنزاف الثروة البترولية العربية في أسرع وقت ممكن، دون أية مراعاة لحاجات البلاد المنتجة، فأية محاولة لخفض إنتاج البترول إلى الحد الذي يتمشى مع المطالب الحقيقية للبلد المنتج، تلقى مقاومة من الطرف الأمريكي؛ لأن ما يحرص عليه هذا الطرف هو سد حاجات الاقتصاد الغربي، وليس مراعاة مطالب المنتجين على الإطلاق.
ولو قيل إن هذا أمر لا مفر منه، لأن في الغرب مصانع لا بد لها أن تعمل، وهي تحتاج إلى كميات يومية هائلة من البترول - لو قيل هذا لقلنا إن هذه حجة غير ملزمة على الإطلاق؛ ذلك لأن الغرب لا يريد أن يغير نمط حياته، الذي ينطوي على قدر هائل من السفه والتبديد، والذي يستهلك فيه المواد الخام في العالم، وليس البترول وحده، إلى حد أصبح يثير قلقا حقيقيا لدى كل من يفكر في مستقبل البشرية بشيء من التعمق. ولقد اشترى الغرب نمط حياته الباذخ هذا، منذ أن كان يملك السيطرة العسكرية إلى أن استعاض عنها بالسيطرة الاقتصادية، على حساب شعوب العالم الثالث. فإذا كانت هذه الشعوب الأخيرة تعيش حياة الكفاف، وتنقصها ضرورات الحياة الأساسية ذاتها، ومع ذلك تظل تعمل وتكافح دون أن تشكو، فلماذا لا تتنازل الشعوب الغربية المترفة عن قدر من رفاهيتها لكي تحقق مزيدا من التوازن بين اقتصاديات مناطق العالم المختلفة؟ الذي يحدث بطبيعة الحال هو أن هذه الشعوب تقبل أي حل - حتى لو كان هو التدخل العسكري ذاته - فيما عدا المساس بمستوى معيشتها المرتفع، ومن ثم فإنها تستنزف، من بين ما تستنزفه، موارد البترول بسرعة تفوق كثيرا ما تحتاج إليه الدول المنتجة ذاتها، وبذلك تكون عاملا معوقا في وجه تنمية هذه الدول.
والحقيقة الثالثة:
هي أن الدول الغربية الصناعية، وعلى رأسها أمريكا، تحرص على أن تنشر في الدول العربية الغنية عادات استهلاكية متطرفة، تحقق لها عدة أهداف، ولكنها تعود على أصحابها بأوخم الضرر: (أ)
فالاستهلاك الزائد يعود على الدول الصناعية الكبرى ذاتها بالنفع المباشر. وكلما انتشرت بين الشعوب العربية الغنية عادات الترف، والشراء بسبب وبغير سبب، وتغيير طراز السلع والأجهزة الاستهلاكية بلا انقطاع، واقتناء أحدث المنتجات أولا بأول، مع التخلص من القديم بلا ثمن، كان معنى ذلك مزيدا من النفع لأصحاب المصانع، ومزيدا من التورط والإدمان الاستهلاكي لدى المشترين. (ب)
والأخطر من ذلك أن هذا الاستهلاك المفرط يفسد أذواق هذه الشعوب ويشوه شخصيتها بالترف الزائد، الذي يصل في كثير من الأحيان إلى حد التبديد، ويساعد على تنشئة أجيال اعتادت سهولة العيش حتى أصبحت تعزف عن بذل أي نوع من الجهد أو المعاناة. ووجود هذه الرغبة الطاغية في الحياة السهلة، التي يأتي فيها كل شيء جاهزا بلا مجهود، يتعارض بطبيعة الحال مع متطلبات التنمية التي ينبغي أن تعتمد فيها الشعوب على نفسها وتبذل في حاضرها جهودا تقيها شر الحاجة في المستقبل. (ج)
وربما قيل إن شعوب الدول الصناعية الكبرى تستهلك بدورها على نطاق واسع، دون أن يؤدي ذلك إلى فقدانها حماسة العمل وبذل الجهد. ولكن شتان ما بين الحالتين:
فالشعوب الصناعية قد مرت بتجربة الاختراع والإبداع بالنسبة إلى كل ما تستهلكه، وهي قد عايشت التليفزيون منذ أن كان وميضا خافتا على شاشة باهتة إلى أن أصبح أفلاما ملونة وربما مجسمة، وعايشت السيارة منذ أن كانت عربة خيل مطورة إلى أن أصبحت صالونا فاخرا سريعا صامتا. أما الشعوب الغنية المستهلكة في بلاد العالم الثالث، فلا تعرف هذا الإنتاج إلا في صورته النهائية، ولا تتعامل معه إلا عن طريق استعماله فحسب، وهي لم تعايش تجربة اختراع ولم تمر بمعاناة التطوير والتجويد؛ ومن ثم فإن دلالة الاستهلاك عندها، وتأثيره في شخصيتها، مختلفة كل الاختلاف.
من هذه الحقائق الثلاث يتضح لنا أن نمط التنمية الذي تشجعه أمريكا في الدول العربية الغنية يؤدي بهذه الدول إلى أن تنعم بحلم وردي سريع، ولكنه يترك الواقع الذي سيعقب هذا الحلم دون معالجة على الإطلاق. ومن هنا كان واجب هذه الدول ألا تنساق وراء هذا النمط، وأن تدرك الفوارق بين أوضاع أمريكا وأوضاعها الخاصة، والاختلاف الكبير في نموذج الحياة الاستهلاكية ونتائجها لدى مجتمع تكنولوجي متقدم، ولدى مجتمع يعاني من مشكلات التخلف بالرغم من امتلاكه ثروة مؤقتة. (2) الدول الفقيرة
إذا كان نمط الحياة الاستهلاكية، الذي يفتح الأبواب على مصراعيها لمنتجات البلاد الصناعية المتقدمة، لا يصلح للبلاد العربية الغنية، فمن السهل أن ندرك أنه أقل صلاحية للبلاد العربية الفقيرة؛ فحين تتخذ هذه البلاد الأخيرة من النمط الأمريكي نموذجا، وحين تحاول أن تقلد أسلوب الحياة الأمريكي، متصورة أن هذا الأسلوب سينجح عندها كما نجح في بلده الأصلي، فإنها تقع في وهم كبير، وتسقط في هوة سحيقة قد يكون من الصعب عليها أن تنتشل نفسها منها لأمد بعيد.
ذلك أولا لأن البلد الفقير أقل قدرة من البلد الغني، بطبيعة الحال، على استيعاب أدوات الترف الاستهلاكي. والنتيجة الطبيعية لذلك هي تشجيع فئة محدودة جدا على الاستثمار السريع الربح في تجارة السلع الاستهلاكية واستيرادها، وفئة أخرى أكبر قليلا من السابقة، ولكنها بدورها محدودة، على اقتناء هذه السلع. أما القاعدة الشعبية الواسعة فسوف تنظر بحسرة إلى القلة المحظوظة، وسوف تتضاعف معاناتها، لأنها تجد أمامها نماذج صارخة للاستهلاك السفيه من جهة، ولأن أعباء المعيشة ستزداد ثقلا عليها، من جهة أخرى، نتيجة للتصعيد المستمر في الأسعار الذي تحدثه تصرفات تلك القلة المحظوظة.
ومن المستحيل معالجة موقف كهذا عن طريق التبشير بفلسفة «مجتمع الأسرة الواحدة» بين أفراد المجتمع الفقير؛ ذلك لأن فلسفة «الأسرة الواحدة» ينبغي أن تكون التزاما من كلا الجانبين؛ فكما تطالب الفقير بألا يحقد على الغنى أو يتمرد ضده، ينبغي أن نطالب الغني بألا يثير حقد الفقير وتمرده. ولكن الذي يحدث هو أن فلسفة «الأسرة الواحدة»، في هذه المجتمعات الفقيرة، لا تتذكر سوى التزامات الفقير وحده، أي التزامات طرف واحد من أطراف «الأسرة الواحدة»، بينما تتغاضى تماما عن التزامات عضو الأسرة الغني تجاه «أقربائه» الجياع!
إن النموذج الأمريكي يدعو إلى ترك نشاط الأفراد، في الميدان الاقتصادي، يسير في طريقه حرا، دون أن تقف في وجهه أية قيود، ودون أن تكون هناك حدود لتوسعه ونموه. ومن الجائز أنه كان لهذه الدعوة ما يبررها في ضوء ظروف أمريكا الفريدة، التي عرضناها في الفصول السابقة؛ فقد كانت قلة البشر، وضخامة الموارد، وإمكانات الاستثمار الهائلة، والطبيعة المغامرة للوافدين، كانت هذه كلها عوامل تشجع على إطلاق العنان للنشاط الفردي حتى يصل إلى أقصى مداه.
وقد أصبح هذا الاتجاه جزءا لا يتجزأ من البناء الفكري للمجتمع الأمريكي؛ فمنذ أكثر من مائتي عام، نجد الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان يتضمن بصورة واضحة انتقادا لفكرة تدخل الدولة إلا في أدنى الحدود. وهكذا فإن أية دعوة إلى التأميم، أو التخطيط المركزي الموجه للاقتصاد أو التعليم أو الثقافة أو الخدمات الصحية، تلقى مقاومة هائلة. وما زالت عبارة جيفرسون القائلة: «إن أفضل الحكومات هي أقلها حكما» - ما زالت تعد شعارا سياسيا رئيسيا لقطاعات كبيرة في المجتمع الأمريكي.
حسنا، هذه على أية حال فلسفة أمريكا الخاصة، وهي فلسفة نجحت (برغم تحفظاتنا الكثيرة عليها) في ضوء الظروف الخاصة والفريدة لهذا المجتمع. ولكن مشكلة أمريكا، بعد أن أصبحت القوة العظمى في العالم المعاصر، هي أنها لا تكتفي بالدعوة إلى المبادئ داخل حدودها، وإنما تبذل كل ما في وسعها لكي تطبقها على أكبر عدد من دول العالم، بغض النظر عن ظروفها وأوضاعها الخاصة.
إن بلاد العالم، حتى الكثير من الدول الغنية ، تتجه على نحو متزايد إلى تأميم مرافق وخدمات أساسية في المجتمع، كالتعليم والصحة والمواصلات والإذاعة ... إلخ.
ذلك لأن التطور التاريخي يثبت صعوبة تطبيق مبدأ «الحد الأدنى من تدخل الحكومة» في معظم مجتمعات العالم. وحين نتأمل البلدان الفقيرة بالذات نجد هذا المبدأ مستحيل التطبيق؛ فعندما تكون الموارد محدودة، والسكان متزايدين، يكون معنى عدم تدخل الدولة هو ترك الفرصة أمام السمك الكبير لكي يبتلع السمك الصغير. وكما أن الأسرة ذات الدخل المحدود تحتاج، لكي تستمر في الحياة، إلى تدبير دقيق لميزانيتها ولأوجه الإنفاق فيها، ولا تملك ترف التساهل أمام رغبات الأفراد المتباينة، فكذلك تحتاج البلاد الفقيرة إلى توجيه وتخطيط لمواردها المحدودة، كيما تنتفع بها على أفضل نحو ممكن وإلا كانت الكارثة، التي تتمثل في انتعاش أوضاع القلة الضئيلة، وشقاء الملايين من أبناء الشعب.
وإذن، فالنموذج الأمريكي أبعد ما يكون عن الانطباق على مجتمع فقير محدود الموارد.
وهذا أمر لا نحتاج فيه إلى تفكير عميق؛ لأن النتائج العملية ذاتها تثبته على نحو قاطع؛ ففي كل حالة يطبق فيها هذا النموذج بلا تمييز في بلد من بلاد العالم الثالث الفقيرة، تكون النتيجة إخفاقا ذريعا. خذ أوثق الدول صلة بأمريكا، وأكثرها اقتداء بها، كدول أمريكا اللاتينية، أو تركيا، أو فيتنام الجنوبية فيما مضى، أو تايلاند، أو إيران في عهد الشاه، هل نجح النموذج الأمريكي، في حالة واحدة من هذه الحالات، في بناء مجتمع تسوده العدالة وينال فيه كل إنسان - وخاصة من الطبقات الفقيرة - نصيبه المعقول من ثروة المجتمع؟ ألا تشترك هذه المجتمعات كلها في وجود تفاوت صارخ بين طبقاتها، وعدم التوصل إلى حلول لمشكلاتها الأساسية، والعجز عن النمو والاستثمار الرشيد لمواردها، وسيطرة أساليب القمع من أجل تغطية المظالم الفادحة؟
هذه أمثلة نلمسها بأنفسنا، وهي تقدم إلينا نحن العرب - وخاصة الفقراء منا - أبلغ دليل على أن النموذج الأمريكي الذي يفتتن به بعضنا، عاجز تماما عن حل مشاكلنا، وأن نجاحه في بلاده ليس على الإطلاق دليلا على أنه يمكن أن ينجح في ظروف مختلفة كل الاختلاف.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النقطة هو: هل تجهل أمريكا هذه الحقائق؟ هل هي بلد مثالي توجد لديه كل النوايا الطيبة إزاء الآخرين، ولكن سوء حظه هو الذي يجعله فاشلا دائما مع الآخرين؟ إن المسألة، بالطبع، أبعد ما تكون عن ذلك؛ فأمريكا تعلم تمام العلم أن نظامها لا يصلح إلا لها، وأنه في حالة البلاد الفقيرة بالذات يؤدي إلى الفشل التام. ولكنها، ببساطة، لا تكترث بما يحدث للآخرين.
إنها تسلك بطريقة برجماتية (وهي كلمة تعبر عن الاتجاه الفلسفي المسيطر على الفكر والسلوك الأمريكيين، وتعني ببساطة: البحث عن النجاح العملي، بغض النظر عن المبادئ ذاتها) فقد كانت، في إيران مثلا، ترى الفقر المدقع والظلم الفادح والثراء الفاحش جنبا إلى جنب، ولكنها لم تهتم، وإنما ركزت جهودها على التحالف مع الحاكم ومع طبقة المنتفعين المحيطة به، وشجعته على التمادي في استبداده وتجاهل مطالب شعبه، بل هي التي علمت زبانيته كيف يتقنون فنون التجسس والتعذيب وانتزاع الاعترافات ... إلخ، وما دام الحاكم قادرا على أن يحكم قبضته على شعبه بيد من حديد ويقوده رغما عنه إلى طريق يحقق مصالحها هي، فلا يهم على الإطلاق ماذا يحدث لهذا الشعب.
ولكن عبرة التاريخ البليغة تثبت لنا أن الانقياد للنموذج الأمريكي يقود الحكام أنفسهم، لا شعوبهم المغلوبة على أمرها فحسب إلى الهاوية. فكيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى كارثة الشاه بعد حدوثها؟ إنهم نادمون لأنهم لم يتنبهوا إلى قوة المعارضة، ولم يتداركوها في الوقت المناسب، ولم يساعدوا الحاكم الطاغية على التخلص منها. ولكنا لم نسمع اعتراضا من مسئول أمريكي واحد على السياسة التي يتبعها الشاه، ولم نلمس لدى أحد منهم ندما على أنهم تركوه يطغى ويستبد ويستبيح أموال شعبه دون أن يقدموا إليه نصيحة تخفف من غلوائه. ومعنى ذلك أن الحاكم، حتى حين يعادي شعبه في سبيل المصالح الأمريكية، لا يجد من أمريكا مساعدة إلا على التمادي في الطغيان، ولا يلقى منها أي توجيه يرده إلى صوابه أو يقلل من إمعانه في الظلم. وبالاختصار فإن أمريكا تجر أصدقاءها حتما إلى الهاوية. وهذه - كما أدرك بعد فوات الأوان حكام تهاوت تيجانهم في الآونة الأخيرة - عبرة لمن يعتبر.
أعود، في نهاية هذه الدراسة، فأقول إن المسألة ليست على الإطلاق مسألة أخلاقية؛ فليست أمريكا، في عالمنا المعاصر، هي الفتى القوي الشرير، الذي يجر أصدقاءه معه إلى هاوية الفساد، وإنما الموضوع في أساسه موضوع نظام لا يملك إلا أن يسير في هذا الطريق؛ لأنه هكذا بدأ، وهكذا نما وتوسع، وهكذا يتحتم عليه أن يسير.
إن أمريكا، بحكم تكوينها ومصالحها الحيوية، لا تستطيع إلا أن تكون كذلك. أما نحن فما زالت أمامنا فرصة للاختيار، وليس هناك على الإطلاق ما يرغمنا على أن نختار طريقا ثبت لنا أنه لن ينفع بلادنا الغنية ولا الفقيرة، ولن يوجه من ينقاد له إلا إلى طريق الهاوية.
Bilinmeyen sayfa