Özgürlük Üzerine Konuşuyorum
عن الحرية أتحدث
Türler
لقد قرأت منذ فترة قصيرة عرضا موجزا وسريعا لواحد من ألمع من يحملون العلم في أيامنا هذه يذكر فيه - على سبيل المفاخرة بهذا الجيل الذي هو أحد أبنائه بل أحد أفذاذه - وكأنما أراد أن يقول ما معناه: انظر إلينا وقارن ما تراه فينا من براعة وقدرة ونبوغ في شتى المجالات، بما قد كان قائما في الجيل الماضي، ولست أريد هنا أن أذكر الأسماء التي ذكرها من أبناء عصره هذا حتى لا أسيء إلى أحد إساءة غير مقصودة بالطبع، ولكنني أذكر الأسماء المقابلة لها من أبناء العشرينيات، والتي لم يذكرها الكاتب في عرضه الموجز السريع، فقد كان في الشعر أحمد شوقي، وكان في الموسيقى سيد درويش، وكان في الدراسة الأدبية طه حسين، وكان في الكتابة السياسية الدكتور هيكل، وكان في الشعر والنقد والكتابة السياسية العقاد، وكان في فن النحت محمود مختار، وكان في فن التصوير محمود سعيد، وكان في الاقتصاد طلعت حرب، وكان الأدب المسرحي على وشك الظهور على يدي توفيق الحكيم، والأدب الروائي على وشك القفزة العالية بعد البدايات التي ظهرت، ولقد جاء بتلك القفزة نجيب محفوظ، وكان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم قد بدآ السير على طريق العبقرية في عالم الموسيقى والغناء. تلك كانت أسماء العشرينيات وهي التي تقابل السبعينيات التي فاخر بها الكاتب اللامع في عرضه الموجز السريع.
ولعل هذا الموضع من سياق الحديث هو الفرصة المناسبة للكلام عن الشعر الجديد الذي هو - بغير شك - من ملامح هذا الجيل، وبادئ ذي بدء أشعر بضرورة أن أدفع عن نفسي اتهاما كثر دورانه على الألسنة، وهو أني عدو لهذا الشعر الجديد عداوة مطلقة غير مقيدة بالضوابط والشروط، وهو اتهام غير صحيح، فقد حدث سنة 1957م «بعد العدوان الثلاثي عام 1956م بقليل» أن شرعت لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، «هكذا كان اسمه في ذلك الحين ولم تكن قد أضيفت إليه بعد العلوم الاجتماعية». أقول إن لجنة الشعر عندئذ وكنت عضوا فيها وكان العقاد مقررها شرعت في جمع كل ما كان الشعراء قد أبدعوه بمناسبة العدوان الثلاثي لنشره في مجموعة واحدة أولا، ولإجازة من تراهم اللجنة في المراتب الثلاث الأولى، وانقسمنا نحن الأعضاء لجانا ثنائية، كل لجنة تنظر في الشعر المجموع كله لاختيار الثلاثة الأوائل مرتبين، الأول منهم فالثاني فالثالث. وكان معي في لجنتي الثنائية المرحوم علي أحمد باكثير، ووقع اختيارنا للجائزة الأولى على قصيدة من الشعر الجديد «أظنها كانت للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، لكن أسماء أصحاب الشعر كانت سرية لا يعرفها أعضاء اللجان الفاحصون.» وجاء يوم انعقاد اللجنة بكامل أعضائها لعرض أسماء المرشحين، فأولا كان مما يلفت النظر أن جميع اللجان الثنائية قد اتفقت في ترشيحاتها على الثاني والثالث. وهذا الاتفاق - في رأيي - هام جدا للباحثين في فلسفة الجمال الفني، وللقائمين على النقد الأدبي؛ لأنه دليل شديد الرجحان على أن مقومات الجودة في مبدعات الأدب والفن أمور موضوعية موجودة في الأعمال ذاتها، وليس الأمر كله موكولا إلى الأذواق الذاتية التي لا ضابط لها، وثانيا عندما دارت المناقشة على من يكون أول الفائزين؛ كنا نحن وحدنا «أعني لجنتنا الثنائية» الذين خرجنا على إجماع بقية اللجان الثنائية. فبينما اجتمع رأي الجميع على شاعر معين؛ كان ترشيح لجنتنا الثنائية لقصيدة من الشعر الجديد، وهنا نشأ الخلاف، وهو الخلاف الذي اشتهر فيما بعد في دوائرنا الأدبية عن رأي العقاد في الشعر الجديد من حيث إنه يدخل في اختصاص لجنة النثر وليس لجنة الشعر، ولقد طلبت أن يثبت رأيي في محضر الجلسة - ولمن شاء أن يراجع ذلك المحضر - وهو أن الشعر الجديد لا يرفض رفضا قاطعا وبلا قيد، وإنما يرفض في حالة واحدة فقط، وهو أن يكون خاليا من أي «شكل» يمكن تقنينه إذا أردنا هذا - بالطبع - إذا كان المضمون ذا خصائص تؤهله لأن يكون شعرا. وذلك هو رأيي إلى هذه الساعة.
ونعود إلى هذا الجيل وشعره الجديد، فأقول إن الخصوصية الحميمة التي تربط قصيدة الشعر الجديد بصاحبها، هي في ذاتها امتياز يحسب حسابه إذا أردنا المقارنة بين جديد وقديم، لا سيما في العالم العربي بصفة خاصة، حيث شعور الفرد بفرديته ينقصه الشيء الكثير. ومن وسائل اكتمال تلك الفردية المنقوصة في بلادنا أن يجيء شعر الشعراء نموذجا في التفرد قد يحتذيه الآخرون، لكن هذه الخصوصية الحميمة التي أشرنا إليها لا يجوز أن تكون على حساب الجوانب الأخرى، التي منها قوة اللغة وسلامتها، ومنها عظمة الموضوع الذي امتلأت به نفس الشاعر فأجراه في قصيدة من شعره، فهذان جانبان يكفلان للشعر أن يدوم جيلا بعد جيل، وعندي أن قابلية العمل الأدبي للدوام هي من أهم المعايير التي يمكن للناقد الأدبي استخدامها في تقويمه للشعر الذي ينقده، وقابلية الدوام هذه هي الغائبة - فيما أرى - عن الشعر الجديد، حتى ما هو جيد منه، والكلام هنا - بالطبع - هو على سبيل الحكم العام الذي لا ينفي وجود ما يستثنى منه.
ومن الشعر أنقل إلى الفن التشكيلي رسما ونحتا، ولقد كان من حسن حظي أن كنت لمدة عشر سنوات على الأقل «1958-1968م على ما أذكر» في لجنة المقتنيات الفنية التي كان من عملها أن تزور ما يقيمه رجال الفن من معارض لاختيار ما هو جدير بالاختيار لتقتنيه الدولة، فكانت تلك عندي فرصة ذهبية تتيح لي مسايرة الحركة الفنية مسايرة مسئولة، ولقد أفدت من الزملاء أعضاء اللجنة - وكانوا جميعا من مبدعي الفن أو على الأقل من كبار نقاده - وكنت أحرص على أن أسبقهم إلى مكان العرض بنصف ساعة أو نحوها؛ لأكون لنفسي رأيا خاصا على مهل قبل أن أتأثر بآراء الزملاء ، وكان ذلك مني امتحانا لنفسي لأرى هل أقترب أو أبتعد في الرأي عن المختصين في الفن إبداعا ونقدا، فكنت - بحمد الله - أنجح في هذا الامتحان؛ إذ أراني قد اخترت منفردا ما يجيء رأي الجماعة ليقع على ما كنت وقعت عليه، نعم كانت فرصة نادرة لي، أتاحت لي فرصة المتابعة، فكان يذهلني حقا تلك الخصوبة الفنية الرائعة، وتلك المحاولة المخلصة الجادة في أن تجيء مبدعات الفن حاملة للروح المصرية في عمق أعماقها، فإذا أقمنا مقابلة بين الجيلين كان الرجحان لهذا الجيل، لا من حيث الكثرة وحدها، بل كذلك من حيث القيم الفنية العليا، مع اعترافنا بالأفذاذ النابغين من أبناء الجيل الماضي.
ولقد جاءت تلك النزعة الدافعة لصاحبها نحو أن يكون ذا شخصية متفردة بخصائصها ليكون الفرد فردا متميز الملامح والصفات دون سواه، وهي النزعة التي نراها ونحسها في مجال الشعر الجديد، وفي مجال الفن التشكيلي الجديد على حد سواء، والتي يحاول بها كل شاعر على حدة أن تكون له رؤياه الخاصة به وأن تكون له كذلك طريقته الخاصة في استخدام اللغة استخداما جديدا، كما يحاول كل فنان في مجال الفن التشكيلي أن يخاطب المشاهد بلغة الألوان والخطوط، أقول إن تلك النزعة المميزة لشعراء هذا الجيل ومبدعي الفن فيه إنما جاءت انعكاسا للموقف السياسي كله لمصر المعاصرة «ولغيرها من أشباهها» من حيث جهادها في سبيل حريتها الضائعة واستقلالها المفقود، ومن حيث إرادتها لأن تسترد هويتها بكل خصائصها التي تميزها والتي تنفرد بها دون سائر الأقطار.
والحق الذي لا مراء فيه هو أن أبناء هذا الجيل أشد إيمانا بحرية الإنسان - فردا كان أو مجتمعا - من أبناء الجيل الماضي، نعم، إن أولئك كانوا دعاة حريات متنوعة في السياسة وفي الأدب وفي دنيا المرأة وغير ذلك، لكن هذا الجيل قد جاء ليضيف أبعادا جديدة إلى معنى الحرية المنشودة، يهمنا منها في سياق هذا الحديث روح المغامرة كما هو واضح في هجرة الشباب المصري لا بالمئات ولا بالألوف بل بالملايين كسبا للرزق والتماسا لظروف تمكنهم من إظهار قدراتهم في شتى الميادين، وذلك ما قد تحقق لكثيرين منهم بالفعل، وإنه لمن الإنصاف للدولة في مصر خلال هذا الجيل أن نقول إن تلك الروح المغامرة الطموح في شبابنا ربما جاءت نتيجة مباشرة للأجهزة الكثيرة التي أنشئت لتحريك المواهب عند الموهوبين، فوزارتا الثقافة والإعلام كانتا في هذا الجيل شيئا جديدا لم يعرفه الجيل الماضي، فإذا أردنا تلخيصا لما تؤديه هاتان الوزارتان في حياتنا قلنا إنهما تتعقبان شرائح المجتمع كلها لتقدم لكل شريحة منها زادها الثقافي المناسب الذي من شأنه أن يوقظ فيها الوعي بذاتها وبوطنها، فإذا لم تكونا قد بلغتا في ذلك كل ما كنا نتمناه، فقليل الزاد خير من العدم على كل حال، فقد أصبح للطفولة مكانها من الوعي القومي بعد أن لم يكن، كما أصبح مثل ذلك للمرأة وللشباب وللعامل ولغير هؤلاء جميعا من مجموعات المواطنين، وكان مما ساعدنا على تلك اليقظة الشاملة - بالطبع - أجهزة جديدة أمدنا بها العلم الجديد، وفي مقدمتها الإذاعة مسموعة ومرئية، فضلا عن أجهزة من نوع آخر أقمناها نحن على أرضنا، فسرعان ما ترددت أصداؤها في كياننا الثقافي بكل جوانبه، ومن أهمها الأكاديميات التي أنشأناها: أكاديمية الفنون وأكاديمية العلوم والبحث العلمي، ثم أكاديميات أخرى لم نعطها هذا الاسم، لكنها تفعل فعلها، منها: المجلس الأعلى للثقافة والمجالس القومية المتخصصة.
أفبعد هذا كله يصح أن يوصف هذا الجيل بأنه خال من أية سمات تميزه؟ لكن هذا لا ينسينا الفوارق البعيدة بين الجيلين، وهي فوارق تجعلهما أقرب إلى أن يكونا ضدين من أن يكونا تسلسلا طبيعيا في مجرى حياة واحدة، ففي الجيل السابق - كما أسلفنا - قلة نسبية في الإبداع، لكنها قلة فيها الأفق الرحب والإجادة، وفي الجيل الحاضر كثرة نسبية في الإبداع، لكنها كثرة فيها الهزال وضيق الأفق، فهل يصح لنا - يا ترى - أن نتوقع من التفاعل المستتر بين هذين الضدين أن ينتج لنا كيانا ثالثا فيه من الأولين ما عرفوا به من إتقان وتجويد وفيه من الآخرين كثرة المواهب المبدعة وروح الحرية المغامرة تطبيقا لحركة التاريخ المثلثة الخطى عند هيجل؟
إن هذا ما أتوقع حدوثه في مستقبل حياتنا الثقافية بعد فترة لن تطول بإذن الله.
الفصل الخامس والعشرون
قوة الساحر
Bilinmeyen sayfa