Özgürlük Üzerine Konuşuyorum
عن الحرية أتحدث
Türler
وهكذا انحصر الروح الدين في شعائر العبادة بين الإنسان وربه، ولم يمتد ليشمل دنيا التعامل بين الإنسان والإنسان، فجاء تعبير المصري عن نفسه منقوصا، وانقسمت شخصيته على نفسها، فوجب التفكير والعمل على إعادة بنائه. لقد كان الدين للمصري طوال تاريخه، مدار الحياة وصميمها، لا بمعنى أن ينقطع للعبادة فيما يشبه صوامع الرهبان، وخلوات المتصوفة، بل بمعنى أن يجعل الدين متمثلا في القيم التي يراعيها وهو في حقله يزرع، وفي مصنعه يعمل، وفي دكانه يتاجر، كان الدين في حياته هو عصارتها وصفوتها وغذاءها ودماءها؛ إذ كانت روحه تسري في التعامل داخل الأسرة وخارج الأسرة مع الأصدقاء والزملاء وسائر من يتعامل معهم من المواطنين، كانت روحه تسري في دراسة الدارس وفي كلمات الكاتب، أيا كان موضوع الدراسة وهدف الكتابة، فليست روح الدين مقصورة على أن يكون الدين نفسه هو موضوع الدراسة أو هو هدف الكاتب، بل إن روح الدين يمكن أن يعمر قلب الباحث وهو يدرس علوم الصوت والضوء والكهرباء، ويمكن أن يسري مع الدماء في شرايين الكاتب وهو ينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويرسم اللوحات ويكتب الرواية والمسرحية والمقالة؛ لأن روح الدين إخلاص وصدق وضمير حي يهتدي ويهدي، أقول إن ذلك هو ما كان ينبغي أن يقوم عليه إيمان المصري، كما كان دائما، حين كان إيمان المصري ماثلا في البنيان يبنيه وفي الجدران والسقوف يزخرفها، وفي النحاس والخشب ينقشه ويحفره، وفي كل صنعة يصنعها بأصابع ماهرة تحركها قلوب مؤمنة.
لكننا نلحظ اليوم شيئا آخر في تصور المصري للحياة الدينية أو المتدينة كيف تكون؛ إذ يتصور أن تلك الحياة المتدينة إنما تعني أن يترك أعمال الدنيا بكل أنواعها العاملة المنتجة لينصرف إلى العبادة أو ما يتعلق بها، كأن الدين قد أصبح في حياتنا تمائم نتبرك بها، وكأن حقيقة الأمر هي: إما أن «تعمل» وإما أن «تتدين»، وكان ينبغي للمؤمن الحق أن يدرك أن إيمانه إنما هو مجسد في طريقة أدائه لعمله، أيا كان ذلك العمل من دراسة الناشئ في مدرسته ومعهده، إلى صناعة النجار والسباك والكهربائي، والكاتب والأستاذ ورجل القانون والمهندس والطبيب، فكل ضرب من ضروب العمل جسده هو حركات البدن التي تصاحب أداء العمل، وروحه هو الإيمان الديني بالقيم المثلى التي توجه تلك الحركة البدنية نحو الإجادة والإتقان وسائر جوانب الخير.
وبهذا وذاك معا مندمجين كان المصري يعبر عن نفسه تعبيرا حرا، أو هكذا نقرأ عنه ونستدل من أمجاده التي أورثنا إياها، فلما انفصل هذا عن ذاك في حياته الحاضرة لأمر ما، بات واجبا علينا أن نفكر مخلصين كيف يكون سبيلنا إلى إعادة البناء.
الفصل الثاني عشر
تلك هي القضية
روى لنا الأستاذ أنيس منصور، في مقالة جعل عنوانها «بلابل وغربان على أشجارنا» (في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 9 / 2 / 1985م)، روى عن رحلة للتنزه إلى الأقصر وأسوان، ذات شتاء في أواسط الستينيات. وكانت الرحلة بدعوة من الأستاذ أحمد بهاء الدين، وقد شملت الدعوة مع الأستاذ أنيس منصور، الأستاذين كامل الزهيري ورجاء النقاش، فلما بلغوا من رحلتهم مدينة أسوان، التقوا بالشاعر الروسي إيفنتوشينكو، فبينما كان الشاعر الروسي مستلقيا يستمتع بدفء أسوان، جلس رفقاء الرحلة يتحدثون بالعربية، فنهض لهم الشاعر الشاب ليسألهم: فيم تتحدثون؟ ثم قفز بهم إلى سؤال أعم، وهو: ما الذي يتحدث فيه الأدباء المصريون؟ ما هي قضيتكم؟ ما هي المشكلة التي تشغلون أنفسكم بها بحيث تقوم محاسبتكم أمام الشعب على أساس ما قدمتموه لتلك المشكلة من حلول؟ وهنا يصف لنا الأستاذ أنيس منصور حيرته وحيرة زملائه أمام أسئلة الشاعر الروسي، ويبين لنا في شيء من الأسى كيف كانوا وكأنما أخذتهم الصاعقة، لماذا؟ لأن أسئلة الشاعر الروسي قد جاءت لتوقظهم من سبات؛ إذ الكاتب في مصر إنما يكتب في غير قضية، وفي غير مشكلة، إنه لا يتأزم مع سائر الشعب بأزمة تلاحقه وتؤرقه، تطالبه بألا يستريح له جنب على مضجع إلا إذا وجد حلا لمشكلة الشعب التي هي مشكلته، أو التي ينبغي لها أن تكون كذلك، (وأنا هنا لا أنقل كلام الأستاذ أنيس منصور بحروفه، بل أكتب ما بقي منه انطباعا في نفسي مما قرأته له) ثم مضى الكاتب بعد أن وصف ذهوله وذهول رفقائه ليقول إنهم بعد فترة من ذلك الذهول أجابوا الشاعر على سؤاله فقالوا: إن قضيتنا التي تشغل أقلامنا هي «الاشتراكية الواقعية»، لكن الشاعر أسرع بالرد قائلا: ليس هناك شيء اسمه الاشتراكية الواقعية ... إلخ.
وكان واضحا مما كتبه الأستاذ أنيس منصور أنه هو وزملاؤه قد أدركوا عندئذ أن الكاتب في مصر - وإذا قلنا «الكاتب»، فكأنما قلنا «رجل الفكر والأدب» - إنما يكتب في غير قضية أساسية تكون في حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى، فإذا كنت قد خرجت مما كتبه الأستاذ أنيس منصور بانطباع صحيح إذن فقد كنت على حق فيما أخذني من عجب تملؤه الدهشة من أن يكون ذلك هو الرأي في حياتنا الفكرية والأدبية على مدى مائة وخمسين عاما على أقل تقدير، عند ثلاثة من ألمع من يحملون القلم، وإذا كان ذلك هو ما يرونه فينا، إذن فالمسافة بعيدة بين ما يرونه وما أراه؛ وحتى لو كانوا جادين في إجابتهم على سؤال الشاعر الروسي حين سألهم: ما قضيتكم؟ فقالوا: هي الاشتراكية الواقعية! لا، يا سادة، إن لنا قضية رئيسية تبلورت في أذهاننا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكل ما في الأمر أنها لم تجد منا الجواب الحاسم الذي نلتقي عنده جميعا، وسأوضح فيما يلي تلك القضية الأساسية، التي لم يعرف تاريخنا خلال المائة والخمسين عاما الأخيرة كاتبا واحدا، إلا وقد جعلها مشغلته الأولى، سواء أكان ذلك عن طريق التناول المباشر الصريح، أم كان عن طريق التضمين غير المباشر؛ لأن طريق الأدب يحتم على الأديب ألا تجيء قضاياه في أدبه معلنة صريحة، ولقد كانت تلك المشكلة الرئيسية الأولى هي: ماذا يكون موقفنا من الغرب وقد اقتحم ذلك الغرب ساحتنا متمثلا في الحملة الفرنسية. تلك هي المشكلة «الأم» التي انقسمنا حيالها شيعا وأحزابا، ثم تولد عنها مشكلة كانت لها بمنزلة البنت من أمها، هي مشكلة الحرية، وأخيرا تولدت عن البنت مشكلات هي بمثابة الحفيدات، وكان من بينها مشكلة «الاشتراكية» التي جاءت ولادتها ضمن ما جاء من نتائج ثورة 1952م، وإذن فحين قال السادة للشاعر الروسي إن قضيتنا هي «الاشتراكية الواقعية» (كما وصفوها)؛ كانوا قد قدموا إحدى الحفيدات اللائي ولدتهن «الحرية» ومشكلة الحرية بدورها - كما أسلفنا - قد ولدتها لنا جدة كبرى، هي بحثنا عن موقف نتخذه إزاء «الغرب». أو قل إزاء «العصر»؛ إذ تكاد اللفظتان تكونان مترادفتين، ولو كانت القضية الجدة، ثم القضية الأم، قد وجدتا حلولا متفقا عليها منا جميعا، ولم يبق أمامنا إلا الحفيدات، لجاز للسادة أن يجيبوا الشاعر الروسي عن سؤاله، بأية حفيدة يختارون، سواء اختاروا الحفيدة «الاشتراكية» أم اختاروا سواها، لكن الموقف المشكل بطوابقه الثلاثة: الجدة التي هي موقفنا من الغرب ماذا يكون، وابنتها التي هي الحرية وبأي معنى وفي أي حدود نطالب بها، والحفيدة أو الحفيدات، التي من بينها مشكلة الاشتراكية التي وصفها الزملاء بالواقعية، أقول إن الموقف المشكل لا يزال قائما بطوابقه الثلاثة، وبالتالي فما يزال هو قضيتنا التي تشغل كل مفكر منا وكل أديب، ومن هذه الرؤية يكون السادة الأفاضل قد غابت عنهم الإجابة الصحيحة حين سئلوا عن قضية الفكر المصري والأدب المصري: ما هي؟ وكذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم حين أخذتهم صاعقة السؤال، ظنا منهم أن مفكرينا وأدباءنا لا يصدرون فيما يكتبونه عن قضية، والآن فسبيلنا إلى شيء من التفصيل.
جاءت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، ووصلت إلى شواطئ الإسكندرية سنة 1798م، أي قبيل فاتحة القرن التاسع عشر بسنتين، وكان مع الحملة جماعة من العلماء الفرنسيين في تخصصات علمية مختلفة، فكان مما صنعه أولئك العلماء أن استدعوا كبار علماء الأزهر الشريف، جماعة بعد جماعة ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة، من ذلك - مثلا - أن يوقفوهم صفا، مشبكي الأيدي جارا مع جاره، ثم يمسون الواقف في أول الصف بسلك مكهرب، فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما هم فيأخذهم العجب، وأما العلماء الفرنسيون فيأخذهم الضحك، ولقد حدث يوما أن اغتاظ من تلك الألاعيب الصبيانية أحد الشيوخ، فقال لهم ما معناه: هل في علمكم الجديد ما يجعل إنسانا موجودا هنا موجودا في بلاد الغرب في وقت واحد؟ فأجابوا بقولهم أن ليس في علومهم ذلك لأنه محال، فرد هو قائلا: لكن ذلك ممكن في علومنا الروحانية.
وإنني لأنظر إلى تلك اللحظة التي قال فيها الشيخ ذلك الذي قاله للعلماء الفرنسيين على سبيل التحدي، أنظر إليها على أنها لحظة البدء في أحد طريقين اتخذناهما من ذلك الحين وإلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، فطريق منهما اختاره الرافضون للغرب، أي الرافضون للعصر وما أنتجه من علوم ترتب عليها ما ترتب من حضارة جديدة، وطريق آخر اختاره من أرادوا منا ألا تقفل أمام العصر الجديد أبوابنا ونوافذنا، وكانت نقطة البدء في هذا الطريق الثاني هي رفاعة رافع الطهطاوي ، فإذا أنت تخيلت نفسك واقفا في «مدرسة الألسن» التي أنشئت في عهد محمد علي، إبان ثلاثينيات القرن الماضي، إذن لرأيت موقف الفريق الثاني مجسدا في نشاط أعضاء تلك المدرسة العجيبة، التي قد تفوق في مغزاها الثقافي والحضاري، بيت الحكمة، الذي أنشأه الخليفة المأمون ببغداد في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) لماذا؟ لأن مهمة مدرسة الألسن كانت مزدوجة، فبينما «بيت الحكمة» كان مقتصرا على ترجمة الثقافة اليونانية إلى العربية، كانت مدرسة الألسن تعمل عملين: أولهما تحقيق عيون مختارة من التراث العربي الإسلامي ونشرها نشرا جديدا، وثانيهما ترجمة مجموعة مختارة من كتب الغرب (الفرنسية والإيطالية بصفة خاصة) إلى اللغة العربية، فكأنما لسان الحال فيما كنت لتراه إذا ألقيت نظرة على ما كان ينشط به طلاب مدرسة الألسن، برئاسة الطهطاوي، يصيح قائلا: لثقافتنا أن تنهض متكئة على ركيزتين، هما تراثنا من جهة، ونتاج العصر الجديد من جهة أخرى.
إذا غضضنا النظر عن فريق ثالث، ظهر فيما بعد ولم يزد على نفر قليل جاء متفرقا، رجلا بالأمس ورجلا في الغد، وكان الرأي عند ذلك الفريق الثالث هو أن نشتل شجرة الغرب في أرضنا شتلا يبقيها على حالها، ويتركها لترتوي من ماء النيل، ولتتلقى من سماء مصر شمسها وهواءها، وبذلك تصبح الشجرة وكأنها زراعة مصرية أصيلة، أقول إننا إذا غضضنا النظر عن ذلك الفريق الثالث «المستغرب»، لقلة عدده ولضعف أثره، وجدنا أنفسنا أمام جماعتين لكل منهما رؤيتها حيال هذا الغرب الجديد، فجماعة منها رافضة له بكل قضه وقضيضه، وأما الأخرى فتقبله قبولا مشروطا بضرورة مزجه بما ورثناه عن أسلافنا، مزجا يخرج لنا منه مواطن مصري، وعربي، جديد.
Bilinmeyen sayfa