Özgürlük Üzerine Konuşuyorum
عن الحرية أتحدث
Türler
لكننا في هذا الحديث قد قصرنا أنفسنا على نوع واحد من الحرية، وهو حين تكون تلك الحرية مضافة إلى عقل يفكر، ولقد اخترنا حرية التفكير موضوعا للحديث بعد أن رأيناها قد أوشكت أن تكون شهيدة طغيان غاشم.
الفصل الخامس
رهبة المجهول
عن الحرية المغامرة أتحدث
من يقرأ لي فيراني متلفعا بمنطق العقل رائحا وغاديا، قد لا يعلم أن لي خيالا يشتعل لأتفه المؤثرات، اشتعالا يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى ، ولكم تأملت طبيعتي تلك، إذا ما انزاح من رأسي ما اشتعل فيه من سورة خيال تشطح بي إلى دنيا المستحيلات والعجائب، فأحزنني عندئذ أن أجد تلك القوة العارمة في فطرتي، مضيعة مع الهباء؛ لأنه وإن يكن خيالا ملتهبا، إلا أن لهبه يحرق ولا يضيء، ويهدم أكثر مما يبني، ولو كان خيالا بناء مع قوته تلك، لأنتج لي أعمالا فنية تستعصي على الفناء السريع، ولكنه لم يفعل، واكتفى معي بتلك الشطحات المجنونة إلى عوالم أغرب من عالم علاء الدين.
ولم يتغير الموقف في ذلك كثيرا بين طفولتي وأعوام نضجي، اللهم إلا أن يكون الفرق بين العهدين هو أن احتكامي إلى العقل ومنطقه أخذ مع الأيام يزداد، وربما كان ذلك لرغبة أكيدة في عمق نفسي بأن يتولى العقل عني كبح الخيال إذا جمح، ولو كان خيالا بناء - كما قلت - لأرخيت له العنان ليفعل فعله، لكنه جموح، وكثيرا ما شعرت بشيء من النجاح فيما أردته؛ إذ كنت ألحظ أن ذلك الخيال الملجم المكبوت، يتحول معي إلى أحلام هي أروع وأنصع ما تكون الأحلام عند حالم، وعندئذ ينفض الإشكال، فتوزع نفسي قوتيها بين صحو ونوم، فللصحو نشاط العقل بمنطقه، وللنوم أحلام يشطح بها الخيال كما يشاء.
وكان من لحظات الطفولة لحظة، حكيت فيها حكاية على مسمع مني، فحركت في جوفي ذلك الخيال بأقوى قوته، حتى لقد بقيت معي شعلته حتى هذه الساعة من حياتي، ولو أن شعلته تتقد حينا وتخبو حينا. وكانت تلك الحكاية تحكي عن قصر فيه أربعون غرفة، قيل لساكنيه أن يرتعوا في تسع وثلاثين منها، أما الغرفة الأربعون فهي مغلقة، ويجب أن تظل مغلقة حتى لا يكشف أحد عن شيء من سرها المكتوم. وانتهى الحاكي - أو الحاكية لا أذكر - وبدأ الخيال يؤرقني في نهار وفي ليل: ماذا يا ترى في تلك الغرفة المحرمة؟!
ومرت بي الأعوام، وتقدمت بي السن، والسؤال ما زال قائما، لولا أن نطاقه قد اتسع، ولم يعد يسأل عن غرفة واحدة من أربعين غرفة، بل ازدادت الغرف المغلقة على أسرارها ازديادا أشرك العقل في أمره مع الخيال، فكل ذرة في هذا الكون الفسيح العظيم منطوية على سر، يكشف لنا جانبا من حقيقتها، وتخفي جانبا أو جوانب، وكأنها الحسناء ترخي قناعها على شيء وتضمه عن شيء، والناس حيال حقائق الكون المكشوفة المحجوبة أحد رجلين: فرجل يؤثر أن يزيد من ألغاز ما انكشف ليصبح كل شيء فوق قدرات البشر، ورجل آخر يصب الضوء على ما احتجب، حتى ينكشف مع ما انكشف، فيزداد الإنسان علما بدنياه، فيزداد نتيجة لذلك قدرة على أن يمسك بالعنان، وأراني من الصنف الثاني، وأرى كثيرين حولي من الصنف الأول، وحول هذا المحور الانقسامي تدور حياتنا الفكرية كلها.
الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، ويطمئن لما هو معلوم له اطمئنانه للضوء، ففي الظلام تنشط العفاريت وتتحرك الأشباح، وتستيقظ كثرة كثيرة من الحيوان المخيفة ومن الحشرات القارضة واللاسعة والسامة، وكذلك في ظلام الليل يسطو اللصوص على فرائسهم وتحاك المؤامرات وتدبر الوقيعة، مهما قيل بعد ذلك عن الليل من حلو السمر فيه ولقاء المحبين، وحقيق بالمؤمن أن يعوذ برب الفلق من شر غاسق إذا وقب، ففي ستر الغسق ينزوي الشر من مكامنه، وتنفث النفاثات بسحرهن في العقد ليؤذين من أردن بهم الأذى، ويدبر الحاسد شراك حسده ليهدم من يدبر له أن ينهدم، ولما كان الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، حق للمؤمن أن يعوذ برب الفلق من خطورة المجهول وشره، ولكنني أرى - وا عجباه - أصحاب الفكر منا ينقسمون رأيين: فإذا كانت دنيانا فيها المعلوم لنا وفيها المجهول، والمعلوم ضوء والمجهول ظلام، والأول مؤنس والثاني موحش، فمنا من يتجه برأيه إلى محاولة أن يصبح الكل معلوما - ما وسع الإنسان أن يعلم - ليصبح الكل نورا تطمئن له النفوس، ومنا كذلك من يتجه برأيه في الاتجاه المضاد، فيحاول أن يبين للناس أن ما حسبوه معلوما إنما هو مغلق مجهول، فالكل علينا ظلام في ظلام، وبين من يسعى إلى إضاءة المظلم، ومن يحاول إظلام المضيء، تقع حياتنا الفكرية جدالا لا أظنه ينفع أحدا أو يشفع لأحد.
علم الإنسان بشيء معناه حريته إزاء ذلك الشيء، يصوغه كما شاء ويحركه كما شاء، ومزيد من العلم به هو في الوقت نفسه مزيد من حرية الإنسان، إنه إذا بقي الإنسان منحصرا في ذاته هو، لما عرف الكثير عن تلك الذات نفسها، ولما استطاع عندئذ أن يتحرك إلا بمقدار ما تسعفه رجلاه على التحرك، وكان تطوره في هذا الصدد يقف عند حدود الدواب التي يجد في مقدوره أن يسخرها، لكنه إذ عرف سر البخار وقدرته، كان له القطار والباخرة والمصنع الذي تدور عجلاته بغير سواعد البشر، وإذ عرف الكهرباء ازداد تحرره من قيد المكان، وتحولت ظلمة الليل إلى ضوء النهار، إذا أراد لها الإنسان أن تتحول، ثم عرف الذرة وقوتها الحبيسة، فعرف كيف يطلق تلك القوة من سجنها، فكان له ما كان من معجزات تتكشف له كل صباح. إن التحرر من قيود المكان وقيود الزمان، هو من أبرز ما يميز الإنسان من سائر الكائنات الحية، فالنبات سجين موقعه من الأرض، لا يتحول عنه إلى موقع آخر، فلئن كان يعلو بجذعه وفروعه في حركة رأسية، فهو لا يستطيع الحركة الأفقية التي فيها أمام وفيها وراء، وفيها يمين ويسار، فيأتي بعد النبات حيوان ليقهر قيد المكان، محدودا في ذلك بحركة جسمه، لكنه يظل مقيدا بلحظته الزمنية، فهو لا يعرف من زمانه إلا «الآن»، ليس له أمس ولا غد، ليس له تاريخ يعيه ويستلهمه، وليس له مستقبل يتسلفه ويدبر له، وأما الإنسان ففي جوهره أن يحطم قيود المكان وقيود الزمان معا، دون أن تحده في ذلك حدود، فها هو ذا قد أخذ يزداد تحررا في خفة حركته وسرعتها، حتى تغلب على قوة الأرض في جذبها لجسده؛ إذ جاوز حدود الأرض وغلافها ومجالها، وأما قيود الزمان فقد أعانته فطرته على تحطيمها منذ خلقه الله إنسانا، إن اللحظة الراهنة لا تعتقله بحدودها، فله من الخيال ما يطير به إلى اللانهاية فيما هو آت أو ما يقدر هو بحسابه أنه آت - ولا يزيل عنه قوة الخيال أن يخطئ في الحساب - كما أن له من قوة الذاكرة ما يسترجع به الماضي وكأنه يحيا في رحابه مع أبناء ذلك الماضي.
Bilinmeyen sayfa