فعندئذ قبل نصيحة عمرو، وأشخصه على رأس جيش عدته ستة آلاف رجل، وخرج يودعه ولا يزال يحذره العجلة ويوصيه بالرفق «فإنه يمن، والعجلة من الشيطان».
ولولا الكتاب من أنصاره بمصر لقد كان معاوية يؤثر أن يفتحها له أولئك الأنصار، وأن يولي عليها زعيما من زعمائهم، وله الحجة الناهضة في ذلك، إذ كان القائد المتغلب على البلد أولى بولايته من الطارق الواغل الذي يقبل عليه لينازعه ثمرة جهاده.
على أن مصر لم تكن إلى ذلك الحين طعمة سائغة ولا طعمة عصية، فقد كان فيها محمد بن أبي بكر لا يزال واليا عليها من قبل علي بن أبي طالب، وكان قد ولاه حكمها بعد عزل قيس بن سعد، أقدر رجاله وأخبرهم بشئون الولاية والسياسة، فقال قيس وهو يسلمه مقاليد الأمر: «ليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وأنا أدلك على الذي كنت أكايد به معاوية وعمرا وجماعة العثمانية المقيمين بخربتا، فكايدهم به ...!» إلا أن محمد بن أبي بكر لم يستمع له واستغشه، وبطش بالعثمانية بطشة عنيفة فثاروا عليه، وثار معهم من لم يكن على رأيهم، وأبوا أن يقيموا على حكمه، فصالحهم آخر الأمر على أن يلحقوا بمعاوية في الشام، فلحق به الغلاة منهم وبقيت لهم بقية تنطوي على مضض وتترقب الفرصة، وتزداد أملا ويزداد الأنصار من حولها كلما تضاءل أمر علي وتعاظم ملك معاوية.
فلما أقبل عمرو على مصر أقبل عليها فاتحا قبل أن ينالها واليا مكين الولاية، وكان «عمرو الفاتح» يعمل لمعاوية كمن يعمل «لعمرو الوالي» إذا تم له الفتح كما اشتهاه.
وأوشك الفتح الثاني أن يكون نسخة مكررة من الفتح الأول: عمرو يستعجل غزو مصر ويتهم بالعجلة، ثم يدخل مصر وفيها حكومة وشعب لا يتفقان، ثم يسلك الطريق الذي سلكه أول مرة، ثم يلتقي بجيش محمد بن أبي بكر، كما التقى بجيش الرومان من قبل في جيزة بلبيس، على مسافة قريبة من الوقعة الأولى عند قرية تسمى المنشأة.
أما محمد بن أبي بكر فقد دافع عن مصر دفاع المستميت، وصمد لأنصار معاوية المقيمين والقادمين صمود الأبطال، ولكنه أخفق في دفاعه؛ لأنه لم يلبث أن رأى جنوده يتفرقون عنه يأسا من الدولة المولية، وأملا في الدولة المقبلة، ثم تعقبه أعداؤه حتى ظفروا به فمثلوا به شر تمثيل!
ومن الإنصاف لعمرو أن يعلم أنه كان بريء اليد في هذه المثلة الذميمة، فقد كان عمرو يشير على معاوية بقتل الأسرى والنقمة من أصحاب علي، حيث كان معاوية هو المسئول عن قتلهم والنقمة منهم، فلما تفرد بالتبعة في أمثال هذه المشورات أقصاها عنه جهده، ووقف منها موقف من لا يدفع ولا يمنع، فكتب إلى محمد بن أبي بكر يقول له: «تنح عني بدمك يا بن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر.» ثم وقع محمد في أسر معاوية بن حديج، وهو من أسفه العثمانية عصبية لحزبه، فأرسل إليه عمرو أن يأتيه به كرامة لأبيه ولأخيه عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد كان من عجائب التفرق بين الأحزاب أن محمدا يشايع عليا، وعبد الرحمن يحاربه في جيش الشام! فلم تنفع وساطة عمرو، وأقسم معاوية بن حديج ليقتلنه شر قتلة، وجاء به، فطلب ماء فقال ابن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة! إنكم منعتم عثمان الماء ثم قتلتموه صائما، فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك يا بن أبي بكر، فليسقك الله من الجحيم!
ولم تفارق محمدا أنفته بين يدي آسريه، فأغلظ الجواب لهم وتلفت قائلا: والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا، فقتلوه «وألقوه في جيفة حمار ميت، ثم حرقوه بالنار»!
ونفض عمرو يده من هذه المثلات وأشباهها، وجهد في تهدئة الزعازع بمصر، وتمهيد الأمر فيها لنفسه ولأعقابه من بعده، وسرعان ما تمهد له بعد مقتل علي ونجاته هو من القتل في السابع عشر من رمضان سنة أربعين للهجرة.
وذلك أن ثلاثة من الخوارج تآمروا على قتل علي ومعاوية وعمرو في ليلة واحدة، فأما صاحب علي فقد أصابه، وأما معاوية وعمرو فقد نجوا من صاحبيهما، وقتل خارجة بن حذافة صاحب الشرطة؛ لأنه خرج للصلاة في مكان عمرو، إذ كان هذا يشتكي بطنه في تلك الليلة، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة! وأمر بقتله.
Bilinmeyen sayfa