زعموا أن المساومة جرت بين الرجلين أول ما التقيا، فسأل معاوية عمرا أن يتبعه، فأقبل عمرو يسأله: لماذا؟ للآخرة؟ فوالله ما معك آخرة! إنما هي الدنيا نتكالب عليها، فلا كانت حتى أكون شريكك فيها، وأخذ معاوية يذكر ممالأة علي على قتل عثمان، وأنه أظهر الفتنة وفرق الجماعة، فقال عمرو: إنه وإن كان كذلك فإن المسلمين لا يعدلون به أحدا، وليست لك مثل سابقته وقرابته، ثم عاد يساوم مرة أخرى، فسأل معاوية: ولكن ما لي إن شايعتك؟ قال معاوية: حكمك، قال عمرو: اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية، فتلكأ معاوية ولم يجبه، وحذر عتبة بن أبي سفيان العاقبة، فحذرها معاوية وقال لي لائما: أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن صفت لك؟ فليتك لا تغلب على الشام.
فرضي بالصفقة واتفقا عليها.
وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار وصحة هذه الكلمات، وما ثبت نقله وما لم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه ولو اجتمعت التواريخ قاطبة على نقضه، أن الاتفاق بين الرجلين كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وإن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق.
فكان معاوية يطمح إلى الخلافة يتولاها ويورثها أعقابه من بعده.
وكان عمرو يطمح إلى ولاية مصر جامعة، وهي عنده تعدل الخلافة ما لم يكن إلى الخلافة سبيل، ويرجو أن يضم إليها الشام وأن يترك ولايته ميراثا من بعده لولده عبد الله.
ومثل هذا الاتفاق أقوى اتفاق، ولكنه قد ينقلب في حالة في حالاته فإذا هو أضعف اتفاق وأقربه إلى النقض والانتقاض.
فمن سر القوة فيه أن يعمل الرجل لصاحبه كأنه يعمل لنفسه، ما دامت وسيلته من وسيلته، وما دامت لهما غاية واحدة يتلاقيان عندها!
ومن سر الضعف فيه أن الشريك هنا هو أعدى الأعداء وأولى المنافسين بالتخلص منه إذا أمكن وجه الخلاص؟
وقد أعانت على هذا الاتفاق أمور كثيرة أهمها أمران: وهما أن عمرا لم يكن على أمل في ناحية أخرى، فإذا فسد الأمر على معاوية فسد الأمر عليه، وإن معاوية كان يعلم أنه يساوم شيخا يدلف إلى الثمانين ويوشك أن يودع دنياه فما ربحه منه فهو دائم له، وما خسره في مرضاته صائر إليه.
على أن عمرا من جانبه كان رجلا ممتلئا بالحياة في شيخوخته، جريء المطامع ما بقي في الدنيا مطمع يتخايل بين عينيه، فلم يكن ييأس من الخلافة نفسها، ولم يستبعد قط أن تسنح له سانحة من طوارئ القدر يغلب فيها معاوية على عرش الدولة التي شاركه في تأسيسها، فربما أخلص معه العمل في هزيمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولكنه لم يخلص معه العمل في تمكينه كل التمكين حتى يستغني عنه ويتغير له، ويثبت في الخلافة ثبوتا لا مطمع بعده لطامع.
Bilinmeyen sayfa