فالزعيم المصري هنا شخص يفرضه التاريخ فرضا، ويتطلب منه تبعة لا يقوم بها سواه.
وهذه التبعة تدل كذلك على حالة محدودة واضحة، لا تلتبس بغيرها من الحالات.
إن الصلح في مصر كان نسخة مكررة من الصلح في فلسطين.
ففي العهدين معا أمان للبيع والكنائس، واتفاق على خروج من يريد الخروج مع الروم من أهل البلاد.
وفي عهد فلسطين أمان من إكراه أهل بيت المقدس على مساكنة اليهود، يقابله في عهد مصر أمان من إكراه أهلها على مساكنة النوب؛ لأنهم كانوا معهم قبل ذلك في قتال على الشئون الدنيوية والدينية.
فلا موضع هنا لخيانة ابتدعها الزعيم الوطني في الديار المصرية؛ لأنه لم يقبل شيئا أقل مما قبله أهل فلسطين.
وقد تذكر كلمة الخيانة إذا كانت الدولة الرومانية قادرة على حماية مصر عاجزة عن حماية فلسطين، ولكنه فرض بعيد لا يخطر على بال أحد ينظر إلى الموقف اليوم، أو كان ينظر إليه كما رآه المعاصرون في تلك الأيام.
فالدفاع عن فلسطين أهون من الدفاع عن مصر بكثير؛ لأن طريق البر مفتوح بين بلاد الدولة الرومانية في آسيا الصغرى، وبين ميادين فلسطين من شمالها إلى جنوبها، فإذا كانت الدولة الرومانية لا تستطيع أن تبعث البعوث إلى جيرتها القريبة، فهي أعجز عن ذلك في الميادين المصرية، وإذا كانت السفن لا تسعفها على شواطئ فلسطين فهي لا تسعفها في الإسكندرية ودمياط.
ولا بد من النظر إلى اعتبار آخر في هذا الموقف، وهو حالة فلسطين من الوجهة الدينية، فإن هرقل كان خليقا أن يهتم باستبقائها، لما فيها من الأماكن المقدسة التي تقوم عليها صفته في عاصمة الدولة الشرقية على الخصوص، وإن رعاياه هناك لم يكن عندهم من أسباب النقمة عليه شيء يثنيهم عن تأييده واستبقاء ملكه؛ لأنه لم يكرههم على خلاف عقيدتهم كما فعل في مصر، ولم تزل ذكرى دخوله بيت المقدس، وحفاوة أهلها به ووعدهم بالكفارة عن يمينه مدى السنين عالقة بأذهان القادة والأتباع في تلك البلاد.
وربما وجد من المؤرخين من يصف المقوقس بالخيانة، إذا كانت دولة الرومان قادرة على شيء في الدفاع عن مصر، فحال بينها وبين المثابرة على الدفاع، فقد يقال حينئذ: إنه موظف «روماني» خذل رؤساءه وسادته وسلم البلاد لقوم آخرين!
Bilinmeyen sayfa