وكانت سياحاته التجارية خليقة أن تطلعه على أسرار دخيلة ليس يفطن لها كل سائح، لامتيازه بنفاذ البصر وبلوغه مرتبة الحظوة عند بعض الأمراء الذين كانت له تجارة في بلادهم، ومن تلك الحظوة أن نجاشي الحبشة قد ألفه وعوده أن يلقاه كلما عاد إليه لقاء المودة، ويستمع له في خاصة أهله ويدعوه أحيانا بالصديق.
وسنجتزئ من أخبار سياحاته بطائفة قليلة فيها الغنى عن سائر تلك الأخبار وفيها كذلك غنى في الإبانة عن كثير مما يستحق الجلاء من خلائقه ومساعيه.
خرج إلى الحبشة في شبابه مع فتى عربيد من بني مخزوم يدعى عمارة بن الوليد، (وقد سبق ذكر هذه الحادثة على إيجاز)، فشربا في السفينة خمرا، فسكر عمارة ونظر إلى امرأة صاحبه نظرة مريبة وسألها أن تقبله، فكظم عمرو غيظه وقال لامرأته وهو يسر في نفسه شيئا: قبلي ابن عمك! فقبلته.
وطمع عمارة فلج في غيه، وتمادى في مراودة المرأة خلسة وعلانية وهي تمتنع عليه، فظن أن امتناعها لخشيتها من زوجها، وأنه بالغ مأربه إذا قذف به إلى البحر على غرة منه، فأمهل عمرا حتى دنا من حافة السفينة ودفع به إلى الماء، ثم أمعن في حماقته فصارح عمرا بسوء قصده، وقد نجا هذا سابحا من الغرق وعاد إلى السفينة، فقال له قولة تنضح بالحمق والغفلة: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت! أي: إنه كان ينوي له قتلة لا سلامة منها، فنجا وهو كاره لنجاته!
وتمضي الرواية فتنبئنا أن عمارة كان وسيما محببا إلى النساء، فدب إلى حرم النجاشي وخرج يفخر لعمرو بفعلته ويحدثه بنجواه مع خليلته، وعمرو يظهر له التكذيب ليستخرج منه دليل اليقين الذي لا يشك النجاشي في صدقه إذا نمى إليه، حتى ظفر منه بذلك الدليل فأورده موارد الهلكة في خبر طويل لا محل هنا لاستقصائه ...!
هذا خبر من أخبار رحلاته إلى الحبشة.
وخبر آخر من أخبار رحلاته إلى تلك البلاد رواه هو فقال ما فحواه: «جمعت رجالا من قريش بعد منصرف الأحزاب من الخندق فقلت لهم: إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلا يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا لرأي، قلت: فاجمعوا له ما يهدى إليه، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه وإنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري من قبل رسول الله، قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، رأت قريش أنني أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي! أهديت لي شيئا من بلادك؟ قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا، ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه!
ثم قلت: أيها الملك! إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فقلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟! فراعني ما سمعت وسألته: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، ثم بسط يده فبايعته على الإسلام.» •••
Bilinmeyen sayfa