والبديهة الحاضرة في أعمال عمرو لا تحصى شواهدها، فإنها تلازمه في جميع حالاته ولا تبدو منه في حالة دون حالة: تذكيها المآزق والخوف من الخطر، ولا تخمدها الطمأنينة والأمان في سرية، ويستخدمها لغيره كما يستخدمها لنفسه كما شاء.
خرج يعس بالليل وهو أمير على مصر، فسمع أناسا يقعون فيه ويتوعدونه وعلم أنه إن تركهم إلى غده لم يعرفهم ولم يظفر بأجمعهم فأقبل عليهم إقبال الخائف الطريد، وأوهمهم أنه يلوذ بهم ويضرع إليهم ألا يسلموه إلى الأمير؛ لأنه يتعقبه ويمعن في طلبه، فاستبقوا إلى تقييده وساقوه إلى باب قصره لا يتخلف أحد منهم طمعا في المثوبة، فأوصلهم إلى حيث أراد!
وقتل الروم رجلا من المسلمين حول الإسكندرية، واحتزوا رأسه وانطلقوا به إلى داخل الحصن، فأقسم أبناء قبيلته لا يدفن إلا برأسه، قال عمرو: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم! احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلا، ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم، فلما فعلوا إذا برأس صاحبهم يسقط عليهم، فقال: دونكم الآن فادفنوه برأسه.
أما البديهة الحاضرة في تعبير عمرو، فمسطورة الشواهد في مساجلاته وأجوبته ورسائله وأوصافه، فهي جميعا مثل من أمثلة الإيجاز والمضاء، كأنها ضرب من الاختزال لولا أنها واضحة وضوح التفصيل، وقد رويت له مقطوعات من الشعر تسلكه بين طبقة من الشعراء، لولا أن كلمات البديهة التي أثرت عنه قد غلبت على نظمه ونثره، فكانت أولى بالدلالة على العارضة القوية فيه وهي أنبغ ملكاته، وحسبك من نبوغ هذه الملكة فيه أنها كانت عند الفاروق من آيات قدرة الله، فكان إذا رأى رجلا يتلجلج في كلامه قال: آمنت بالله! ... خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد! •••
وإذا اجتمع للرجل ذكاء ماض، وعزيمة ماضية، ولسان ماض، وهوى يمضي في زمامه وينثني بعد عرامه، فذلك الرجل الذي يحسب له حساب في كل زمان وجد فيه.
ولكنه أحرى أن يحسب له كل حساب في أيام الفتن والقلاقل واختلاف الدعاوى والحقوق؛ لأنه يستطيع التفريق والتوفيق ويستطيع التأليب والتغليب، وعسير جدا أن يهمل شأنه بين الشيع والأحزاب، وإن لم يكن إهماله في غيبة الشيع والأحزاب جد عسير.
لهذا لم يظهر لعمرو بن العاص شأن ذو بال في الترشيح للخلافة بعد الفاروق، بل عد دخوله في هذا الأمر من الفضول والتظاهر بما ليس من قدره؛ فلما اجتمع رهط الشورى في بيت عائشة لانتخاب الخليفة أقبل هو والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما من مكانهما وهو يهزأ بهما قائلا: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في الشورى؟!
فما زالت الأيام تدور دوراتها حتى أصبح هذا المحصوب الذي استكثر عليه الجلوس بباب أهل الشورى، فإذا هو قبلة القصاد في مشكلة الخلافة، وكل من عداه لائذون بالأبواب ...!
ولا نختم الكلام في التعريف بعمرو حتى نومئ إلى تعريف له طريف من كلام مجالد عن الشعبي عن قبيصة عن جابر في رواية النجوم الزاهرة، حيث قال بعد كلام في وصف نفر من الصحابة: «... وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت أنصع ظرفا منه، ولا أكرم جليسا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.»
والطريف في هذا الوصف مشابهة السريرة والعلانية في الرجل الذي لم يشتهر بشيء كما اشتهر بالدهاء.
Bilinmeyen sayfa