الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
العميل السري
العميل السري
حكاية بسيطة
تأليف
جوزيف كونراد
ترجمة
إبراهيم سند أحمد
مراجعة
محمد حامد درويش
إلى
إتش جي ويلز
مدون وقائع حب السيد لويشام
وكاتب سيرة كيبس ومؤرخ العصور المقبلة
أهدي، مع حبي وتقديري، هذه الحكاية البسيطة من القرن التاسع عشر.
الفصل الأول
خرج السيد فيرلوك في الصباح وترك متجره ظاهريا في عهدة صهره. لم يواجه صهره صعوبة؛ لأن المتجر ما برح يشكو من قلة زبائنه، بل إن اليوم كان يخلو من العمل تماما حتى يدخل المساء. لم يكن السيد فيرلوك يكترث كثيرا بعمله الظاهري. بل إنه عهد برعاية صهره إلى زوجته.
كان المتجر صغيرا وكذلك المنزل. كان المنزل واحدا من تلك المنازل المبنية باللبنات ذات اللون القاتم التي غطت مساحة شاسعة قبل أن يبزغ فجر حقبة إعادة الإعمار على لندن. اتخذ المتجر شكلا مربعا وكانت الواجهة مزججة بألواح زجاجية صغيرة. كان الباب يظل مغلقا في فترة النهار، وفي المساء يوارب بحذر، ولكن على نحو يثير الشكوك.
احتوت النافذة على صور فوتوغرافية لفتيات راقصات عاريات أو شبه عاريات؛ وعبوات لا تحمل وصفا لمحتوياتها وملفوفة وكأنها أدوية مسجلة ببراءات اختراع؛ ومظاريف ورقية صفراء مغلقة من نوع رديء للغاية ومكتوب عليها الرقم اثنان والرقم ستة ببنط عريض أسود؛ وبضعة منشورات قديمة فرنسية ساخرة معلقة في خيط، وكأنها معلقة كي تجف؛ وطبق صيني بلون أزرق قاتم، وبرميل من الخشب الأسود، وزجاجات حبر غير قابل للمحو وأختام مطاطية؛ وبضعة كتب بعناوين تشير إلى محتوى غير لائق؛ وبضعة نسخ قديمة من جرائد غير معروفة ذات طباعة رديئة تحمل عناوين مثل «ذا تورتش»، «ذا جونج»؛ عناوين مثيرة. وفي الجهة الداخلية من الألواح الزجاجية كان يوجد موقدا غاز منخفض ضوءهما على الدوام؛ إما توفيرا للنفقات أو إرضاء للعملاء.
كان هؤلاء العملاء إما شبانا صغارا في السن يقفون أمام النافذة لمدة من الوقت قبل الدخول فجأة؛ أو رجالا ناضجين، ولكن يبدون عموما مفلسين. كان البعض من هذا النوع الأخير يرفعون ياقة المعطف بحيث تصل إلى شواربهم، وتلتصق آثار الطين في أسفل سراويلهم التي تبدو مهترئة جدا وليست ذات قيمة كبيرة. وكانت السيقان بداخل تلك السراويل تبدو عموما وكأنها جلد على عظم. وكانوا يدخلون من الباب بالورب، وقد أدخلوا أيديهم في جيوب معاطفهم، وكأنهم يتفادون الجرس ويخشون صلصلته.
كان يصعب تفادي الجرس المعلق على الباب في طوق مقوس من الفولاذ. كانت في الجرس تصدعات لا علاج لها؛ ولكن في المساء، عند أدنى حركة بجانبه، كان يصلصل من خلف العميل وكأنه صلصلة الرعد.
صلصل الجرس؛ وعند تلك الإشارة، ومن خلال الباب الزجاجي المكسو بالغبار، ومن خلف منضدة البيع، يخرج السيد فيرلوك مسرعا من غرفة المعيشة في الخلف. كان من الطبيعي أن يرى النعاس في عينيه؛ فقد كان يبدو وكأنه بات يتمرغ على سرير غير مرتب طوال اليوم بملابسه كاملة. لو كان رجلا آخر، كان سيشعر أن الخروج بهذا المظهر نقيصة لا اختلاف عليها. يعتمد نجاح معاملات البيع بالتجزئة اعتمادا كبيرا على طريقة جذب العملاء والتودد من جانب البائع. ولكن السيد فيرلوك كان يجيد عمله، ولم يكن يهتم البتة بشأن مظهره الجمالي. بنظرات عابسة وثابتة، بدا أنها تخرس ألسنة بعض المزعجين وتمنع توعدهم له، كان يباشر، من وراء منضدة البيع، بيع منتجات لا يختلف اثنان على أنها لا تساوي قيمة الأموال التي تدفع فيها؛ ومنها على سبيل المثال، صندوق صغير من الورق المقوى فارغ المحتوى على ما يبدو، أو مظروف من تلك المظاريف الصفراء ذات الجودة الرديئة والمغلقة بعناية، أو عدد مجلة ذو غلاف يحمل عنوانا واعدا. ومن وقت لآخر، كانت صور فتيات الرقص ذوات الأصل الآسيوي تباع إلى أحد الهواة ، وكأنها فتاة حقيقية تنبض بالحيوية والشباب.
في بعض الأحيان، كانت السيدة فيرلوك هي التي تخرج عند سماع صلصلة الجرس. كانت ويني فيرلوك شابة ممتلئة الصدر، ترتدي صدرية ضيقة، وذات فخذين عريضتين. كان شعرها مهندما. وبنظرات ثابتة مثل زوجها، كانت تقف خلف حاجز المنضدة وعلى وجهها تعبيرات لا مبالاة يستعصي فهم كنهها. حينئذ ربما كان الارتباك يتملك فجأة زبونا غضا بسبب اضطراره إلى التعامل مع امرأة، فيتقدم والغيظ يملأ قلبه ويطلب زجاجة حبر غير قابل للمحو؛ قيمة بيعه بالتجزئة ستة بنسات (السعر في متجر فيرلوك شلن وستة بنسات) وبمجرد أن يخرج من المتجر، يكون قد أنفق في صمت آخر بنس بحوزته.
كان زوار الليل - الرجال ذوو الياقات المرفوعة والقبعات الناعمة المائلة إلى الأمام - يأتون ويحيون السيدة فيرلوك بإيماءة فيها ألفة، وبعد التحية الصامتة يرفعون الحاجز القلاب في نهاية منضدة البيع من أجل المرور إلى غرفة المعيشة الخلفية، التي توصلهم إلى ممر ثم إلى درج شديد الانحدار. كان باب المتجر هو الوسيلة الوحيدة للدخول إلى المنزل الذي كان السيد فيرلوك يمارس أعماله فيه سواء باعتباره بائع سلع مشبوهة أو باعتباره حامي حمى المجتمع ومن يغرس فيه الفضيلة. وكثيرا ما كان يزعم الأمرين الأخيرين. كان يقضي جل وقته في بيته. لم تكن احتياجاته الروحية أو العقلية أو البدنية من النوع الذي يتطلب منه المكوث خارج البيت كثيرا. بل وجد في البيت راحة بدنه وسلامة عقله، إلى جانب الاعتناء من زوجته والاحترام من والدتها.
كانت والدة ويني امرأة بدينة، أنفاسها مصحوبة بصفير، ولها وجه بني كبير. كانت تضع شعرا أسود مستعارا تحت قلنسوة بيضاء. تسبب تورم ساقيها في خمول حركتها. كانت تعتبر نفسها من أصل فرنسي، وربما كان ذلك حقيقيا؛ وبعد سنوات عديدة من الحياة الزوجية مع بائع مرخص للمواد الكحولية من النوع المنتشر، انغمست في حياة الترمل بتأجير شقق مفروشة لرجال بالقرب من طريق جسر فوكسهول في ميدان كان - ولا يزال - ينطوي على بعض الرقي، في منطقة بلجرافيا. قدمت لها هذه السمات الطبوغرافية بعض المزايا في إعلانها عن شققها؛ ولكن زبائن الأرملة ذات الوجاهة لم يكونوا بالضبط من النوع العصري. ومع ما كانوا عليه من علات، ساعدت ابنتها ويني في الاعتناء بهم. تجلت سجايا الأصول الفرنسية، التي كانت الأرملة تتفاخر بها، في ويني أيضا. كانت بادية في تسريحة شعرها الأسود اللامع المنمقة والمتقنة. كانت ويني تتحلى بصفات جمالية أخرى، منها شبابها وقوامها الممتلئ والملفوف وبشرتها الصافية؛ وتفضيلها للتحفظ الذي يستعصي فهم ما وراءه، والذي لم يحملها على الامتناع عن محادثة المستأجرين، الذين كانوا يحادثونها بحماس، بينما تحادثهم بلطف وود مكافئ. لا بد أن السيد فيرلوك وقع في براثن سحرها. كان السيد فيرلوك من الزبائن الذين يأتون على فترات متقطعة. كان يأتي ويذهب من دون أي سبب واضح. وبوجه عام، وصل إلى لندن (مثل الأنفلونزا) من القارة الأوروبية، غير أنه وصل من دون أن تعلن الصحف عن مجيئه؛ وكان ينطلق في زياراته بعزيمة جبارة. كان يتناول إفطاره على السرير ويظل يتقلب فيه باستمتاع هادئ حتى ظهيرة كل يوم، بل ويتأخر حتى بعد الظهيرة في بعض الأحيان. ولكن عندما كان يخرج، كان يبدو أنه يواجه صعوبة كبيرة في أن يجد طريق عودته إلى منزله المؤقت الكائن في ميدان بلجرافيا. كان يغادر المنزل في وقت متأخر ويعود إليه في وقت مبكر - في حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا - وعندما يستيقظ في الساعة العاشرة، ينادي على ويني لكي تحضر له الإفطار ممازحا ومتلطفا بصوت أجش وواهن وبنبرات متعبة وكأنه ظل يتحدث بصوت عال لساعات متواصلة. كانت عيناه البارزتان المثقلتان بالنوم تدوران في محجريهما والتعب والغرام باديان فيهما، وأغطية السرير مشدودة حتى ذقنه، وشاربه الأسود الناعم يغطي شفتيه السميكتين اللتين لا تتوقفان عن المزاح المعسول.
من وجهة نظر والدة ويني، كان السيد فيرلوك رجلا لطيفا للغاية. من خبرات حياتها التي جمعتها من «بيوت عمل» مختلفة، وضعت المرأة الطيبة بعد تقاعدها مثالا في اللطف كما تتسم الزبائن في حانات الصالونات الخاصة. وكاد السيد فيرلوك أن يصل إلى ذلك المثال ؛ بل إنه، في الواقع، وصل إليه.
كانت ويني قد أوردت ملاحظة قائلة: «بالطبع سنتولى أمر أثاثك يا أمي.»
كان من المزمع أن يخلي المنزل. يبدو أنه لم يكن من الممكن الاستمرار في استئجاره. ربما كان ينطوي على الكثير من المتاعب للسيد فيرلوك. لم يكن المنزل ملائما لأعماله الأخرى. لم يقل ما هي أعماله الأخرى؛ ولكن بعد ارتباطه بويني تحمل عناء الاستيقاظ قبل الظهيرة، والنزول إلى الطابق السفلي، ورسم ابتسامة على وجهه من أجل والدة ويني القابعة دون حراك في غرفة الإفطار بالطابق السفلي. كان يداعب القطة ويحرك نار المدفأة، ويقدم له الغداء في تلك الغرفة. لم يخف تردده في مغادرة السرير الوثير، ولكن، على الرغم من ذلك، كان يبقى بالخارج حتى وقت متأخر من الليل. لم يعرض قط على ويني أن يصحبها إلى المسارح، مثلما كان يجب على رجل لطيف مثله أن يفعل. فقد كانت أمسياته مشغولة. أخبر ويني ذات مرة أن عمله له علاقة بالسياسة. ومن ثم، نبهها إلى ضرورة التلطف مع أصدقائه السياسيين.
وبنظرتها الحادة، التي لا يعرف ما وراءها، أجابته بأنها ستفعل ذلك بالطبع.
استعصى على والدة ويني أن تكتشف كم المعلومات التي ذكرها لزوجته عن عمله. تولى الزوجان أمرها مثلما توليا أمر أثاثها. ولكنها فوجئت بالمظهر القبيح للمتجر. أثر الانتقال من ميدان بلجرافيا إلى شارع ضيق في سوهو سلبا على ساقيها. أصبح حجمهما هائلا. ولكن من الناحية الأخرى، أزاحت عن كاهلها تماما الأعباء المادية. منحتها طيبة زوج ابنتها شعورا بالأمان المطلق. كان من الواضح أن مستقبل ابنتها صار مضمونا، وحتى بالنسبة إلى ابنها ستيفي، لم تعد بحاجة لأن تشعر بالقلق. لم تستطع أن تتغافل عن أنه عبء ثقيل، ذلك المسكين ستيفي. ولكن نظرا لولع ويني بأخيها الحساس، ونظرا للطف وكرم السيد فيرلوك، أحست بأن الصبي البائس في مأمن في هذا العالم القاسي. وفي صميم قلبها ربما لم تكن مستاءة من أن فيرلوك لم يكن لديه أطفال. نظرا لأن السيد فيرلوك لم يكترث لذلك الظرف، ولأن ويني وجدت نزعة تشبه نزعة الأمومة تجاه شقيقها، فربما كان هذا أيضا جيدا للمسكين ستيفي.
كان من الصعب التخلص من هذا الصبي. كان مرهف الحس، وكان حسن المظهر أيضا، بطريقة هشة، باستثناء تدلي شفته السفلية. وبفضل نظام التعليم الإجباري الذي يمتاز به مجتمعنا، تعلم القراءة والكتابة، على الرغم من مظهر شفته السفلية غير المحبب. ولكن عندما عمل مرسالا، لم يحقق نجاحات كبيرة. إذ كان ينسى رسائله؛ وكان يسهل أن يحيد عن مسار واجبه بالانجذاب إلى القطط والكلاب الضالة، التي كان يتبعها في الأزقة الضيقة إلى ساحات تعج بالقمامة؛ أو إلى العروض الكوميدية في الشوارع، التي كان يمكث لمشاهدتها فاغرا فاه، ومن ثم ينسى مصالح صاحب العمل؛ أو إلى العروض الدرامية التي تدور حول خيول تسقط مجندلة، حتى تدفعه الشفقة والعنف في بعض الأحيان إلى إطلاق صرخة مدوية وسط الحشود التي لم يكن يروقها أن تزعجها أصوات الحزن التي تخرب عليها استمتاعها الهادئ بالمشهد الوطني. وعندما كان يقتاده شرطي فظ يحميه بإبعاده، فغالبا ما كان يتضح أن ستيفي البائس قد نسي عنوانه، لمدة من الوقت على الأقل. كان سؤال بأسلوب فظ يتسبب له في التأتأة لدرجة الاختناق. وعندما يتملكه الذهول من أي شيء محير، كان يحدق بشكل مرعب. ومع ذلك، لم يكن قد عانى من أي نوبات في حياته (وكان هذا أمرا مشجعا)؛ وفي أيام طفولته، اعتاد أن يجري للاحتماء خلف أخته ويني قبل أن يصب والده نوبات غضبه الطبيعية عليه عندما ينفد صبره. ومن ناحية أخرى، ربما شك الآخرون في أنه كان يخفي قدرا من الطيش المتهور. عندما كان قد بلغ الرابعة عشرة من عمره، بعد أن منحه أحد أصدقاء والده الراحل، الذي كان وكيلا لشركة ألبان محفوظة أجنبية، فرصة العمل بوظيفة ساع، شوهد عصر أحد الأيام الضبابية، في غياب رئيسه، مشغولا بإطلاق ألعاب نارية على الدرج. في تتابع سريع، أطلق مجموعة من الصواريخ الشعواء والألعاب النارية المعروفة باسم عجلات كاثرين ومفرقعات عالية الصوت، وربما باتت المسألة بالغة الخطورة. انتشر هلع شديد في المبنى بكامله. أخذ موظفون انتابهم الهلع والاختناق يفرون عبر الممرات المليئة بالدخان، وتدحرج رجال أعمال مسنون يرتدون قبعات حريرية على السلم دون أن يلمسهم أحد. لم يبد أن ستيفي حصل على أي متعة شخصية مما فعله. ولذا استعصى التعرف على كنه دوافعه وراء هذا الذعر الذي تسبب فيه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أخذت منه ويني اعترافا اتسم بالغموض والتشويش. يبدو أن اثنين من موظفي البوفيه قد لعبا على مشاعره بسرد حكايات عن الظلم والقمع مما أثار تعاطفه إلى حد الجنون. ولكن بالطبع طرده صديق والده لأنه باختصار قد يخرب عمله. بعد هذا الاستغلال الإيثاري، أصبح عمل ستيفي هو المساعدة في غسل الأطباق في المطبخ الكائن بالطابق السفلي، وتلميع أحذية السادة مستأجري المنزل الكبير في بلجرافيا. لم يكن خافيا أن هذا العمل لم يكن له مستقبل. كان السادة يعطونه شلنا بقشيشا بين آن وآخر. كان السيد فيرلوك هو أكرم المستأجرين. ولكن كل هذا لم يبلغه الكثير سواء من حيث المكسب أو الفرص المستقبلية؛ ومن ثم لما أعلنت ويني خطبتها إلى السيد فيرلوك لم تتساءل الأم عما سيحل بستيفي البائس الآن، وأخذت تتنهد وهي تنظر صوب غرفة غسل الأطباق.
اتضح أن السيد فيرلوك كان عازما على تولي أمره وأمر أم زوجته وأمر الأثاث الذي كان يمثل كامل الثروة الواضحة للأسرة. اتسع صدر السيد فيرلوك لكل شيء إذ كان من طبيعته سعة الصدر والطيبة. وزع الأثاث بأفضل ما يكون في أرجاء المنزل، ولكن إقامة والدة ويني انحصرت في غرفتين خلفيتين بالطابق الأول. اتخذ ستيفي التعيس الحظ واحدة منهما كي ينام فيها. بحلول ذلك الوقت، كان نمو الشعر الأصفر الرقيق قد بدأ على نحو غير واضح، وأصبح يشكل خطا دقيقا كقطرات ندى ذهبية على فكه السفلي الصغير. ساعد أخته بحب مطلق وطاعة في أداء واجباتها المنزلية. فكر السيد فيرلوك في أن انشغاله بعمل ما سيكون جيدا له. لذا شغل وقت فراغه برسم دوائر باستخدام فرجار وقلم رصاص على قصاصة ورق . شغل نفسه بتلك التسلية ولم ينقطع عنها وهو جالس على طاولة المطبخ ومرفقاه مفرودان وظهره منحن عليها. عبر الباب المفتوح لغرفة المعيشة الكائنة في الجزء الخلفي من المتجر، اعتادت أخته ويني أن تراقبه من وقت إلى آخر بيقظة الأم.
الفصل الثاني
هكذا كان حال المنزل والأسرة والأعمال التي خلفها السيد فيرلوك وراءه وهو في طريقه غربا في الساعة العاشرة والنصف صباحا. كان الوقت مبكرا على نحو غير معتاد له؛ وكانت تنبعث من جسده كله نضارة الندى الساحرة؛ وارتدى معطفا أزرق من دون أن يربط أزراره؛ وكان حذاؤه لامعا؛ وحلق ذقنه في الصباح، وكانت لامعة نوعا ما؛ وحتى عيناه المثقلتان بالنوم انتعشتا بعد نوم هادئ وكانتا تبعثان نظرات تنم عن يقظة غير معهودة. عبر سياج الحديقة، وقعت هذه النظرات على رجال ونساء يركبون الخيول في طريق رو، وأزواج يتجولون في انسجام، وآخرين يتنزهون في هدوء، ومجموعات مكونة من ثلاثة أفراد أو أربعة يتسكعون، وفرسان منعزلين يبدون منطوين على أنفسهم، ونساء يمشين بمفردهن ويتبعهن على مسافة بعيدة رجل يربط عقدة بشريط على قبعته ويرتدي حزاما جلديا فوق معطفه الضيق. مضت عربات بسرعة وسلاسة، معظمها عربات خفيفة يجرها حصانان، وهنا وهناك كانت ترى عربة فيكتوريا مكشوفة مكسوة بجلد حيوان بري من الداخل ويظهر من فوق الغطاء المطوي وجه امرأة وقبعة. وشمس لندن المميزة - التي لا يمكن أن يقال فيها شيء سوى أنها بدت مشربة بالحمرة - تمجد كل هذا بنظرتها. ارتفعت إلى كبد السماء فوق حديقة هايد بارك كورنر وسطعت بأشعتها في يقظة دقيقة وحميدة. وكان للرصيف نفسه تحت أقدام السيد فيرلوك مسحة ذهبية في ذلك الضوء المنتشر، في وقت لم يكن فيه ظل لحائط أو شجر أو حيوان أو إنسان. كان السيد فيرلوك ماضيا غربا عبر مدينة لا ظلال فيها في جو تنشر فيه الشمس أشعتها الذهبية. انعكست الأشعة ذات اللون النحاسي الأحمر على أسقف المنازل وزوايا الجدران وألواح العربات وسروج الخيول وعلى ظهر المعطف العريض الذي كان يرتديه السيد فيرلوك؛ حيث أعطت تأثيرا باهتا كالصدأ. ولكن السيد فيرلوك لم يدرك بأي حال أن ملابسه تعكس ذلك اللون الصدئ. أخذ ينظر بعين الرضا من فوق سياج الحديقة إلى ترف المدينة ورفاهيتها. لا بد من توفير الحماية لكل هؤلاء الناس. الحماية هي الضرورة الأولى من أجل الترف والرفاهية. لا بد من توفير الحماية لهم؛ ولا بد من توفير الحماية لخيولهم وعرباتهم ومنازلهم وخدمهم؛ ولا بد من توفير الحماية لمصدر ثروتهم وينبغي أن يدرك المسئولون في المدينة والدولة ذلك؛ ولا بد من توفير الحماية للنظام الاجتماعي بالكامل الملائم لبطالتهم ذات الآثار الصحية الإيجابية من الغيرة السطحية للعمالة غير الصحية. كان لا بد من حمايتها؛ ولو لم يكن السيد فيرلوك ساخطا من الناحية الدستورية على كل مجهود غير ضروري، لفرك يده تعبيرا عن الرضا. لم يكن خموله صحيا، ولكنه أتى على هواه. كرس حياته لتلك المعيشة بشيء من التعصب الخامل أو بالأحرى الخمول المتعصب. ولد من أبوين كادحين في الحياة، ولكنه آثر التراخي من دافع في أعماقه لا يمكن تفسيره ولا يمكن نكرانه مثل نبض القلب الذي يفضل امرأة معينة على باقي النساء. بلغ الكسل منه مبلغا لا يبلغه حتى زعيم حركة لا سلطوية أو خطيب عمال أو قائد حركة عمالية. كانت هذه مشكلة كبيرة للغاية. سعى إلى حياة من الدعة الكاملة؛ أو ربما وقع ضحية عدم إيمان فلسفي بفاعلية كل جهد بشري. هذا الشكل من التراخي يتطلب، بل ينطوي على قدر من الذكاء. لم يكن السيد فيرلوك منعدم الذكاء، وردا على فكرة وجود نظام اجتماعي مهدد، ربما كان سيغمز بعينه لنفسه لو لم يكن ثمة جهد في إتيان تلك العلامة الدالة على التشكك. لم تكن عينه الكبيرة والبارزة متكيفة جيدا على الغمز. كانت بالأحرى من النوع الذي يغلق بوقار وكأنه يهجع إلى النوم مع تأثير مهيب.
كان السيد فيرلوك يتصف بالغموض وضخامة البنية وكأنه حيوان ضخم؛ ومن دون أن يفرك يديه تعبيرا عن الرضا أو يغمز تعبيرا عن الشك في أفكاره، تقدم في طريقه. أخذ يدب على الرصيف متثاقل الخطى بحذائه اللامع، ومظهره العام يوحي بأنه ميكانيكي موسر ماض في عمل خاص. ربما كان يمتهن أي مهنة بداية من صانع إطارات صور وحتى صانع أقفال؛ أو صاحب عمل في مشروع صغير. ومع ذلك، كان يكتنفه أيضا مظهر لا يوصف لم يكن من الممكن أن يكتسبه أي ميكانيكي في ممارسة مهنته مهما كان يمارسها بطرق غير سوية؛ المظهر المشترك بين الرجال الذين يعيشون على الرذائل، أو الحماقات، أو المخاوف الأساسية لدى البشرية؛ مظهر العدمية الأخلاقية الشائع بين رعاة صالات القمار وبيوت الدعارة؛ الشائع بين أفراد البوليس السري ووكلاء التحقيقات؛ بين بائعي الخمور، ويمكن القول، بين بائعي الأحزمة الكهربائية المنشطة ومبتكري الأدوية المسجلة ببراءات اختراع. ولكني لست متأكدا من هذا الأخير؛ لأنني لم أتعمق في تحقيقاتي في ذلك الأمر حتى الآن. وعلى حد علمي، قد تكون سحنة هؤلاء الأشخاص الأخيرين شرا مستطيرا. لا ينبغي أن أتفاجأ. ما أريد التأكيد عليه هو أن سحنة السيد فيرلوك كانت بلا جدال سحنة شيطانية.
قبل الوصول إلى نايتسبريدج، انعطف السيد فيرلوك إلى اليسار بعيدا عن الطريق العام المزدحم وعن صخب سيارات النقل العام المترنحة وعربات النقل السريعة، ودخل بين عربات الخيول السريعة التي لا تكاد تسمع لها صخبا. تحت قبعته، التي كان يرتديها مائلة قليلا إلى الخلف، كان شعره ممشطا بعناية حتى صار ناعما؛ لأن الشأن الذي كان ماضيا إليه هو مع إحدى السفارات. وفي ذلك الوقت كان السيد فيرلوك يسير، راسخا كصخرة - صخرة من نوع ناعم - في شارع من الملائم للغاية وصفه بأنه شارع خاص. تجلت فخامة الشارع في عرضه وعدم ازدحامه ومدى عظم طبيعته الجامدة المصنوعة من مادة لا تموت. كان التذكير الوحيد للموت هو عربة طبيب تجرها الخيول واقفة في عزلة مهيبة بالقرب من الرصيف. التمعت مقارع الأبواب المصقولة بقدر ما أمكن للعين أن تصل إليه، والتمعت النوافذ النظيفة ببريق معتم داكن. وكان كل شيء ساكنا. لكن قطعت هذا الهدوء ضوضاء عربة حليب لاحت من مسافة بعيدة؛ وانطلق صبي جزار، يقود بالتهور النبيل لقائد عجلة حربية في ألعاب أولمبية، وانعطف عند ناصية الشارع وهو جالس مرتفعا على عجلتين حمراوين. خرجت قطة، تبدو وكأنها ارتكبت جرما، من تحت الصخور وركضت لبعض الوقت أمام السيد فيرلوك، ثم اختفت في قبو آخر؛ شرطي سمين بدا أنه لا يتحرك البتة، كما لو كان هو الآخر جمادا، لما خرج من خلف عمود الإنارة، لم يلحظ السيد فيرلوك البتة. تابع السيد فيرلوك طريقه منعطفا إلى اليسار في شارع ضيق بجانب حائط أصفر، ولسبب غامض، كان يوجد على الجدار لوحة مكتوب عليها بحروف سوداء «رقم 1 ميدان تشيشام». كان ميدان تشيشام يبعد مسافة لا تقل عن ستين ياردة، ولأن السيد فيرلوك كان واسع الاطلاع بحيث لم يكن من الممكن أن ينخدع بألغاز لندن الطبوغرافية، فقد تابع سيره بثبات، دون أن تبدر منه إشارة على المفاجأة أو السخط. وفي النهاية، وبإصرار جاد، وصل إلى الميدان وقطع الطريق إلى البناية رقم 10. تضمنت هذه البناية بوابة تحميل ضخمة مثبتة في جدار نظيف بين منزلين يحمل أحدهما الرقم 9، وهو شيء منطقي، والآخر الرقم 37؛ ولكن الحقيقة أن هذا المنزل الأخير كان يقع في شارع بورتهيل، وهو شارع معروف في الحي، عرفه من خلال نقش فوق نوافذ الطابق الأرضي كتبته سلطة ذات كفاءة عالية ومسئولة عن تتبع المنازل الشاردة في لندن. من الألغاز التي تحوم حول إدارة البلدية لماذا لا يطلب من البرلمان صلاحيات (قرار مقتضب سيفي بالغرض) لإجبار تلك الصروح على العودة إلى حيث تنتمي. لم يشغل السيد فيرلوك رأسه بتلك الأمور، فمهمته في الحياة هي حماية النظام الاجتماعي، وليس الوصول به إلى المثالية أو حتى انتقاده.
في وقت مبكر، خرج الحارس من السفارة على عجل من مأواه وهو لا يزال يحاول ارتداء كم معطفه الأيسر. كان يرتدي صدرية حمراء وسروالا يصل إلى الركبة، لكنه بدا مضطربا. لما كان السيد فيرلوك مدركا للمندفع الذي مر من جانبه، لم يصعب عليه أن يدفعه بعيدا لما أمسك مظروفا عليه خاتم السفارة وناوله إياه . أخرج التعويذة نفسها إلى الخادم الذي فتح الباب وتراجع كي يسمح له بدخول القاعة.
اتقد لهب نظيف في مدفأة طويلة، ونظر رجل مسن، كان يقف موليا ظهره للمدفأة، ويرتدي ملابس الليل والسلسلة في رقبته، من فوق الجريدة التي كان يمسكها بيديه كلتيهما أمام وجهه الهادئ الذي لم تكن تظهر عليه أي انفعالات. لم يتحرك؛ ولكن خادما آخر يرتدي سروالا بنيا ومعطفا له ذيل مثبت في حافته حبل أصفر رفيع اقترب من السيد فيرلوك واستمع إليه وهو يتمتم باسمه، واستدار في صمت وبدأ يمشي من دون أن ينظر خلفه. ومن ثم اقتيد السيد فيرلوك في ممر في الطابق الأرضي إلى يسار السلم المفروش بالسجاد، وأشير إليه فجأة أن يدخل غرفة صغيرة جدا تحتوي على مكتب ثقيل وبعض المقاعد. أغلق الخادم الباب، وبقي السيد فيرلوك بمفرده. لم يجلس. أمسك قبعته وعصاه بإحدى يديه ونظر فيما حوله، وأخذ يمرر يده المكتنزة فوق شعره الناعم المكشوف.
فتح باب آخر من دون صوت، وتجمد نظر السيد فيرلوك في هذا الاتجاه ورأى للوهلة الأولى ملابس سوداء ورأسا أصلع من الأعلى وسالفا رماديا داكنا يتدلى على كل جانب في يدين متجعدتين. كان الرجل الذي دخل لتوه يمسك حزمة أوراق أمام عينيه ومشى إلى المكتب بخطى هادئة وقلب الأوراق بين الحين والآخر. كان المستشار الخاص وورمت، مستشار السفارة، مصابا بقصر النظر. بعدما وضع هذا المسئول رفيع المستوى الأوراق على المكتب، كشف عن وجه أبيض البشرة ويعلوه قبح الكآبة وتكسوه شعيرات رمادية ناعمة وطويلة وفوق عينيه حواجب كثيفة الشعر. ارتدى نظارة أنفية ذات إطار أسود فوق أنف حاد وعديم الشكل، وبدا مصدوما من مظهر السيد فيرلوك. ومن تحت الحواجب الكثيفة الشعر وعبر النظارة، رمشت عيناه الضعيفتان بطريقة مثيرة للشفقة.
لم يبد أي علامة على التحية، وكذلك لم يفعل السيد فيرلوك، الذي كان يعرف مكانته بالتأكيد، ولكن تغييرا طفيفا في حواف كتفي السيد فيرلوك وظهره أوحى بانحناء طفيف في عموده الفقري تحت معطفه الواسع. كان لهذا التأثير اعتبار غير بارز .
قال الموظف البيروقراطي بصوت ناعم ومتعب على نحو غير متوقع: «لدي هنا بعض من تقاريرك»، وأخذ يضغط بطرف إصبعه بقوة على الأوراق. توقف عن الكلام؛ وانتظر السيد فيرلوك، الذي كان قد تعرف على خط يده على نحو جيد للغاية، في صمت وكأن على رأسه الطير. أردف الآخر، وقد بدت عليه جميع مظاهر الإرهاق العقلي: «لسنا راضين جدا عن موقف الشرطة هنا.»
بدا أن السيد فيرلوك هز كتفيه، ولكنه لم يفعل ذلك في الواقع. وفتح شفتيه للمرة الأولى منذ أن خرج من منزله في ذلك الصباح.
قال بطريقة متفلسفة: «كل بلد لديه شرطته.» ولكن موظف السفارة تابع النظر إليه بثبات وهو يرمش مما أشعره بأنه ملزم بأن يضيف قائلا: «اسمح لي أن أنوه إلى أنه ليس لي سبيل على الشرطة هنا.»
قال الرجل حامل الأوراق: «المطلوب هو وقوع حدث محدد يستثير يقظتهم. وذلك ضمن نطاق عملك، أليس كذلك؟»
لم يجب السيد فيرلوك بأكثر من تنهيدة، أفلتت منه عن غير قصد، مما حمله على رسم تعبير مرح على وجهه على الفور. نظر الموظف إليه متشككا وهو يرمش، وكأنه تأثر بضوء الغرفة الخافت. ثم كرر عبارات غامضة. «يقظة الشرطة؛ وصرامة القضاة. الهوادة العامة في الإجراءات القضائية هنا والغياب التام للتدابير القمعية، عار على أوروبا. ما نرغب فيه الآن هو التركيز على الفوضى، على حالة الهياج التي هي بلا شك موجودة.»
قاطعه السيد فيرلوك بنبرة جهورية تراعي سمات الخطابة؛ ومن ثم باتت تخالف تماما النبرة التي تحدث بها من قبل، حتى إن مخاطبه ظل مشدوها للغاية: «بلا شك، بلا شك. إنها موجودة ووصلت إلى درجة خطيرة. إن تقاريري عن الاثني عشر شهرا الماضية توضح الأمر بالقدر الكافي.»
شرع مستشار الدولة السيد وورمت في الحديث بنبرته اللطيفة والهادئة: «لقد قرأت تقاريرك عن الاثني عشر شهرا الماضية. ولقد عجزت تماما عن اكتشاف السبب الذي دفعك لكتابتها.»
ساد صمت كئيب لفترة. بدا أن السيد فيرلوك ابتلع لسانه وما انفك الآخر يحملق في الأوراق على المكتب. في النهاية دفعها قليلا. «من المفترض أن يكون الوضع الراهن الذي تعرضه في التقارير هو الحالة الأولى في توظيفك. ليست الكتابة هي المطلوبة في الوقت الحالي، وإنما إلقاء الضوء على واقعة محددة وضرورية، يمكنني القول إنها واقعة تنذر بخطر.»
قال السيد فيرلوك بعد تعديلات مقنعة في نبرة صوته الأجش: «لست بحاجة إلى أن أقول إنني سأوجه كامل جهدي إلى تلك الغاية.» لكنه انزعج من التحديق إليه من خلف عدسات النظارة اللامعة على الجانب الآخر من المكتب. توقف لفترة قصيرة وأبدى إشارة تدل على التفاني المطلق. بدا على موظف السفارة المفيد والجاد في العمل - غير أنه غامض - أنه قد تأثر ببعض الأفكار الوليدة.
قال: «إنك بدين للغاية.»
وخزت هذه الملاحظة، ذات الطبيعة الفلسفية التي تلفظ بها مسئول على دراية بالحبر والأوراق أكثر من متطلبات الحياة العملية، قلب السيد فيرلوك إذ قيلت بأسلوب فظ. فتراجع خطوة إلى الوراء.
صرخ بصوت أجش ومستاء: «عذرا، ما الذي أردت قوله؟»
بدا أن هذه المقابلة أرهقت كثيرا مستشار السفارة المنوط به إجراؤها.
قال: «أظن أنه من الأفضل أن تقابل السيد فلاديمير. نعم، بالتأكيد أظن أنه يجب أن تقابل السيد فلاديمير. من فضلك انتظر هنا.» وخرج بخطى هادئة.
على الفور مرر السيد فيرلوك يده على شعره. تناثرت حبات عرق خفيفة على جبهته. تأفف وأخرج هواء من فمه وكأنه ينفخ في ملعقة ممتلئة بحساء ساخن. ولكن عندما ظهر الخادم الذي يرتدي سروالا بنيا عند الباب صامتا، لم يكن السيد فيرلوك قد تحرك قيد أنملة من مكانه الذي كان واقفا فيه طيلة المقابلة. ظل ساكنا، وشعر وكأن شراكا تحوطه من كل جانب.
مشى في الردهة المضاءة بمصباح غاز وحيد ثم صعد سلما دائريا ومر عبر رواق مزجج وفخم في الطابق الأول. فتح الخادم الباب، وتنحى جانبا. وطئت قدما السيد فيرلوك سجادة سميكة. كانت الغرفة كبيرة وبها ثلاث نوافذ؛ وجلس شاب له وجه كبير حليق الذقن في كرسي كبير بذراعين أمام مكتب عريض من خشب الماهوجني، وقال بالفرنسية لمستشار السفارة الذي كان يخرج والأوراق في يده: «أنت محق تماما يا عزيزي. إنه بدين؛ ذلك الحيوان.»
كان السيد فلاديمير، الأمين العام الأول، معروفا بعذوبة اللسان واللباقة. كان محبوبا نوعا ما في المجتمع. تمثل ذكاؤه في اكتشاف الروابط اللطيفة بين الأفكار المتناقضة؛ ولما تحدث في ذلك الموضوع، تقدم برأسه وهو جالس على كرسيه، ورفع يده اليسرى وكأنه يعرض إثباتاته المضحكة على الورق بين إبهامه وسبابته، بينما اكتسى وجهه المستدير الحليق بتعبير ارتباك مرح.
ولكنه لم يظهر تعبير المرح أو الحيرة وهو ينظر إلى السيد فيرلوك. لما استلقى في الكرسي العميق ذي الذراعين وفرد مرفقيه مستقيمين ووضع ساقا على ركبته السمينة وعلت وجهه نعومة وبشرة متوردة مثل بشرة الأطفال التي تنبض بالحيوية، بدا أنه لن يحتمل أي هراء من أي شخص.
قال: «أنت تفهم الفرنسية، أليس كذلك؟»
أجاب السيد فيرلوك بصوت أجش بأنه يفهمها. أمال جسمه الضخم إلى الأمام. وقف على السجادة في وسط الغرفة ممسكا قبعته وعصاه في إحدى يديه؛ ووضع اليد الأخرى في جانبه بلا حراك. تمتم خفية بكلام لم يكد يخرج من حلقه بأنه أدى خدمته العسكرية في المدفعية الفرنسية. وفي لحظة وبمشاكسة غير ملائمة، غير السيد فلاديمير اللغة وبدأ يتحدث بالإنجليزية العامية من دون أدنى أثر للكنة أجنبية. «آه! نعم. بالطبع. لنر. ما الوقت الذي حبسته من أجل الحصول على تصميم مجموعة المغلاق لمدفعهم الميداني الجديد؟»
أجاب السيد فيرلوك فجأة ولكن من دون أن يظهر عليه أي انفعالات: «خمس سنوات من الحبس المشدد في قلعة.»
علق السيد فلاديمير: «لقد خرجت بسهولة. وعلى أية حال، الإمساك بك أفادك. ما الذي دفعك إلى هذا العمل؟»
سمع صوت السيد فيرلوك الأجش وهو يتحدث عن الشباب وعن الافتتان المميت بامرأة لا تستحق ...
قاطعه السيد فلاديمير من غير أن يغير رأيه: «أها! فتش عن المرأة.» ولكن دون تلطف، بل على العكس، كانت ثمة مسحة من التجهم في تنازله. سأله: «كم المدة التي عملت فيها لدى السفارة هنا؟»
أجاب السيد فيرلوك: «منذ وقت تولي الراحل بارون ستوت فارتنهايم.» وقال ذلك بنبرات خافتة والحزن يتطاير من بين شفتيه إشارة إلى أسفه على الدبلوماسي الراحل. بثبات لاحظ الأمين العام الأول لعبة الفراسة تلك. «آه! منذ ذلك الوقت. حسنا!» ثم سأل بنبرة حادة: «ما الذي جئت لتقوله؟»
أجاب السيد فيرلوك ببعض الدهشة بأنه لم يدرك أن لديه شيئا خاصا يقوله. وردت رسالة تستدعيه؛ وأدخل يده يبحث في جيب معطفه، ولكنه قرر ألا يخرجها من جيبه أمام السيد فلاديمير اليقظ والساخر.
قال السيد فلاديمير: «هراء. ما الذي تعنيه بالخروج من حالة كهذه؟ إنك لا تتمتع حتى بجسم يليق بمهنتك. أنت ... واحد من طبقة العمال الجائعة ... هذا يستحيل! أنت ... لا سلطوي أو اشتراكي قانط ... أيهما أنت؟»
قال السيد فيرلوك بنبرة خافتة: «لا سلطوي.»
أردف السيد فلاديمير من دون أن يرفع صوته: «هراء! لقد أفزعت وورمت العجوز نفسه. ما كنت لتخدع أحمق. كل هذه الأمور وقعت عرضا، ولكن يبدو لي أن الأمر مستحيل عليك. لذا بدأت علاقتك بنا بسرقة تصميمات البنادق الفرنسية. ومن ثم قبض عليك. لا بد أن حكومتنا انزعجت من هذا الأمر كثيرا. لا يبدو أنك تتمتع بذكاء كبير.»
بصوت أجش، حاول السيد فيرلوك أن يبرئ نفسه. «بحسب ما ذكرت من قبل، افتتان مميت بامرأة لا تستحق ...»
رفع السيد فلاديمير يده الكبيرة المكتنزة البيضاء. «آه، نعم. الارتباط غير الموفق؛ في شبابك. وضعت يدها على المال ثم باعتك للشرطة؛ أليس كذلك؟»
أكد التغيير المأساوي الذي اعترى ملامح السيد فيرلوك وطأطأة رأسه أن تلك كانت هي الحال المؤسفة. شبك السيد فلاديمير يديه على كاحله الموضوع فوق ركبته. كان جوربه من الحرير الأزرق الداكن. «كما ترى، لم يكن هذا التصرف فطنة منك. ربما أنت سريع التأثر.»
تحدث السيد فيرلوك وعبر بصوت مبحوح وخفي عن أنه لم يعد صغيرا.
أشار السيد فلاديمير بنبرة خبيثة معهودة: «أوه! ذلك فشل لا يداويه العمر. ولكن لا! أنت بدين للغاية لكي تكون كذلك. لم يكن ممكنا أن تبدو هكذا لو كنت سريع التأثر إلى هذه الدرجة. سأخبرك ما أظنه بشأن هذه المسألة؛ أنت شخص كسول. منذ متى وأنت تأخذ أجرا من هذه السفارة؟»
بعد لحظات من التردد المتجهم، كانت الإجابة: «إحدى عشرة سنة. أوكلت إلي مهمات عديدة في لندن لما كان معالي السفير بارون ستوت فارتنهايم لا يزال السفير في باريس. ثم بناء على تعليمات معاليه، استقررت في لندن. أنا إنجليزي.» «أنت إنجليزي! أليس كذلك؟ هل أنا محق؟»
قال السيد فيرلوك متشددا: «مواطن بريطاني مولود في بريطانيا. ولكن أبي كان فرنسيا، وكذلك ...»
قاطعه الآخر: «لا حاجة للشرح. يمكنني القول إنه كان بإمكانك - من الناحية القانونية - أن تتولى منصب مشير في الجيش الفرنسي وعضو في البرلمان بإنجلترا؛ وعندئذ، ربما كان سيصبح لك بالفعل بعض النفع لسفارتنا.»
استحثت هذه الصورة الذهنية شيئا وكأنه شبح ابتسامة على وجه السيد فيرلوك. احتفظ السيد فلاديمير برزانته وهدوئه. «ولكن كما قلت لك، أنت شخص كسول؛ أنت لا تستغل الفرص التي تسنح لك. في عهد البارون ستوت فارتنهايم، عمل في هذه السفارة كثيرون ممن يفتقرون إلى الفطنة. ومن ثم تسببوا في أن يبني من هم على شاكلتك تصورا خاطئا عن طبيعة تمويل جهاز الخدمة السرية. ومن شأني تصحيح هذا الفهم الخاطئ بإخبارك عما لا يمثله جهاز الخدمة السرية. إنه ليس مؤسسة للأعمال الخيرية. ولقد دعوتك إلى هنا بغرض أن أخبرك بهذا.»
لاحظ السيد فلاديمير التعبير القسري للحيرة الذي ظهر على وجه السيد فيرلوك، فابتسم ابتسامة ساخرة. «أرى أنك فهمتني فهما تاما. يمكنني القول إنك تتمتع بالذكاء اللازم لعملك. ما نريده الآن هو النشاط ... النشاط.»
لما كرر السيد فلاديمير هذه الكلمة الأخيرة، وضع إصبع السبابة الكبيرة والطويلة على حافة المكتب. اختفى أثر الصوت الأجش لدى السيد فيرلوك تماما. صار قفاه ذا لون قرمزي من فوق ياقة معطفه المخملية. ارتجفت شفتاه قبل أن ترتسم عليهما ابتسامة عريضة.
انطلق بصوته الجهوري الخطابي الرائع والواضح: «لو أنك فقط اطلعت على تقريري، لرأيت أنني قدمت تحذيرا منذ ثلاثة أشهر فقط بشأن مناسبة زيارة الدوق الكبير روموالد إلى باريس، وأرسل هذا التحذير تلغرافيا من هنا إلى الشرطة الفرنسية، كذلك ...»
قاطعه السيد فلاديمير بتجهم عابس: «صه، صه! لم تستفد الشرطة الفرنسية من تحذيرك. لا تزمجر هكذا. ما الذي تعنيه بحق الشيطان؟»
بنبرة فيها تواضع وفخر، اعتذر السيد فيرلوك عن نسيان نفسه. قال إن صوته - الذي اشتهر به لسنوات في الاجتماعات المفتوحة واجتماعات العمال في القاعات الكبيرة - ساهم في سمعته باعتباره رفيقا طيبا وجديرا بالثقة. ومن ثم بات وجها من وجوه نفعه. وكان سببا في الثقة في مبادئه. صرح السيد فيرلوك بنبرة تنطوي على رضا واضح: «لقد كنت دوما مستعدا لأن يحدثني القادة في لحظة حرجة.» وأضاف أنه لم تحدث ضجة لم يسمع فيها صوته؛ وفجأة قدم بيانا عمليا على قوله.
قال: «اسمح لي.» طأطأ رأسه ومن دون أن ينظر إلى أعلى، عبر الغرفة بسرعة وعلى نحو تعوزه الرشاقة إلى إحدى النوافذ ذات الطراز الفرنسي. فتح النافذة قليلا وكأنه أفسح المجال لدافع لا يمكن التحكم فيه. قفز السيد فلاديمير منذهلا من فوق الكرسي ذي الذراعين ونظر وراءه؛ وفي الأسفل عبر فناء السفارة، بعد البوابة المفتوحة بمسافة، كان يمكن رؤية شرطي عريض الظهر يراقب بتراخ عربة أطفال رائعة لطفل ثري تجر في فخامة عبر الميدان.
قال السيد فيرلوك بصوت لا يكاد يعلو عن الهمس: «شرطي!» وانطلق السيد فلاديمير ضاحكا لما رأى الشرطي يدور وكأن أحدا نخسه بآلة حادة. أغلق السيد فيرلوك النافذة بهدوء وعاد إلى وسط الغرفة.
اكتسى صوته بنبرة مبحوحة، قال: «بصوت مثل هذا، حظيت بالثقة بصورة طبيعية. وعرفت ما ينبغي قوله أيضا.»
أخذ السيد فلاديمير يعدل ربطة عنقه وراقبه في الزجاج فوق رف الموقد.
قال بازدراء: «يمكنني القول إنك تحفظ مصطلحات الثورات الاجتماعية عن ظهر قلب.» «الأصوات و... لم تدرس اللاتينية قط، أليس كذلك؟»
قال السيد فيرلوك متذمرا: «كلا. لم تتوقع أني أعرفها. أنا أنتمي إلى عامة الشعب. من يعرف اللاتينية؟ لا يعرفها سوى بضع مئات من المعاتيه ممن ليسوا قادرين على الاعتناء بأنفسهم.»
ظل السيد فلاديمير لمدة ثلاثين ثانية أخرى يدرس في المرآة شكل الرجل الضخم الجثة الذي يقف خلفه. وفي الوقت نفسه، كانت لديه ميزة رؤية وجهه هو، الحليق والمستدير، والمشرب بالحمرة، ذا الشفتين الرفيعتين الرقيقتين اللتين خلقتا من أجل التلفظ بتلك الدعابات الرقيقة التي جعلته مفضلا في أوساط الطبقات الاجتماعية العليا. بعد ذلك استدار، وتقدم في الغرفة بتصميم بالغ لدرجة أن طرف ربطة عنقه ذات الطراز القديم والغريب بدا مليئا بتهديدات لا توصف. كانت الحركة سريعة وعنيفة لدرجة أن السيد فيرلوك تراجع قليلا باستنكار.
بادره السد فلاديمير قائلا: «أها! تجرأت وأصبحت وقحا.» قال ذلك بنبرة تنم عن ذهول لا تصدر إلا من شخص غير إنجليزي، بل من غير أوروبي تماما، وكانت مباغتة حتى لخبرة السيد فيرلوك في الأحياء الفقيرة خارج البلاد. أضاف، بحزم شديد اللهجة في وجه السيد فيرلوك مباشرة: «تجرأت على ذلك! حسنا، سأتحدث بإنجليزية خالصة معك. الصوت لن يفيد، لن يفيدنا صوتك. لا نريد صوتا. نريد وقائع - وقائع غير عادية - عليك اللعنة.»
كان السيد فيرلوك ينظر إلى السجادة وهو يدافع عن نفسه بصوت أجش: «لا تحاول التأثير في بالأساليب التي تتبعها شعوب الشمال.» في هذه اللحظة، حول محاوره، وهو يبتسم بسخرية من فوق ربطة عنقه الجامدة البارزة، المحادثة إلى اللغة الفرنسية. «أنت تمنح نفسك لقب «عميل محرض». العمل الملائم «للعميل المحرض» هو التحريض. وبقدر ما أستطيع أن أحكم من سجلك المحفوظ هنا، أنت لم تفعل شيئا لتستحق الأموال التي حصلت عليها في السنوات الثلاث الأخيرة.»
قال فيرلوك متعجبا: «لم أفعل شيئا!» دون أن يحرك ساكنا ودون أن يرفع عينيه، ولكن بشعور صادق في نبرة صوته. وواصل كلامه: «لقد منعت عدة مرات ما كان يمكن أن ...»
قاطعه السيد فلاديمير وهو يرتمي على الكرسي ذي الذراعين: «يوجد مثل في هذا البلد يقول إن الوقاية خير من العلاج. هذا غباء بوجه عام. لا نهاية للوقاية. ولكنها سمة قائمة. إنهم يكرهون الحسم في هذا البلد. لا تكن إنجليزيا أكثر من اللازم. وفي هذه الحالة بعينها، لا تكن أحمق. الشر كائن هنا بالفعل . نحن لا نريد الوقاية، بل نريد العلاج.»
توقف برهة عن الكلام، واستدار إلى المكتب وأخذ يقلب في بعض الأوراق الموضوعة عليه، وتحدث بنبرة تشبه نبرة رجال الأعمال من دون أن ينظر إلى السيد فيرلوك. «تعرف، بالطبع، بأمر المؤتمر الدولي المنعقد في ميلان، أليس كذلك؟»
ألمح السيد فيرلوك بصوت خفيض إلى أنه معتاد على قراءة الصحف اليومية. وردا على سؤال آخر كانت إجابته أنه بالطبع يفهم ما يقرأ. عندئذ تمتم السيد فلاديمير، مبتسما ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى الوثائق التي كان لا يزال يتفحصها واحدة تلو الأخرى: «ما دامت غير مكتوبة باللاتينية، على ما أظن.»
أضاف السيد فيرلوك بتبلد: «أو الصينية.»
أسقط السيد فلاديمير بازدراء ورقة رمادية بها كتابة مطبوعة: «اممم، بعض انفعالات أصدقائك الثوريين مكتوبة بلغة «عامية» غير مفهومة وكأنها صينية ... ما معنى ترويسة المنشورات التي تحمل الحرفين
F. P.
ومطرقة وقلما وشعلتين متقاطعتين؟ ما معنى
F. P. ؟» اقترب السيد فيرلوك من المكتب الفخم.
شرح، وهو يقف متململا بجانب الكرسي ذي الذراعين: «يعني مستقبل طبقة العمال. إنها جماعة، ليست لا سلطوية من ناحية مبادئها، ولكنها منفتحة على جميع أطياف الآراء الثورية.» «هل أنت عضو فيها؟»
أخرج السيد فيرلوك أنفاسا متثاقلة وقال: «أحد نواب الرئيس.» ورفع الأمين العام الأول للسفارة رأسه ونظر إليه.
قال بنبرة حادة: «إذن يجب أن تخجل من نفسك. ألا تستطيع جماعتك فعل شيء آخر غير طباعة هذه الخطب الرنانة بنمط فظ على هذه الورقة القذرة؟ لماذا لا تفعلون شيئا؟ انظر هنا. أنا أتولى هذه المسألة الآن، وأقول لك بوضوح إنك يجب أن تعمل مقابل المال الذي تتقاضاه. انتهى زمن ستوت فارتنهايم العجوز الطيب. إن لم تعمل، فلن تتقاضى أجرا.»
أحس السيد فيرلوك بضعف غريب في ساقيه القويتين. تراجع إلى الوراء خطوة، وتمخط من أنفه بصوت عال.
في الحقيقة، كان مذهولا ومرعوبا. أطلت الشمس بأشعتها الذهبية لينقشع الضباب عن مدينة لندن وسطع بريق فاتر داخل غرفة الأمين العام الأول الخاصة؛ ووسط الصمت، سمع السيد فيرلوك من خلف زجاج النافذة الأزيز الخافت لطائر - أول طائر يسمع صوته هذا العام - مبشرا باقتراب الربيع على نحو أفضل من أي عدد من طيور السنونو. تسبب الصخب غير المجدي الذي أحدثه هذا الكائن الحي الصغير المفعم بالحيوية في تأثير مزعج على الرجل الضخم المهدد بسبب تراخيه.
في فترة الصمت تلك، صاغ السيد فلاديمير سلسلة من الملاحظات المهينة فيما يتعلق بوجه السيد فيرلوك وشكله. كان الرجل على نحو غير متوقع سوقيا، وثقيل الظل، وغبيا بوقاحة. بدا على نحو غير مألوف وكأنه رئيس عمال سباكة أتى كي يقدم فاتورته. كان الأمين العام الأول لدى السفارة قد شكل، من شطحاته العرضية في مجال الفكاهة الأمريكية، فكرة خاصة عن تلك الفئة من الميكانيكيين بأنهم تجسيد للكسل المعتمد على الاحتيال ولعدم الكفاءة.
كان هذا إذن هو العميل السري المشهور والموثوق فيه، كان سريا لدرجة أنه لم يشر إليه إلا بالرمز «دلتا» في المراسلات الأخيرة الرسمية، وشبه الرسمية، والسرية للبارون ستوت فارتنهايم؛ العميل المحتفى به «دلتا»، الذي كان لتحذيراته القدرة على تغيير مخططات وتواريخ رحلات الملوك، والأباطرة، والدوقات الكبار، وكانت أحيانا تتسبب في إلغائها تماما! هذا الشخص! وانغمس عقل السيد فلاديمير في نوبة ابتهاج هائلة ومثيرة للسخرية؛ لعل من أسبابها ذهوله، الذي اعتبره سذاجة منه، ولكنها كانت راجعة في أغلبها إلى سخرية من البارون ستوت فارتنهايم الذي اعتبرت وفاته خسارة للعالم. كان صاحب الفخامة الراحل، الذي كانت حظوته لدى صاحب الجلالة قد فرضته سفيرا على العديد من وزراء الخارجية الرافضين له، قد اشتهر طوال حياته بسذاجة تشاؤمية، باعثة على التطير. كان صاحب الفخامة يفكر في الثورة الاجتماعية طوال الوقت. تخيل نفسه دبلوماسيا منفصلا لديه امتياز خاص يتيح له مراقبة نهاية الدبلوماسية، وربما نهاية العالم، في ثورة ديمقراطية مروعة. كانت مراسلاته التنبؤية والكئيبة محط سخرية في وزارات الخارجية لسنوات. قيل إنه صرخ وهو على فراش الموت (عندما زاره صديقه وسيده صاحب الجلالة): «يا لأوروبا التعيسة! ستموتين جراء الفساد الأخلاقي الذي دب في أوصال أبنائك!» وحسب ظن السيد فلاديمير، فقد قدر له أن يقع ضحية أول وغد خسيس أتى، كان يفكر في ذلك وهو يبتسم ابتسامة غامضة في وجه السيد فيرلوك.
هتف فجأة: «يجب عليك أن تبجل ذكرى البارون ستوت فارتنهايم.»
عبرت ملامح وجه السيد فيرلوك المكتئبة عن انزعاج كئيب ومجهد.
قال: «اسمح لي أن أنوه لك بأنني أتيت إلى هنا لأنني استدعيت بناء على خطاب فيه أوامر قاطعة. لم آت إلى هنا سوى مرتين في الإحدى عشرة سنة الأخيرة، وبالتأكيد لم آت مطلقا في الساعة الحادية عشرة صباحا. ليس من الحكمة أن تستدعوني بهذه الطريقة. ثمة احتمال أن يراني أحد ما. وذلك أمر يجب أن يؤخذ موضع الجد من جانبي.»
هز السيد فلاديمير كتفيه.
أردف الآخر بحدة: «من شأن هذا ألا يجعلني مفيدا.»
تمتم السيد فلاديمير بشراسة ناعمة: «هذا شأنك. عندما لا تصبح لك فائدة، ستتوقف عن العمل. نعم. على الفور. هذا هو المختصر المفيد. سوف ...» عبس السيد فلاديمير، وأمسك عن الكلام لحظات وهو يبحث عن تعبير اصطلاحي كاف، وعلى الفور أشرق وجهه بابتسامة براقة وجميلة. وقال بنبرة فظة: «سوف تخنق.»
اضطر السيد فيرلوك مرة أخرى إلى أن يقاوم بكل ما أوتي من قوة إحساس الضعف الذي كان ينخر ساقيه الذي ألهم يوما ما شيطانا بائسا هذا التعبير الموفق: «سقط قلبي في قدمي.» مدركا لهذا الإحساس، رفع السيد فيرلوك رأسه بشجاعة.
لاحظ السيد فلاديمير تعبير التساؤل الثقيل ولكنه تقبله بهدوء تام.
قال بجدية: «ما نريده هو بث روح التوتر في المؤتمر المنعقد في ميلان. يبدو أن المداولات الجارية في المؤتمر بشأن التحرك الدولي لقمع الجريمة السياسية لا تؤتي ثمارها. إن إنجلترا متخلفة عن الركب. هذا البلد يثير اشمئزازي بسبب مراعاته العاطفية للحرية الفردية. إنه أمر لا يطاق أن تعتقد أن كل أصدقائك لم يأتوا إلا من أجل ...»
قاطعه السيد فيرلوك بصوت أجش: «بتلك الطريقة سأضعهم جميعا تحت ناظري.» «الأمر سيفوق كثيرا مجرد وضعهم جميعا تحت المراقبة. يجب جعل إنجلترا تذعن للأمر. إن البرجوازيين الحمقى في هذا البلد يجعلون من أنفسهم شركاء لنفس الأشخاص الذين يهدفون إلى إخراجهم من منازلهم كي يموتوا جوعا في الخنادق. كما أنه لا تزال لديهم القوة السياسية، وليتهم استطاعوا استغلالها من أجل الحفاظ على أنفسهم. أظن أن أفراد الطبقات الوسطى أغبياء، ألا تتفق معي؟»
أبدى السيد فيرلوك موافقته بصوت منخفض. «نعم، هم كذلك.» «ليس لديهم قدرة على التخيل. لقد أعماهم الغرور الأحمق. ما يحتاجونه الآن هو أن يدب بينهم ذعر يخدم مصالحنا. حانت اللحظة النفسية كي تهيئ أصدقاءك للعمل. لقد استدعيتك إلى هنا كي أوصل إليك فكرتي.»
ولقد وصل السيد فلاديمير فكرته من منطلق التكبر، إذ تصرف بازدراء وسخرية وفي الوقت نفسه أظهر قدرا من الجهل بالأهداف الحقيقية، والأفكار، والأساليب التي يتبعها عالم الثوار والتي ملأت عقل السيد فيرلوك الصامت بذعر دب في أوصاله. لقد خلط بين الأسباب والنتائج أكثر مما هو مطلوب؛ خلط بين أصحاب الدعوات البارزين ورماة القنابل المندفعين؛ افترض وجود تنظيم لا يمكن بطبيعة الأمور أن يكون موجودا في الواقع؛ تحدث في لحظة عن حزب ثوري اجتماعي وكأنه جيش نظامي بامتياز، حيث كلمة القادة هي العليا، وفي لحظة أخرى كأنه رابطة ضعيفة للغاية تضم مجموعة من قطاع الطرق البائسين الذين اتخذوا من مضايق الجبال مأوى لهم. في إحدى المرات فتح السيد فيرلوك فمه معترضا، ولكن أوقفه رفع اليد البيضاء الكبيرة الحسنة المظهر. وسرعان ما أصيب بالذهول لدرجة أنه لم يحاول الاحتجاج. كان يستمع في جمود نابع من فزع كان يشبه جمودا نابعا من انتباه شديد.
أردف السيد فلاديمير بهدوء: «سلسلة من الاعتداءات تنفذ هنا في هذا البلد؛ ليس فقط يخطط لها هنا - ذلك لن يجدي نفعا - إنهم لا يجدون ضيرا في ذلك. يمكن لأصدقائك أن يضرموا النار في نصف القارة دون أن يؤثر ذلك في الرأي العام هنا لصالح تشريع قمعي عالمي. لن يهتموا بما يحدث خارج باحتهم الخلفية.»
تنحنح السيد فيرلوك ولكن خذله قلبه ولم ينطق ببنت شفة.
تابع السيد فلاديمير وكأنه يلقي محاضرة علمية: «ليس من الضروري أن تكون هذه الاعتداءات دموية، ولكن يجب أن تثير الرعب في القلوب؛ أن تكون مؤثرة. دعها تكون موجهة نحو المباني على سبيل المثال. ما هو الصنم الذي يتبعه جميع البرجوازيون حاليا، يا سيد فيرلوك؟»
فتح السيد فيرلوك يديه وهز كتفيه قليلا.
علق السيد فلاديمير على هزة الكتف تلك قائلا: «أنت أكسل من أن تفكر. انتبه إلى ما أقوله. الصنم هذه الأيام ليس ملكا ولا دينا. لذا يجب عدم المساس بالقصر والكنيسة. هل تفهم ما أعنيه يا سيد فيرلوك؟»
وجد السيد فيرلوك متنفسا لانزعاجه والازدراء منه في محاولة للهزل.
فبادر قائلا: «فهمت تماما. ولكن ماذا عن السفارات؟ سلسلة هجمات على عدة سفارات.» ولكنه لم يستطع تحمل النظرات الباردة والمترقبة من الأمين العام الأول.
علق الآخر من دون اكتراث: «أرى أنك تتمتع بروح الدعابة. حسن إذن. هذه الروح قد تضفي الحيوية على مؤتمراتك الاشتراكية. ولكنها ليست مناسبة لتلك الغرفة. سيكون أكثر أمانا لك أن تتبع ما أقوله بحذافيره. بما أنك استدعيت لتقديم حقائق وليس قصصا لا أصل لها، فالأفضل لك أن تجني أموالك مما أتكبد عناء أن أشرحه لك. الصنم المقدس في هذه الأيام هو العلم. لماذا لا تجعل بعض أصدقائك يوجهون جهودهم نحو هذا الكيان السلطوي ذي الوجه المتخشب؟ أليس جزءا من هذه المؤسسات التي يجب إزالتها قبل أن يبزغ نجم حركة «مستقبل طبقة العمال»؟»
لم يتفوه السيد فيرلوك بكلمة. خشي أن يفتح فمه لئلا تفلت منه همهمة تذمر. «هذا ما ينبغي أن تحاول فعله. إن محاولة اغتيال ملك أو رئيس مثيرة بما فيه الكفاية بطريقة ما، ولكن ليس بالقدر الذي كانت عليه من قبل. لقد أصبحت ضمن المفهوم العام لوجود رؤساء الدول. لقد باتت أمرا شبه تقليدي، وبخاصة لكون العديد من الرؤساء قد اغتيلوا. والآن ماذا إذا نفذنا هجمة على، ولنقل، كنيسة مثلا؟ إنه حدث مروع للوهلة الأولى، بلا شك، ولكنه ليس مؤثرا كما قد يتبادر إلى ذهن شخص من العوام حسب ظني. بصرف النظر عن مدى التغيير الجذري والفوضوية في البداية، فسيضفي العديد من الحمقى الصبغة الدينية على هذا الاعتداء. وذلك من شأنه أن ينتقص من الأهمية المقلقة الخاصة التي نرغب في إضفائها على هذا الفعل. ربما تلقى أي محاولة قتل في مطعم أو مسرح بنفس الطريقة تفسيرا نابعا من عاطفة غير سياسية؛ كأن تعتبر سخطا من رجل جائع، أو عملا من أعمال الانتقام المجتمعي. كل هذه الأساليب استهلكت؛ ولم تعد تجدي نفعا مثل درس عملي في اللاسلطوية الثورية. كل صحيفة لديها عبارات جاهزة تقدم تفسيرات تنأى بتلك التعبيرات عن جوهرها. إنني على وشك أن أشرح لك فلسفة إلقاء القنابل من وجهة نظري؛ من وجهة النظر التي تتظاهر بأنك كنت تخدمها طيلة الإحدى عشرة سنة الماضية. سأحاول ألا أتحدث عن أشياء يستعصي عليك فهمها. سرعان ما تخمد مشاعر الطبقة التي تهاجمها. تبدو الممتلكات لهم أشياء غير قابلة للتدمير. لا يمكنك الاعتماد على مشاعرهم لفترة طويلة سواء كانت مشاعر شفقة أو خوف. من أجل أن يكون لتفجير أي تأثير في الرأي العام اليوم، لا بد أن يتجاوز نية الانتقام أو الإرهاب. لا بد أن يكون بدافع التدمير الخالص. لا بد ألا يكون لذلك، ولذلك وحده، دون أدنى شك في وجود أي مأرب آخر. أنتم أيها اللاسلطويون يجب أن توضحوا أنكم عازمون تماما على نسف النظام الاجتماعي بالكامل. لكن كيف ندخل تلك الفكرة السخيفة المروعة في رءوس الطبقات الوسطى حتى لا يكون ثمة شك؟ هذا هو السؤال. والإجابة هي بتوجيه ضرباتكم إلى شيء بعيد عن المشاعر العادية التي ألفتها الإنسانية. بالطبع، يمكن توجيهها إلى الفن. ربما يحدث انفجار في المعرض الوطني بعض الضجيج. ولكنه لن يكون خطيرا بالقدر الكافي. لم يكن الفن صنمهم قط. إن هذا أشبه بتكسير بضع نوافذ خلفية في منزل رجل ما؛ ولكن إذا أردت أن تجعله يرتعب حقا، فلا بد أن تحاول رفع السقف على الأقل. سيسمع بعض الصراخ بالطبع، ولكن من سيصرخ؟ الفنانون ... نقاد الفن ومن على شاكلتهم ... أفراد عديمو القيمة. لن يهتم أحد بما يقولونه. ولكن يوجد التعليم ... العلوم. أي معتوه له دخل يؤمن بذلك. إنه لا يعرف السبب، ولكنه يؤمن أن الأمر مهم بطريقة ما. إنه الصنم المقدس. كل الأساتذة البغيضين راديكاليون في صميم قلوبهم. دعهم يعرفون أنه لا بد من التخلص من كيانهم السلطوي العظيم أيضا، لإفساح المجال لجماعة مستقبل طبقة العمال. لا بد أن العواء الذي سيصدر من كل هؤلاء الأغبياء المفكرين سيساعد في تعزيز جهود مؤتمر ميلان. سيكتبون إلى الصحف. سيكون سخطهم فوق مستوى الشبهات، ولن تكون ثمة مصالح مادية على المحك بشكل علني، وسيوقظ غريزة الأنانية في الطبقة التي ستتأثر. إنهم يعتقدون أن العلم بطريقة ما هو مصدر ازدهارهم المادي. إنهم يعتقدون ذلك. وستؤثر الوحشية العبثية لذلك البيان العملي عليهم بشكل أعمق من تدمير شارع بأكمله ... أو مسرح ... يعج بأمثالهم. بشأن ذلك الحدث المذكور آنفا، يمكن دائما أن يقولوا: «أوه! إن هذا محض كراهية طبقية.» ولكن ما الذي يمكن أن يقوله المرء بشأن عمل وحشي مدمر يبلغ درجة من السخف بحيث لا يمكن فهمه أو تفسيره أو تصوره؛ في الحقيقة، إنه في الحقيقة فعل جنوني؟ إن الجنون وحده مرعب حقا، فلا أحد يستطيع تهدئته سواء بالتهديد أو الإقناع أو الرشاوى. علاوة على ذلك، فأنا رجل متحضر. لا أتصور أبدا أن أوجهك إلى تنظيم مجزرة محضة، حتى لو توقعت أن تؤتي أفضل النتائج. ولكني لا أتوقع من مجزرة النتيجة التي أريدها. القتل دائما عامل مشترك معنا. يكاد أن يكون حدثا مؤسسا. يجب أن يناهض البيان العملي التعليم ... والعلم. ولكن ليس كل علم سيفي بالغرض. يجب أن تجتمع في تلك الهجمة كل معاني الرعونة الصادمة للاستخفاف بالمقدسات الذي لا مبرر له. وبما أن التفجيرات هي وسيلتك للتعبير، فسيتضح حقا هل يمكن نسف علم الرياضيات أم لا. ولكن هذا مستحيل. أنا أحاول أن أعلمك؛ لقد شرحت لك الفلسفة العليا للمنفعة المرجوة منك، واقترحت عليك بعض الأطروحات التي تخدم أهدافنا. أما التطبيق العملي لما أمليته عليك فهو شأنك «أنت» أكثر من أي شخص آخر. ولكن منذ اللحظة التي تعهدت فيها بإجراء مقابلة معك، أوليت أيضا بعض الاهتمام للجانب العملي من السؤال. ما رأيك في أن توجه جهودك إلى علم الفلك؟»
لبعض الوقت، كان وقوف السيد فيرلوك بجانب الكرسي ذي الذراعين من دون حراك يشبه رجلا في حالة انهيار غيبوبة؛ نوع من عدم الإحساس السلبي الذي تقطعه نوبات تشنج طفيفة، تشنجات مثل التي تلاحظ على كلب أليف يحلم بكابوس وهو نائم فوق السجادة أمام المدفأة. وكرر الكلمة في زمجرة غير مستقر مثل زمجرة الكلب: «علم الفلك.»
لم يكن قد تعافى بعد بالكامل من حالة الحيرة التي نجمت عن الجهد الذي بذله لمتابعة كلام السيد فلاديمير القاطع السريع. لقد فاق قدرته على الاستيعاب. ولقد أثار غضبه. وزاد عدم التيقن من هذا الغضب. وفجأة اتضح له أن كل هذا كان مزحة متقنة. بدت نواجذ السيد فلاديمير وهو يبتسم، وظهرت الغمازتان في وجنتي وجهه المستدير المكتنز من فوق ربطة عنقه الجامدة البارزة. كانت المرأة المفضلة بين نساء سلك الاستخبارات قد حذت حذوه في مسلكه الذي أبداه في غرفة الاستقبال فيما يتعلق بإلقاء بعض النكات الطريفة. جلس متجها بجذعه إلى الأمام، ويداه البيضاوان مرفوعتان، وبدا وكأنه يمسك اقتراحه بلطف بين إصبعيه الإبهام والسبابة. «لا يمكن أن يوجد ما هو أفضل من ذلك. يجمع هذا الاعتداء بين أكبر قدر ممكن من الاحترام للإنسانية والعرض الأكثر مدعاة للقلق للحماقة الوحشية. وأنا أتحدى براعة الصحفيين في إقناع جمهورهم بأن أي عضو في طبقة العمال يمكن أن يكون لديه مظلمة شخصية ضد علم الفلك. لا يمكن الزج بالمجاعة نفسها إلى تلك الدائرة، ألا تتفق معي في الرأي؟ كما أن للأمر مزايا أخرى. لقد سمع العالم المتحضر أجمع عن بلدة جرينتش. إن ماسحي الأحذية في الطابق السفلي لمحطة تشيرينج كروس أنفسهم يعرفون شيئا عنها. أترى؟»
كانت ملامح السيد فلاديمير، المعروفة جيدا في أفضل المجتمعات بالدماثة الفكاهية، تنبض بالرضا الذاتي الساخر، الأمر الذي كان من شأنه أن يذهل النساء الأذكياء اللاتي استمتعن بذكائه بشكل رائع. أردف بابتسامة ازدراء: «نعم، لا بد أن يثير تفجير خط الطول الرئيسي أصوات عويل ناجمة عن الكراهية لذلك الفعل.»
تمتم السيد فيرلوك: «عمل صعب.» شاعرا أن هذا هو القول الوحيد المأمون.
تابع السيد فلاديمير بنبرة تهديد: «ما الأمر؟ أليست العصابة كلها في قبضتك؟ ألا يمكنك اختيار أفضل من في المجموعة نفسها؟ ذلك الإرهابي العجوز يوندت موجود بينهم. أراه يسير في بيكاديللي مرتديا قبعته الخضراء الواقية لرقبته من أشعة الشمس كل يوم تقريبا. وميكايليس - صاحب الإفراج المشروط - لا تقصد أن تقول إنك لا تعرف أين هو، أليس كذلك؟ لأنك إن لم تكن تعرف، فسأخبرك بمكانه. إذا كنت تتخيل أنك الوحيد المدرج ضمن قائمة تمويل العملاء السريين، فأنت مخطئ.»
كان هذا الافتراض من دون أي مسوغات مما دفع السيد فيرلوك إلى أن يحرك قدميه قليلا بدافع السأم. «وماذا عن عصابة منطقة لوزان بكاملها؟ ألم يندفعوا إلى هنا مع أول تلميح عن مؤتمر ميلان؟ هذا البلد غير معقول.»
قال السيد فيرلوك بطريقة غريزية: «هذا سيكلف الكثير من المال.»
رد السيد فلاديمير بلكنة إنجليزية أصيلة لدرجة تثير الدهشة: «هذا الادعاء لا أساس له.» «ستتقاضى راتبك كل شهر، ولن تحصل على أي أموال أخرى إلى أن يحدث شيء ما. وإذا لم يحدث شيء في القريب العاجل، فلن تحصل حتى على راتبك. ما هي وظيفتك الصورية؟ كيف تكسب عيشك في الظاهر؟»
أجاب السيد فيرلوك: «لدي متجر.» «متجر! أي نوع من المتاجر؟» «أدوات مكتبية، صحف. زوجتي ...»
قاطعه السيد فلاديمير بنبرة يتسم بها سكان آسيا الوسطى: «من؟»
رفع السيد فيرلوك صوته الأجش قليلا: «زوجتي. أنا متزوج.»
صاح الآخر بدهشة غير مفتعلة: «تلك حكاية بغيضة. متزوج! وتدعي أيضا أنك لا سلطوي! ما هذا الهراء المقيت؟ ولكني أفترض أنه مجرد أسلوب في الحديث. اللاسلطويون لا يتزوجون. إنه أمر معروف. لا يمكنهم ذلك. وإلا تعتبر ردة.»
تمتم السيد فيرلوك بصوته الأجش: «زوجتي ليست لا سلطوية. إضافة إلى ذلك، هذا ليس شأنك.»
قال السيد فلاديمير غاضبا: «بل هو كذلك. بدأت أقتنع بأنك لست أهلا مطلقا للعمل الذي أوكل إليك. عجبا ، لا بد أنك فقدت مصداقيتك بالكامل في عالمك بسبب زواجك. ألم يكن بوسعك أن تتدبر أمرك من دون زواج؟ هذا رباطك العفيف، أليس كذلك؟ بوجود ارتباطات من هذا القبيل، لا يرجى منك نفع.»
نفخ السيد فيرلوك خديه، ونفث الهواء بقوة، ولم يفعل أكثر من هذا. تحلى بالصبر. لم يتبق الكثير في هذه المحاكمة. فجأة، صار الأمين العام الأول فظا وموضوعيا وقاطعا جدا.
قال: «يمكنك الذهاب الآن. لا بد من تنفيذ اعتداء بالديناميت. أمهلك شهرا من أجل هذه المهمة. إن تجهيزات المؤتمر معلقة الآن. لا بد من حدوث شيء ما قبل استئنافه مرة أخرى، وإلا فستنقطع صلتك بنا.»
غير نبرة صوته مرة أخرى إلى نبرة توحي بتجرده من المبادئ.
قال بنبرة تعال وهو يشير بيده نحو الباب: «فكر في فلسفتي، يا سيد ... يا سيد ... فيرلوك. نفذ مهمة خط الطول الرئيسي. أنت لا تعرف الطبقات الوسطى كما أعرفها. لقد تلاشت أحاسيسهم. خط الطول الرئيسي. لا شيء أفضل، ولا شيء أسهل من ذلك، حسب ظني.»
كان قد نهض، وبينما كانت عبارات الدعابة والفكاهة تخرج من شفتيه الرفيعتين؛ راقب في الزجاج فوق رف الموقد السيد فيرلوك وهو يخرج من الغرفة متثاقل الخطى، ممسكا بقبعته وعصاه في يده. ثم أغلق الباب.
ظهر الخادم ذي السروال فجأة في الردهة، وأوصل السيد فيرلوك إلى مخرج مختلف وأخرجه من باب صغير في زاوية الفناء. تجاهل الحارس الذي يقف على البوابة خروجه تجاهلا تاما؛ ثم عاد السيد فيرلوك أدراجه من الطريق الذي قصده في الصباح وكأنه في حلم، حلم مزعج. كان هذا الانفصال عن العالم المادي كاملا لدرجة أنه مع أن السيد فيرلوك لم يسرع بإفراط في مشيته ببدنه الفاني في الشوارع، بدنه الذي سيكون من الوقاحة على نحو غير مبرر أن يرفض الخلود، وجد نفسه في الحال على أعتاب المتجر، وكأن ريحا عظيمة حملته على أجنحتها ونقلته من الغرب إلى الشرق. مشى إلى خلف منضدة البيع مباشرة وجلس على الكرسي الخشبي القابع خلفها. لم يظهر أحد كي يقطع عليه خلوته. حينئذ كان ستيفي، مرتديا مئزرا أخضر، عاكفا على كنس الطابق العلوي ونفض الغبار عنه، بعزم وإخلاص، وكأنه كان يلعب؛ وانتبهت السيدة فيرلوك وهي في المطبخ لما دق الجرس؛ ومن ثم أتت إلى الباب المزجج لغرفة المعيشة الخلفية وأزاحت الستارة قليلا ونظرت في المتجر ذي الإضاءة الخافتة. لما رأت زوجها جالسا في المتجر شارد الذهن لا يتحرك، وقبعته مائلة إلى الخلف فوق رأسه، عادت على الفور إلى الفرن. بعد ساعة أو أكثر، أخذت المئزر الأخضر من أخيها ستيفي، وأمرته أن يغسل يديه ووجهه بنبرة آمرة اعتادت أن تستخدمها معه طيلة خمس عشرة سنة أو نحو ذلك، في الواقع، منذ أن توقفت عن الاعتناء بغسل يدي الصبي ووجهه بنفسها. الآن، انشغلت قليلا عن غرف الطعام كي تتفقد ذلك الوجه وهاتين اليدين، إذ لما اقترب ستيفي من طاولة المطبخ، تقدم إليها كي ينال رضاها عن نظافة يديه ووجهه بمشية تنم عن ثقة تخفي بقايا قلق لم تنفك عنه. في السابق، كان غضب الأب هو العقاب الفعال على عدم الالتزام بتلك الطقوس، ولكن هدوء السيد فيرلوك في المنزل كان من شأنه أن يجعل أي ذكر للغضب أمرا لا يتصور حتى تجاه عصبية المسكين ستيفي. تكمن العلة من التأكيد على النظافة في أن السيد فيرلوك كان سيصيبه ألم وصدمة لا توصف لو لم تكن النظافة وقت الوجبات على الوجه الذي يريد. وجدت ويني بعد وفاة والدها عزاء كبيرا في شعورها بأنها لم تعد بحاجة إلى القلق بشأن المسكين ستيفي. لم تكن تحتمل أن ترى الفتى يتألم. كان هذا الأمر يصيبها بالجنون. وعندما كانت طفلة صغيرة، كثيرا ما كانت تواجه بعينين يتطاير منهما الشرر بائع الكحوليات المرخص دفاعا عن أخيها. أما الآن، فلا شيء في مظهر السيدة فيرلوك يمكن أن يدفع المرء إلى افتراض أنها كانت قادرة على أن تظهر عاطفتها يوما.
انتهت من غرف الطعام. وضعت الطاولة في غرفة المعيشة. مشت إلى أسفل درج السلم وصاحت تنادي «أمي!» ثم فتحت الباب المزجج المؤدي إلى المتجر، وقالت بهدوء «أدولف!» لم يبرح السيد فيرلوك مكانه؛ وبدا أنه لم يحرك أي طرف من أطرافه لمدة ساعة ونصف. صعد بتثاقل إلى الطابق العلوي وجلس لتناول العشاء مرتديا معطفه وقبعته، من دون أن ينبس ببنت شفة. لم يكن صمته في حد ذاته شيئا غير عادي على نحو مذهل في هذا المنزل، الكامن في ظلال شارع قذر لا تسقط عليه أشعة الشمس إلا نادرا، خلف المتجر خافت الضوء وبضاعته الرديئة سيئة السمعة. إلا أنه في ذلك اليوم كان صمت السيد فيرلوك عميقا بوضوح لدرجة أثارت استغراب المرأتين. جلستا صامتتين، تراقبان المسكين ستيفي، خشية أن يدخل في واحدة من نوبات ثرثرته. جلس في مواجهة السيد فيرلوك على الطاولة، وظل ساكنا وهادئا جدا، محملقا في الفراغ. لم تقلق المرأتان كثيرا بشأن محاولة الحيلولة دون نبذ ستيفي بأي شكل من الأشكال من طرف سيد المنزل. كان «ذلك الفتى»، كما كانتا تشيران إليه بهدوء فيما بينهما، مصدرا لذلك النوع من القلق منذ يوم ولادته تقريبا. تجلى الخزي الذي شعر به بائع الكحوليات المرخص لأنه ولد له صبي غريب الأطوار في نزعة إلى معاملة وحشية؛ إذ كان رجلا مرهف الأحاسيس، ومن ثم باتت آلامه ومعاناته كرجل وأب أمرا طبيعيا لا غرابة فيه. بعد ذلك، كان لا بد من منع ستيفي من أن يصبح مصدر إزعاج للمستأجرين غير المتزوجين، إذ كانوا هم أنفسهم قوما غريبي الأطوار، ويسهل أن يتضرروا من تصرفاته. وكان عليهما دوما أن تواجها القلق من مجرد وجوده. كانت رؤية دخول ابنها إلى إصلاحية الأحداث تطارد المرأة العجوز في غرفة الإفطار بالطابق الأرضي في المنزل المتهالك في بلجرافيا. اعتادت أن تقول لابنتها: «لو لم تتزوجي بهذا الرجل الطيب يا بنيتي، فلا أعرف ما الذي كان سيحل بهذا الصبي البائس.»
منح السيد فيرلوك قدرا كبيرا من التقدير لستيفي مثل القدر الذي قد يمنحه رجل غير مولع بالحيوانات للقط الذي تحبه زوجته؛ وكان هذا التقدير نفسه نابعا من طبيعة خيرة ودون تكلف. وباعتراف المرأتين كلتيهما ، كان العقل يقتضي عدم توقع ما هو أكثر من ذلك. كان ذلك كافيا لأن يكتسب السيد فيرلوك امتنان المرأة العجوز وتوقيرها. في الأيام الأولى، بدافع من تشككها بسبب تجارب الحياة الخالية من الأصدقاء، كانت أحيانا تسأل بقلق: «ألا تظنين، يا عزيزتي، أن السيد فيرلوك قد سئم من رؤية ستيفي في المكان؟» اعتادت ويني أن ترد على هذا السؤال بهز رأسها نفيا. ولكن في إحدى المرات، ردت بأسلوب سليط ومتجهم: «سيكون عليه أن يسأم مني أولا.» ساد صمت طويل. أسندت الأم قدميها على كرسي، وبدا أنها تحاول أن تفهم ما وراء هذه الإجابة، التي جعلها حسها الأنثوي تذهل منها تماما. لم تكن في الحقيقة قد فهمت السبب الذي دفع ويني للزواج من السيد فيرلوك. كان أمرا منطقيا جدا بالنسبة إليها، ومن الواضح أنه تبين أنه كان خيرا لها، ولكن ربما كانت ابنتها تأمل في العثور على شخص سنه أكثر ملاءمة لها، وهذا طبيعي. كان ثمة شاب يعتمد عليه، وهو الابن الوحيد لجزار يقطن في الشارع المجاور، وكان هذا الشاب يساعد والده في عمله، وتكرر أن خرجت ويني معه من دون أن تخفي سرورها بذلك. لم يكن خافيا اعتماده على أبيه في كسب عيشه؛ ولكن العمل كان يدر دخلا جيدا، وكان مستقبله مبشرا. اصطحب ابنتها إلى المسرح في عدة أمسيات. ثم ما إن بدأت تخشى أن تسمع بأمر خطبتهما (إذ ما الذي كان يمكن أن تفعله في هذا المنزل الكبير بمفردها، وستيفي في رعايتها)، انتهت هذه العلاقة الرومانسية فجأة، وبدأ الضجر يكسو وجه ويني. ولكن عندما أتت العناية الإلهية بالسيد فيرلوك وشغل غرفة النوم الأمامية في الطابق الأول، انقطع سيل الأسئلة بشأن الجزار الشاب. كان من الواضح أن الأمر من عمل العناية الإلهية.
الفصل الثالث
«... كل أشكال المثالية تزيد من بؤس الحياة. ولإضفاء الجمال على الحياة، فينبغي أن تزيل عنها سمة التعقيد، فالتعقيد يدمر الحياة. دع هذا الأمر لدعاة الأخلاق يا بني. التاريخ يصنعه الرجال، ولكنهم لا يصنعونه في أدمغتهم. تلعب الأفكار التي تتولد في وعيهم دورا ضئيلا في مسيرة الأحداث. إن التاريخ يكتبه ويسطره أصحاب العمل والإنتاج، بدافع من الظروف الاقتصادية. الرأسمالية صنعت الاشتراكية، والقوانين التي صنعتها الرأسمالية لحماية الممتلكات هي المسئولة عن اللاسلطوية. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالشكل الذي سيتخذه النظام الاجتماعي في المستقبل. ثم ما الداعي للانغماس في الأوهام التنبؤية؟ أفضل ما يمكنها فعله هو تفسير ما يجول في عقل المتنبئ، ولا يمكن أن يكون لها قيمة موضوعية. دع تلك التسلية لدعاة الأخلاق يا بني.»
كان ميكايليس - صاحب الإفراج المشروط - يتحدث بصوت معتدل، صوت فيه أزيز وكأن صدره مثقل ومرهق بسبب طبقة الدهون التي عليه. كان قد خرج من سجن تتوفر به جميع مقومات النظافة والصحة مستديرا مثل حوض استحمام، ببطن ضخمة ووجنتين مكتنزتين ضمن بشرة شاحبة، تكاد تصبح شفافة من بياضها، كما لو كان خدام المجتمع الغاضب ظلوا يعلفونه بأطعمة تسمين طيلة خمس عشرة سنة في زنزانة رطبة ومنعدمة الإضاءة. ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن من إنقاص وزنه ولو بمقدار أونصة واحدة.
قيل إنه على مدى ثلاثة مواسم كانت سيدة عجوز ثرية ترسله للعلاج في مارينباد، وهناك كاد يشارك العامة فضولهم ذات مرة بشأن ملك متوج، ولكن الشرطة في تلك المرة أمرته بأن يغادر في غضون اثنتي عشرة ساعة. استمر عذابه الشديد بحرمانه من الوصول إلى المياه الشافية. ولكنه توقف عن العمل الآن.
من دون مفصل ظاهر في كوعه، الذي كان أشبه بانحناء في أحد أطراف دمية، منطرحا على ظهر كرسي، انحنى إلى الأمام قليلا فوق فخذيه القصيرين والضخمين ليبصق في موقد المدفأة.
أضاف من دون تأكيد: «نعم! لقد توفر لدي الوقت للتفكير في الأمور قليلا. منحني المجتمع الكثير من الوقت للتأمل.»
على الجانب الآخر من المدفأة، على كرسي بذراعين مكسو بشعر الخيل كانت والدة السيدة فيرلوك تحظى بامتياز الجلوس عليه عادة، أطلق كارل يوندت ضحكة أخفت وراءها عبوسا وتكشيرة خافتة وغامضة من فم خال من الأسنان. كان الإرهابي - كما أطلق على نفسه - عجوزا وأصلع وله خصلة من شعر أبيض مدلاة من ذقنه. تكشف تعبير غير عادي من حقد خفي في عينيه المطفأتين. عندما نهض متألما رسم اندفاع مقدم يد نحيفة تتلمس طريقها ومشوهة بتورمات النقرس صورة جهد قاتل محتضر يستجمع كل ما تبقى لديه من قوة من أجل طعنة أخيرة. اتكأ على عصا سميكة، ارتعشت تحت يده الأخرى.
تكلم بشراسة: «لقد حلمت دوما بعصبة من رجال لا يحيدون عن عزمهم في نبذ كل تورع في اختيار الوسائل التي يتبعونها، أقوياء لدرجة أن يطلقوا على أنفسهم صراحة اسم «المدمرين»، ومتحررون من وصمة ذلك التشاؤم المستكين الذي يفسد العالم. لا يرحمون أي شيء على وجه الأرض - ولا حتى أنفسهم - ويجندون الموت من أجل الخير وكل ما يخدم البشرية، هذا ما أحببت أن أراه.»
اهتز رأسه الأصلع الصغير، مضفيا اهتزازا مضحكا على خصلة العثنون البيضاء. كان من شأن نطقه أن يكاد يكون غير مفهوم على الإطلاق لأي شخص غريب. لم يسعف حماسه المنهك - الذي يشبه في قوته الواهنة إثارة شهواني عجوز - حلق جاف وفم خال من الأسنان بدا وكأنه يمسك بطرف لسانه. أطلق السيد فيرلوك، الذي كان يجلس بثبات في ركن الأريكة في الطرف الآخر من الغرفة، همهمتين تنمان عن موافقته من صميم قلبه.
أدار الإرهابي المسن رأسه ببطء على رقبته الضامرة من جانب إلى آخر. «ولم أتمكن من أن أجمع ما يصل عدده إلى ثلاثة رجال من هذه النوعية. لقد اكتفيت من تشاؤمكم العفن.» أضاف مزمجرا في وجه ميكايليس، الذي فصل ساقيه المكتنزتين باللحم، اللتين كانتا تشبهان وسادتين أسطوانيتين، بعضهما عن بعض وزلق قدميه فجأة تحت كرسيه علامة على سخطه.
هو متشائم! أخرق! صاح قائلا إن هذه التهمة كانت شائنة. كان بعيدا للغاية عن التشاؤم لدرجة أنه رأى بالفعل أنه من المنطقي، ومما لا مفر منه، أن تكون نهاية كل الملكيات الخاصة أمرا وشيكا بمجرد ازدياد الخبث المتأصل فيها. لم يكن على أصحاب الممتلكات مواجهة طبقة البروليتاريا التي تيقظت فحسب، بل كان عليهم أن يتقاتلوا فيما بينهم. أجل . صراع، وحرب، كان ذلك هو حال الملكية الخاصة. كانت حربا مهلكة. آه! إنه لم يعتمد على الحماس العاطفي للحفاظ على إيمانه، فلا مكان للتصريحات ولا مكان للغضب ولا مكان للتلويح بأعلام حمراء قانية أو شموس متوهجة ترمز إلى الانتقام فوق أفق مجتمع محكوم عليه بالهلاك. ليس هو! كان يتفاخر بأن التفكير المتجرد من المشاعر هو أساس تفاؤله. نعم، تفاؤله ...
توقف أزيز تنفسه المرهق، ثم، بعد لهثة أو اثنتين، أضاف قائلا: «أتعتقدون أنني، لو لم أكن متفائلا كما هو حالي، ما كنت سأجد وسيلة لجز عنقي طيلة خمس عشرة سنة؟ وفي الحالة الأخيرة، كان يمكنني دوما أن أضرب رأسي في جدران زنزانتي.»
سلب ضيق تنفسه صوته من الحماس والحيوية؛ وتدلت وجنتاه الضخمتان الشاحبتان مثل كيسين ممتلئين، بلا حركة، وبلا اهتزاز؛ ولكن في عينيه الزرقاوين، اللتين ضاقتا وكأنهما تحدقان فيما أمامهما، كانت توجد نفس النظرة التي كانت تنم عن ذكاء واثق، وعن شيء من الجنون في ثباتها، لا بد أنها كذلك وقت أن قبع المتفائل مفكرا في زنزانته ليلا. ظل كارل يوندت واقفا أمامه، ملقيا إحدى جانبي معطفه الهافلوك الباهت المخضر خلف كتفه بعجرفة. أمام المدفأة، جلس الرفيق أوسيبون، طالب الطب السابق، والكاتب الأساسي لمنشورات حركة مستقبل طبقة العمال، مادا ساقيه القويتين، وأبقى نعل حذائه متجها نحو لهب موقد المدفأة. اكتست رأسه بأجمة من شعر أصفر مجعد فوق وجهه الأحمر المليء بالنمش، الذي ضم أنفا أفطس وفما بارزا تقولبا في قالب يشبه تقريبا ملامح الزنوج. كانت عيناه اللتان تشبهان اللوزتين تتألقان بهدوء فوق عظام الوجنتين المرتفعة. ارتدى قميصا خفيفا رماديا، وتدلت نهايتا ربطة عنق حريرية سوداء إلى أسفل صدر معطفه المزرر المنسوج من السيرج؛ وإذ استقر رأسه على ظهر كرسيه، برزت حنجرته كثيرا، ورفع إلى شفتيه سيجارة وضعها في مبسم خشبي طويل، وأخذ ينفث نفثات من الدخان مباشرة نحو السقف.
تابع ميكايليس فكرته - فكرة عزلته الفردية - الفكرة التي كانت منحة أسره وظلت تتنامى مثل إيمان تكشف في رؤى. تحدث إلى نفسه، غير مبال بتعاطف مستمعيه أو عدائيتهم، وغير مبال حقا لوجودهم، وكان ذلك نابعا من عادة التفكير بصوت عال التي كان قد اكتسبها في عزلة جدران زنزانته الأربعة المطلية باللون الأبيض، وفي الصمت الموحش الذي كان يخيم على كومة الطوب الصماء القريبة من نهر، يفوح منها الشؤم والقبح كأنها مستودع جنائزي ضخم لجثث الذين أغرقهم المجتمع.
لم يكن جيدا في المناقشات، ليس بسبب أن إيمانه كان يمكن أن يتزعزع بأي قدر من الحجج، ولكن لأن مجرد سماع صوت آخر كان يربكه إرباكا شديدا، مشتتا أفكاره في الحال؛ هذه الأفكار التي ظلت لسنوات كثيرة في عزلة عقلية أكثر جدبا من صحراء قاحلة، بلا أي صوت لأي أحد يقاوم تلك الأفكار أو يعلق عليها أو يوافق عليها.
لم يقاطعه أحد حينئذ، وأعاد الاعتراف بإيمانه، الذي كان يسيطر عليه سيطرة طاغية وتامة كأنه نعمة أنعم بها عليه؛ إنه سر القدر الذي اكتشف في الجانب المادي من الحياة؛ الحالة الاقتصادية للعالم المسئولة عن الماضي وعن صياغة المستقبل؛ مصدر جميع أحداث التاريخ، وجميع الأفكار، المرشدة للتطور العقلي للبشر والدوافع الحقيقية لعاطفتهم ...
قطعت ضحكة قاسية أطلقها الرفيق أوسيبون الخطبة العصماء لصاحب الإفراج المشروط وتلعثم لسانه، وظهر تردد مذهول في عينيه المهيبتين قليلا. أغمضهما ببطء للحظة، وكأنه يستجمع شتات أفكاره. خيم صمت على المكان؛ ولكن بسبب مصباحي الغاز فوق المنضدة وتوهج موقد المدفأة أصبحت الحرارة في غرفة المعيشة خلف متجر السيد فيرلوك لا تطاق. نهض السيد فيرلوك من فوق الأريكة متململا، وفتح الباب المؤدي إلى المطبخ لإدخال مزيد من الهواء، فظهر ستيفي البريء جالسا في اعتدال تام وهدوء شديد على مائدة من خشب الصنوبر، يرسم دوائر، دوائر، دوائر؛ دوائر لا حصر لها، متحدة المركز؛ وغير متحدة المركز؛ دوامة متداخلة من الدوائر، أوحت كثرة تشابكها في منحنيات، واتحادها في الشكل، والتشويش الذي يحدثه تقاطع الخطوط، عن فوضى كونية، رمزية فن مجنون يسعى إلى المحال. لم يحول الفنان رأسه مطلقا؛ وفي مثابرته التامة في عمله على المهمة كان ظهره يرتعش، وبدت رقبته الرفيعة، الغارقة في تجويف عميق في قاعدة الجمجمة، متهيئة لأن تنكسر.
بعدما أصدر السيد فيرلوك صوت نخير استنكارا للمفاجأة، عاد إلى الأريكة. نهض ألكسندر أوسيبون، الذي بدا طويل القامة في بذلته الزرقاء الرثة من نسيج السيرج تحت السقف المنخفض، ونفض عن نفسه تصلب جمود طويل، ومشى إلى المطبخ (المنخفض بمقدار درجتي سلم) ليلقي نظرة من فوق كتف ستيفي. عاد وقال بنبرة فيها تنبؤ: «جيد جدا. مميز للغاية، نموذجي تماما.»
تساءل السيد فيرلوك بتذمر: «ماذا تقصد بجيد جدا؟» بعدما عاد للاستقرار في ركن الأريكة. فسر الآخر ما يقصده بلا مبالاة وبشيء من التعالي وهو يدير رأسه ناحية المطبخ. «نموذجي لهذا الشكل من الانحطاط، أقصد هذه الرسومات.»
تمتم السيد فيرلوك: «تقول إن هذا الفتى منحل، هل هذا ما تقصده؟»
التفت الرفيق ألكسندر أوسيبون - الملقب بالطبيب؛ إذ كان يدرس الطب ولكنه لم يكمل دراسته؛ وبعد ذلك ظل يتجول ويلقي محاضرات لدى الجمعيات المهتمة بشئون العمال عن الأنماط الاشتراكية في الصحة؛ وكذلك ألف دراسة شهيرة شبه طبية (في شكل كتيب رخيص ولكن الشرطة صادرته على الفور) بعنوان «الرذائل التي تأكل الطبقات المتوسطة»؛ وعمل مفوضا خاصا لدى «اللجنة الحمراء» الغامضة نوعا ما، جنبا إلى جنب مع كارل يوندت وميكايليس لعمل الدعاية الأدبية - إلى هذا المتردد الغامض على سفارتين على الأقل ونظر إليه نظرة استعلاء لا تحتمل لا تنم إلا عن أنه قامة في علم يقدمه لعامة الناس. «هذا ما يمكن أن يطلق عليه علميا. إنه نموذج جيد جدا أيضا، من ذلك الانحطاط. يكفي النظر إلى شحمتي أذنيه. إذا قرأت ما كتبه لومبروزو ...»
استمر السيد فيرلوك - متقلب المزاج والذي كان متمددا شاغلا جزءا كبيرا من الأريكة - في طأطأة رأسه ناظرا إلى أزرار صدريته؛ ولكن وجنتيه توردتا بعض الشيء. مؤخرا، كان أبسط اشتقاق من كلمة علم (مصطلح في حد ذاته ليس مسيئا وليس له معنى محدد) له قدرة غريبة على استحضار صورة ذهنية عدائية تماما للسيد فلاديمير، بشحمه ولحمه، بوضوح شبه خارق. وهذه الظاهرة - التي تستحق بإنصاف أن تصنف ضمن عجائب العلم - استحثت في السيد فيرلوك حالة عاطفية من الرهبة والسخط عادة ما كانت تظهر في صورة سباب عنيف. ولكنه لم يتفوه بكلمة. كان من تكلم هو كارل يوندت، الذي كان عنيدا حتى النفس الأخير. «لومبروزو هذا أحمق.»
قابل الرفيق أوسيبون صدمة هذا التجديف بنظرة مخيفة خالية من التعبير. وتمتم الآخر - بعينيه غير اللامعتين ذواتي الرموش الطويلة أسفل الجبهة الكبيرة البارزة - وهو يمسك طرف لسانه بين شفتيه في كل كلمة وكأنه يمضغها غاضبا: «هل رأيتم من قبل أبله كهذا؟ من وجهة نظره أن المجرم هو السجين. أمر بسيط، أليس كذلك؟ ماذا عن أولئك الذين قمعوه هناك، أجبروه على الدخول إلى هناك؟ بالضبط. أجبروه على الدخول إلى هناك. وما هي الجريمة؟ هل يعلم، هذا الأبله الذي شق طريقه في هذا العالم من الحمقى المتخمين عن طريق النظر إلى آذان وأسنان الكثير من الأشرار البؤساء العديمي الحظ؟ هل الأسنان والآذان هي ما يوسم به المجرم؟ هل هي كذلك حقا؟ وماذا عن القانون الذي يسمه على نحو أفضل، أداة الوسم الجميلة التي اخترعها المتخمون كي يقوا أنفسهم من الجوعى؟ مرات وضع الأداة المتقدة على جلودهم البغيضة؛ أليس كذلك؟ ألا يمكنك أن تشم وتسمع من هنا صوت احتراق جلد الناس السميك وطشيشه؟ هكذا يصنع المجرمون ليكتب عنهم أتباع نظرية لومبروزو كتاباتهم السخيفة.»
ارتعش مقبض عصاه وساقاه انفعالا، بينما ظل جذعه، المغطى بجناحي معطفه الهافلوك، ثابتا على موقف التحدي الذي يتخذه دوما. بدا وكأنه يستنشق الهواء الملوث بقسوة المجتمع، ويجهد أذنه لسماع أصواته البشعة. كان ثمة قوة غير عادية من الإيحاء في هذا الموقف. كان المعلم المخضرم في حروب الديناميت ممثلا عظيما في زمنه، ممثلا على المنصات وفي التجمعات السرية وفي اللقاءات الخاصة. لم يسبق للإرهابي الشهير قط في حياته أن رفع شخصيا ولو حتى إصبعه البنصر في مواجهة الصرح الاجتماعي. لم يكن رجل أفعال؛ لم يكن حتى خطيبا مفوها يكتسح الحشود وسط الضجيج الصاخب وفورة الحماس الكبير. وبنية ماكرة إلى حد كبير، لعب دور محرض خبيث ووقح ذي دوافع خبيثة كامنة في الحسد الأعمى والتكبر الساخط النابع من الجهل، في المعاناة وبؤس الفقر، في جميع الأوهام المتفائلة والنبيلة النابعة من الغضب والشفقة والثورة. كان ظل موهبته الشريرة لا يزال ملتصقا به مثل رائحة مخدر مميت في قارورة سم قديمة، فارغة الآن، وعديمة الجدوى، وجاهزة للتخلص منها فوق كومة قمامة الأشياء التي انقضت مدة صلاحيتها.
ابتسم ميكايليس - صاحب الإفراج المشروط - ابتسامة غامضة بشفتيه المطبقتين؛ وتدلى وجهه المستدير الشاحب تحت وطأة موافقة حزينة. كان هو نفسه سجينا. كان جلده قد فح طشيشه تحت وطأة أداة الوسم المتقدة؛ ومن ثم تمتم بصوت منخفض. ولكن الرفيق أوسيبون - الملقب بالطبيب - كان حينئذ قد تجاوز الصدمة.
استهل كلامه قائلا بازدراء: «أنت لا تفهم» ولكنه توقف فجأة، خوفا من السواد المكفهر البادي في العينين الغائرتين في الوجه الذي استدار نحوه ببطء محدقا بنظرة عمياء، كأنما تنقاد بالصوت فقط. توقف عن النقاش، بهزة خفيفة من كتفيه.
كان ستيفي، الذي اعتاد على التحرك من دون أن يأبه له أحد، قد نهض عن مائدة المطبخ، حاملا رسوماته إلى السرير معه. كان قد وصل إلى باب غرفة المعيشة في الوقت المناسب ليتلقى الصعقة الكاملة لتصوير كارل يوندت البليغ. سقطت الورقة المغطاة بالدوائر من بين أصابعه، وظل يحملق في الإرهابي العجوز، وكأن قدميه غاصتا في مكانهما من رعبه المرضي وخوفه من الألم الجسدي. لم يكن يخفى على ستيفي أن وضع الحديد المتقد على بشرة الإنسان مؤلم أشد الألم. تطاير شرر السخط والخوف من عينيه؛ يمكن أن يسبب ألما مروعا. وقف فاغرا فاه.
كان ميكايليس قد استعاد ميله إلى ضرورة العزلة من أجل أن يستمر حبل أفكاره، بالتحديق بشرود ذهن في النار. كان تفاؤله قد بدأ يتدفق من بين شفتيه. رأى أن الرأسمالية محكوم عليها بالفشل من مهدها، فقد ولدت ومعها سم مبدأ المنافسة في نظامها. فكبار الرأسماليين يلتهمون صغار الرأسماليين، وتركيز السلطة وأدوات الإنتاج في أيدي حشود كبيرة، وإتقان العمليات الصناعية، وجنون تعظيم الذات، كل ذلك لم يكن سوى تحضير للإرث الشرعي لطبقة البروليتاريا الكادحة وتنظيمه وإثرائه وتجهيزه. تلفظ ميكايليس بالكلمة العظيمة «الصبر»؛ واكتست عيناه الزرقاوان، اللتان ارتفعتا إلى السقف المنخفض لغرفة المعيشة في منزل السيد فيرلوك، بمسحة من صدق ملائكي. على عتبة الباب، بدا ستيفي هادئا وغارقا في بلاهته.
ارتعش وجه الرفيق أوسيبون غضبا. «إذن، لا فائدة من فعل أي شيء؛ لا فائدة على الإطلاق.»
اعترض ميكايليس بلطف: «لا أقول ذلك.» كانت رؤيته للحقيقة قد اتضحت لدرجة أن تردد صوت غريب عجز عن أن يقطع حبل أفكاره هذه المرة. ظل ينظر أسفل إلى الفحم المتأجج. كان التحضير للمستقبل ضروريا، وكان مستعدا للاعتراف بأن التغيير الكبير ربما يأتي في صورة اضطراب ثورة. ولكنه قال بأن الدعاية الثورية عمل يتطلب دقة وضميرا حيا. كانت بمثابة التثقيف لسادة العالم. لا بد من توخي الحذر مثلما هو الحال مع التثقيف الذي يمنح للملوك. كان يريد أن تقدم مبادئها بحذر، بل بوجل؛ إذ نجهل التأثير الذي قد يحدثه أي تغيير اقتصادي في سعادة البشرية وأخلاقياتها وتفكيرها وتاريخها. فالتاريخ تصنعه أدوات الإنتاج، ولا يصنع بالأفكار؛ وكل شيء تغيره الظروف الاقتصادية - الفنون والفلسفة والحب والفضيلة - والحقيقة نفسها!
قبع الفحم في قاع موقد المدفأة مصدرا صوت تحطم طفيف؛ ونهض ميكايليس مندفعا؛ ميكاليس الذي غرق كالنساك في الرؤى وهو في غياهب السجن. فتح ذراعيه السميكتين القصيرتين مثل بالون منتفخ، وكأنه كان يحاول عبثا أن يضم إلى صدره عالما يتجدد ذاتيا. وأخذ يلهث بحماس. «المستقبل مؤكد مثل الماضي، العبودية، الإقطاعية، الفردية، الجماعية. هذا نص قانون، وليس نبوءة فارغة.»
أظهر بروز شفتي الرفيق أوسيبون السميكتين بازدراء السمة الزنجية لوجهه. «هراء.» قال ذلك بهدوء كاف. «لا يوجد قانون ولا توجد حقيقة مؤكدة. يمكن تأجيل الدعاية التثقيفية. ما يعرفه الناس لا يهم، فمعرفتهم بالأمور ليست دقيقة على الإطلاق. الأمر الوحيد الذي يهمنا هو الحالة العاطفية لدى الجماهير. فلا أفعال من دون استثارة العواطف.»
توقف قليلا، ثم أردف بإصرار معتدل: «أنا أتحدث إليكم بطريقة علمية ... علمية ... ماذا؟ ماذا قلت يا فيرلوك؟»
قال السيد فيرلوك بصوت أجش من فوق الأريكة: «لا شيء.» وكانت قد استثارته الكلمة البغيضة إليه، فتمتم بكلمة «اللعنة».
سمعت الهمهمة الخبيثة الصادرة من الإرهابي العجوز عديم الأسنان. «هل تعرف التسمية التي يمكنني أن أطلقها على طبيعة الظروف الاقتصادية الحالية؟ يمكنني أن أطلق عليها اسم آكلة لحوم البشر. هكذا هي! إنهم يغذون جشعهم بلحوم الشعوب المرتعبة ودمائها الدافئة، ولا شيء غير ذلك.»
تلقف ستيفي العبارات المرعبة وسمع وهو يبلع ريقه، وعلى الفور، وكأنما ابتلع سما سريع المفعول، خر جالسا على عتبة باب المطبخ.
لم يظهر ميكايليس ما يدل على أنه سمع أي شيء. بدت شفتاه وكأن التصاقهما لم ينفك قط؛ ولم تهتز وجنتاه المكتنزتان اهتزازة واحدة. نظر بعينين مضطربتين إلى قبعته الدائرية الصلبة، ووضعها فوق رأسه الدائري. بدا وكأن جسده المستدير والسمين يطفو على ارتفاع منخفض بين الكراسي تحت كوع كارل يوندت المدبب. رفع الإرهابي العجوز يده التي تشبه المخالب مترددا، فأمال متبخترا قبعته المكسيكية السوداء التي غطت تجاويف وبروزات وجهه المنهك. مشى متباطئا وهو يضرب الأرض بعصاه مع كل خطوة. كان إخراجه من المنزل مسألة صعبة، إذ كان يتوقف، بين الفينة والأخرى، وكأنه يفكر في أمر ما، ولا يبدي استعدادا للحركة مرة أخرى حتى يدفعه ميكايليس إلى الأمام. أمسك صاحب الإفراج المشروط ذراعه بعناية أخوية؛ وخلفهما، تثاءب أوسيبون القوي، وهو يضع يده في جيوبه، تثاؤبا غامضا. منحته قبعة زرقاء، ذات قمة من جلد لامع، استقرت على نحو جيد فوق شعيراته الشقراء، مظهر بحار نرويجي سئم من العالم بعد مرح صاخب. رافق السيد فيرلوك ضيوفه في طريقهم إلى خارج المبنى حاسر الرأس، ومعطفه الثقيل مفتوح الأزرار، وعيناه تنظران إلى الأرض.
أغلق الباب خلفهم بقوة منضبطة، وأدار المفتاح، وأغلق بالمزلاج. لم يكن راضيا عن أصدقائه. ففي ضوء فلسفة السيد فلاديمير عن إلقاء القنابل، بدوا بلا جدوى على الإطلاق. كان دور السيد فيرلوك في السياسات الثورية هو المراقبة؛ ومن ثم لم يستطع أن يتخذ مبادرة الفعل دفعة واحدة، سواء في بيته أو في التجمعات الأكبر. كان عليه أن يتوخى الحذر. متأثرا بسخط رجل تجاوز الأربعين، مهددا فيما هو الأعز عليه - راحته وأمنه - سأل نفسه بازدراء ما الذي كان يمكن أن يتوقعه من مجموعة مثل كارل يوندت وميكايليس وأوسيبون.
انتوى السيد فيرلوك أن يطفئ مصباح الغاز المتقد في وسط المتجر، لكنه توقف إذ انحدر في هاوية التفكير في الأخلاق. ببصيرة نابعة من حالة مزاجية مشابهة، أعلن حكمه. جماعة كسولة؛ كارل يوندت هذا، كان رجلا تعهدته امرأة عجوز، امرأة كان قد أغراها منذ سنوات وأبعدها عن صديق، وبعد ذلك حاول أكثر من مرة أن يتخلص منها. لحسن حظ يوندت أن تلك المرأة ما برحت الإتيان إليه بين الفينة والأخرى، وإلا لما وجد أحدا يساعده على الخروج من الحافلة بجانب سياج جرين بارك، حيث كان هذا الشبح يبدأ جولة رياضة المشي في كل صباح يكون فيه الجو معتدلا. عندما ماتت تلك الحيزبون العجوز، كان من الممكن أن يختفي ذلك الشبح المتعجرف أيضا، عندها كانت ستصبح نهاية كارل يوندت متقد الحماس. كذلك تثبطت الروح المعنوية لدى السيد فيرلوك بتفاؤل ميكايليس، الذي احتوته السيدة العجوز الثرية التي كانت قد أخذت على عاتقها في الفترة الأخيرة أن ترسله إلى بيت لها في الريف. كان بوسع السجين السابق أن يتجول في الأزقة الظليلة لأيام في خمول حلو وشاعري. أما أوسيبون، فكان ذلك المتسول واثقا من أنه لن ينقصه شيء طالما أنه توجد في العالم فتيات ساذجات معهن دفاتر مدخرات بنكية. واستوعب السيد فيرلوك، الذي يتفق في مزاجه مع رفاقه، فروقا دقيقة في عقله حول قوة اختلافات غير مهمة. استوعبها بقناعة تامة لأن غريزة الاحترام الفطري كانت قوية بداخله ولم يتغلب عليها إلا بغضه لجميع أنواع العمل المعروفة، وهي نقيصة مزاجية تقاسمها مع نسبة كبيرة من الإصلاحيين الثوريين من وضع اجتماعي معين. فمن الواضح أن المرء لا يثور على مزايا ذلك الوضع والفرص التي يوفرها، وإنما على الثمن الذي يجب دفعه مقابل ذلك على هيئة أخلاق مقبولة وضبط للنفس وكد. غالبا ما يكون أكثر الثوريين أعداء الانضباط والكدح. يوجد أناس أيضا لديهم إحساس بأن ثمن العدالة يبدو باهظا للغاية ولا يخلو من القبح والقمع والقلق والمهانة والابتزاز وعدم التسامح. أولئك هم المتعصبون. النسبة الباقية من المتمردين على المجتمع يسوقهم التكبر؛ وهو أصل كل الأوهام سواء النبيلة أو الحقيرة؛ وهو رفيق الشعراء والمصلحين والدجالين والقادة الملهمين والمخربين.
هوى السيد فيرلوك لمدة دقيقة كاملة في هاوية التأمل، ولكنه لم يصل إلى عمق تلك الأفكار المجردة. ربما لم يكن قادرا على ذلك. لم يكن لديه الوقت على أية حال. خرج من تلك الهاوية بطريقة مؤلمة لما تذكر فجأة السيد فلاديمير، وهو رفيق آخر من رفاقه، والذي تمكن، بحكم التقارب المعنوي الكبير، من الحكم على الأمور حكما صحيحا. اعتبره خطيرا. تسلل شيء من الحسد إلى أفكاره. كان التسكع حسنا لهؤلاء الرجال، الذين لم يعرفوا السيد فلاديمير، وكان لديهم نساء يلجئون إليهن؛ أما هو فكان لديه امرأة يعولها ...
عند هذه المرحلة، وبترابط بسيط بين الأفكار، واجهت السيد فيرلوك ضرورة أن يأوي إلى الفراش في وقت ما في ذلك المساء. فلماذا لا يخلد إلى النوم الآن وفورا؟ خرجت من صدره تنهيدة. لم تكن تلك الضرورة عادة ممتعة له كما ينبغي أن تكون لرجل في عمره ومزاجه. خشي من شيطان الأرق؛ إذ شعر بأنه يختص به لنفسه اليوم. رفع ذراعه، وأطفأ مصباح الغاز المتوهج فوق رأسه.
دخل بصيص نور من خلال باب غرفة المعيشة إلى جزء من المتجر خلف منضدة البيع. أتاح هذا البصيص للسيد فيرلوك أن يتأكد من نظرة واحدة من عدد العملات الفضية في الصندوق. كانت بضع عملات فحسب؛ ولأول مرة منذ افتتح متجره أجرى معاينة لقيمته التجارية. لم تكن هذه المعاينة إيجابية. فلم يكن قد دخل مجال التجارة من أجل أسباب تجارية. لقد دخل في هذا الدرب الغريب من الأعمال نتيجة ميل غريزي تجاه المعاملات المشبوهة التي يسهل فيها كسب الأموال. علاوة على ذلك، لم تبعده هذه الأعمال عن عالمه، العالم الذي تراقبه الشرطة. على النقيض من ذلك، منحه هذا المتجر موقفا معروفا ومعلنا في ذلك العالم، ولما كانت للسيد فيرلوك علاقات غير معروفة جعلته معروفا لدى الشرطة ولكن من دون أن يأبه لذلك، فقد منحه هذا ميزة واضحة في هذا الوضع. ولكن المتجر في حد ذاته لم يكن وسيلة كافية لكسب الرزق.
أخرج صندوق النقود من الدرج، واستدار كي يغادر المتجر، وعندئذ أدرك أن ستيفي كان لا يزال في الطابق السفلي.
ماذا يفعل هناك بحق السماء؟ تساءل السيد فيرلوك بينه وبين نفسه. ما معنى هذه التصرفات الغريبة؟ نظر بارتياب إلى صهره، ولكنه لم يسأله عن شيء. اقتصر تواصل السيد فيرلوك مع ستيفي على التمتمة المعتادة في الصباح بعد الإفطار، بأن يطلب «حذاءه» وحتى هذا كان عموما طلبا أو أمرا مباشرا أكثر من كونه تواصلا. أدرك السيد فيرلوك ببعض الدهشة أنه لم يعرف حقا ماذا يقول لستيفي. وقف ساكنا في وسط غرفة المعيشة ونظر إلى المطبخ في صمت. كذلك لم يعرف ما الذي قد يحدث لو تلفظ بأي شيء. وبدا هذا للسيد فيرلوك غريبا جدا في ضوء الحقيقة التي أدركها فجأة وهي أنه كان يجب أن ينهض بأعباء هذا الفتى أيضا. وحتى ذلك الحين، لم يكن قد فكر لحظة في ذلك الجانب من وجود ستيفي.
في الحقيقة لم يكن يعرف كيف يتحدث إلى الفتى. شاهده وهو يأتي بحركات بيديه ويتمتم في المطبخ. كان ستيفي يحوم حول الطاولة مثل حيوان هائج في قفص. لما بادره السيد فيرلوك قائلا: «أليس من الأفضل أن تأوي إلى الفراش الآن؟» لم يبد أي تأثر بسؤاله؛ ولما أقلع السيد فيرلوك عن التفكير المتحجر في سلوك صهره، عبر غرفة المعيشة مضجرا وصندوق النقود في يده. كان سبب التعب العام الذي شعر به أثناء صعوده الدرج عقليا بحتا، وانزعج من طابعه الذي لا يمكن تفسيره. تمنى ألا يكون مريضا بأي مرض. وقف على البسطة المظلمة كي يتفقد حواسه. لكنه سمع صوت شخير خافت ومستمر اخترق الظلام وتعارض مع صفائه. أتى الصوت من غرفة حماته. فكر في نفسه، شخص آخر ينبغي الاعتناء به؛ ولما بدرت هذه الفكرة إلى ذهنه تابع سيره إلى غرفة النوم.
كان النعاس قد غلب السيدة فيرلوك والمصباح (لم يكن يوجد مصباح غازي في الطابق العلوي) متقد لأقصى حد فوق الطاولة بجانب السرير. سقط شعاع المصباح مكونا ظلا فوق الوسادة البيضاء الغاطسة بفعل وزن رأسها وهي مغمضة العينين وشعرها الأسود مضفور في عدة ضفائر من أجل النوم. أيقظها صوت يهمس باسمها في أذنيها ورأت زوجها يقف عند رأسها. «ويني! ويني!»
في البداية لم تتقلب، وظلت مستلقية في هدوء تام وهي تنظر إلى صندوق النقود في يد السيد فيرلوك. ولكن لما فهمت أن أخاها «لا يكف عن اللعب في كل مكان بالطابق السفلي» نهضت في حركة مفاجئة وجلست على حافة السرير. تلمست السجادة بقدميها الحافيتين بحثا عن النعل وهي تنظر إلى أعلى إلى وجه زوجها.
شرح السيد فيرلوك متذمرا: «لا أعرف كيف أسيطر عليه. ليس مقبولا على الإطلاق أن يترك وحده في الطابق السفلي مع المصابيح.»
لم تقل شيئا، وعبرت الغرفة مسرعة، وأغلق الباب خلف ردائها الأبيض.
وضع السيد فيرلوك صندوق النقود فوق المنضدة بجانب السرير، وبدأ في خلع ثيابه بأن رمى معطفه على كرسي بعيد. ثم خلع سترته وصدريته. أخذ يسير في أنحاء الغرفة وهو يرتدي الجورب في قدميه، وظل يروح ويجيء - بجسده الضخم والقلق ينخر فيه وهو يضع يديه على حلقه - أمام المرآة الطويلة في باب خزانة ثياب زوجته. ثم بعدما أنزل الحزام من فوق كتفيه، رفع ستارة التهوية بقوة وأسند جبهته على زجاج النافذة البارد، طبقة رقيقة من الزجاج امتدت بينه وبين بشاعة تراكم بارد، ومظلم، ومبلل، وطيني كريه من الطوب والألواح والحجارة، أشياء غير محببة في ذاتها ويأنفها الإنسان.
شعر السيد فيرلوك بالعدائية الكامنة في كل شيء خارج الأبواب وبشدة تقارب كربا جسديا حقيقيا. لا توجد مهنة تخذل الرجل أكثر من مهنة عميل سري لدى الشرطة. إنها أشبه بسقوط حصانك من تحتك ميتا فجأة وسط سهل غير مأهول وليس فيه ماء. خطر التشبيه على عقل السيد فيرلوك لأنه كان سابقا قد امتطى عديدا من خيول الجيش، وكان لديه الآن إحساس بأنه على وشك السقوط. كان المستقبل أسود مثل زجاج النافذة التي أسند عليها جبهته. وفجأة، لاح وجه السيد فلاديمير، الحليق والذكي، متوهجا ببريق بشرته الوردية وكأنه ختم وردي، منطبع على الظلمة القاتلة.
كانت هذه الرؤيا المضيئة والمشوهة مروعة ماديا حتى إن السيد فيرلوك جفل مبتعدا عن النافذة، تاركا ستارة التهوية تسقط محدثة صوتا قويا. ووسط ارتباكه وذهوله لخشيته من أن يرى المزيد من تلك الرؤى، أبصر زوجته تعود إلى الغرفة وتدخل إلى الفراش في سكينة وهدوء جعلاه يشعر ببؤس وبأنه وحيد في هذا العالم. أعربت السيدة فيرلوك عن دهشتها لرؤيته مستيقظا حتى هذا الوقت.
تمتم وهو يمرر يديه فوق جبهته المتعرقة: «أشعر أنني لست على ما يرام.» «هل تشعر بدوار؟» «أجل. لست على ما يرام على الإطلاق.»
بهدوء الزوجة المحنكة، أعربت السيدة فيرلوك عن رأيها واثقة في السبب، واقترحت العلاجات المعتادة؛ لكن زوجها، الواقف وسط الغرفة وكأن قدمه غاصت فيها، هز رأسه المنكس حزنا.
قالت: «ستصاب بنزلة برد لو ظللت واقفا هناك.»
بذل السيد فيرلوك جهدا وأكمل خلع ملابسه ودخل إلى الفراش. في الأسفل بالشارع الضيق الهادئ، سمع وقع أقدام يقترب من المنزل ثم تلاشى رويدا رويدا، وكأن المار قد بدأ يبتعد إلى الأبد، من مصباح غازي إلى آخر في ليل بلا نهاية؛ ثم أصبح صوت دقات الساعة القديمة عند بسطة الدرج مسموعا بوضوح في غرفة النوم.
استلقت السيدة فيرلوك على ظهرها وأخذت تحملق في السقف، وأبدت ملاحظة. «الإيرادات قليلة جدا اليوم.»
سعل السيد فيرلوك، مستلقيا في الوضعية نفسها، وكأنه سيقول شيئا مهما، ولكنه لم يفعل شيئا سوى أن استفسر قائلا: «هل أطفأت مصباح الغاز في الطابق السفلي؟»
أجابت زوجته بانتباه: «أجل، فعلت.» بعد صمت دام ثلاث دقات للساعة، تمتمت قائلة: «ذلك الفتى البائس في حالة من الاضطراب الشديد الليلة.»
لم يهتم السيد فيرلوك على الإطلاق باضطراب ستيفي، ولكن شعر بأرق شديد، وخشي من مواجهة الظلام والصمت اللذين سيعقبان إطفاء المصباح. دفعته هذه الخشية إلى القول بأن ستيفي تجاهل اقتراحه بالخلود إلى الفراش. بدأت السيدة فيرلوك، بعدما وقعت في الفخ، توضح لزوجها باستفاضة أن هذا التصرف لم يكن «وقاحة» من أي نوع، وإنما مجرد «اضطراب». وأكدت أنه لا يوجد في لندن شاب، في عمر ستيفن، أكثر وداعة وطاعة منه؛ ولا يوجد شاب أكثر حنوا ولا استعدادا لإرضاء غيره منه ولا حتى مفيدا أكثر منه، ما دام لم يبلبل أحد رأسه البائس. استدارت السيدة فيرلوك إلى زوجها المستلقي إلى جوارها، ورفعت جسدها على مرفقها، وأزعجته بحديثها إذ استولى عليها القلق من أن يصدق أنه ينبغي أن يكون ستيفي عضوا مفيدا في الأسرة. ذلك الولع بعاطفة الحماية الذي تعاظم لديها بإفراط في طفولتها، بسبب بؤس طفل آخر، جعل وجنتيها الشاحبتين تصطبغان بحمرة داكنة خفيفة، والتمعت عيناها الكبيرتان تحت رموشها السوداء. حينئذ بدت السيدة فيرلوك أكثر شبابا؛ بدت شابة مثلما كانت تبدو عندما كانت الآنسة ويني، ومفعمة بالحيوية أكثر من ويني أيام ما كانت تعيش في منزل بلجرافيا وتسمح لنفسها بأن تظهر للمستأجرين. كانت مخاوف السيد فيرلوك قد منعته من إضفاء أي معنى على ما كانت تقوله زوجته. بدا الأمر وكأن صوتها كان يصدر من الجهة الأخرى من جدار سميك جدا. وكانت تعبيرات وجهها هي ما جعله يستجمع شتات نفسه.
كان يقدر تلك المرأة، ولم يضف الشعور بهذا التقدير - الذي حركه إظهار شيء يشبه العاطفة - إلا وجعا آخر إلى معاناته التي كانت في غمار عقله. لما توقف صوتها، تحرك متململا، وقال: «لم أكن على ما يرام في الأيام القليلة الماضية.»
ربما كان يقصد بهذا أن يكون مدخلا إلى أن يوليها ثقة تامة؛ لكن السيدة فيرلوك عادت ووضعت رأسها على الوسادة، وأخذت تحدق في الأعلى، وتابعت قائلة: «ذلك الفتى يسمع أكثر مما ينبغي من الأحاديث التي تدور هنا. لو أنني كنت أعلم أنهم قادمون الليلة ، كنت سأحرص على أن يخلد إلى النوم في الساعة التي نمت فيها أنا أيضا. لقد أثار جنونه شيء سمعه بالصدفة عن أكل لحوم البشر وشرب دمائهم. ما النفع من التحدث بتلك الطريقة؟»
كانت ثمة نبرة احتقار وسخط في صوتها. عندئذ أصبح السيد فيرلوك متجاوبا تجاوبا تاما.
تذمر قائلا بعنف: «فلتسألي كارل يوندت.»
قالت السيدة فيرلوك، بحسم كبير، إن كارل يوندت «رجل مسن يثير الاشمئزاز». وأعلنت صراحة عن ميلها إلى ميكايليس. أما عن أوسيبون الضخم، الذي لم تشعر بالارتياح مطلقا أثناء وجوده متحصنة بموقف متحفظ شديد، فلم تقل شيئا على الإطلاق. واستمرت تتحدث عن أخيها الذي ظل لسنوات عديدة محل رعاية وخوف: «إنه ليس مؤهلا لأن يسمع ما يقال هنا. فهو يعتقد أن كل ما يقال حقيقي. إنه لا يفقه غير ذلك. ومن ثم فهو يتأثر بما يقال.»
لم يعلق السيد فيرلوك بشيء. «أخذ يحدق في، وكأنه لا يعرفني، عندما نزلت إلى الطابق السفلي. كانت دقات قلبه عالية كالمطرقة. إنه لا يستطيع التحكم في انفعالاته. أيقظت أمي وطلبت منها أن تجلس معه حتى يخلد إلى النوم. هذا ليس ذنبه. إنه لا يحدث مشاكل عندما يكون بمفرده.»
لم يعلق السيد فيرلوك بشيء.
أردفت السيدة فيرلوك بأسلوب فظ: «ليته لم يذهب إلى المدرسة. دائما ما يأخذ تلك الجرائد من فوق النافذة كي يقرأها. يحمر وجهه عندما ينكب على قراءتها. إننا لا نتخلص من عشرات الأعداد في الشهر. وتشغل حيزا في النافذة الأمامية فحسب. وكل أسبوع يحضر السيد أوسيبون كومة من نشرات حركة مستقبل طبقة العمال هذه كي يبيعها بنصف بنس للنشرة الواحدة. ما كنت لأدفع نصف بنس في الكومة كلها. إنها نشرات سخيفة، نعم إنها كذلك. لا أحد يشتريها. منذ بضعة أيام، وقعت يد ستيفي على إحداها، وكانت فيها قصة عن جندي ألماني قطع أذن أحد المجندين، ولم يعاقب على فعلته تلك. يا له من متوحش! ولم أستطع السيطرة على ستيفي عصر ذلك اليوم. كانت القصة وحدها كافية لجعل دم المرء يغلي. ولكن ما الفائدة من طباعة قصص كهذه؟ لسنا عبيدا ألمانيين هنا، حمدا للرب. هذا ليس شأننا، أليس كذلك؟»
لم يجب السيد فيرلوك بشيء.
أردفت السيدة فيرلوك بعدما تسلل إليها النعاس قليلا: «كان يجب أن آخذ سكين النحت من الفتى. لم يكف عن الصياح والنبش والبكاء. إنه لا يحتمل أي فكرة تنطوي على قسوة. ولو رأى ذلك الضابط حينها، لذبحه بالسكين كالخنزير. هذا حقيقي أيضا! بعض الناس لا يستحقون الكثير من الرحمة.» انقطع صوت السيدة فيرلوك، وأصبح التعبير البادي في عينيها الساكنتين متأملا ومحتجبا أكثر فأكثر أثناء الصمت الطويل. سألت بصوت ضعيف وشارد: «هل أنت مرتاح يا عزيزي؟ هل أطفئ النور الآن؟»
قناعة السيد فيرلوك المخيفة بأن النوم سيجافيه أسكتت لسانه وجعلته هامدا بيأس وسط خوفه من الظلام. بذل جهدا كبيرا.
وأخيرا قال بنبرة جوفاء: «نعم، أطفئيه.»
الفصل الرابع
كان غالبية الطاولات - وعددها ثلاثون أو نحو ذلك - المغطاة بمفارش حمراء عليها نقش أبيض تقف متراصة بزوايا قائمة مع الجدران الخشبية البنية للقاعة الكائنة تحت الأرض. تدلت ثريات برونزية بها العديد من الكريات من سقف منخفض مقوس بعض الشيء، وامتدت اللوحات الجدارية مسطحة ورتيبة على جميع الحوائط التي خلت من النوافذ، تعرض مشاهد الصيد واللهو الصاخب في الهواء الطلق بأزياء من العصور الوسطى. ويلوح خدم، يرتدون سترات جيركين خضراء من دون أكمام، بسكاكين صيد ويرفعون عاليا أكواب البيرة ذات الرغوة.
قال أوسيبون الضخم، متكئا على الطاولة، ومرفقاه متباعدان عليها وقدماه مطويتان بالكامل تحت كرسيه: «إن لم أكن مخطئا جدا، فأنت الرجل الذي يعرف ما تنطوي عليه هذه القضية المحيرة.» كانت عيناه تحدقان بحماس شديد.
فجأة، عزف بيانو كبير نوعا ما، يقبع بالقرب من الباب، ووضع على كلا جانبيه نخلة في أصيص، بمعزوفة فالس ببراعة حماسية. كان الضجيج الذي أحدثه يصم الآذان. وحينما توقف، فجأة كما بدأ، بدر بهدوء من الرجل القصير العبوس الذي كان يرتدي نظارة طبية ويجلس أمام أوسيبون على الطاولة وأمامه كوب زجاجي كبير مليء بالبيرة ما بدا أنه رأي عام . «من حيث المبدأ، ما قد يعرفه أو لا يعرفه أحدنا فيما يتعلق بأي حقيقة معينة لا يمكن أن يكون مسألة تستدعي التقصي لدى الآخرين.»
وافقه الرفيق أوسيبون بصوت هادئ ومنخفض: «بالتأكيد لا. من حيث المبدأ.»
استمر في تحديقه الحاد ووجهه الكبير المشرب بالحمرة بين راحتيه، بينما ارتشف الرجل القصير ذو النظارة الطبية من البيرة بهدوء وعاد ووضع الكوب الزجاجي على الطاولة. برزت أذناه الكبيرتان المسطحتان على جانبي جمجمته، التي بدت ضعيفة بما يكفي لأن يسحقها أوسيبون بين إبهامه وسبابته؛ وبدت جبهته كأنها تستند إلى حافة النظارة؛ ولم يكن بالوجنتين المسطحتين، المتسمتين ببشرة دهنية غير صحية، سوى قلة من شعيرات رفيعة داكنة. ما جعل الدونية المؤسفة لبنية الجسم بكامله مثيرة للسخرية هو الثقة الفائقة بالنفس لدى هذا الشخص. كان حديثه مقتضبا، وكان له أسلوب يثير الإعجاب في التزام الصمت.
تحدث أوسيبون مرة أخرى متمتما ورأسه لا يزال بين راحتيه. «هل أمضيت وقتا طويلا بالخارج اليوم؟»
أجاب الآخر: «لا، ظللت في السرير طيلة فترة الصباح. لماذا؟» «أوه! لا شيء» قال أوسيبون، محدقا باهتمام وتعتصر قلبه الرغبة في اكتشاف شيء ما، لكن كان من الواضح أن مسحة عدم الاكتراث التي كانت تكتنف الرجل القصير قد أرعبته. عندما كان أوسيبون الضخم يتحدث مع هذا الرفيق - وهو الأمر الذي لم يحدث إلا نادرا - كان يعاني من شعور بالضآلة المعنوية وحتى المادية. ومع ذلك، تجرأ وطرح سؤالا آخر: «هل أتيت إلى هنا سيرا؟»
أجاب الرجل القصير بكل بساطة: «كلا، بل أتيت في الحافلة العامة.» كان يسكن بعيدا في منزل صغير بمنطقة إزلنجتون، في شارع رديء، مليء بالقش والأوراق المتسخة، وكان يركض فيه مجموعة من الأطفال في غير ساعات المدرسة ويتشاجرون بأصوات ولغط صاخب. استأجر غرفته الخلفية المفردة، التي كانت تمتاز بوجود خزانة كبيرة للغاية، مؤثثة من خياطتين عانستين مسنتين متواضعتين أغلب زبائنهما من الخادمات. كان يضع قفلا ثقيلا على الخزانة، ولكن بخلاف ذلك كان نزيلا مثاليا ولا يتسبب في أي مشاكل، ولا يتطلب أي عناية تقريبا . من تصرفاته الغريبة أنه كان يصر على الوجود وقت كنس غرفته، ويوصد بابه عندما يخرج، ويأخذ المفتاح معه.
تخيل أوسيبون تلك النظارة ذات الإطار الأسود والعدسات المستديرة تتقدم في الشوارع في مقدمة حافلة نقل جماعي، وبريق الثقة بالنفس يسقط هنا وهناك على جدران المنازل أو فوق رءوس المارة غير الواعين على الأرصفة. لما شرد أوسيبون بعقله، غير شبح الابتسامة الممتعضة التعبير الذي ارتسم على شفتيه السميكتين عندما جالت بخاطره فكرة الجدران وهي تتهاوى والناس يفرون هربا بحياتهم من مرأى تلك النظارة. لو كانوا يعلمون! يا له من هلع! تمتم متسائلا: «هل أنت جالس هنا منذ مدة طويلة؟»
أجاب الآخر من دون اهتمام: «منذ ساعة أو أكثر»، وارتشف رشفة من البيرة الداكنة. كل حركاته - الطريقة التي أمسك بها الكوب وطريقة ارتشاف البيرة وطريقة وضع الكوب الزجاجي الثقيل على الطاولة وطي ذراعيه - كانت تنطوي على انضباط حازم ومؤكد، جعل أوسيبون الضخم مفتول العضلات ينحني إلى الأمام وهو يحدق بعينيه ويمد شفتيه إلى الخارج، وينظر إليه في تردد شغوف.
قال: «ساعة. إذن، ربما لم تسمع الأخبار التي وصلت إلى مسامعي للتو ... في الشارع. هل سمعتها؟»
هز الرجل القصير رأسه نفيا. ولكن لما لم يبد أي إشارة تدل على الفضول، بادر أوسيبون وأردف أنه سمع هذه الأخبار قبل أن يدخل المكان مباشرة. صاح فتى يبيع الجرائد بالأمر أمام عينيه، ولما لم يكن مستعدا لأي شيء من ذلك القبيل، شعر بالدهشة والانزعاج الشديد. ثم دخل إلى هنا وهو لا يكاد يستطيع الكلام. أضاف، هو يتمتم بثبات، واضعا مرفقيه على الطاولة: «لم أعتقد قط أنني سأجدك هنا.»
قال الآخر، محافظا على هدوء مستفز: «آتي إلى هنا في بعض الأحيان.»
أردف أوسيبون الضخم: «من المدهش أنك من بين الناس كلهم لم تسمع شيئا عن الأمر.» كان يرمش بجفنيه بعصبية وهو ينظر إلى العينين اللامعتين. كرر مترددا: «أنت من بين الناس كلهم.» كان هذا التحفظ الواضح ينم عن جبن هائل ولا يمكن تفسيره من ذلك الشخص الضخم أمام الرجل الضئيل الهادئ، الذي رفع الكوب الزجاجي مرة أخرى، وشرب منه، ووضعه بحركات جافة وواثقة. وكان هذا كل شيء.
بعدما انتظر أوسيبون شيئا ما - كلمة أو إشارة - لم يأت، بذل جهدا ليتصنع عدم المبالاة نوعا ما.
قال مخفضا صوته أكثر: «هل تعطي أغراضك لأي شخص يطلبها منك؟»
أجاب الرجل الضئيل بحسم: «القاعدة الأساسية لدي هي ألا أرد طلب أي شخص؛ ما دام في إمكاني.»
علق أوسيبون: «هل هذا مبدأ؟» «إنه مبدأ.» «وهل تظن أنه صحيح؟»
واجه الرجل أوسيبون بنظارته الكبيرة ذات العدستين الدائريتين، التي أضفت مظهرا يوحي بالثقة في النفس على وجه مرتديها الشاحب، مثل محجري عينين يقظتين، تلمعان بنار باردة. «تماما. دائما. تحت أي ظرف. ما الذي يمكن أن يوقفني؟ ولماذا لا أفعل؟ لماذا أعيد التفكير في الأمر؟»
شهق أوسيبون شهقة أخرجها، إن جاز التعبير، بتكتم. «هل تعني أن تقول إنك ستعطي أغراضك لأي «شخص» من الشرطة السرية إن أتى وطلبها منك؟»
ابتسم الآخر ابتسامة خفيفة.
قال: «دعه يأتي ويجرب وسترى. إنهم يعرفونني، ولكني أيضا أعرف كل واحد منهم. لن يقتربوا مني، لن يفعلوا ذلك.»
أطبق شفتيه الرفيعتين الشاحبتين بقوة. بدأ أوسيبون يجادل. «ولكن ربما يرسلون أحدا؛ يحتالون عليك بأن يزرعوا عميلا. ألا ترى ذلك؟ يأخذون منك الأغراض بتلك الطريقة، ثم يلقون القبض عليك وفي أيديهم الدليل.» «الدليل على ماذا؟ التعامل في المتفجرات من دون ترخيص ربما.» قصد من تلك العبارة سخرية تهكمية، على الرغم من أن ملامح الوجه النحيل المريض لم تتغير، وانطوى الكلام على عدم مبالاة. ثم أردف: «لا أظن أن أحدا منهم حريص على اعتقالي. ولا أظن أن أحدا منهم سيتقدم بطلب للحصول على مذكرة اعتقال. أعني لا أحد من أفضلهم. لا أحد.»
سأل أوسيبون: «لماذا؟» «لأنهم يعرفون جيدا أنني حريص على ألا أتخلى أبدا عن آخر حفنة من أغراضي. إنني أحملها دوما معي.» تلمس سترته من عند منطقة الصدر برفق. وأردف: «في قنينة زجاجية سميكة.»
قال أوسيبون وفي صوته مسحة من تعجب: «ذلك ما قيل لي، ولكني لا أعرف إذا ...»
بحدة قاطعه الرجل الضئيل، مستندا على ظهر الكرسي المستقيم الذي كان يعلو رأسه الهش: «هم يعرفون. لن يقبض علي أبدا. الفريسة ليست جيدة بما يكفي لأي شرطي منهم جميعا. التعامل مع رجل مثلي يتطلب جسارة خالصة ومجردة ولا تنتظر منها مجدا.» مجددا أطبق شفتيه بثقة في النفس. كظم أوسيبون حركة تنم عن نفاد صبره.
رد بسرعة: «أو تهور ... أو ببساطة جهل. كل ما عليهم فعله لإنجاز تلك المهمة هو العثور على شخص لا يعرف أنك تحمل متفجرات في جيبك تكفي لأن تنسفك وتنسف أي شيء من حولك على مسافة ستين ياردة وتحولك إلى أشلاء.»
أجاب الآخر: «لم أؤكد مطلقا أنه لا يمكن القضاء علي. ولكن ذلك لن يكون اعتقالا. علاوة على ذلك، الأمر ليس سهلا كما يبدو.»
اعترض أوسيبون: «هراء! لا تبالغ في الثقة في ذلك. ما الذي يمنعهم من أن يرسلوا خمسة أفراد منهم ينقضون عليك من الخلف في الشارع؟ عندما يثبتون ذراعيك على جانبيك فلن تستطيع فعل شيء، هل تستطيع؟»
قال الرجل الضئيل بلا انفعال: «نعم؛ أستطيع. نادرا ما أخرج إلى الشارع بعد حلول الظلام، ولا أبقى لساعة متأخرة أبدا. ودائما أمشي ويدي اليمنى تحيط بالكرة المصنوعة من المطاط الهندي التي أحملها في جيب سروالي. الضغط على هذه الكرة يشغل مفجرا داخل القنينة التي أحملها في جيبي. إنه مبدأ المصراع الهوائي الفوري لعدسة الكاميرا. الأنبوب يؤدي إلى ...»
بحركة سريعة، سمح لأوسيبون بإلقاء نظرة خاطفة على أنبوب مصنوع من المطاط الهندي، ويشبه دودة صغيرة بنية، ويمر من فتحة كم صدريته ويصل إلى الجيب الداخلي للسترة في منطقة الصدر. كانت ملابسه، المصنوعة من نسيج بني لا يمكن وصفه، رثة وملطخة بالبقع، ويملأ الغبار طياتها وثقوب أزرارها مهترئة. شرح، بتعال عفوي: «المفجر جزء منه ميكانيكي، وجزء منه كيميائي.»
تمتم أوسيبون، بارتعاشة خفيفة: «إنها تنفجر فورا بالطبع، أليس كذلك؟»
اعترف الآخر، بامتعاض بدا أنه تسبب في انحراف فمه بحزن: «على العكس. يجب أن تمر عشرون ثانية كاملة من اللحظة التي أضغط فيها على الكرة حتى يحدث الانفجار.»
صفر أوسيبون، مرتعبا تماما: «فيو! عشرون ثانية! يا له من رعب! تعني أن تقول إنه يمكنك أن تواجه ذلك؟ سوف أجن ...» «لا يهم إن فعلت. بالطبع، هذه نقطة الضعف في هذا النظام الخاص، وهو لاستخدامي الشخصي فقط. الأسوأ أن كيفية الانفجار هي دوما نقطة الضعف لدينا. إنني أحاول اختراع مفجر يعدل نفسه حسب جميع ظروف العمل، وحتى حسب التغيرات غير المتوقعة في تلك الظروف. آلية متغيرة ولكنها دقيقة في الوقت نفسه. مفجر ذكي حقا.»
تمتم أوسيبون مرة أخرى: «عشرون ثانية. يا إلهي! ثم ...»
لما استدار برأسه قليلا، بدا وكأنه يقيس، من خلف نظارته، مساحة صالون البيرة في الطابق السفلي لمطعم سيلينوس الشهير.
تلفظ بنتيجة ذلك المسح: «لا أحد في هذه القاعة يمكن أن يأمل في الهرب. ولا حتى هذان الاثنان اللذان يصعدان الدرج الآن.»
تغيرت موسيقى البيانو القابع أسفل الدرج وجلجل بمعزوفة رقصة المازوكا بضجيج صارخ، كما لو أن شبحا سوقيا وماجنا كان يتباهى بعزفه. كانت مفاتيح البيانو تنخفض وترتفع بغموض. ثم ساد سكون تام. للحظة تخيل أوسيبون أن المكان المضاء تحول إلى ثقب أسود مخيف يقذف بأبخرة مروعة تختنق بنفاية شنيعة من طوب محطم وجثث مشوهة. كان لديه تصور واضح في مخيلته عن الخراب والموت لدرجة أنه ارتجف مرة أخرى. راقب الآخر بشيء من السكون والرضا: «في النهاية، شخصية الفرد وحدها هي التي تكفل سلامته. يوجد عدد قليل جدا من الناس في العالم ممن لديهم شخصية مستقرة مثل شخصيتي.»
تمتم أوسيبون: «أتساءل كيف اكتسبت تلك الشخصية.»
قال الآخر من دون أن يرفع صوته: «قوة الشخصية»؛ وإذ صدر هذا الزعم من فم ذلك الكائن الذي لا يخفى بؤسه، عض أوسيبون الضخم شفته السفلى. كرر، بهدوء متفاخر: «قوة الشخصية. أمتلك الوسيلة التي تجعلني فتاكا، ولكن ذلك في حد ذاته، كما تفهم، لا قيمة له على الإطلاق فيما يتعلق بطريقة الحماية. الأمر الفعال هو الاعتقاد الذي لدى أولئك الناس بأنني أمتلك إرادة استخدام هذه الوسيلة. ذلك هو انطباعهم. إنه قطعي. ولذلك أنا فتاك.»
تمتم أوسيبون بتشاؤم: «يوجد أفراد يمتلكون شخصية قوية من بين تلك المجموعة أيضا.» «ربما. ولكن من الواضح أن المسألة هي مدى قوة هذه الشخصية، لأنني، على سبيل المثال، لست منبهرا بهم. ولذلك هم تابعون. ولا يمكنهم أن يكونوا غير ذلك. شخصيتهم مبنية على الأخلاقيات التقليدية. إنها تركن إلى النظام الاجتماعي. أما شخصيتي فمتحررة من أي شيء مصطنع. إنهم مقيدون بجميع أنواع الأعراف. إنهم يركنون إلى الحياة، وهي، في هذا الصدد، عبارة عن حقيقة تاريخية محاطة بجميع أنواع القيود والاعتبارات؛ حقيقة منظمة ومعقدة ومعرضة للهجوم من كل نقطة فيها؛ في حين أعتمد أنا على الموت، الذي لا يعرف قيودا ولا يمكن مهاجمته. إن تفوقي جلي.»
قال أوسيبون، وهو يراقب لمعان النظارة ذات العدستين المستديرتين: «هذه طريقة متعالية في توضيح المسألة. لقد سمعت كارل يوندت يقول الشيء نفسه تقريبا منذ وقت ليس ببعيد.»
همهم الآخر بازدراء: «لقد كان كارل يوندت - مفوض «اللجنة الحمراء الدولية» - ظلا تابعا طوال حياته. يوجد ثلاثة مفوضين من بينكم، أليس كذلك؟ لن أذكر الاثنين الآخرين، لأنك واحد منهما. ولكن ما تقوله لا يعني شيئا. أنتم المفوضون المؤهلون للدعاية الثورية، ولكن المشكلة لا تكمن فقط في عدم قدرتكم على التفكير باستقلالية مثل أي بقال أو صحفي محترم فحسب، وإنما أنتم لا تمتلكون أي شخصية على الإطلاق.»
لم يستطع أوسيبون كبح جماح غضبه.
صاح بصوت مكتوم: «ولكن ماذا تريد منا؟ ما الذي تسعى إليه أنت نفسك؟»
أجاب على الفور: «مفجر مثالي. لماذا ظهر على وجهك هذا التعبير؟ كما ترى، لا يمكنك حتى أن تتحمل ذكر شيء حاسم.»
انزعج أوسيبون وتمتم بأسلوب فظ: «لم يظهر على وجهي أي تعبير.»
أردف الآخر بروية نابعة من ثقته بنفسه: «أنتم الثوريون عبيد للأعراف الاجتماعية، التي تخشاكم؛ عبيد لها شأنكم شأن الشرطة التي تقف مدافعة عن تلك الأعراف. من الواضح أنكم كذلك، لأنكم تريدون الثورة عليها. إنها تحكم أفكاركم، بالطبع، وأفعالكم أيضا، ولذا لا يمكن أن تكون أفكاركم ولا حتى أفعالكم حاسمة.» توقف عن الحديث، هادئ البال، وبدا وكأنه سيصمت تماما، ثم تابع حديثه على الفور. وقال: «أنتم لستم أفضل، ولو قليلا، من القوى المحتشدة ضدكم؛ لستم أفضل من الشرطة على سبيل المثال. منذ بضعة أيام قابلت بالصدفة كبير المفتشين هيت عند ناصية طريق توتنهام كورت. أخذ ينظر نحوي بثبات شديد. ولكني لم أنظر إليه. لماذا أوليه أكثر من نظرة؟ كان ذهنه منشغلا بالعديد من الأمور - بمديريه، وبسمعته، وبالمحاكم، وبراتبه، وبالصحف - بمئات الأمور. ولكن لم أكن منشغلا إلا بالمفجر المثالي الذي أسعى إليه. لم أكترث به. رأيته تافها مثل ... لا يمكنني أن أستحضر إلى ذهني أي شيء تافه بما يكفي لأن أقارنه به ... ربما باستثناء كارل يوندت. إنهما صنوان. الإرهابي والشرطي كليهما يأتيان من المعين نفسه. الثورة، الشرعية، حركات متضادة في اللعبة نفسها؛ أشكال من الخمول متماثلة في جوهرها. إنه يمارس لعبته الصغيرة؛ وكذلك تفعلون أنتم أيها القائمون على الدعاية الثورية. لكنني لا ألعب؛ إنني أعمل أربع عشرة ساعة في اليوم، وأجوع في بعض الأحيان. وبين الفينة والأخرى، تكلفني تجاربي بعض المال، ومن ثم أضطر إلى أن أبقى دون طعام لمدة يوم أو يومين. أنت تنظر إلى البيرة التي أحتسيها. نعم. تناولت كوبين، وسأشرب آخر بعد قليل. هذه عطلة قصيرة، وأنا أحتفل بها وحدي. ولم لا؟ أمتلك الجرأة على أن أعمل وحدي، وحدي تماما، من دون مساعدة من أحد البتة. أعمل وحدي منذ سنوات.»
استحال وجه أوسيبون إلى اللون الأحمر الداكن.
قال ساخرا بصوت منخفض للغاية: «على المفجر المثالي، أليس كذلك؟»
رد الآخر بسرعة: «نعم. إنه تعريف جيد. لن تجد أي شيء بهذا القدر من الدقة لتعريف طبيعة نشاطكم بكل لجانكم ومفوضيكم. أنا هو المروج الحقيقي.»
بمسحة من الترفع على الاعتبارات الشخصية، قال أوسيبون: «لن نناقش تلك النقطة. ومع ذلك، أخشى أن أضطر إلى تعكير صفو عطلتك. لقد فجر رجل نفسه في جرينتش بارك هذا الصباح.» «كيف علمت؟» «إنهم يصيحون بالخبر في الشوارع منذ الساعة الثانية. اشتريت الصحيفة وأسرعت إلى هنا. ثم رأيتك تجلس على هذه الطاولة. الصحيفة في جيبي الآن.»
أخرج الصحيفة من جيبه. كانت ورقة وردية بحجم كبير نوعا ما، وكأنها توردت بدفء ما كانت تحويه من القناعات، التي كانت متفائلة. أخذ يتصفحها سريعا. «آه! ها هو الخبر. قنبلة في جرينتش بارك. لا يوجد الكثير حتى الآن. الساعة الحادية عشرة والنصف. صباح ضبابي. شعر الناس بآثار التفجير حتى رومني رود وبارك بليس. حفرة هائلة في الأرض تحت شجرة امتلأت بالجذور المهشمة والأغصان المكسورة. في كل مكان حولها أجزاء من جثة رجل انفجرت إلى أشلاء. هذا كل شيء. الباقي مجرد هراء من الصحيفة. يقولون إنه لا شك في أنها محاولة شريرة لتفجير المرصد. هممم. ذلك غير قابل للتصديق.»
نظر إلى الصحيفة لمدة أطول صامتا، ثم مررها إلى الآخر، الذي، بعد التحديق في المطبوعة بشرود ذهن، وضعها جانبا من دون تعليق.
كان أوسيبون هو من تحدث أولا، وكان لا يزال مستاء. «أشلاء رجل «واحد» فقط، كما تلاحظ. بناء على ذلك: «هو» من فجر نفسه. ذلك يفسد يوم عطلتك، أليس كذلك؟ هل كنت تتوقع تحركا كهذا؟ لم تكن لدي أدنى فكرة، ولا حتى طيف فكرة عن أي شيء من هذا النوع يجري التخطيط لفعله هنا، في هذا البلد. وفي ظل الظروف الحالية، لا يمكن أن يوصف إلا بأنه مجرم.»
رفع الرجل الضئيل حاجبيه الأسودين بازدراء فاتر. «مجرم! ما الذي يعنيه ذلك؟ ما «معنى» كلمة جريمة؟ ما الذي يمكن أن يعنيه هذا التوكيد؟»
قال أوسيبون بنفاد صبر: «كيف يمكنني أن أعبر عن نفسي؟ لا بد للمرء من استخدام الكلمات الدارجة. معنى هذا التوكيد أن هذا العمل من شأنه أن يؤثر على وضعنا سلبا في هذا البلد. أليست تلك جريمة كافية من وجهة نظرك؟ أنا متأكد من أنك قد تخليت عن بعض من أغراضك مؤخرا.»
حملق فيه أوسيبون بشدة. أما الآخر، فمن دون أن يجفل، أخفض رأسه ورفعها ببطء.
انفجر محرر منشورات حركة «مستقبل طبقة العمال» بنبرة هامسة شديدة اللهجة: «لقد فعلت! كلا! وهل حقا تمنحها دون قيد هكذا لمن يطلبها، لأول أحمق يأتي إليك؟» «بالضبط! لم يبن النظام الاجتماعي المدان بالحبر والورق، ولا أتصور أن كومة من الحبر والورق ستضع حدا يوما ما لهذا الأمر، بصرف النظر عما قد تحسب. أجل، أسلم هذه الأغراض طوعا لكل رجل أو امرأة أو أحمق يود أن يأتي إلي. أعرف ما تفكر فيه. ولكني لا أتلقى توجيها من «اللجنة الحمراء». ربما أراكم جميعا مطاردين من هنا، أو معتقلين، أو ضربت أعناقكم من أجل ذلك الأمر، من دون أن تهتز لي شعرة. ما يحدث لنا نحن الأفراد ليس له أدنى أهمية.»
كان يتحدث من دون اكتراث، ومن دون انفعال، وربما من دون مشاعر، وحاول أوسيبون - الذي تأثر كثيرا من طرف خفي - أن يحاكي هذا التجرد من المشاعر. «لو أن رجال الشرطة هنا كانوا يعرفون عملهم، لأطلقوا عليك الرصاص وملئوا جسدك ثقوبا بمسدساتهم، أو لحاولوا أن يضربوك من الخلف ويفقدوك وعيك في وضح النهار.»
بدا أن الرجل الضئيل كان قد فكر بالفعل في وجهة النظر تلك بطريقته الرزينة الواثقة.
بأقصى درجات الاستعداد، وافقه قائلا: «نعم. ولكن من أجل أن يفعلوا ذلك سيكون عليهم مواجهة مؤسساتهم. أترى؟ ذلك يتطلب جرأة غير عادية. جرأة من نوع خاص.»
طرفت عينا أوسيبون. «أتصور أن ذلك ما من شأنه أن يحدث بالضبط لك لو كنت أنشأت مختبرك في الولايات المتحدة. إنهم لا يصرون على اتباع الإجراءات الرسمية مع مؤسساتهم هناك.»
أقر الآخر قائلا: «ليس من المحتمل أن أذهب إلى هناك وأرى. ومع ذلك فإن ملاحظتك منصفة. إنهم يتمتعون بشخصية أقوى هناك، وشخصيتهم في المقام الأول لا سلطوية. إن الولايات المتحدة أرض خصبة لنا، أرض جيدة جدا. تمتلك تلك الجمهورية العظيمة جذور الدمار في داخلها. المزاج العام هو مخالفة القانون. ممتاز. قد يقتلوننا رميا بالرصاص، ولكن ...»
تذمر أوسيبون بقلق واضح: «إنك متعال علي للغاية.»
قال الآخر معترضا: «منطقي. المنطق له عدة أنواع. ويندرج هذا ضمن النوع التنويري. لا بأس بأمريكا. تتمثل الخطورة في هذا البلد، بمفهومه المثالي عن الشرعية. الروح الاجتماعية لهذا الشعب تكتنفها أحكام مسبقة صارمة، وذلك يضرب عملنا في مقتل. تتحدث عن إنجلترا باعتبارها ملاذنا الوحيد! وهذا أمر بالغ السوء. كابوا! ما حاجتنا إلى ملاذات؟ هنا، أنت تتحدث وتطبع وتحيك المؤامرات ولا تفعل شيئا. أعتقد أن هذا ملائم لشخص مثل كارل يوندت.»
هز كتفيه قليلا، ثم أردف بنفس القناعة والتروي: «يجب أن يكون هدفنا تفكيك الخرافات وعبادة الشرعية. لا شيء سيسرني أكثر من رؤية المفتش هيت ومن هم على شاكلته وهم يردوننا قتلى في وضح النهار بمباركة العامة. عندئذ، نكون قد ربحنا نصف المعركة؛ وربما يحدث تفكك الأخلاقيات القديمة في معبدها نفسه. ذلك ما يجب أن تستهدفوه. ولكنكم أنتم أيها الثوريون لن تفهموا ذلك أبدا. إنكم تخططون للمستقبل، وتضيعون أنفسكم في أحلام الأنظمة الاقتصادية المستمدة مما هو قائم؛ في حين أن المطلوب هو النسف التام وإرساء مفهوم جديد للحياة على أسس جديدة. سيعتني هذا المستقبل بنفسه لو أنكم فقط أفسحتم له المجال. لذلك لو كان لدي ما يكفي من المتفجرات، لزرعتها في أكوام على نواصي الشوارع؛ وبما أنني لا أمتلك ما يكفي، فإنني أبذل ما بوسعي بإتقان صنع مفجر يمكن الاعتماد عليه حقا.»
تمسك أوسيبون، الذي كان قد غرق في أفكاره، بالكلمة الأخيرة وكأنها طوق نجاة. «نعم. المفجرات التي تصنعها. لن أستغرب أن تكون واحدة من المفجرات التي تصنعها هي التي نسفت الرجل في الحديقة.»
اكفهر غضبا وجه الرجل النحيل الحازم الجالس في مواجهة أوسيبون. «تكمن الصعوبة التي أواجهها على وجه التحديد في إجراء التجارب العملية لمختلف الأنواع. لا بد من تجربتها في نهاية المطاف. علاوة على ذلك ...»
قاطعه أوسيبون. «من هذا الشخص يا ترى؟ أؤكد لك أننا في لندن لم نكن نعرف أي شيء، ألا يمكنك أن تصف الشخص الذي أعطيته المتفجرات؟»
استدار الآخر بنظارته إلى أوسيبون وكأنها زوج من الكشافات.
كرر ببطء: «أصفه. لا أظن أنه سيكون ثمة أي اعتراض الآن. سأصفه لك في كلمة واحدة؛ فيرلوك.»
انتاب الفضول أوسيبون فقام عن كرسيه بضع بوصات، ثم خر جالسا، وكأن أحدا ضربه على وجهه. «فيرلوك! مستحيل.»
أومأ الرجل الضئيل رابط الجأش برأسه مرة واحدة. «نعم. إنه هو. لا يمكنك أن تقول في هذه الحالة إنني كنت أعطي متفجراتي لأول أحمق يأتي إلي. لقد كان عضوا بارزا في جماعتك حسب فهمي.»
قال أوسيبون: «أجل. عضو بارز. كلا، ليس بالضبط. كان مركز الاستخبارات العامة، وعادة ما كان يستقبل الرفاق الذين يأتون إلى هنا. إنه مفيد أكثر من كونه مهم. رجل بلا أفكار. منذ عدة سنوات كان يتحدث في الاجتماعات؛ في فرنسا، حسبما أظن. ولكنه لم يكن جيدا جدا. وثق فيه رجال مثل لاتور وموسير وكل تلك المجموعة القديمة. الموهبة الوحيدة التي أظهرها حقا كانت قدرته على التملص من انتباه الشرطة بطريقة ما. هنا، على سبيل المثال، لم يبد أن أحدا كان يراقبه كظله. كان متزوجا زواجا قانونيا، كما تعلم. أظن أنه أنشأ ذلك المتجر من مالها. وعلى ما يبدو أنه كان مربحا أيضا.»
توقف أوسيبون فجأة وتمتم في نفسه: «يا ترى ما الذي ستفعله هذه المرأة الآن؟» وغرق في أفكاره.
انتظر الآخر وهو يتظاهر بعدم الاكتراث. لم يكن أحد يعرف من أبويه، وكان يعرف عموما بلقبه وهو «البروفيسور». اكتسب هذا اللقب لأنه كان في السابق يعمل معيدا مساعدا في الكيمياء في أحد المعاهد الفنية. ثم تشاجر مع السلطات على خلفية تلقيه معاملة غير عادلة. بعد ذلك شغل وظيفة في معمل يتبع مصنع أصباغ. وفي تلك الوظيفة أيضا، عومل بظلم شديد. كفاحه وعوزه واجتهاده في العمل من أجل أن يرتقي بنفسه في السلم الاجتماعي، كل ذلك ملأه بقناعة راسخة في قدراته، التي صعبت على من حوله أن يعاملوه معاملة عادلة؛ يعتمد معيار هذه الفكرة اعتمادا كبيرا على صبر الفرد. كان البروفيسور عبقريا، ولكنه كان يفتقر إلى الفضيلة الاجتماعية الكبرى وهي الخضوع.
أفاق أوسيبون فجأة من تأمله العميق حول فقد السيدة فيرلوك لزوجها وعملها، وجاهر بقوله: «إنه تافه فكريا . صاحب شخصية عادية تماما.» ثم أردف بنبرة توبيخ: «أنت مخطئ في عدم الاستمرار في التواصل مع الرفاق أيها البروفيسور. هل قال لك أي شيء، أو أعطاك أي فكرة عن نواياه؟ فأنا لم أره منذ شهر. يبدو أنه من المستحيل أن يكون قد هلك.»
قال البروفيسور: «أخبرني أنه ستقام مظاهرة أمام مبنى. كان علي أن أعرف ذلك القدر لتحضير القنبلة. أوضحت له أنني لا أكاد أمتلك كمية كافية من أجل الحصول على تفجير مدمر كليا، ولكنه ضغط علي بشدة كي أبذل قصارى جهدي. وإذ أراد شيئا يمكن أن يحمله علانية في يده، اقترحت عليه أن نستخدم عبوة ورنيش قديمة بسعة جالون واحد تصادف أنها كانت معي. سر بالفكرة. واجهت بعض الصعوبات، لأنني اضطررت إلى قطع القاع أولا ولحمه مرة أخرى بعد ذلك. عندما كانت العبوة معدة للاستعمال، احتوت العبوة على وعاء من الزجاج السميك له فوهة واسعة ومحكم الغلق بالفلين وملئ ما حولها ببعض الطين الرطب واحتوت على ست عشرة أوقية من مسحوق «إكس تو» الأخضر. وصل المفجر بالقمة الملولبة للعبوة. كان ابتكارا عبقريا، يجمع بين ضبط الوقت وإحداث صدمة. شرحت له عمل النظام. احتوت العبوة على أنبوب رفيع من القصدير يلتف حول ...»
كان انتباه أوسيبون قد تشتت.
قاطعه: «ما الذي تظن أنه قد حدث؟» «لا يمكنني أن أخمن. ربما أحكم ربط الجزء العلوي، وهو ما من شأنه أن يحدث التوصيل، ثم نسي الوقت. كان الوقت مضبوطا على عشرين دقيقة. وعلى الجانب الآخر، بانتهاء عداد الوقت، تؤدي صدمة حادة إلى حدوث الانفجار على الفور. إما أنه ضبط الوقت على توقيت أقل مما ينبغي أو ببساطة ترك القنبلة تسقط. لقد حدث التوصيل كما يجب، ذلك واضح لي على أي حال. لقد عمل النظام كما ينبغي تماما. ومع ذلك قد تظن أنه من الأرجح أن أحمق عاديا في عجلة من أمره قد ينسى تماما أن يجري التوصيل. غالبا ما كنت أنشغل بهذا النوع من الفشل. ولكن هناك أنواع حمقى أكبر مما يمكن للمرء أن يحترز منهم. لا يمكنك أن تتوقع أن يكون المفجر محصنا من الحمقى.»
أشار إلى النادل. كان أوسيبون يجلس جامدا، تعلو وجهه نظرة شاردة توحي بعناء ذهني. بعد أن ذهب الرجل بالنقود نهض وعليه أمارات استياء شديد.
قال متأملا: «هذا لا يسرني البتة. لقد كان كارل طريح الفراش بسبب الالتهاب الشعبي طيلة أسبوع. بل إنه ثمة احتمال ألا يشفى من مرضه أبدا. ميكايليس يعيش مترفا في مكان ما في البلد. عرض عليه ناشر عصري خمسمائة جنيه مقابل كتاب. سوف يفشل الكتاب فشلا ذريعا. لقد فقد عادة التفكير المتسلسل في السجن كما تعلم.»
وقف البروفيسور على قدميه، وزرر معطفه، ناظرا فيما حوله بلا مبالاة تامة.
سأل أوسيبون بضجر: «ماذا ستفعل؟» كان يخشى من لوم اللجنة الحمراء المركزية، وهي هيئة لم يكن لها مقر دائم، ولم يكن محيطا بجميع المعلومات المتعلقة بعضويتها. إذا تسببت هذه الحادثة في وقف الإعانة المتواضعة المخصصة لنشر كتيبات حركة مستقبل طبقة العمال، عندئذ سيندم أشد الندم على حماقة فيرلوك التي لا يمكن تفسيرها.
قال بنبرة خشنة نوعا ما: «التضامن مع أقصى الأفعال تطرفا شيء، والتهور السخيف شيء آخر. لا أعرف ما الذي حدث لفيرلوك. ينطوي الأمر على لغز. ولكنه رحل. يمكنك تفسير المسألة كما يحلو لك، ولكن في ظل الظروف الحالية، فإن السياسة الوحيدة للجماعة الثورية المسلحة هي إنكار أي صلة بهذا الأرعن. ولكن ما يؤرقني هو كيفية جعل الإنكار مقنعا بما يكفي.»
انتصب الرجل الضئيل واقفا على قدميه، ومعطفه مزرر ومستعد للذهاب، ولم يكن أطول من أوسيبون الجالس. ضبط نظارته بمستوى وجه الأخير مباشرة. «يمكنكم أن تطلبوا من الشرطة شهادة حسن سير وسلوك. إنهم على علم بالمكان الذي أمضى فيه كل واحد منكم ليلة أمس. وربما لو طلبتم منهم، فسيوافقون على نشر بيان رسمي.»
همهم أوسيبون بمرارة: «لا شك في أنهم على دراية بأنه لا يد لنا في ذلك. ما سيقولونه شيء آخر.» ظل مستغرقا في التفكير، متجاهلا الشخص القصير، الجاد الذكي ذي النظارة، رث الثياب الواقف بجانبه. «يجب أن أعثر على ميكايليس في الحال وأجعله يتحدث من أعماق قلبه في أحد اجتماعاتنا. فالعامة يكنون نوعا من التقدير الوجداني لذلك الرجل. اسمه معروف. وأنا على اتصال ببعض الصحفيين في الصحف اليومية الكبرى. ما سيقوله سيكون كلاما فارغا تماما، ولكن له طريقة مميزة في الحديث، تجعله مقبولا للغاية.»
قاطعه البروفيسور، بصوت منخفض نوعا ما، وتعبير عدم المبالاة لا يزال على وجهه: «مثل العسل.»
واصل أوسيبون المتحير في التحدث مع نفسه بصوت مسموع نوعا ما، على طريقة رجل يتأمل في عزلة تامة. «أحمق ملعون! ترك عملا أحمق بين يدي. ولا أعرف حتى إن كان ...»
جلس وهو يضغط على شفتيه في توتر. لم تكن فكرة الذهاب إلى المتجر مباشرة والحصول على الأخبار بالفكرة الجذابة. تصور أن متجر فيرلوك ربما يكون قد تحول بالفعل إلى فخ من صنع الشرطة. سيكونون ملزمين بالقيام ببعض الاعتقالات، فكر في ذلك بطريقة تنطوي على سخط يتسم بالاستقامة؛ لأن مسار حياته الثورية كان مهددا بخطأ لم يرتكبه. ومع ذلك، إذا لم يذهب إلى هناك، فإنه يخاطر بالبقاء على جهل بما قد يكون من المهم جدا له أن يعرفه. ثم فكر في أنه إذا كان الرجل في الحديقة قد انفجر إلى أشلاء كما قالت الصحف المسائية، فلن يكون ممكنا التعرف على هويته. ولو كان الأمر كذلك، فلن يكون لدى الشرطة أي سبب خاص يدعوها لمراقبة متجر فيرلوك عن كثب أكثر من أي مكان آخر معروف أنه يتردد عليه اللاسلطويون المرصودون؛ مثلما لا يوجد سبب، في الواقع، لمراقبة أبواب سيلينوس. ستنشر الشرطة أعينها في كل مكان، بصرف النظر عن المكان الذي يذهب إليه. ولكن ...
تمتم، وهو يتشاور مع نفسه: «يا ترى ما أفضل شيء أفعله الآن؟»
قال صوت أجش من عند مرفقه، بازدراء هادئ: «وطد علاقتك مع المرأة فهي تستحق.»
بعد التفوه بتلك الكلمات، سار البروفيسور مبتعدا عن الطاولة. أجفل أوسيبون، الذي باغتته تلك الفكرة، وظل ساكنا، تعلو وجهه نظرة توحي بانعدام الحيلة، وكأنه تسمر في الكرسي الذي كان جالسا عليه. عزف البيانو الوحيد، من دون مقعد عازف يساعده، بعض الألحان الحماسية، وبدأ بمختارات من ألحان وطنية، وفي النهاية عزف له لحن «بلو بيلز أوف سكوتلاند». أخذت الألحان الموسيقية غير المترابطة تتلاشى من خلفه وهو يصعد الدرج ببطء، ويعبر القاعة، ويخرج إلى الشارع.
أمام الباب الكبير، اصطف عدد من بائعي الجرائد بعيدا عن الرصيف يوزعون بضاعتهم من صحف تافهة. كان يوما باردا وقاتما من أيام أوائل الربيع؛ وتوافقت السماء الملبدة بالغيوم والشوارع المبتلة بالطين والرجال ذوو الأسمال البالية تمام الاتفاق مع اندفاع أوراق الصحف الرطبة المليئة بهراء ملطخ بأحبار الطباعة. كانت الملصقات، الملطخة بالأوساخ، تزين حجارة الرصيف مثل بساط حائط. كان بيع صحف بعد الظهيرة منتعشا، ولكن بالمقارنة بالحركة السريعة المتواصلة لسير المارة، كانت النتيجة هي عدم الإقبال عليها، وقلة التوزيع. نظر أوسيبون بتعجل إلى كلا الاتجاهين قبل أن ينخرط مع تيارات المارة عبر الشارع، ولكن البروفيسور كان قد اختفى بالفعل عن الأنظار.
الفصل الخامس
كان البروفيسور قد انعطف في شارع يسارا، وسار فيه، رافعا رأسه بصرامة، وسط حشد من الناس كان كل واحد منهم يفوق قامته القصيرة طولا. لم يكن مجديا أن يتظاهر أمام نفسه بأنه لم يكن محبطا. ولكن ذلك كان مجرد شعور؛ إذ لم يكن من الممكن أن تضطرب رزانة تفكيره من فشل كهذا أو من أي فشل آخر. في المرة القادمة، أو التي تليها، ستوجه ضربة قوية، شيء مذهل حقا، ضربة مدوية لدرجة أن تحدث أول تصدع في الواجهة المهيبة للصرح العظيم للمفاهيم القانونية التي تحمي الظلم السافر للمجتمع. وإذ كان ينحدر من أصل متواضع، ويتسم بمظهر رذيل وقف عقبة أمام قدراته الطبيعية الكبيرة، اتقدت مخيلته مبكرا بحكايات رجال ارتقوا من أعماق الفقر إلى مواقع السلطة والثراء. كانت نقاوة فكره الشديدة والتي كادت تصل إلى درجة الزهد، ممتزجة بجهل مذهل بما يجري في العالم، قد وضعت أمامه هدفا، هو الوصول إلى السلطة والمكانة، أراد تحقيقه من دون حيلة أو حظوة أو لباقة أو ثروة؛ وإنما بجدارته وحدها. ومن ذلك المنظور، اعتبر نفسه مستحقا لنجاح مفروغ منه. كان والده - الذي كان رجلا متحمسا رقيقا أسمر اللون ذا جبهة فيها ميل - مبشرا متجولا ومؤثرا بإحدى الطوائف المسيحية الغامضة والمتزمتة؛ كان رجلا واثقا تمام الثقة في فضائل صلاحه. ما إن حلت في الابن، الذي كان ذا نزعة فردية بطبعه، علوم الجامعات حلولا تاما محل الإيمان الكنسي، ترجم هذا الموقف الأخلاقي من تلقاء نفسه إلى نزعة تعصب محموم تجاه طموحه. ورعا هذه النزعة وكأنها شيء مقدس بطريقة علمانية. فتحت رؤيته محبطا عينيه على طبيعة العالم الحقيقية، الذي كانت أخلاقياته مصطنعة وفاسدة وتقود إلى الكفر. إن طريق حتى أكثر الثورات قابلية للتبرير تمهده الدوافع الشخصية المخفاة تحت غطاء العقائد. وجد سخط البروفيسور في ذاته علة غائية أحلته من خطيئة الركون إلى التدمير واتخاذه عاملا للوصول إلى طموحه. كان تدمير إيمان العامة بالشرعية هو التركيبة غير الكاملة لتعصبه المتحذلق؛ ولكن الاقتناع اللاواعي بأن إطار نظام اجتماعي قائم لا يمكن تحطيمه فعليا إلا ببعض أشكال العنف الجماعي أو الفردي كان اقتناعا دقيقا وصحيحا. استقر في عقله أنه شخص لديه القدرة على تمييز الصواب من الخطأ وتحمل المسئولية عن أفعاله. بممارسة تلك القدرة بتحد مستميت، تحصل لنفسه على مظاهر القوة والهيبة الشخصية. كان لا يمكن إنكار أن ذلك كان راجعا إلى ما كان يشعر به من مرارة ونزعة إلى الانتقام. هدأ هذا من اضطرابها؛ وربما لا يسعى أكثر الثوريين تحمسا، بطريقتهم الخاصة، إلا إلى تحقيق سلام مشترك مع باقي البشر، السلام الذي يكتنفه سكون الغرور، أو إشباع النزعات الغريزية، أو ربما استرضاء الضمير.
ضائعا وسط الزحام، بائسا وضئيل الحجم، تأمل واثقا في قدرته، مبقيا يده في الجيب الأيسر لسرواله، وقابضا برفق على الكرة المصنوعة من المطاط الهندي، الضمان الأمثل لحريته المهددة لمن سواه؛ ولكن بعد فترة، انتابه شعور بالاستياء من مشهد الطريق الذي يعج بالسيارات والرصيف المزدحم بالرجال والنساء. كان في شارع طويل مستقيم لا يشغله سوى قلة من البشر؛ ولكن كلما نظر من حوله وجال ببصره إلى الأفق الذي تحجبه المباني العملاقة، أحس أن قوة الكتلة البشرية تكمن في أعدادها. كانوا مثل الجراد في انتشارهم، ومثل النمل في كدهم، ومثل قوى الطبيعة في طيشهم، يواصلون اندفاعهم دون ترو وبنظام وانهماك، لا يتأثرون بعاطفة، ولا منطق، ولا حتى بإرهاب.
كان ذلك هو مظهر الشك الذي كان يخشاه أكثر من غيره. عدم التأثر بالخوف! في كثير من الأحيان عندما كان يتجول خارجا، حينما يتصادف أيضا أن يخرج من قوقعته، كانت تنتابه تلك اللحظات من انعدام الثقة المخيف والمعقول في البشر. ماذا لو لم يتمكن أي شيء من أن يؤثر فيهم؟ تنتاب لحظات كتلك جميع الرجال الذين يطمحون إلى فهم مباشر للطبيعة البشرية؛ للفنانين، أو السياسيين، أو المفكرين، أو المصلحين أو القديسين. إن هذه حالة عاطفية دنيئة، تحصن منها العزلة شخصية سامية؛ وبابتهاج شديد، فكر البروفيسور في الملاذ المتمثل في غرفته، وخزانتها المقفولة بقفل، الضائعة في قفر من المنازل الفقيرة، صومعة اللاسلطوي المثالي. من أجل الوصول إلى أقرب مكان يمكنه أن يستقل منه حافلة المواصلات العامة، انعطف بسرعة وخرج من الشارع المكتظ بالناس إلى زقاق ضيق ومظلم مرصوف بالحجارة. على أحد الجانبين، كانت المنازل المنخفضة المبنية من الآجر بنوافذها المغبرة تحمل المظهر الخفي والفاتر لاضمحلال لا يمكن إصلاحه، هياكل خاوية تنتظر هدمها. أما الجانب الآخر فلما يكن خاويا تماما من مظاهر الحياة بعد. في مواجهة مصباح الغاز الوحيد، كانت توجد فتحة مغارة تاجر أثاث مستعمل، وفي أعماق ظلمة درب ضيق ومتعرج وسط غابة عجيبة من خزانات تتشابك فيها أرجل طاولات، كانت تتلألأ مرآة مستطيلة عمودية طويلة مثل بركة ماء في غابة صغيرة. وفي العراء، كانت تقبع أريكة بائسة منبوذة، وبجوارها كرسيان من طرازين مختلفين. أما الإنسان الوحيد الذي سلك الزقاق، بالإضافة إلى البروفيسور، والذي كان رجلا قوي البنية يمشي منتصبا آتيا من الاتجاه المعاكس، فتوقف فجأة ولم يكمل خطواته المتمايلة.
وقف قليلا على أحد الجانبين مترقبا وقال: «مرحبا!»
كان البروفيسور قد توقف بالفعل ، واستدار نصف استدارة جعلت كتفيه على مقربة شديدة من الجدار الآخر. سقطت يده اليمنى برفق على ظهر الأريكة المنبوذة، وتعمد ترك اليسرى في جيب سرواله، وأضفت العدسات المستديرة ذات الإطار السميك طابعا متجهما على وجهه ذي المزاج المتقلب والبارد.
كان الأمر مثل لقاء في رواق جانبي لقصر ينبض بالحياة. كان الرجل قوي البنية يرتدي معطفا داكن اللون مزررا، ويحمل مظلة. كشفت قبعته، المائلة إلى الوراء، جزءا كبيرا من جبهته، التي بدت بيضاء جدا في العتمة. وفي البقعتين الداكنتين وسط المحجرين، التمعت عينان ثاقبتان. شكل طرفا شارب طويل متدل، بلون الذرة الناضجة، إطارا للمساحة المربعة لذقنه الحليق.
قال باقتضاب: «أنا لا أبحث عنك.»
لم يتحرك البروفيسور قيد أنملة. انخفضت الضوضاء المختلطة للمدينة الكبيرة فصارت همهمة خفيضة غير مفهومة. غير كبير المفتشين هيت من إدارة الجرائم الخاصة من نبرته.
سأله ببساطة ساخرة: «ألست في عجلة للذهاب إلى منزلك؟»
بصمت ابتهج الوكيل الأخلاقي للتدمير القصير ذو المظهر البغيض لامتلاكه لمكانة شخصية، وظل يراقب هذا الرجل المسلح بتفويض الدفاع عن مجتمع مهدد. كان أسعد حظا من كاليجولا، الذي تمنى لو كان لمجلس الشيوخ الروماني زعيم واحد فقط من أجل إشباع شهوته الوحشية إشباعا أفضل؛ فقد ارتأى في ذلك الرجل جميع القوى التي وضعها موضع التحدي؛ قوة القانون وقوة الملكية وقوة القمع وقوة الظلم. رأى أمامه جميع أعدائه ودون خوف واجههم جميعا في إرضاء فائق لغروره. وقفوا جميعا أمامه في حيرة من أمرهم وكأنهم أمام نذير شؤم مروع. سر في نفسه بشماتة لأنه سنحت له فرصة هذا اللقاء الذي يثبت تفوقه على كل البشر.
كان في الحقيقة لقاء بالصدفة. كان هيت كبير المفتشين قد مر بيوم مزعج حافل بالعمل منذ أن تلقت إدارته البرقية الأولى من جرينتش قبل الساعة الحادية عشرة صباحا بقليل. بادئ ذي بدء، كانت حقيقة أن الاعتداء جرى بعد أقل من أسبوع من تأكيده لمسئول رفيع المستوى أنه لم يكن ثمة اندلاع لنشاط لا سلطوي يخشى منه، مزعجة بما فيه الكفاية. كان مطمئنا لإدلائه لهذا التصريح مثلما لم يكن في أي وقت مضى. كان قد أدلى بهذا التصريح برضا متناه عن نفسه؛ لأنه كان من الواضح أن المسئول رفيع المستوى كان يرغب بشدة في سماع خبر كهذا. كان قد أكد له أنه لا يمكن حتى التفكير في شيء من هذا القبيل من دون أن تكون الإدارة على علم به في غضون أربع وعشرين ساعة؛ وكان قد تفوه بتلك الكلمات مدركا أنه الخبير الكبير في إدارته. كان قد تمادى إلى حد أنه تفوه بكلمات ينأى الحكيم الحق عن التفوه بها. ولكن هيت كبير المفتشين لم يكن حكيما جدا، على الأقل لم يكن كذلك في الحقيقة. إن الحكمة الحقة - التي تدعو إلى عدم التيقن من أي شيء في هذا العالم المليء بالتناقضات - كانت ستمنعه من الوصول إلى مكانته الحالية. كانت ستثير قلق رؤسائه، وتقضي على فرصه في الترقي. فقد كانت ترقيته سريعة جدا.
كان قد صرح قائلا: «يا سيدي، إذا أردنا العثور على أي واحد منهم، لوجدناه في أي وقت من الليل أو النهار. إننا نعرف ما يفعله كل واحد منهم ساعة بساعة.» وتلطف المسئول رفيع المستوى بابتسامة. كان من الواضح للغاية أن هذا هو القول الصواب إذا كان صادرا من ضابط بسمعة كبير المفتشين هيت التي كانت مرضية تماما. صدق المسئول الكبير التصريح، الذي توافق مع فكرته عما تقتضيه صحة الأمور. كانت حكمته تنبع من منطلق خلفيته الرسمية، وإلا لما فكر في مسألة ما من منطلق التنظير بل من منطلق الخبرة، بأنه في النسيج المتداخل للعلاقات بين المتآمر والشرطة تظهر حلول غير متوقعة في الثغرات المستمرة والمفاجئة في المكان والزمان. يمكن مراقبة لا سلطوي معين شبرا بشبر ودقيقة بدقيقة، ولكن دائما ما تأتي لحظة يفقد فيها أثره بطريقة ما ويختفي عن الأنظار بضع ساعات، وفي تلك الساعات يحدث شيء (عادة انفجار) تقل أو تزيد نتائجه الكارثية. لكن المسئول الكبير، منقادا بإحساسه بما تقتضيه صحة الأمور، ابتسم، والآن كان تذكر تلك الابتسامة مزعجا جدا لكبير المفتشين هيت، الخبير الأول في نهج اللاسلطويين.
لم يكن هذا هو الظرف الوحيد الذي كدرت ذكراه الصفو المعتاد للاختصاصي البارز. كان يوجد ظرف آخر يرجع توقيته إلى صباح ذلك اليوم. كانت فكرة أنه عندما استدعي إلى المكتب الخاص للمفوض المساعد، لم يتمكن من إخفاء ذهوله، مثيرة للحنق من غير ريب. علمته غريزة الرجل الناجح منذ وقت طويل قاعدة عامة مفادها أن السمعة تبنى على الأسلوب بقدر ما تبنى على الإنجاز. وشعر أن أسلوبه لما أخبر بأمر البرقية لم يكن محل إعجاب. كان قد فتح عينيه على اتساعهما وصاح: «مستحيل!» معرضا نفسه بذلك إلى الرد الذي لا إجابة عليه المتمثل في طرف إصبع وضع بقوة على البرقية التي كان المفوض المساعد قد طرحها على المكتب بعد أن قرأها بصوت عال. لم تكن تجربة سارة أن يسحق، إن جاز التعبير، تحت طرف سبابة. يا له من أمر مدمر أيضا! إضافة إلى ذلك، أدرك كبير المفتشين هيت أنه لم يصلح الأمور عندما سمح لنفسه بالإعراب عن قناعة لديه. «شيء واحد يمكنني أن أخبرك به على الفور؛ لم يكن لأي أحد في مجموعتنا أي علاقة بهذا الأمر.»
كان قويا في نزاهته باعتباره محققا كفئا، ولكنه رأى الآن أن لو كان قد احتاط وانتبه انتباها شديدا بشأن هذا الحادث، كان ذلك سيفيد سمعته إفادة أفضل. من ناحية أخرى، اعترف أمام نفسه أنه كان من الصعب أن يحافظ المرء على سمعته إذا كان دخلاء سيشاركون في المسألة. الدخلاء لعنة على الشرطة كما هو الحال في المهن الأخرى. كانت نبرة المفوض المساعد لاذعة لدرجة توغر صدر المرء.
منذ الإفطار، لم يدخل في جوف كبير المفتشين هيت أي طعام.
شرع على الفور في فحص مكان الحادث، متلقيا قدرا كبيرا من الضباب البارد الكريه في الحديقة العامة. ثم ذهب إلى المستشفى؛ وعندما توصلوا إلى نتائج التحقيقات في جرينتش في النهاية، فقد شهيته للطعام. لم يكن معتادا على فحص الأشلاء البشرية عن كثب مثل الأطباء، لذا صدم من المشهد الذي انكشف له عندما رفع غطاء مقاوم للماء عن طاولة في جناح معين داخل المستشفى.
كان منشورا على الطاولة غطاء آخر مقاوم للماء كأنه مفرش مرفوع من الأركان فوق شيء كأنه كوم رماد، كومة من الخرق، محترقة وملطخة بالدماء، تخفي بعضا من لحم بشري وكأنه وليمة لحم نيئ. تطلب الأمر قدرا كبيرا من الثبات كي لا يتراجع أمام ذلك المشهد. كان كبير المفتشين هيت وضابط كفء في إدارته، فلم يتقهقر، إنما ظل في مكانه لمدة دقيقة كاملة. ألقى شرطي محلي في زي رسمي نظرة جانبية، وقال ببساطة متبلدة الحس: «هذه كل أشلائه. كل قطعة منه. كانت مهمة شاقة.»
كان أول الحاضرين إلى المكان بعد الانفجار. ذكر الواقعة مرة أخرى. كان قد رأى شيئا يشبه ومضة برق كثيفة وسط الضباب. في ذلك الوقت، كان يقف عند باب فندق كينج ويليام ستريت يتحدث إلى الحارس. جعله الارتجاج يرتجف بكل كيانه. جرى من بين الأشجار باتجاه المرصد. كرر مرتين: «بأقصى سرعة تتحملها قدماي.»
انحنى كبير المفتشين هيت فوق الطاولة بحذر ورعب شديدين، وتركه يستمر في الكلام. أزال الحمال ورجل آخر في المستشفى أطراف القماش وتنحيا جانبا. بحثت عينا كبير المفتشين في التفاصيل المروعة لكومة الأشياء المختلطة، التي بدت وكأنها جمعت في محل خردة وخرق بالية.
لما لاحظ القطع المتناثرة من الحصى الصغير والأجزاء البنية الصغيرة من اللحاء وجزيئات الخشب المشقوقة مثل الإبر، علق قائلا: «لقد استخدمت مجرفة.»
قال الشرطي متبلد المشاعر: «اضطررت إلى استخدامها في مكان واحد. أرسلت حارسا لجلب مجرفة. لما سمعني وأنا أحفر الأرض بها، أسند جبهته على شجرة، وأصابه إعياء شديد.»
انحنى كبير المفتشين بحذر فوق الطاولة، وقاوم الإحساس المزعج الذي غص به حلقه. دفعه العنف الممزق الذي أحدثه هذا التدمير، والذي حول ذلك الجسم إلى أشلاء لا يعرف صاحبها، إلى الإحساس بنوع من القسوة الوحشية، على الرغم من أن عقله حدثه بأنه لا بد أن التأثير كان سريعا كومضة برق. أيا كان هذا الرجل، فقد لقي حتفه على الفور ؛ ومع ذلك كان يبدو من المستحيل تصديق أن جسدا بشريا سيصل إلى هذه الحالة من التمزيق من دون أن يمر بألوان من عذاب لا يمكن تصوره. وإذا لم يكن كبير المفتشين هيت اختصاصيا في الفسيولوجيا، ولا حتى عالم ميتافيزيقا، ارتقى بقوة التعاطف، وهو أحد أشكال الخوف، فوق المفهوم المبتذل للوقت. على الفور! تذكر كل ما قرأه في الكتب الشهيرة عن الأحلام الطويلة والمرعبة التي يحلم بها الشخص لحظة استيقاظه؛ عن شريط الحياة المرعب الذي يعيشه غريق ورأسه تظهر من تحت الماء للمرة الأخيرة ثم تغطس مرة أخرى. حاصرت الألغاز غير المفهومة عن الوجود الواعي كبير المفتشين هيت حتى امتلأ عقله بفكرة مرعبة؛ وهي أن عصورا من الألم البشع والعذاب العقلي يمكن اختزالها بين رمشتي عين. وفي تلك الأثناء، تابع كبير المفتشين النظر إلى الطاولة بوجه هادئ وانتباه قلق بعض الشيء كانتباه زبون معوز ينحني فوق ما يمكن أن يطلق عليه بقايا عظام ولحم من متجر جزار من أجل عشاء غير مكلف في أحد أيام الأحد. طوال الوقت، كان يتتبع، بقدراته المدربة التي كان يمتلكها بصفته محققا ممتازا، لا يستخف بأي فرصة للحصول على المعلومات؛ ثرثرة الشرطي الواثقة في موضوعات غير مترابطة.
قال الأخير ملاحظة بنبرة هادئة: «شخص ذو شعر أشقر»، ثم توقف. «المرأة العجوز التي تحدثت إلى الرقيب لاحظت شخصا ذا شعر أشقر يخرج من محطة ميز هيل.» ثم توقف. ثم أردف ببطء: «وكان شخصا ذا شعر أشقر. لاحظت المرأة رجلين يخرجان من المحطة بعد أن غادر القطار الذي أقلهما.» «لم تستطع أن تتبين إن كانا بعضهما مع بعض أم لا. لم تلق بالا للشخص الضخم منهما، ولكن الآخر كان رجلا نحيلا ذا بشرة شاحبة، يحمل عبوة ورنيش من القصدير في إحدى يديه.» توقف الشرطي عن الكلام. «هل تعرف المرأة؟» تمتم كبير المفتشين، وعيناه مثبتتان على الطاولة، وفي عقله فكرة غير واضحة بشأن تحقيق سيجرى عما قريب عن رجل ربما يظل مجهولا إلى الأبد.
قال الشرطي بجدية: «نعم. إنها خادمة لدى صاحب حانة متقاعد، وتذهب إلى الكنيسة في بارك بليس أحيانا.» ثم توقف وألقى نظرة غير مباشرة أخرى على الطاولة.
ثم فجأة: «حسنا، إنه ... كل ما أستطيع أن أراه منه. بشرة شاحبة. نحيل ... نحيل جدا. انظر إلى تلك القدم هناك. التقطت الساقين أولا، واحدة تلو الأخرى. كان ممزقا إلى أشلاء لدرجة أنني لم أعرف من أين أبدأ.»
توقف الشرطي؛ وارتسمت على وجهه المستدير ابتسامة طفولية تنم عن ومضة بريئة من الإشادة بالنفس.
قال بثبات: «تعثر. تعثرت أنا نفسي مرة، ووقعت على رأسي أيضا وأنا أركض. جذور الأشجار هذه تبرز في المكان كله. تعثر في جذر شجرة وسقط، ولا بد أن ذلك الشيء الذي كان يحمله قد سقط تحت صدره مباشرة، حسبما أتوقع.»
انزعج كبير المفتشين انزعاجا شديدا من تردد كلمة «شخص مجهول» التي أخذت تتكرر في وعيه الداخلي. ود لو تتبع هذه القضية إلى منبعها الغامض حتى يصل إلى المعلومات التي يريدها. كان فضوليا باحتراف. وأمام العامة، رغب في أن يدافع عن كفاءة إدارته بالكشف عن هوية ذلك الرجل. كان يمتاز بالإخلاص في عمله. لكن تلك المهمة بدت مستحيلة. بداية القضية كانت لغزا يصعب حله؛ إذ لم تكن توجد أي احتمالات باستثناء تلك التي تتسم بالقسوة الشنيعة.
متغلبا على نفوره مما يراه، مد كبير المفتشين هيت يده دون اقتناع بأن هذا سيريح ضميره، ورفع أقل قطعة متسخة من الخرق. كانت شريطا مخمليا صغيرا مع قطعة أكبر مثلثة الشكل من قماش أزرق داكن تتدلى منه. رفعها حتى مستوى عينيه، وتحدث الشرطي. «ياقة مخملية. المضحك أن المرأة العجوز لاحظت الياقة المخملية. معطف أزرق داكن له ياقة مخملية، هي أخبرتنا بذلك. إنه الرجل الذي رأته، بلا شك. وها هو كل ما تبقى منه، الياقة المخملية وكل شيء. لا أظن أنني أغفلت قطعة واحدة حتى لو كانت بحجم طابع بريد.»
في هذه اللحظة، توقف كبير المفتشين صاحب القدرات المتمرس عن الاستماع إلى صوت الشرطي. تحرك تجاه إحدى النوافذ من أجل إضاءة أفضل. أشاح بوجهه عن الغرفة، وارتسم عليه تعبير ينم عن اهتمام مذهول بالغ وهو يتفحص عن كثب قطعة القماش الكبيرة ذات الشكل المثلث. بحركة مفاجئة جذبها وفصلها، وبعد أن وضعها في جيبه استدار إلى الغرفة، ورمى الياقة المخملية على الطاولة مرة أخرى ...
أمر الحاضرين باقتضاب قائلا: «غطوه.» دون أن ينظر مرة أخرى، وبعدما ألقى الشرطي عليه التحية، حمل ما أخذه وانطلق على عجل.
أقله قطار قريب إلى المدينة؛ إذ سافر بمفرده مستغرقا في التفكير، في مقصورة في الدرجة الثالثة. كانت قطعة القماش المحترقة تلك ذات قيمة كبيرة للغاية، ومن ثم لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يندهش من الطريقة العرضية التي أصبحت بها في حوزته. بدا وكأن القدر قد رمى هذا الدليل بين يديه. وبطريقة الرجل العادي، الذي يطمح إلى الإمساك بدفة الأحداث، بدأ يفقد الثقة في هذا النجاح غير المبرر والعرضي، لمجرد أنه بدا مفروضا عليه. تعتمد القيمة الفعلية للنجاح، بقدر ليس بالقليل، على منظور الفرد. ولكن القدر ليس له منظور. إنه لا يمتلك قدرة على التمييز. لم يعد يعتبر أنه من المرغوب فيه بقدر كبير من كل النواحي إعلان هوية الرجل الذي كان قد فجر نفسه في ذلك الصباح بتلك الطريقة المروعة. ولكنه لم يكن واثقا من وجهة النظر التي ستتبناها إدارته. تمثل الإدارة لأولئك الذين توظفهم شخصية معقدة تتمتع بأفكارها وحتى نزعاتها الخاصة. إنها تعتمد على التفاني المخلص من موظفيها، والإخلاص المتفاني من الموظفين الموثوق فيهم مرتبط بقدر معين من الاحتقار الودود، مما يبقي الأمر محببا، إن جاز التعبير. وبناء على بند خير في الطبيعة، لا يوجد رجل يراه خادمه بطلا، وإلا لاضطر الأبطال إلى غسل ملابسهم بأنفسهم. وبالمثل، لا توجد إدارة حكومية تبدو حكيمة تماما في العلاقة مع العاملين بها. لا تعرف الإدارة الحكومية بقدر ما يعرف بعض الموظفين لديها. ولكونها كيان نزيه، فلا يمكن أبدا أن تكون على إلمام كامل بكل شيء. فالإلمام بمعلومات أكثر من اللازم لن يكون جيدا لكفاءتها. نزل كبير المفتشين هيت من القطار وهو في حالة تأمل لا تشوبها الخيانة على الإطلاق، ولكنها لم تخل من انعدام الثقة النابع من الغيرة الذي غالبا ما ينبع من التفاني التام، سواء تجاه النساء أو تجاه المؤسسات.
كان في هذه الحالة العقلية، التي فصلته عن الواقع، ولكنه كان لا يزال يشعر بالغثيان مما رآه، عندما لاقى البروفيسور. في ظل هذه الظروف التي تدخل الغضب إلى قلب أي رجل سليم وطبيعي، لم يكن هذا اللقاء مرحبا به من جانب كبير المفتشين هيت على وجه الخصوص. لم يكن يفكر في البروفيسور؛ بل إنه لم يفكر في أي فرد من جماعة اللاسلطويين على الإطلاق. كانت طبيعة تلك القضية قد فرضت عليه بطريقة ما فكرة عامة عن عبثية الكائنات البشرية، التي هي من الناحية المجردة مزعجة كثيرا لمزاج غير فلسفي، وفي حالات محددة تصبح مثيرة للسخط بدرجة تفوق تحمله. لما خطا كبير المفتشين هيت أولى خطواته في مسيرته المهنية، اهتم بالقضايا المعنية بأشكال السرقة الرائجة في ذلك الوقت. وأثبت مهارته في هذا المجال، وبطبيعة الحال لازمه نحوه، بعد ترقيته إلى إدارة أخرى، إحساس ليس بعيدا كل البعد عن المودة. السرقة ليست عبثا محضا. السرقة شكل من العمل البشري، عمل منحرف بلا ريب، لكنه يظل عملا يمارس في عالم كادح؛ فالسارق يسرق من أجل الأسباب نفسها التي يستند إليها عامل الفخار، والعامل في المناجم، وفي الحقول، وفي ورش الحدادة. إنها عمل يختلف عن أشكال الأعمال الأخرى في طبيعة المخاطرة فيه، التي لا تكمن في الإصابة بتصلب المفاصل، أو بتسمم الرصاص، أو بغاز المناجم، أو بالغبار الرملي، ولكن فيما يمكن تعريفه بإيجاز بلغته الخاصة في عبارة «سبع شداد». بالطبع، لم يكن يخفى على كبير المفتشين هيت خطورة الاختلافات الأخلاقية. ولكنها لم تكن تخفى أيضا على اللصوص الذين كان يلاحقهم فيما مضى. فقد خضعوا لعقوبات صارمة جراء أخلاقيات كان كبير المفتشين هيت يألفها بقدر من التنازل.
كان كبير المفتشين هيت يعتبر هؤلاء مواطنين سلكوا مسلكا خاطئا بسبب تعليم معيب؛ ولكن مع مراعاة هذا الاختلاف، أمكنه فهم عقلية السارق؛ لأن عقلية السارق وغرائزه، في حقيقة الأمر، مماثلة لعقلية رجل الشرطة وغرائزه. كلاهما يعرف الأعراف نفسها، ولديهما معرفة عملية بأساليب الآخر وطريقة العمل التي دأب عليها. إنهما يفهمان بعضهما بعضا، وتلك ميزة لكل منهما، وتنشئ نوعا من الارتياح في العلاقات بينهما. إنهما ينطلقان من منبع واحد، ولكن أحدهما يصنف على أنه مفيد والآخر يصنف على أنه ضار، ويأخذان المنبع الذي ينبعان منه باعتباره أمرا مسلما به بطريقتين مختلفتين، ولكن بالجدية نفسها بالأساس. تعذر على عقل كبير المفتشين هيت أن يستوعب الأفكار الثورية. ولكن اللصوص لم يكونوا ثوارا. ضمنت له قوته الجسدية، وطريقته الباردة الحازمة، وشجاعته، وإنصافه، احتراما كبيرا وقدرا من التملق في المجال الذي حقق فيه بعض النجاحات في البداية. شعر بأنه يحظى بالتقدير والإعجاب. وبينما كان كبير المفتشين هيت واقفا على بعد ست خطوات من اللاسلطوي الملقب بالبروفيسور، راوده إحساس بالأسف على عالم اللصوص؛ عالم متعقل، بلا مثل سقيمة، يعمل وفق روتين محدد، ويحترم السلطات القائمة، ولا يحمل في قلبه كراهية أو يأسا من أي شكل.
بعد هذه الإشادة بما هو طبيعي في دستور المجتمع (لأن فكرة السرقة بدت لغريزته طبيعية مثل فكرة التملك)، شعر كبير المفتشين هيت بغضب شديد من نفسه لأنه توقف وتحدث وسلك هذا الطريق على أساس أنه طريق مختصر من محطة القطار إلى المقر الرئيسي للشرطة. وتحدث مرة أخرى بصوته الآمر الجهير، الذي، عندما أخفضه، اتسم بنبرة تهديد.
كرر: «قلت لك إنك لست مطلوبا.»
لم يحرك اللاسلطوي ساكنا. ضحك ضحكة ساخرة مكتومة لم تبد نواجذه فحسب، بل لثته أيضا، وجعلت جسده كله يهتز، ولكن من دون أن يصدر منه أي صوت. دفع ذلك كبير المفتشين هيت إلى أن يضيف، مخالفا ما تمليه عليه نفسه: «ليس بعد. عندما أريدك، سأعرف أين أجدك.»
كانت تلك كلمات مناسبة تماما؛ إذ كانت في إطار التقاليد وملائمة لشخصيته بصفته ضابط شرطة يخاطب فردا من قطيعه. ولكن التلقي الذي حظيت به خرج عن التقاليد واللياقة. كان تلقيا مهينا. وأخيرا، تحدث الرجل الضعيف الجسم الواقف أمامه. «ليس لدي شك في أن الصحف ستمنحك عندئذ خبر نعي. وأنت أدرى بقيمة ذلك لك حينها. أظن أنه لن يصعب عليك تخيل العبارات التي ستكتب. ولكن قد يحالفك سوء الحظ وتدفن معي، على الرغم من أنني أظن أن أصدقاءك سيحاولون قدر استطاعتهم ألا ندفن معا في مكان واحد.»
مع كل ازدرائه المستحق للشخص الذي يدلي بهذه العبارات، كان للتلميحات المرعبة التي تنطوي عليها أثرها على كبير المفتشين هيت. كان لديه نفاذ بصيرة وإلمام بمعلومات كثيرة أيضا، مما منعه من أن يتجاهلها ويعتبرها هراء. استمد الغسق في ذلك الزقاق الضيق مسحة شريرة من هيئة الرجل اللئيم الضعيف الضئيل، الذي كان يقف موليا ظهره للحائط، ويتحدث بصوت منخفض واثق. أحس كبير المفتشين، القوي والمفعم بالحيوية، بأن الحالة الجسدية الوضيعة التي يرثى لها لذلك الكائن، الذي كان من الواضح أنه لم يكن جديرا بأن يحيا، كانت نذير سوء؛ إذ بدا له أنه إن كان سوء طالع هذا الكائن قد جعله بهذه الحالة التي يرثى لها، فإنه ما كان سيأبه بتوقيت موته. كانت الحياة تسيطر عليه بشدة لدرجة أن موجة جديدة من الغثيان ظهرت على هيئة عرق طفيف على جبينه. تناهى إلى سمعه عبر منعطف الزقاق القذر همس حياة المدينة، وقعقعة العجلات الخافتة في الشارعين غير المرئيين على اليمين والشمال، بألفة غالية وعذوبة جذابة. كان إنسانا. ولكن كبير المفتشين هيت كان هو الآخر إنسانا، ولم يكن بوسعه أن يترك كلمات كهذه تمر.
قال: «كلماتك هذه كلها مفيدة لتخويف الأطفال. سأنال منك حينها.»
قيلت تلك الكلمات بنبرة جيدة جدا، دون ازدراء، وبهدوء كاد أن يكون صارما.
كان رده: «لا شك عندي في ذلك؛ ولكن لا وقت أفضل من الآن، صدقني. بالنسبة لرجل ذي قناعات حقيقية، هذه فرصة رائعة للتضحية بالنفس. قد لا تجد فرصة أخرى سانحة ولا إنسانية كتلك الفرصة. لا توجد حتى هرة بالقرب منا، وهذه البيوت القديمة البغيضة ستتحول إلى كومة عالية من الطوب حيث تقف. لن تنال مني مجددا بهذه التكلفة القليلة جدا من الأرواح والممتلكات، التي تتقاضى راتبك مقابل حمايتها.»
قال كبير المفتشين هيت بنبرة حازمة: «أنت لا تعرف مع من تتكلم. لو أمسكت بك الآن، فلن أكون أفضل منك.» «آه! إنها اللعبة!» «كن متأكدا من أن النصر سيكون حليفنا في النهاية. ومع ذلك قد يكون من الضروري أن نقنع الناس بأنه يجب إطلاق النار على بعضكم مثل الكلاب المسعورة. عندئذ، ستكون تلك هي اللعبة. ولكن لتحل علي اللعنة لو كنت أعرف ما لعبتكم. لا أعتقد أنكم أنفسكم تعرفون. لن تظفروا بأي شيء منها.» «في الوقت الحالي أنتم من يظفر بشيء منها، حتى الآن. وتظفرون به بسهولة، أيضا. لن أتحدث عن راتبك، ولكن ألم تصنع اسمك بمجرد عدم فهم ما نسعى نحن إليه؟»
سأله كبير المفتشين هيت، بسرعة تتسم بالتهكم، مثل رجل في عجلة من أمره يدرك أنه يهدر وقته: «وما الذي تسعون إليه إذن؟»
كان جواب اللاسلطوي المثالي ابتسامة لم تفارق شفتيه الرفيعتين الشاحبتين؛ وشعر كبير المفتشين بتفوقه مما دفعه إلى أن يرفع إصبعه محذرا.
قال بنبرة محذرة، لكن لم تتسم باللطف كما لو كان يتنازل بإعطاء نصيحة جيدة للص ذائع الصيت: «توقفوا عما تفعلونه؛ أيا كان. توقفوا عما تفعلونه. ستجدون أننا كثيرون جدا ولا يمكنكم أن تتغلبوا علينا.»
اضطربت الابتسامة التي لم تفارق شفتي البروفيسور، وكأن الروح الساخرة بداخله قد فقدت الثقة في نفسها. تابع كبير المفتشين هيت قائلا: «ألا تصدقني؟ حسنا، ليس عليك سوى أن تنظر حولك. إننا كثر. وعلى أي حال، أنت لا تجيد ما تفعل. إنك دائما ما تفسد الأمر. عجبا، لو كان اللصوص لا يحسنون عملهم، كانوا سيتضورون جوعا.»
التلميح إلى الكثرة التي لا تقهر وتقف في ظهر ذلك الرجل أوغر صدر البروفيسور بسخط نكد. اختفت الابتسامة الغامضة والساخرة عن شفتيه. كانت قوة الأعداد المقاومة، والصلابة المنيعة لكثرة عظيمة، هما منبع الخوف الذي يطارده في وحدته المشئومة. ارتجفت شفتاه قليلا قبل أن يتمكن من الحديث بصوت مختنق: «إنني أؤدي عملي أفضل من أدائك لعملك.»
قاطعه كبير المفتشين هيت بتعجل: «هذا يكفي في الوقت الحالي.» وضحك البروفيسور بصوت عال هذه المرة. بينما كان لا يزال يضحك، انطلق في طريقه، ولكنه لم يضحك لفترة طويلة. كان من خرج من الممر الضيق إلى صخب الطريق الواسع رجل ضئيل الحجم حزين الوجه وبائس. انطلق في طريقه مقتصدا ومن دون انفعال يمشي مشية متشرد متابعا سيره، ولا يزال يتابع سيره، غير مبال بمطر أو شمس، شارد الذهن عن ظواهر السماء والأرض. وعلى الجانب الآخر، بعد أن ظل كبير المفتشين هيت يراقبه لفترة من الوقت، وخرج يمشي بنشاط رجل لا يبالي حقا بقسوة الطقس، ولكن نصب عينيه مهمة رسمية أوكلت إليه على هذه الأرض والدعم المعنوي ممن هم على شاكلته. كل قاطني تلك المدينة الضخمة، وسكان البلد كله، وحتى الملايين الحاشدة من الناس الذين يكافحون على هذا الكوكب كانوا معه؛ وصولا إلى اللصوص والمتسولين أنفسهم. نعم، لا ريب في أن اللصوص أنفسهم كانوا بالتأكيد معه في عمله الحالي. شجعه وعيه بأن العالم يسانده على أن يتصدى لتلك المعضلة الخاصة.
كانت المعضلة التي واجهها كبير المفتشين تتمثل في إقناع المفوض المساعد في إدارته، أي رئيسه المباشر. هذه هي المعضلة التي دائما ما يواجهها الموظفون الموثوق فيهم والمخلصون؛ وأضفت عليها اللاسلطوية طابعا خاصا، لا أكثر. وحقيقة القول، لم يفكر كبير المفتشين هيت كثيرا في حركة اللاسلطوية. لم يولها أهمية لا داعي لها، ولم يستطع أن يحمل نفسه على التفكير فيها بجدية. كان الطابع الغالب عليها هو السلوك غير المنضبط؛ غير منضبط دون وجود عذر بشري مثل السكر، الذي ينطوي على أي حال على شعور جيد وميل محبب إلى اللهو الصاخب. ومثلما هو الحال مع المجرمين، كان من الواضح أن اللاسلطويين لم يمثلوا طبقة اجتماعية معينة؛ لم ينتموا إلى أي طبقة على الإطلاق. لما تذكر كبير المفتشين هيت البروفيسور، دون أن يدقق في خطواته المتمايلة، تمتم عبر أسنانه المطبقة: «معتوه.»
كان القبض على اللصوص مسألة مختلفة تماما. كانت له تلك النوعية من الجدية التي تندرج ضمن كل شكل من أشكال الرياضة المفتوحة حيث يفوز الأفضل وفق قواعد مفهومة تماما. لم تكن توجد قواعد للتعامل مع اللاسلطويين. وكان كبير المفتشين يعتبر هذا أمرا مقيتا. كانت كلها حماقة، ولكن تلك الحماقة هيجت الرأي العام، وأثرت على أفراد في مناصب مرموقة، ومست العلاقات الدولية. ارتسم على وجه كبير المفتشين ازدراء شديد وصارم بينما كان يتابع سيره. راجع في عقله كل اللاسلطويين الذين يعرفهم. لم يكن أي أحد يمتلك نصف الشجاعة التي لمسها في هذا أو ذاك من اللصوص الذين عرفهم. لا نصفها ولا حتى عشرها.
في المقر الرئيسي للشرطة أدخل كبير المفتشين على الفور إلى المكتب الخاص للمفوض المساعد. وجده ممسكا قلما بيده ومنحنيا فوق مكتب كبير تتناثر عليه الأوراق، وكأنه يتعبد لمحبرة مزدوجة كبيرة من البرونز والكريستال. كانت أنابيب التواصل بين الغرف التي تشبه الثعابين مثبتة من رءوسها خلف الكرسي الخشبي ذي الذراعين الذي يجلس عليه المفوض المساعد، وبدت أفواهها الفاغرة وكأنها مستعدة للدغ مرفقيه. وفي هذا الوضع، لم يرفع سوى عينيه، اللذين كان جفناهما أغمق من وجهه ومجعدين جدا. كانت التقارير قد وردت إليه؛ كان قد تلقى حصرا بكل لا سلطوي.
بعدما تلفظ بتلك الكلمات، أخفض عينيه، ووقع بسرعة ورقتين، وعندئذ فقط وضع قلمه، واعتدل في جلسته، موجها نظرة متسائلة باتجاه مرءوسه ذائع الصيت. تفهم كبير المفتشين جيدا تلك النظرة، وأظهر الاحترام، إلا أنه ظل غامضا.
قال المفوض المساعد: «أظن أنك كنت مصيبا لما قلت لي منذ البداية إن اللاسلطويين في لندن لم يكن لهم صلة بهذا الأمر. إنني أقدر كثيرا مراقبة رجالك اليقظة لهم. وعلى الجانب الآخر، هذا لا يرقى، لدى العامة، إلى أكثر من اعتراف بالجهل.»
كان المفوض المساعد مترويا في حديثه، وحريصا في الوقت نفسه. بدا وكأنه يفكر في الكلمة قبل أن يلفظها وينتقل إلى أخرى، وكأن الكلمات كانت هي الأحجار التي يخطو عليها عقله في طريقه لعبور نهر الزلات. ثم أردف: «إلا إذا كنت قد جلبت شيئا مفيدا من جرينتش.»
بدأ كبير المفتشين على الفور في عرض تحقيقه بطريقة واضحة وعملية. استدار رئيسه بكرسيه قليلا، ووضع إحدى رجليه الرفيعتين فوق الأخرى، واتكأ جانبا على مرفقه، وظلل عينيه بإحدى يديه. اتخذت جلسته وهو يستمع شكلا مائلا وحزينا. تحركت خصلات تبدو وكأنها من فضة مصقولة ولامعة على جانبي رأسه المكسو بشعر شديد السواد حينما أماله ببطء في نهاية الأمر.
انتظر كبير المفتشين هيت وكأنه يقلب في عقله كل ما قاله، ولكنه كان في الحقيقة يفكر في مدى ملاءمة أن يضيف شيئا آخر. اختصر المفوض المساعد تردده.
سأله من دون أن يكشف عينيه: «هل تعتقد أنه كان يوجد رجلين؟»
اعتقد كبير المفتشين أن الأمر مرجح. حسب رأيه، افترق الرجلان عن بعضهما على بعد مائة ياردة من أسوار المرصد. وشرح أيضا الكيفية التي ربما يكون الرجل الآخر قد تمكن بها من الخروج من الحديقة بسرعة من دون أن يلاحظه أحد. فمع أن الضباب لم يكن كثيفا جدا، إلا أنه كان في صالحه. يبدو أنه أرشد الرجل الآخر إلى موقع الحادث، ثم تركه هناك كي ينفذ المهمة بمفرده. آخذا في الاعتبار الوقت الذي رأت فيه المرأة العجوز هذين الرجلين يخرجان من محطة ميز هيل، والوقت الذي سمع فيه الانفجار، ارتأى كبير المفتشين أن الرجل الآخر ربما كان في محطة جرينتش بارك بالفعل، مستعدا لركوب القطار التالي، في اللحظة التي كان فيها رفيقه يدمر نفسه تدميرا.
تمتم المفوض المساعد ويده فوق فمه: «دمر نفسه تدميرا؛ أليس كذلك؟»
وصف كبير المفتشين ببضع كلمات قوية، شكل الرفات. وأردف بوجه عابس: «ستتلقى هيئة الطب الشرعي شيئا مميزا.»
رفع المفوض المساعد يده من فوق عينيه.
قال بفتور: «لن يكون لدينا ما نخبرهم به.»
رفع ناظريه، ولبعض الوقت راقب سلوك كبير مفتشيه الذي كان واضحا أنه لا يعبر عن رأي صريح. كان من طبيعته عدم الانقياد بسهولة إلى الأوهام. كان يعرف أن الإدارة تحت رحمة الضباط الذين يرأسهم، الذين كانت لديهم مفاهيمهم الخاصة عن الولاء. كانت حياته المهنية قد بدأت في مستعمرة استوائية. وكان قد أحب عمله هناك. كان عملا شرطيا. كان ناجحا للغاية في تعقب بعض الجماعات السرية الشنيعة وسط السكان الأصليين وتفكيكها. ثم أخذ إجازة طويلة، وتزوج باندفاع نوعا ما. كانا يشكلان ثنائيا جيدا من وجهة نظر دنيوية، لكن زوجته كونت رأيا سلبيا عن المناخ الاستعماري استنادا إلى أدلة قائمة على أقوال مرسلة. ومن ناحية أخرى، كانت لديها علاقات مع أطراف من ذوي النفوذ. كانا يشكلان ثنائيا ممتازا. ولكنه لم يكن يحب العمل الذي كان عليه القيام به الآن. شعر بأنه كان معتمدا على عدد أكثر من اللازم من المرءوسين والرؤساء. أثقل كاهل روحه وجوده عن قرب من تلك الظاهرة العاطفية الغريبة المسماة بالرأي العام، كما أقلقته طبيعتها غير العقلانية. لا شك في أنه عن جهل منه بالغ في قوتها في الخير والشر، خاصة في الشر؛ وزادت الرياح الشرقية العاصفة للربيع الإنجليزي (متوافقا مع زوجته في ذلك) من فقدان ثقته عموما في دوافع الرجال وفي كفاءة تنظيمهم. أفزعه عدم جدوى العمل المكتبي بخاصة في تلك الأيام المرهقة جدا لكبده الحساس.
نهض، ووقف منتصبا، وبخطى متثاقلة يمكن ملاحظتها في رجل بمثل نحوله، مشى عبر الغرفة إلى النافذة. انهمرت زخات المطر على الألواح الزجاجية، وكان الشارع القصير الذي نظر إليه مبتلا وخاليا من المارة، وكأن فيضانا عظيما اجتاحه فجأة. كان يوما عصيبا جدا؛ إذ بدأ بضباب خانق وانتهى الآن بمطر بارد غامر. بدت ألسنة اللهب الوامضة والخافتة التي تشعها مصابيح الغاز وكأنها تذوب في هذا الجو المطير. وظهرت الحجج المتغطرسة للبشر الذين قمعهم إذلال سوء الطقس وكأنها غرور هائل وعديم الجدوى يستحق السخرية والعجب والشفقة.
فكر المفوض المساعد بينه وبين نفسه، ووجهه قريب من زجاج النافذة: «رهيب، يا له من أمر رهيب! إننا نكابد هذه الحال منذ عشرة أيام؛ كلا، بل منذ أسبوعين، نعم أسبوعين.» توقف عن التفكير تماما لبعض الوقت. استمر هذا السكون التام لدماغه قرابة ثلاث ثوان. ثم قال بملل: «هل أجريت تحقيقات سيرا على الأقدام لتتبع آثار ذلك الرجل الآخر من بداية الأحداث وحتى نهايتها من أجل تعقبه؟»
لم يكن لديه شك في أن جميع الإجراءات اللازمة قد اتخذت. بالطبع، كان كبير المفتشين هيت يعرف جيدا كيفية مطاردة رجل. وكانت هذه أيضا هي الخطوات الروتينية التي يتبعها حتى المبتدئون في سياق عملهم. يمكن لبضع تحقيقات مع صرافي التذاكر والحمالين في محطتي القطار الصغيرتين أن تعطي تفاصيل إضافية عن مظهر الرجلين؛ وسيظهر على الفور فحص التذاكر التي جمعت من أين جاءا صباح ذلك اليوم. كانت هذه إجراءات بديهية، ولا يمكن تجاهلها. وبناء على ذلك، أجاب كبير المفتشين بأن كل هذه الإجراءات قد تمت مباشرة بعد أن تقدمت المرأة العجوز وأدلت بشهادتها. كذلك ذكر اسم المحطة. وأردف: «تلك هي المحطة التي جاءوا منها، يا سيدي. الحمال الذي أخذ التذاكر في محطة ميز هيل تذكر شابين تتطابق أوصافهما مع ما ذكر ورآهما وهما يجتازان الحاجز. أوحى له مظهرهما بأنهما عاملان محترمان يعملان عملا راقيا، رساما لافتات أو مصمما ديكورات منازل. خرج الرجل الضخم من مقصورة الدرجة الثالثة من الباب الخلفي، وفي يده عبوة من القصدير اللامع. وعلى الرصيف، أعطاها للشاب ذي الشعر الأشقر والبشرة الشاحبة الذي حملها وتبعه. كل هذه الأوصاف تتفق اتفاقا تاما مع ما ذكرته السيدة العجوز لرقيب الشرطة في جرينتش.»
أعرب المفوض المساعد، الذي كان لا يزال موليا وجهه تجاه النافذة، عن شكه في أن لهذين الشابين علاقة بالاعتداء. كانت هذه النظرية كلها تستند إلى أقوال امرأة عجوز كادت أن تسقط لما اصطدم بها رجل في عجلة من أمره. بالتأكيد لم تكن تلك حجة قوية، إلا إذا استندت إلى إلهام مفاجئ، وهو ما كان يصعب الأخذ به.
تساءل بسخرية لاذعة: «والآن بصراحة، هل يمكن أن يكون قد نزل عليها إلهام حقا؟» وظل موليا ظهره للغرفة، كما لو كان مفتونا بصروح المدينة الهائلة التي اختفى نصفها في عتمة الليل. لم ينظر حوله حتى عندما سمع تمتمة تتلفظ بكلمة «العناية الإلهية» من أكبر الموظفين لديه في إدارته، الذي كان اسمه يكتب في بعض الأحيان في الصحف، ويعرفه الناس باعتباره واحدا من حماة الوطن الغيورين والكادحين. رفع كبير المفتشين هيت صوته قليلا.
قال: «رأيت رأي العين قطعا وأجزاء من القصدير اللامع. ذلك دليل جيد للغاية.»
فكر المفوض المساعد متسائلا بصوت عال: «وهذان الرجلان أتيا من محطة ريفية صغيرة.» كان قد قيل له بأن هذا هو الاسم الذي كان على تذكرتين من ثلاث تذاكر قدمها أصحابها الذين نزلوا من ذلك القطار في محطة ميز هيل. الشخص الثالث الذي نزل من القطار كان بائعا متجولا من جريفسيند معروف للحمالين. نقل كبير المفتشين تلك المعلومات بنبرة حاسمة يتخللها بعض الجفاء، كما يفعل الموظفون المخلصون المدركون لإخلاصهم مع الإحساس بقيمة جهودهم المتفانية. وكان المفوض المساعد لا يزال لم يحول نظره عن النافذة المطلة على الظلام بالخارج، الذي كان يشبه البحر في اتساعه.
قال وهو لا يزال ينظر إلى زجاج النافذة: «اثنان من اللاسلطويين الغرباء أتيا من ذلك المكان.» «هذا أمر غير قابل للتفسير نوعا ما.» «نعم يا سيدي. وسيظل غير قابل للتفسير لو لم يكن المدعو ميكايليس يقطن في بيت صغير في الجوار.»
عندما سمع المفوض المساعد ذلك الاسم، يأتي ذكره على نحو غير متوقع في هذه القضية المزعجة، صرف بعنف عن ذهنه الذكرى الضبابية عن تجمعه اليومي الذي يقام في ناديه للعب الويست (إحدى ألعاب ورق اللعب). كانت أكثر عادة تريحه في حياته؛ إذ كانت في المقام الأول عرضا ناجحا لمهارته دون مساعدة من أي من مرءوسيه. كان يدخل إلى ناديه ليلعب من الساعة الخامسة إلى السابعة، قبل أن يذهب إلى المنزل لتناول العشاء، متناسيا في هاتين الساعتين أي هموم في حياته، وكأن اللعبة كانت مخدرا مفيدا لتخفيف آلام الاستياء الأخلاقي. كان شركاؤه كاتب فكاهة ساخرا في مجلة مشهورة؛ ومحاميا مسنا كتوما ذا عينين صغيرتين تشيان بخبث؛ ورجلا عسكريا رفيع المستوى، كولونيل عجوزا بسيطا ذا يدين بنيتين متوترتين. كانوا مجرد معارف له من النادي. لم يقابلهم في أي مكان إلا على طاولة اللعب. ولكن على ما يبدو أن جميعهم كانوا يتعاملون مع اللعبة بروح من يتقاسمون المعاناة، وكأنها مخدر حقيقي لتخفيف أسقام الوجود الخفية؛ وفي كل يوم بينما تنحسر الشمس عن أسطح أبنية المدينة التي لا تعد ولا تحصى، كان تلهفه عذب ممتع، يشبه الاندفاع نحو صداقة أكيدة وعميقة، يخفف من أعباء عمله. والآن، خرج منه هذا الإحساس الممتع بشيء يشبه الصدمة الجسدية، وحل محله نوع خاص من الاهتمام بعمله في حماية المجتمع؛ نوع غير مناسب من الاهتمام، الذي يمكن تعريفه على أفضل نحو بأنه انعدام ثقة مفاجئ وحذر في السلاح الذي في يده.
الفصل السادس
كانت السيدة الراعية لميكايليس - صاحب الإفراج المشروط، ونصير الآمال الإنسانية - واحدة من أكثر المعارف تأثيرا وتميزا لدى زوجة المفوض المساعد، التي كانت تدعوها آني، وكانت لا تزال نوعا ما تعاملها على أنها فتاة غير حكيمة وعديمة الخبرة تماما. ولكنها كانت قد وافقت على أن تقبل المفوض المساعد صديقا، وهو ما لم يكن عليه الحال على الإطلاق مع جميع معارف زوجته النافذين. وإذ تزوجت في سن صغيرة وفي ريعان شبابها في حقبة بعيدة من الماضي، كانت قد أمضت فترة من الزمن كانت فيها على مقربة من شئون عظيمة، وحتى من بعض الرجال العظماء. كانت هي نفسها سيدة عظيمة. والآن مع تقدمها في العمر، كانت محتفظة بذلك المزاج الاستثنائي الذي يتحدى الزمن بازدراء واستخفاف، كما لو كان بالأحرى عرفا مبتذلا يخضع له من هم دونها منزلة. للأسف، لم تحظ أعراف كثيرة أخرى، كانت أيسر في تنحيتها جانبا، باهتمامها، أيضا بناء على أسباب مزاجية، إما لأنها سئمت منها، أو لأنها وقفت عائقا أمام استخفافها وتعاطفها. كان الإعجاب شعورا لم تجربه (كان هذا واحدا من دواعي حزن زوجها شديد النبل منها، والتي كان يخفيها عنها)؛ أولا، لكونه دوما مشوبا بصورة أو بأخرى بالضعف، ثم لكونه بطريقة ما اعتراف بالنقص. وكلا الأمرين كانا في الحقيقة، مستبعدين من طبيعتها. كان سهلا عليها أن تكون صريحة بلا خوف في التعبير عن رأيها؛ لأنها لم تكن تحكم على الأمور إلا من منظور وضعها الاجتماعي. كانت بنفس القدر غير مقيدة في تصرفاتها؛ ولما كانت لباقتها نابعة من إنسانية متأصلة فيها، وحيويتها لا تزال مدهشة، وتفوقها لا يزال صافيا ومتقدا، ظلت محط إعجاب بلا حدود على مدى ثلاثة أجيال، وفي آخر جيل كان من المحتمل أن تعاصره كان يقال عنها إنها امرأة رائعة. كانت في الوقت الحالي امرأة ذكية، تتمتع بقدر من البساطة النبيلة، وفضول متأصل فيها، ولكن على خلاف كثير من النساء اللواتي لم يكن يشغلهن سوى النميمة الاجتماعية، كانت تتسلى في سنها هذه بأن تجتذب إلى نطاق معرفتها، بفضل قوة مكانتها الاجتماعية العظيمة، التي كادت أن تكون تاريخية، كل شيء كان يسمو فوق مستوى البشر، بطريقة قانونية أو غير قانونية، من خلال المكانة، أو الذكاء، أو الجرأة، أو الحظ، أو سوء الحظ. كانت تستقبل في ذلك المنزل أصحاب السمو الملكي، والفنانين، ورجال العلم، ورجال الدولة الشباب، والدجالين من جميع الأعمار والظروف، الذين كانوا يظهرون على السطح من دون أن يكون لهم وزن، فيظهرون على أحسن وجه اتجاه التيارات السطحية، وكانت تستمع إليهم، وتسبر أغوارهم، وتفهمهم، وتقدرهم، من أجل تثقيف نفسها. على حد تعبيرها، كانت تحب أن ترصد إلى أين يتجه العالم. وبما أنها كانت تمتلك عقلية عملية، فإن حكمها على الرجال والأمور، على الرغم من استناده إلى تحيزات خاصة، نادرا ما كان خاطئا تماما، ونادرا ما كانت تتشبث بحكم خاطئ. ربما كانت غرفة الاستقبال لديها هي المكان الوحيد في العالم الذي يمكن للمفوض المساعد أن يقابل فيه مدانا أخلي سبيله بموجب إفراج مشروط لأسباب غير مهنية أو رسمية. لم يكن المفوض المساعد يتذكر جيدا من الذي كان قد أحضر ميكايليس إلى هناك بعد الظهيرة في أحد الأيام. كان يظن أن من أحضره لا بد أنه كان عضوا برلمانيا ينحدر من أسرة عريقة ولديه مشاعر تعاطف غير تقليدية، واعتادت الصحف الساخرة أن تتخذه أضحوكة في مواضيعها. كان أصحاب الوجاهة وحتى ذوو الشهرة البسيطة في ذلك الوقت يجلبون رفاقهم بحرية إلى ذلك المزار الخاص بسيدة ذات فضول نبيل. لا يمكنك أبدا تخمين من الذي من المحتمل أن تقابله عند استقباله ببعض الخصوصية بين ثنايا الحاجز الحريري الأزرق الباهت ذي الإطار المذهب، الذي كان يشكل خلوة مريحة فيها أريكة وعدد من الكراسي ذات الذراعين في غرفة الاستقبال الكبيرة، التي تختلط فيها الأصوات ومجموعات من الأفراد الجالسين أو الواقفين في ضوء ست نوافذ طويلة.
كان ميكايليس محل اشمئزاز من الشعور الشعبي، وهو نفس الشعور الذي كان قد استحسن منذ سنوات ضراوة عقوبة بالسجن المؤبد صدرت في حقه لتورطه في محاولة جنونية لإنقاذ بعض السجناء من إحدى عربات الشرطة. كان المتآمرون قد خططوا لإرداء الخيول صرعى وإخضاع الحرس. ولكن لسوء الحظ، أردي أيضا أحد أفراد الشرطة صريعا بطلق ناري. خلف الشرطي زوجة وثلاثة أطفال صغار، وأثار موت ذلك الرجل، في أرجاء مملكة يموت رجال كل يوم من أجل الدفاع عنها وعن رفاهيتها ومجدها بداعي الواجب، موجة غضب مستعرة، وشفقة عارمة من أجل الضحية. أعدم ثلاثة من زعماء العصابة. لم يكن ميكايليس، الشاب النحيل، وصانع الأقفال المتمرس، وكثير التردد على المدارس المسائية، يعرف حتى أن أحدا قد قتل؛ إذ كان دوره هو وحفنة آخرون فتح الباب الخلفي لوسيلة النقل الخاصة عنوة. عندما ألقي القبض عليه، كان يحمل مجموعة من المفاتيح الهيكلية في جيب، وإزميلا ثقيلا في آخر، وعتلة قصيرة في يده؛ مما كان يعني أنه كان لصا لا أكثر ولا أقل. ولكن لم يكن أي لص قد حكم عليه بتلك العقوبة المغلظة من قبل. أصابه مقتل الشرطي بحزن شديد، ولكن فشل المؤامرة أحزنه أيضا. لم يخف أيا من هذه المشاعر عن مواطنيه المحلفين، وكان صادما أن هذا الندم لم يظهر بصورة كاملة للحاضرين الذين عجت بهم قاعة المحكمة. وعند إصدار الحكم علق القاضي، معبرا عن شعوره، على فسوق السجين الشاب وقسوته.
أدى ذلك إلى ذيوع الصيت غير المبرر لإدانته؛ وكان ذيوع الصيت، غير المبرر هو الآخر، للإفراج عنه، صنيعة أناس رغبوا في استغلال الجانب العاطفي لسجنه إما لأغراض خاصة بهم أو لغرض غير واضح. سمح لهم بذلك لبراءة قلبه وبساطة عقله. لم يكن يأبه لأي شيء يحدث له على المستوى الفردي. كان مثل أولئك القديسين الذين تضيع شخصيتهم في التأمل في إيمانهم. لم تكن أفكاره تمثل قناعات. كان يصعب الوقوف على منطقها. شكلت لديه، بكل تناقضاتها وغموضها، عقيدة إنسانية صلبة، اعترف بها ولم يبشر بها، بدماثة عنيدة، وابتسامة واثقة مسالمة على شفتيه، وكان يخفض عينيه الزرقاوين الصادقتين لأن مرأى الوجوه كان يكدر صفو إلهامه الذي تشكل في عزلته. في هذا الموقف المميز، رأى المفوض المساعد صاحب الإفراج المشروط وهو يشغل كرسيا بذراعين من خلف الحاجز، بمظهره المثير للشفقة بسبب البدانة الفظيعة التي لا شفاء منها لجسد كان عليه أن يجرجره مثل ثقل يجرجره عبد كتب عليه العمل على مجداف سفينة حتى نهاية حياته. جلس هناك بالقرب من رأس أريكة السيدة العجوز، معتدل الصوت وهادئا، وبثقة في نفسه لم تكن تزيد عن ثقة طفل صغير جدا، وكان فيه بعض من جاذبية الأطفال، السحر الجذاب للثقة في الآخرين. واثقا من المستقبل الذي كانت أسراره قد تكشفت له داخل الجدران الأربعة لسجن معروف، لم يكن لديه ما يدعو للنظر بعين الريبة إلى أي شخص. إن لم يستطع أن يعطي هذه السيدة العظيمة والفضولية فكرة محددة للغاية عما سيئول إليه مصير العالم، فقد نجح دون جهد في أن يثير إعجابها بإيمانه الذي لا يتزعزع وبتفاؤله الفائق.
يشيع نوع من بساطة التفكير بين الأشخاص الذين يتمتعون بسكون الروح على طرفي السلم الاجتماعي. كانت السيدة النبيلة بسيطة بطريقتها الخاصة. لم يكن في آرائه ومعتقداته ما يصدمها أو يدهشها؛ لأنها حكمت عليها من منطلق مكانتها الرفيعة. في الحقيقة، كان يسهل على رجل من ذلك النوع أن ينال تعاطفها. لم تكن هي نفسها رأسمالية مستغلة؛ بل كانت، إذا جاز التعبير، متسامية عن لعبة الظروف الاقتصادية. وكانت تتمتع بقدرة كبيرة على الشفقة تجاه الأشكال الأوضح للمآسي الشائعة بين البشر، والسبب في ذلك على وجه التحديد أنها لم تجربها قط حتى إنها اضطرت إلى ترجمة مفهومها عنها إلى مصطلحات عن المعاناة العقلية قبل أن تتمكن من فهم فكرة شناعتها. تذكر المفوض المساعد جيدا الحديث الذي دار بين هذين الاثنين. كان قد أخذ يستمع في صمت. كان الحديث مثيرا بطريقة ما، بل إنه كان مؤثرا في عبثيته القدرية، مثل الجهود التي تبذل من أجل التواصل الأخلاقي بين سكان كواكب بعيدة. لكن هذا التجسيد الغريب للعاطفة الإنسانية كان يستهوي خيال المرء بطريقة ما. في النهاية، نهض ميكايليس، وأمسك يد السيدة النبيلة الممدودة، وصافحها، وظل ممسكا فيها لبرهة في راحته الضخمة اللينة بود غير محرج، وأدار للركن الخاص الذي يتمتع ببعض الخصوصية في غرفة الاستقبال ظهره، الواسع والمربع، وكأنه منتفخ تحت سترته القصيرة من قماش التويد. نظر حوله بلطف هادئ، وتبختر متجها إلى الباب البعيد بين مجموعات من زوار آخرين. توقفت همهمات المحادثات عند مروره. ابتسم ببراءة إلى فتاة طويلة وجميلة تلاقت عيناها بعينيه بالصدفة، وخرج غير منتبه إلى النظرات التي كانت تتابعه عبر الغرفة. كان الظهور الأول لميكايليس على الملأ ناجحا؛ نجاح تقدير لا تشوبه همسة سخرية واحدة. استؤنفت المحادثات التي كانت قد قطعت بنبرتها السابقة، عالية كانت أو منخفضة. لم يعلق بصوت مسموع سوى صوت رجل صحيح البنية، طويل الأطراف، بادي النشاط في الأربعين من عمره، متحدثا إلى سيدتين بالقرب من النافذة، بتأثر شديد غير متوقع: «وزنه ثمانية عشر ستونا، على ما أظن، وطوله لا يصل إلى خمس أقدام وست بوصات. يا له من بائس! هذا مريع؛ مريع.»
بدت سيدة المنزل، التي كانت تحدق بشرود في المفوض المساعد، الذي بقي وحده معها في الجانب الخاص من الحاجز، وكأنها تعيد ترتيب انطباعاتها الفكرية وراء جمود وجهها المسن الجميل، الدال على الاستغراق في التفكير. اقترب رجال بشوارب رمادية، ووجوه ممتلئة، متمتعة بالصحة، تبتسم بغموض، متحلقين حول الحاجز؛ وانضم إليهم امرأتان ناضجتان يعلوهما وقار حزم لطيف؛ وشخص حليق الذقن غائر الوجنتين، ويعلق نظارة ذات إطار مذهب في شريط أسود عريض معطيا انطباعا محافظا أنيقا. للحظة ساد صمت ينطوي على مراعاة واحترام، لكنه مليء بتحفظات، ثم صاحت السيدة النبيلة، ليس باستياء، وإنما بنوع من السخط المحتج: «ومن المفترض، وبشكل رسمي، أن يكون ذلك الشخص ثوريا! يا له من هراء.» بنظرة محتدة رمقت المفوض المساعد، الذي تمتم مبررا: «ربما ليس خطرا.»
قالت السيدة النبيلة بنبرة حازمة: «ليس خطرا؛ لا أظن ذلك حقا. إنه مجرد مؤمن بتلك الأفكار. طباعه طباع قديس. وأبقوه محبوسا مدة عشرين سنة. إن بدن المرء ليقشعر من الغباء الذي ينطوي عليه ذلك. والآن بعد أن أطلقوا سراحه، كل من له صلة به إما أنه رحل بعيدا إلى مكان ما أو مات. لقي والداه نحبهما؛ والفتاة التي كان سيتزوجها ماتت وهو في السجن؛ وفقد المهارة اللازمة لحرفته اليدوية. أخبرني بهذا كله بنفسه بصبر جميل؛ ولكنه بعد ذلك، كما قال، صار لديه متسع من الوقت للتفكير في أمور تخصه. يا له من تعويض جميل! إذا كانت تلك هي الطريقة التي يصنع بها الثوار، فربما سيركع البعض منا أمامهم.» تابعت بنبرة مازحة بعض الشيء، بينما تحولت نحوها ابتسامات المجتمع التافه المتصلبة على الوجوه، المتشبثة بالأمور الدنيوية، باحترام تقليدي. «من الواضح أن هذا المخلوق البائس لم يعد في وضع يسمح له بالاعتناء بنفسه. سيتعين على شخص ما أن يرعاه قليلا.»
سمع الصوت العسكري للرجل بادي النشاط وهو ينصح بجدية من مسافة بعيدة: «ينبغي أن يوصى باتباع نظام علاجي ما.» كان في حالة صحية ممتازة مقارنة بعمره، وحتى نسيج معطفه الطويل المشقوق الذيل كان يتسم بمتانة مرنة، وكأنه نسيج حي. أردف بتأثر جلي: «الرجل عاجز فعليا.»
تمتمت أصوات أخرى بتعاطف سريع، وكأنها سعدت بذلك التمهيد. «مفزع جدا»، «ضخم للغاية»، «من المؤلم رؤيته.» تلفظ الرجل النحيل الذي يرتدي نظارة معلقة في شريط عريض بكلمة «مشوه»، التي لاقت، كونها كانت منصفة، تقديرا ممن كانوا يقفون بالقرب منه. ابتسم كل منهم للآخر.
لم يبد المفوض المساعد أي رأي لا في ذلك الوقت ولا بعد ذلك؛ إذ كان منصبه يمنعه من أن يجاهر بأي رأي مستقل عن سجين مدان خرج بإطلاق سراح مشروط. ولكنه، في الحقيقة، كان يشاطر صديقة زوجته والراعية الرأي القائل بأن ميكايليس كان عاطفيا محبا للخير، مجنونا بعض الشيء، ولكنه بوجه عام لا يستطيع أن يؤذي ذبابة عن قصد. لذا عندما ظهر ذلك الاسم فجأة في قضية التفجير المحيرة هذه، أدرك كل مخاطرها على صاحب الإفراج المشروط، وعلى الفور خطر على ذهنه افتتان السيدة العجوز الراسخ به. ما كان عطفها غير المبرر سيصبر على احتمال أي تعرض لحرية ميكايليس. كان افتتانا عميقا وهادئا وواثقا. لم تشعر بأنه مسالم فحسب، بل إنها قالت ذلك، وهو ما صار أخيرا بفعل تشوش في عقلها المستبد ضربا من البراهين التي لا جدال فيها. بدا وكأنها افتتنت بضخامة الرجل، ذي العينين الطفوليتين البريئتين والابتسامة الملائكية لوجهه البدين. كان قد بلغ بها الحال أنها كادت أن تصدق نظريته عن المستقبل؛ إذ إنها لم تكن تتعارض مع تحيزاتها. كرهت عنصر البلوتوقراطية الجديد في التركيبة الاجتماعية، وعلى نحو شخصي بدا لها النظام الاقتصادي القائم على التصنيع، باعتباره سبيلا لتطور البشر، مثيرا للاشمئزاز بسبب طابعه الآلي والخالي من المشاعر. لم تكن الآمال الإنسانية لميكايليس المعتدل تميل إلى الدمار الكامل، وإنما إلى مجرد الخراب الاقتصادي الكامل للنظام. وهي في الحقيقة لم تتبين مكمن الضرر الأخلاقي في ذلك. كان من شأنه أن يقضي على جميع الحشود من «محدثي النعمة» الذين كانت تكرههم ولا تثق فيهم، ليس بسبب وصولهم إلى مكانة مميزة (فقد أنكرت ذلك)، وإنما بسبب جهلهم الشديد بالعالم، الذي كان السبب الرئيسي لقسوة قلوبهم وغلظتها. بزوال فكرة رأس المال سيختفون هم أيضا؛ ولكن الخراب الشامل (شريطة أن يكون شاملا، وفقا لما تكشف لميكايليس) لن يمس القيم الاجتماعية. لن يؤثر اختفاء آخر حفنة من المال على أصحاب المناصب. لم تتصور كيف يمكن أن يؤثر ذلك على وضعها، على سبيل المثال. كانت المرأة العجوز قد أوصلت هذه التصورات إلى المفوض المساعد بكل الجرأة الهادئة التي تليق بامرأة كانت قد تحررت من آفة اللامبالاة. كان قد وضع لنفسه قاعدة لتلقي كل شيء من ذلك القبيل بصمت تعلمه من السياسة ومن ميله إلى عدم الإساءة. كانت لديه عاطفة تجاه راعية ميكايليس المسنة، عاطفة معقدة تعتمد قليلا على هيبتها وعلى شخصيتها، ولكنها تعتمد في المقام الأول على غريزة الامتنان المجاملة لديها. شعر بأنه محبوب حقا في منزلها. كانت تجسيدا للطف. وكانت أيضا حكيمة من الناحية العملية، على غرار النساء ذوات الخبرة. جعلت حياته الزوجية أسهل بكثير مما كانت ستصبح عليه لو غاب اعترافها السخي الكامل بحقوقه باعتباره زوج آني. كان تأثيرها رائعا على زوجته، وهي امرأة كانت نهبا لكل أنواع الحسد والحقد والغيرة مهما كانت صغيرة. مع الأسف، كان لكل من عطفها وحكمتها طابع غير معقول، طابع أنثوي متأصل، ويصعب التعامل معه. ظلت امرأة مثالية طيلة سنوات عمرها، ولم تتغير إلى حال يتغير إليه بعضهن؛ اللواتي يتحولن إلى رجل عجوز مزعج يرتدي تنورات نسائية. وكان يفكر فيها كامرأة؛ باعتبارها التجسيد المنتقى للأنوثة، الذي يجند حارسا يجمع بين الرقة والبراعة والشراسة كي يحرسه من كل أنواع الرجال الذين يتحدثون تحت تأثير العاطفة سواء كانت حقيقية أم مزيفة؛ من الواعظين والعرافين والقادة الملهمين والمصلحين.
تقديرا للصديقة المميزة والمقربة لزوجته، وله، بتلك الطريقة، أصبح المفوض المساعد قلقا بشأن المصير المحتمل للمجرم المدان ميكايليس. بمجرد إلقاء القبض عليه للاشتباه في كونه بطريقة ما، مهما كانت مستبعدة، طرفا في هذا الاعتداء، فربما لا يستطيع الرجل أن يهرب من أن يزج به إلى السجن مرة أخرى لإنهاء مدة عقوبته على الأقل. وذلك قد يودي بحياته؛ فلن يخرج حيا أبدا. فكر المفوض المساعد بأسلوب لا يليق بمنصبه الرسمي وإن كان أسلوبا مشرفا حقا لإنسانيته.
فكر في نفسه: «لو ألقي القبض على الرجل مرة أخرى، فلن تسامحني أبدا.»
لم يكن من الممكن أن تمر صراحة هذه الفكرة التي كانت تجول سرا في رأسه من دون بعض الانتقاد الساخر للذات. لا يمكن لرجل يمارس عملا لا يحبه أن يحتفظ بالعديد من الأوهام التي يتصور فيها نفسه في شخصية المنقذ. يمتد النفور وغياب الرونق من المهنة إلى الشخصية. لا نتذوق طعم الراحة النابعة من خداع النفس التام إلا عندما تتوافق الأنشطة المنوطة بنا بالصدفة مع جدية مزاجنا. لم يحب المفوض المساعد عمله داخل وطنه. كان العمل الشرطي الذي كان منخرطا فيه في بقعة بعيدة من العالم قد تضمن شخصية المنقذ في أعمال غير منتظمة أو على الأقل كان ينطوي في بعض الأحيان على المخاطرة والإثارة التي تنطوي عليها بعض الأنشطة. امتزجت قدراته الحقيقية، التي كانت في المقام الأول من نوع إداري، مع ميل للمغامرة. مقيدا إلى مكتب يرتبط نشاطه ارتباطا كبيرا بأربعة ملايين رجل، اعتبر نفسه ضحية مصير مثير للسخرية؛ هو المصير نفسه، بلا شك، الذي أدى به إلى الزواج من امرأة حساسة للغاية تجاه مسألة المناخ الاستعماري، إلى جانب أوجه قصور أخرى تدل على رقة طبيعتها؛ وعلى رقة حسها. ومع أنه حكم على قلقه بطريقة ساخرة، لكنه لم يطرد الفكرة غير اللائقة من عقله. كانت غريزة الحفاظ على الذات قوية بداخله. وعلى النقيض من ذلك، ظل يكررها في ذهنه بتأكيد مقيت ودقة كاملة: «اللعنة! إن مضى هيت اللعين في فعل ما يريده، فسيموت الرجل في السجن مختنقا ببدانته، ولن تغفر لي هي ذلك أبدا.»
ظل من دون حراك، في بدلته السوداء التي تستر جسما نحيلا، وشريط الياقة البيضاء تحت بريق الشعر الفضي القصير المقصوص في مؤخرة رأسه. كان الصمت قد ساد لمدة طويلة لدرجة أن كبير المفتشين هيت تجرأ وتنحنح. أتى هذا الصوت الذي أصدره بأثره. تلقى الضابط الغيور والذكي سؤالا من رئيسه الذي ظل موليا ظهره له من دون أن يتحرك: «هل تقول إن ميكايليس له صلة بهذه القضية؟»
كان كبير المفتشين هيت متأكدا جدا، لكنه كان حذرا.
قال: «في الواقع، يا سيدي، لدينا ما يكفي لنعتمد عليه في المضي قدما. وعلى أي حال، المصلحة تقتضي عدم ترك رجل كهذا طليقا.»
أتاه التعليق بهمهمة: «ستحتاج إلى بعض الأدلة الدامغة.»
رفع كبير المفتشين هيت حاجبيه ناظرا إلى الظهر النحيل ذي السترة السوداء الذي ظل صاحبه يعاند ذكاءه وحماسه.
قال بثقة تامة: «لن تكون ثمة صعوبة في الحصول على أدلة كافية ضده.» ثم أضاف من ملء قلبه إضافة لا حاجة إليها: «يمكنك أن تثق بي في ذلك الأمر يا سيدي»؛ إذ بدا له أنه أمر طيب للغاية أن يكون ذلك الرجل في قبضتهم لتقديمه إلى الشعب في حالة إذا ما أبدى أي سخط بشأن تلك القضية. كان من المستحيل في ذلك الوقت معرفة ما إذا كان سيبدي سخطا أم لا. كان ذلك، بالطبع، يعتمد في نهاية الأمر، على الصحافة. ولكن على أي حال، كان كبير المفتشين هيت، الذي كان بحكم وظيفته رجلا يقدم إلى السجون احتياجاتها من السجناء، ورجلا ذا مواهب قانونية، بحكم المنطق يعتقد أن السجن هو المصير المناسب لكل شخص يعتبر عدوا للقانون. متأثرا بتلك القناعة، ارتكب خطأ يدل على عدم لباقة. سمح لنفسه بضحكة خفيفة تنطوي على بعض الغرور، وكرر قائلا: «ثق بي في ذلك الأمر يا سيدي.»
كان هذا يفوق طاقة المفوض المساعد على الهدوء القسري الذي ظل لمدة تصل إلى ثمانية عشر شهرا يخفي تحته غضبه من النظام ومن مرءوسيه. لم يكن يصلح على الإطلاق للعمل المسند إليه ولا كان ذلك المكان يتناسب مع طبيعته بأي حال من الأحوال، فكان يشعر بما يشبه غضبا يوميا لمحاولة إجبار نفسه على التأقلم على ذلك المكان الذي كان يمكن لرجل آخر ذي طبيعة أنسب أن يتأقلم عليه، برضوخ مبهج للنفس، بعد محاولة أو اثنتين. أكثر ما كان يستاء منه هو ضرورة أن يعتمد بقدر كبير على الثقة. عندما ضحك كبير المفتشين هيت تلك الضحكة الخفيفة، استدار بسرعة على عقبيه، وكأن صدمة كهربية أبعدته عن زجاج النافذة. لم يلمح على وجه الأخير الشعور بالرضا عن النفس المناسب للموقف يتوارى على شفتيه فحسب، بل لمس آثار تيقظ فاحص في عينيه المستديرتين، اللتين كانتا، بلا شك، محدقتين في ظهره، والآن التقتا بنظرته للحظة قبل أن يأخذ الطابع المقصود من تحديقهما الوقت ليتبدل إلى مجرد مظهر دال على الدهشة.
في واقع الأمر، كان المفوض المساعد يتحلى ببعض المؤهلات التي كانت تناسب منصبه. فجأة، انتابه الشك. ومن الإنصاف القول إن شكوكه في أساليب الشرطة (ما لم تصبح الشرطة مؤسسة شبه عسكرية ينظمها هو بنفسه) لم يكن من الصعب إيقاظها. ولو هجعت يوما بداعي السأم الشديد، فإن ذلك كان قليلا ما يحدث؛ وجعله إدراكه المعقول لحماس وقدرة كبير المفتشين هيت يستبعد فكرة الثقة الأخلاقية تماما. قال محدثا نفسه: «إنه ينوي فعل شيء ما»، وعلى الفور انتابه الغضب. سار إلى مكتبه بخطوات مسرعة، وارتمى على الكرسي بعنف. قال مفكرا باستياء غير معقول: «ها أنا عالق بين كومة من الورق، بينما من المفترض أن أمسك كل الخيوط بيدي، ومع ذلك لا يسعني إلا الإمساك بما يوضع في يدي، ولا شيء آخر. ويمكنهم ربط الأطراف الأخرى للخيوط حيثما يشاءون.»
رفع رأسه، والتفت إلى مرءوسه بوجه طويل هزيل ذي ملامح بارزة نشيطة مثل ملامح دون كيخوتي. «الآن، ما الذي تخفيه في جعبتك؟»
حدق الآخر في وجهه. ظل يحدق دون أن يرمش بثبات تام بعينيه المستديرتين، مثلما اعتاد على التحديق في وجوه المجرمين بأنواعهم عندما يدلون بأقوالهم، بعد تحذيرهم على النحو الواجب، بنبرة تنطوي على براءة مجروحة، أو سذاجة زائفة، أو استسلام متجهم. ولكن خلف هذا الثبات المهني والمتحجر كان يوجد أيضا بعض الاندهاش، إذ لم يعتد كبير المفتشين هيت، الذراع اليمنى للإدارة، أن يخاطب بتلك النبرة التي تجمع على نحو واضح بين الاحتقار ونفاد الصبر، لم يعتد كبير المفتشين هيت، الذراع اليمنى للإدارة في الإدارة، على مخاطبته بتلك النبرة. بدأ بطريقة تتسم بالمماطلة، مثل رجل بوغت على حين غرة بتجربة جديدة وغير متوقعة. «هل تقصد، يا سيدي، ما لدي ضد المدعو ميكايليس؟»
تأمل المفوض المساعد الرأس المستدير؛ طرفا ذلك الشارب الذي يشبه شوارب القراصنة الإسكندنافيين، اللذان يتدليان تحت خط الفك الكبير؛ كل ملامح الوجه الممتلئ والشاحب، الذي أفسد تراكم الجلد طابعه الحازم؛ واستقى من التجاعيد الماكرة التي تبرز من زوايتي عينيه الخارجيتين، ومن ذلك التأمل المتأني في الضابط القدير والموثوق فيه، استقى قناعة كانت مفاجئة جدا حتى إنها دفعته كما لو كانت إلهاما.
قال بنبرة مدروسة: «لدي سبب يدعوني إلى أن أظن أن من كان في ذهنك عندما دخلت إلى هذه الغرفة لم يكن ميكايليس؛ لم يكن هو في المقام الأول، وربما لم يكن هو على الإطلاق.»
تمتم كبير المفتشين هيت، وقد اعترته كل مظاهر الذهول، الذي كان حقيقيا إلى حد ما: «لديك سبب يدعوك إلى أن تظن ذلك، يا سيدي؟» كان قد اكتشف في هذه القضية جانبا حساسا ومحيرا، يفرض عليه قدرا معينا من المراوغة، ذلك النوع من المراوغة الذي يظهر في مرحلة معينة في معظم الشئون الإنسانية، مندرجا تحت اسم المهارة أو الحصافة أو التحفظ. شعر في هذه اللحظة بما قد يشعر به بهلوان يمشي على حبل مشدود لو خرج فجأة مدير قاعة الموسيقى، في وسط العرض، عن نطاق عمله الإداري المنوط به وبدأ في هز الحبل. من شأن السخط المبرر، الشعور بانعدام الأمان الأخلاقي الناجم عن مثل هذا التصرف الغادر المقترن بخوف فوري من كسر في الرقبة، أن يوقعه، حسب المصطلح العامي، في حيص بيص. وسينتابه كذلك بعض القلق المروع على الفن الذي يؤديه أيضا؛ لأنه يتعين على أي رجل أن يميز نفسه بشيء ملموس يتجاوز شخصيته، وأن يثبت اعتداده بنفسه بطريقة ما، إما بوضعه الاجتماعي، أو بإتقانه لعمله الذي هو ملزم بأدائه، أو بمجرد ميزة التبطل الذي قد يحالفه الحظ في أن يستمتع به.
قال المفوض المساعد: «نعم، لدي. لا أقصد القول بأنك لم تفكر في ميكايليس على الإطلاق. ولكنك تمنح الحقيقة التي ذكرتها أهمية كبيرة يدهشني أنه ينقصها الصراحة، أيها المفتش هيت. إذا كان ذلك هو حقا مسار استنتاجك، فلماذا لم تتعقبه على الفور، إما بنفسك أو بإرسال أحد رجالك إلى تلك القرية؟»
سأل كبير المفتشين بنبرة سعى إلى أن يجعلها تأملية ببساطة: «هل تظن، يا سيدي، أنني أخفقت في واجبي في ذلك الأمر؟» مجبرا على نحو غير متوقع على تركيز قدراته على مهمة الحفاظ على توازنه، استغل تلك النقطة، وعرض نفسه للوم؛ إذ أدرك المفوض المساعد، مقطبا جبينه قليلا، أن هذه الملاحظة التي أبداها كانت غير ملائمة جدا.
تابع ببرود: «ولكن بما أنك أثرت هذه النقطة، فدعني أخبرك بأن هذا ليس المقصود من كلامي.»
توقف قليلا عن الكلام، ونظر إليه نظرة مباشرة من عينيه الغائرتين كانت معادلا تاما للتتمة التي لم ينطق بها: «وأنت تعرف ذلك.» كان لدى رئيس ما يسمى بإدارة الجرائم الخاصة، المحروم بسبب منصبه من الخروج بنفسه سعيا وراء الأسرار الحبيسة في صدور المذنبين، ميل إلى ممارسة مواهبه الكبيرة في اكتشاف الحقيقة التي تدين مرءوسيه. لا يمكن أن نطلق على تلك الغريزة المميزة نقطة ضعف. بل كانت فطرية فيه. فقد ولد كي يكون محققا. كانت هذه الغريزة قد تحكمت في اختياره لحياته المهنية من دون أن يعي ذلك، وإذا كانت قد خذلته في حياته يوما ما، فربما حدث هذا في ظرف استثنائي وحيد هو زواجه؛ وهو وما كان طبيعيا أيضا. لقد تغذت هذه الغريزة الفطرية لديه على المادية البشرية التي كانت تأتيه في عزلته الرسمية، بما أنه لم يكن بوسعه أن يستخدمها خارجها. لا يمكننا أبدا أن نتوقف عن أن نمارس طبيعتنا.
مسندا كوعه على المكتب، ومريحا وجنته على راحة يده الهزيلة، أخذ المفوض المساعد المسئول عن إدارة الجرائم الخاصة يمسك بزمام القضية باهتمام متزايد. إن لم يكن كبير مفتشيه خصما جديرا تماما بذكائه، فعلى أي حال كان الأجدر بين كل من كانوا تحت إمرته. كان انعدام الثقة في أصحاب السمعة الراسخة يتوافق توافقا تاما مع قدرة المفوض المساعد على التحري. استحضرت ذاكرته زعيما محليا مسنا سمينا وثريا في المستعمرة البعيدة التي دأب حكامها الاستعماريون المتعاقبون على أن يثقوا به ويستفيدوا منه باعتباره صديقا حميما وداعما للنظام والشرعية التي أنشأها الرجال البيض؛ ولكن استقصي أمره بارتياب، اكتشف أنه في الأساس صديق لنفسه فحسب، وليس لأي أحد آخر. لم يكن خائنا على وجه التحديد، ولكنه كان لا يزال رجلا عليه تحفظات خطيرة حول إخلاصه، مردها مراعاة واجبه لمصلحته الخاصة وراحته وسلامته الشخصية. كان رجلا يتصف ببعض البراءة في نفاقه الساذج، لكنه مع ذلك كان خطيرا. استخلص من ذلك بعض النتائج. كان هو الآخر رجلا ضخم البنية و(باستثناء الفرق في اللون بالطبع)، كان مظهر كبير المفتشين هيت يذكره بذلك الذي كان يفوقه. لم يكن ما يذكره به هو العينين ولا الشفتين تحديدا. كان ذلك غريبا. ولكن ألم يرو ألفريد والاس في كتابه الشهير عن أرخبيل الملايو كيف اكتشف في همجي مسن وعار وله بشرة قاتمة، من سكان جزيرة آرو، تشابها غريبا مع صديق عزيز له في وطنه؟
لأول مرة منذ أن تولى المفوض المساعد منصبه، شعر وكأنه سيؤدي عملا حقيقيا نظير راتبه. وكان ذلك شعورا سارا. فكر المفوض المساعد في نفسه، وعيناه تنظران بجدية إلى كبير المفتشين هيت: «سأجعله يفصح عن كل ما يخفيه.»
عاد للحديث مجددا: «لا، لم يكن ذلك ما أفكر فيه. لا شك في درايتك بعملك؛ لا شك على الإطلاق؛ وذلك بالتحديد السبب في أنني ...» توقف لبرهة، ومغيرا نبرته قال: «ما الأدلة الحاسمة التي يمكنك تقديمها ضد ميكايليس؟ أعني بصرف النظر عن حقيقة أن الرجلين المشتبه فيهما - أنت متأكد من أنهما كانا رجلين - أتيا من محطة سكك حديدية تبعد ثلاثة أميال من القرية التي يعيش فيها ميكايليس الآن.»
استعاد كبير المفتشين رباطة جأشه، وقال: «هذا في حد ذاته كاف لنا، يا سيدي، كي نتحرى حول رجل كهذا.» نجحت حركة الموافقة الطفيفة التي أبداها المفوض المساعد برأسه بقدر كبير في تهدئة الدهشة المتسمة بالاستياء البادية على الضابط الشهير. وذلك لأن كبير المفتشين هيت كان رجلا لطيفا، وزوجا وفيا، وأبا مخلصا؛ وكانت ثقة العامة وإدارته اللتان كان ينعم بتعاملهما معه باستحسان بناء على طبيعة ودية، قد جعلته يشعر بالود تجاه المفوضين المساعدين المتعاقبين الذين كان قد شاهدهم يمرون عبر تلك الغرفة تحديدا. كان ثلاثة قد تعاقبوا عليه خلال فترة عمله. كان يمكن تدبر الأمر مع الأول، الذي كان يتصف بأنه ذو طبيعة عسكرية، وطبع حاد، ووجه أحمر وحواجب بيضاء ومزاج سريع الانفعال، بالتعامل معه بحذر شديد لتجنب إثارته. غادر منصبه عندما وصل إلى سن التقاعد. أما الثاني، الذي كان رجلا محترما للغاية، يحفظ مقامه ومقام الآخرين بدقة، فعند استقالته لتولي منصب أعلى خارج إنجلترا، حصل (بالفعل) على وسام بناء على خدمات المفتش هيت. كان العمل معه مدعاة للفخر والسرور. أما الثالث، الذي كان غامضا إلى حد ما من البداية، فكان لا يزال بعد ثمانية عشر شهرا غامضا نوعا ما للعاملين بالإدارة. إجمالا اعتقد كبير المفتشين هيت أنه غير مؤذ بوجه عام، غريب المظهر، لكنه غير مؤذ. كان يتحدث الآن، وكان كبير المفتشين يستمع إليه بإجلال ظاهري (وهذا لا يعني شيئا، كونه أمرا واجبا) وبصبر جميل في قرارة نفسه. «هل أبلغ ميكايليس الشرطة قبل أن يغادر لندن إلى الريف؟» «نعم يا سيدي. فعل ذلك.»
تابع المفوض المساعد، الذي كان على علم تام بتلك النقطة: «ترى ماذا يفعل هناك؟» كان ميكايليس، الذي كان يجلس على مقعد خشبي قديم ذي ذراعين ضيق لا يكاد يسعه، أمام طاولة من خشب البلوط نخرها السوس في غرفة علوية في كوخ من أربع غرف له سقف من قرميد نمت عليه الطحالب، عاكفا على الكتابة ليل نهار بيد مرتعشة مائلة «السيرة الذاتية لسجين» التي كان من المفترض أنها ستكون مثل سفر رؤيا في تاريخ البشرية. كانت ظروف المساحة الضيقة والعزلة والوحدة في كوخ صغير من أربع غرف مواتية لإلهامه. كان الأمر يشبه كونه في سجن، عدا أن المرء لم يكن يتعرض البتة للإزعاج من أجل الغرض البغيض المتمثل في أداء تمرينات وفقا لما تمليه اللوائح التعسفية لمقر إقامته القديم في السجن. لم يكن بوسعه أن يميز إن كانت الشمس لا تزال تلقي بأشعتها على الأرض أم لا. كان جبينه يتصبب بعرق جهد العمل الأدبي. وحثته حماسة مبهجة على المتابعة. كان بمثابة تحرير لنفسه الداخلية، وإطلاق لعنان روحه نحو عالم واسع. وبدا حماس الغرور البريء (الذي اتقد بداية بعرض بقيمة خمسمائة جنيه إسترليني من ناشر) قدرا مقدورا وأمرا مقدسا.
ألح المفوض المساعد إلحاحا غير صريح، قائلا: «سيكون من المستحسن للغاية، بالطبع، أن أطلع على المجريات بدقة.»
قال كبير المفتشين هيت، دون أن يخفى عليه الغضب الذي تجدد مع هذه المطالبة بالدقة، إن شرطة المقاطعة قد أخطرت على الفور بوصول ميكايليس، وأنه يمكن الحصول على تقرير كامل في غضون ساعات قليلة. برقية إلى رئيس الشرطة ...
قال ذلك، ببطء نوعا ما، بينما بدا أن عقله كان في الوقت نفسه يقدر العواقب. كان انعقاد خفيف لحاجبه هو العلامة الظاهرية على ذلك. لكنه قوطع بسؤال. «هل أرسلت هذه البرقية بالفعل؟»
أجاب، وكأنه فوجئ بالسؤال: «كلا يا سيدي.»
أنزل المفوض المساعد ساقه من فوق الأخرى فجأة. تناقضت خفة تلك الحركة مع الطريقة العرضية التي طرح بها سؤاله. «هل تظن أن ميكايليس له أي علاقة بتحضير تلك القنبلة، مثلا؟»
تظاهر كبير المفتشين بالتفكير. «ما كنت لأقول ذلك. لا حاجة لقول أي شيء في الوقت الحالي. إنه على صلة برجال مصنفين بأنهم خطرون. اختير ممثلا للجنة الحمراء بعد أقل من سنة من الإفراج المشروط الذي حصل عليه. نوع من المجاملة، على ما أظن.»
وضحك كبير المفتشين بقليل من الغضب، وقليل من الازدراء. مع رجل من ذلك النوع، كان التدقيق تصرفا في غير موضعه، بل حتى شعورا غير قانوني. كان صدره قد ضاق من الشهرة التي حظي بها ميكايليس عند خروجه من السجن منذ عامين بسبب بعض الصحفيين العاطفيين بداعي الحاجة إلى إصدار طبعات خاصة. كان القبض على ذلك الرجل استنادا إلى أدنى شبهة قانونيا تماما. كان قانونيا ومناسبا في ظاهره. كان رئيساه السابقان سيفهمان المغزى على الفور؛ أما هذا فجلس في مكانه، دون أن يؤيد ذلك أو يعارضه، وكأنه غارق في أحلامه. علاوة على ذلك، بالإضافة إلى كون القبض على ميكايليس قانونيا ومناسبا، فقد حل مشكلة شخصية صغيرة أقلقت كبير المفتشين هيت بعض الشيء. أثرت هذه المشكلة على سمعته وعلى راحته وحتى على كفاءته في أداء واجباته. وذلك لأنه إذا كان ميكايليس يعلم دون شك شيئا عن هذا الانفجار، كان كبير المفتشين متأكدا تماما من أنه لا يعرف الكثير. كان هذا أمرا جيدا، حتى إن لم يكن ما توقعه. كان كبير المفتشين متيقنا من أنه كان يعرف أقل بكثير من أفراد معينين آخرين كان يضعهم في حسبانه، ولكن القبض عليهم بدا غير مناسب من وجهة نظره، بالإضافة إلى كونه مسألة أعقد، بناء على قواعد اللعبة. لم توفر قواعد اللعبة الكثير من الحماية لميكايليس، الذي كان مدانا سابقا. سيكون من الحماقة عدم استغلال التسهيلات القانونية، والصحفيون الذين كانوا قد كتبوا عنه بفيض من العاطفة سيكونون على استعداد للكتابة عنه بسخط نابع من العاطفة.
كان لهذا الاحتمال، الذي كان كبير المفتشين هيت واثقا من حدوثه، جاذبية نصر شخصي له. وفي أعماق صدره المنزه عن اللوم بصفته مواطنا عاديا متزوجا، كان للكراهة غير المدركة تقريبا، ولكنها قوية، لكونه مجبرا بداعي الأحداث إلى التعامل مع الضراوة اليائسة للبروفيسور، تأثيرها عليه. كانت هذه الكراهة قد تعززت باللقاء العارض في الزقاق. لم يخلف هذا اللقاء لدى كبير المفتشين هيت ذلك الشعور المرضي بالاستعلاء الذي يناله أفراد الشرطة من الجانب غير الرسمي والودي لتعاملهم مع فئات المجرمين، والذي به يهدأ غرور السلطة، وينال الحب المبتذل للهيمنة على إخوتنا من بني البشر التملق بالقدر الذي يستحقه.
لم يعترف كبير المفتشين هيت باللاسلطوي المثالي باعتباره من بني البشر. كان لا يطاق؛ كلب مسعور يجب أن يترك وشأنه. لم يكن ذلك ما كان يخشاه كبير المفتشين؛ بل كان على النقيض ينوي الإمساك به يوما ما. ولكن لم يحن ذلك اليوم بعد؛ كان ينوي الإمساك به في الوقت الذي يحدده هو، حسب إجراءات سليمة وفعالة وفق قواعد اللعبة. لم يكن الوقت الحاضر هو الوقت المناسب لمحاولة إنجاز هذا العمل البطولي، لم يكن الوقت المناسب لأسباب كثيرة، شخصية، ومتعلقة بالعمل العام. كان هذا هو الشعور القوي الذي أحس به المفتش هيت، فقد بدا له أن العدل والمصلحة يقتضيان تحويل القضية بعيدا عن مسارها الغامض وغير المريح، الذي لا يعلم إلا الرب إلى أين سيؤدي، إلى مسار فرعي هادئ (وقانوني) يدعى ميكايليس. وكرر، وكأنه يعيد التفكير في السؤال بوعي: «القنبلة. كلا، ما كنت لأقول هذا بالضبط. قد لا نتمكن من اكتشاف ذلك مطلقا. ولكن من الواضح أن له علاقة بهذا بطريقة أو بأخرى، وهو ما يمكننا اكتشافه من دون عناء كبير.»
ارتسمت على ملامحه نظرة اللامبالاة الجسيمة والخطيرة، التي كان أعتى اللصوص فيما مضى يعرفونها حق المعرفة ويخشونها كثيرا. لم يكن كبير المفتشين هيت، كثير الابتسام. لكنه كان راضيا في داخله عن السلوك السلبي المتقبل الذي أبداه المفوض المساعد، الذي همهم برفق: «وهل تظن حقا أن التحقيق ينبغي أن يمضي في ذلك الاتجاه؟» «نعم يا سيدي.» «هل أنت مقتنع تماما؟» «نعم، مقتنع يا سيدي. هذا هو المسار الصحيح الذي ينبغي أن نسلكه.»
سحب المفوض المساعد يده التي كان رأسه يتكئ عليها بحركة فجائية، لدرجة أنه، نظرا لوضعيته الجسمانية الضعيفة، بدا أن جسده كله كان مهددا بأن يخر على الأرض. ولكنه، على النقيض، اعتدل في جلسته، منتبها تماما، خلف المكتب الكبير الذي سقطت يده عليه محدثة صوت ضربة عنيفة. «ما أريد معرفته هو ما تجبر نفسك على عدم التفكير فيه حتى الآن.»
كرر كبير المفتشين ببطء شديد: «ما أجبر نفسي على عدم التفكير فيه.» «نعم. حتى استدعيت إلى تلك الغرفة، كما تعلم.»
شعر كبير المفتشين وكأن الهواء الذي بين ملابسه وجلده قد صار ساخنا على نحو مزعج. كان ذلك هو الإحساس بتجربة غير مسبوقة ولا يمكن تصديقها.
قال، مبالغا في التروي في نطقه للكلمات إلى أقصى حد ممكن: «بالطبع، إذا كان ثمة سبب، لا أعرف عنه شيئا، يدعو إلى عدم اعتراض طريق المجرم المدان ميكايليس، فلعله من الجيد أنني لم أجعل شرطة المقاطعة تلاحقه.»
استغرق هذا وقتا طويلا حتى إنه يمكن القول إن الاهتمام الدءوب من جانب المفوض المساعد بدا عملا بطوليا في القدرة على التحمل. جاء رده سريعا دون تأخير. «لا يوجد أي سبب على الإطلاق على حد علمي. هيا، يا كبير المفتشين، هذه المراوغة معي غير لائقة للغاية من جانبك؛ غير لائقة للغاية. كما أنها أيضا غير عادلة، كما تعلم. لا ينبغي أن تتركني حائرا أحاول التوصل إلى حل للأمور بنفسي هكذا. حقا، إنني مندهش.»
توقف قليلا، ثم أردف بنعومة: «لست بحاجة إلى إخبارك بأن هذه المحادثة برمتها غير رسمية.»
لم تهدئ هذه الكلمات كبير المفتشين على الإطلاق. كان الشعور بالسخط قويا بداخله كالذي يشعر به البهلوان الذي يمشي على الحبل المشدود عندما يتعرض للخيانة. بداع من اعتزازه بنفسه كونه موظفا موثوقا فيه، تضرر نتيجة قناعته بأن الحبل لم يهز بغرض كسر عنقه، وإنما إبداء لمزاح وقح. وكأن هذا سيخيفه! إن المفوضين المساعدين يأتون ويذهبون، ولكن كبير المفتشين المهم ليس ظاهرة سريعة الزوال في المكتب. لم يكن يخشى من كسر عنقه. كان إفساد أدائه أكثر من كاف لتبرير احتدام سخطه العميق. ولما كان التفكير لا يلقي بالا للأشخاص، اتخذ تفكير كبير المفتشين هيت شكلا تهديديا وتنبؤيا. قال في سريرته، دون أن تتوقف عيناه المستديرتان والهائمتان كعادتهما عن التحديق في وجه المفوض المساعد: «أنت، أيها الفتى، أنت أيها الفتى، لا تعرف مكانتك، وأراهن على أن مكانتك لن تبقيك لفترة طويلة أيضا.»
ارتسم ما يشبه طيف ابتسامة ودودة، مرت سريعا، على شفتي المفوض المساعد، وكأنها إجابة مستفزة على تلك الخاطرة. كان أسلوبه بسيطا وعمليا في مثابرته على هز الحبل المشدود مرة أخرى.
قال: «لنتحدث الآن عما توصلت إليه على الفور، يا كبير المفتشين.»
ظلت سلسلة الأفكار التنبؤية تتوالى على رأس كبير المفتشين هيت: «أحمق سيفقد عمله قريبا.» لكن تبعها على الفور تأمل مفاده أن أي مسئول أعلى، حتى عند «طرده من العمل» (كانت هذه هي الصورة الدقيقة ) لا يزال لديه الوقت وهو ينطلق من الباب ليركل مرءوسا في ساقه ركلة سيئة. من دون أن يخفف من تحديقه الذي كان يشبه كثيرا تحديق أفعى البازيليسق، قال بهدوء: «سنأتي إلى ذلك الجزء من تحرياتي يا سيدي.» «هذا صحيح. حسنا، ما المعلومات التي توصلت إليها منها؟»
عاد كبير المفتشين، الذي كان قد عقد العزم على القفز من فوق الحبل، إلى أرض الواقع بصراحة كئيبة.
قال، وهو يخرج من جيبه دون تعجل خرقة محروقة باللون الأزرق الداكن: «توصلت إلى عنوان.» «هذه الخرقة من المعطف الذي كان يرتديه الشخص الذي مزقه الانفجار إلى أشلاء. بالطبع، ربما لا يكون المعطف ملكا له، وربما يكون قد سرق. لكن ذلك سيكون غير محتمل على الإطلاق لو أنك نظرت إلى هذا.»
تقدم كبير المفتشين نحو المكتب، وبسط بعناية الخرقة المصنوعة من قماش أزرق. كان قد أخذها من الكومة البغيضة في المشرحة؛ لأنه في بعض الأحيان يكون اسم الخياط موجودا تحت الياقة. غالبا ما لا يكون ذلك ذا أهمية كبيرة، ولكن مع ذلك، توقع على الأقل أن يجد أي شيء مفيد، لكنه بالتأكيد لم يتوقع أن يجد، ليس تحت الياقة على الإطلاق، ولكن مخيط بعناية على بطانة طية صدر السترة، قطعة مربعة من نسيج الكاليكو مكتوب عليها عنوان بحبر أسود.
سحب كبير المفتشين يده المبسوطة.
قال: «حملتها معي من دون أن يلحظ أحد ذلك. ظننت أن هذا هو الأفضل. يمكن دوما إخراجها إذا لزم الأمر.»
ارتفع المفوض المساعد قليلا من فوق كرسيه، وسحب قطعة القماش إلى جانبه من المكتب. جلس ينظر إليها صامتا. لم يكن مكتوبا على قطعة قماش من نسيج الكاليكو، أكبر قليلا من ورقة سيجارة عادية، سوى العدد 32 واسم «شارع بريت» بالحبر الأسود. لقد فوجئ حقا.
قال وهو ينظر إلى كبير المفتشين هيت: «لا أستطيع أن أفهم السبب الذي دفعه إلى التجول مرتديا ملابس عليها علامة هكذا. إنه أمر في غاية الغرابة.»
قال كبير المفتشين: «قابلت ذات مرة في غرفة المدخنين في فندق رجلا عجوزا كل معاطفه خيط عليها اسمه وعنوانه تحسبا للتعرض لحادث أو مرض مفاجئ. زعم أن عمره أربعة وثمانون عاما، ولكن مظهره لم يكن يدل على عمره. أخبرني إنه كان أيضا يخشى من فقدان ذاكرته فجأة، مثل الأشخاص الذين كان يقرأ عنهم في الصحف.»
فجأة قطع سؤال من المفوض المساعد، الذي أراد أن يعرف ما معنى 32 شارع بريت، تلك الذكريات. اختار كبير المفتشين، مدفوعا إلى أرض الواقع بحيل ملتوية، أن يسلك طريق المصارحة من دون تحفظ. إن كان يعتقد اعتقادا راسخا بأن معرفة أكثر مما يلزم من المعلومات لم يكن في صالح الإدارة، فإن حجب ما يعرف بحكمة، بقدر ما يسمح به ولاؤه، كان في صالح العمل. وإذا أراد المفوض المساعد أن يسيء إدارة هذه القضية، فلا يمكن بالطبع لشيء أن يمنعه. لكنه، من جانبه، لم يكن يرى الآن أي سبب لإظهار الهمة. ومن ثم أجاب بإيجاز: «إنه متجر يا سيدي.»
انتظر المفوض المساعد، ناظرا إلى خرقة القماش الأزرق، مزيدا من المعلومات. لما لم ينل ما كان يرنو إليه، بدأ في الحصول على تلك المعلومات بطرح سلسلة من الأسئلة بصبر جميل. ومن ثم سأل عن طبيعة تجارة السيد فيرلوك، وعن مظهره الشخصي، وفي النهاية سمع اسمه. في فترة تخللها الصمت، رفع المفوض المساعد عينيه، ولمح قدرا من النشاط على وجه كبير المفتشين. نظر كل منهما إلى الآخر في صمت.
قال الأخير: «بالطبع، لا تملك الإدارة سجلا عن ذلك الرجل.»
سأله المفوض المساعد، واضعا مرفقيه على المكتب وهو يرفع يديه المضمومتين أمام وجهه، وكأنه يتهيأ للصلاة، غير أن الخشوع لم يكن باديا في عينيه، سأل: «هل كان لدى أي ممن سبقوني أي علم بما أخبرتني به الآن؟» «كلا يا سيدي؛ بالتأكيد لا. ماذا كان يمكن أن تكون الغاية؟ لا يمكن مطلقا الإفصاح علنا عن رجال من نوعية ذلك الرجل لأي غرض نافع. كان يكفيني أن أعرف هويته، وأن أستفيد منه بطريقة يمكن استخدامها علنيا.» «وهل تعتقد أن ذلك النوع من المعلومات الخاصة يتوافق مع المنصب الرسمي الذي تشغله؟» «توافقا تاما يا سيدي. أظن أنها مناسبة تماما. لا أخفيك قولا يا سيدي أنها تشكل ما أنا عليه؛ وأنا ينظر إلي باعتباري رجلا على دراية بعمله. إنها شأن خاص بي. لمح لي صديق شخصي في الشرطة الفرنسية بأن ذاك الرجل كان جاسوسا لدى السفارة. صداقة خاصة، معلومات خاصة، استخدام خاص لتلك المعلومات؛ هكذا أنظر إلى المسألة.»
بعدما ذكر المفوض المساعد في نفسه ملاحظة مفادها أن الحالة الذهنية لكبير المفتشين الشهير بدت أنها تؤثر في شكل فكه السفلي، وكأن إحساسه القوي بتميزه المهني العالي استقر في ذلك الجزء من جسده، نبذ تلك الملاحظة في الوقت الراهن بأن قال بهدوء: «فهمت.» ثم، مسندا وجنته على يديه المضمومتين، قال: «حسن إذن، لنتحدث بسرية إذا وددت؛ منذ متى وأنت على اتصال خاص بذلك الجاسوس لدى السفارة؟»
ردا على هذا السؤال، أتت الإجابة السرية من كبير المفتشين، سرية لدرجة أنها لم تتألف من كلمات مسموعة: «منذ فترة طويلة، قبل حتى التفكير في أن تشغل منصبك هنا.»
كان الكلام العلني، إن جاز التعبير، أدق بكثير. «رأيته للمرة الأولى في حياتي منذ ما يزيد على سبعة أعوام، عندما كان اثنان من أصحاب السمو الإمبراطوري ومستشار إمبراطوري في زيارة هنا. أوكلت إلي مهمة اتخاذ جميع الترتيبات من أجل الاعتناء بهم. كان البارون ستوت فارتنهايم هو السفير وقتها. كان رجلا عجوزا وشديد العصبية. وفي إحدى الأمسيات، وقبل ثلاثة أيام من مأدبة جيلدهول، أرسل لي مرسالا بأنه يريد أن يقابلني للحظة. كنت في الطابق السفلي، وكانت العربات عند الباب كي تقل أصحاب السمو الإمبراطوري والمستشار إلى الأوبرا. صعدت على الفور. وجدت البارون يروح ويجيء في غرفة نومه في حالة يرثى لها من التوتر، وأخذ يعتصر يديه. أكد لي أن لديه ثقة كاملة في شرطتنا وفي قدراتي، ولكن كان معه هناك رجل كان قد قدم للتو من باريس بمعلومات يمكن الوثوق في صحتها تماما. أراد مني أن أسمع ما يقوله ذلك الرجل. أخذني على الفور إلى غرفة تغيير ملابس مجاورة، ورأيت فيها رجلا ضخم الجثة يرتدي معطفا ثقيلا ويجلس بمفرده على كرسي ويمسك قبعته وعصاه في يد واحدة. قال له البارون «تحدث يا صديقي» باللغة الفرنسية. لم تكن الإضاءة جيدة جدا في تلك الغرفة. تحدثت إليه لمدة خمس دقائق تقريبا. بالتأكيد قدم لي بعض الأخبار المفزعة جدا. ثم أخذني البارون جانبا بعصبية ليثني لي عليه، وعندما استدرت مرة أخرى اكتشفت أن الرجل كان قد اختفى وكأنه شبح. أظن أنه نهض وتسلل إلى الأسفل على سلم خلفي. لم يكن لدي وقت لألاحقه؛ إذ اضطررت إلى الإسراع خلف السفير على السلم الكبير، وأن أطمئن على أن الحفل قد بدأ بأمان في الأوبرا. ومع ذلك، تصرفت في تلك الليلة بناء على المعلومات التي بلغتني. سواء كانت صحيحة تمام الصحة أم لا، لكنها بدت خطيرة بما يكفي. ومن المرجح جدا أنها أنقذتنا من مشكلة بشعة في يوم الزيارة الإمبراطورية إلى المدينة.»
وتابع: «في وقت لاحق، بعد شهر أو نحو ذلك من ترقيتي إلى منصب كبير المفتشين، استرعى انتباهي رجل ضخم قوي البنية، ظننت أنني رأيته في مكان ما من قبل، يخرج مسرعا من متجر مجوهرات في شارع ستراند. مضيت خلفه، حيث إنه كان في طريقي صوب تشيرينج كروس، وهناك رأيت أحد مخبرينا السريين على الجانب الآخر من الطريق، وأومأت إليه بأن يأتي إلي، وأشرت له نحو الرجل، مع تعليمات بأن يراقب تحركاته لمدة يومين، وأن يبلغني بعدها. لم يمر عصر اليوم التالي إلا وقد أتاني رجلنا كي يخبرني بأن الرجل قد تزوج من ابنة صاحبة المنزل الذي يسكنه وعقد الزواج في مكتب أمين السجل في ذلك اليوم في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، وأنه قد غادر معها إلى مدينة مارجيت لمدة أسبوع. كان رجلنا قد رأى الأمتعة وهي توضع في سيارة الأجرة. كانت توجد بعض ملصقات أمتعة قديمة من باريس على إحدى الحقائب. لسبب ما، لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في هذا الشخص، وفي المرة التالية التي تعين علي فيها أن أذهب إلى باريس في مهمة عمل، تحدثت عنه مع صديقي ذاك في شرطة باريس. قال صديقي: «بناء على ما أخبرتني به، أظن أنه لا بد أنك تتحدث عن طفيلي معروف نوعا ما ومبعوث للجنة الثورية الحمراء. يقول إنه إنجليزي المولد. نعرف أنه عميل سري منذ بضع سنوات لإحدى السفارات الأجنبية في لندن.» أنعش هذا ذاكرتي تماما. إنه الشخص الذي رأيته يختفي والذي كان يجلس في غرفة تغيير الملابس عند البارون ستوت فارتنهايم. قلت لصديقي إنه محق تماما. تأكد لدي أن الشخص كان عميلا سريا. بعد ذلك، تكبد صديقي عناء أن يحضر لي السجل الكامل لهذا الرجل. ارتأيت أنه من الأفضل أن أعرف كل ما يمكنني معرفته؛ ولكنني لا أظن أنك تريد سماع قصته الآن يا سيدي، أليس كذلك؟»
هز المفوض المساعد رأسه موافقا. أغلق عينيه الغائرتين المرهقتين ببطء، ثم فتحهما بسرعة بنظرة منتعشة للغاية، وقال: «ما يهمني الآن فحسب هو معرفة قصة علاقاتك بتلك الشخصية المفيدة.»
قال كبير المفتشين بمرارة: «لا يوجد شيء رسمي بشأنها.» «ذهبت إلى متجره ذات مساء، وعرفته بنفسي، وذكرته بأول لقاء بيننا. لم يفعل شيئا أكثر من رفع حاجبه. قال إنه متزوج وحياته مستقرة الآن، وأن كل ما يريده ألا يعترض أحد مشروعه التجاري الصغير. تعهدت له بأنه ما دام لم يتورط في أي عمل شائن بوضوح، فإن الشرطة ستدعه وشأنه. قدر ذلك الصنيع، لأن كلمة منا إلى رجال الجمارك كانت كفيلة بأن تجعل بعض الطرود التي تأتيه من باريس وبروكسل تفتح في دوفر، ثم تصادر بالتأكيد، وربما ينتهي به الأمر أيضا إلى رفع دعوى ضده.»
همهم المفوض المساعد: «تلك تجارة محفوفة بالمخاطر جدا. لماذا أقحم نفسه في ذلك؟»
رفع كبير المفتشين حاجبيه ازدراء بفتور. «على الأرجح له علاقات بأشخاص يتعاملون في هذه السلع، أصدقاء في أوروبا. إنهم بالضبط من النوع الذي يمكن أن ينسجم معه. إنه نذل كسول أيضا؛ مثل بقيتهم.» «ما الذي تحصل عليه منه مقابل الحماية التي وفرتها له؟»
لم يكن كبير المفتشين يميل إلى الإسهاب في توضيح قيمة خدمات السيد فيرلوك. «لن يكون له كثير نفع لأحد سواي. يجب أن يكون المرء على دراية بكثير من الأمور مسبقا ليستفيد من رجل كهذا. أستطيع أن أفهم نوع التلميح الذي يمكن أن يقدمه. وعندما أريد منه تلميحا، يمكنه عموما أن يزودني به.»
غرق كبير المفتشين فجأة في حالة تأمل حذر؛ وكتم المفوض المساعد ابتسامة رسمتها فكرة عابرة بأن الفضل في ذيوع صيت كبير المفتشين هيت ربما كان راجعا بقدر كبير إلى العميل السري فيرلوك. «ولتكون الفائدة منه أعم، لدى جميع رجالنا في إدارة الجرائم الخاصة في تشيرينج كروس وفيكتوريا تعليمات بأن يولوا عناية حذرة بأي شخص قد يرونه معه. إنه يلتقي وافدين جددا باستمرار، وبعد ذلك يقتفي أثرهم. يبدو أنه تلقى توبيخا بسبب ذلك النوع من العمل. عندما أريد عنوانا على عجل، يمكنني دوما أن أحصل عليه منه. بالطبع، أعرف كيف أدير علاقاتنا. لم أره كي أتحدث معه ثلاث مرات في آخر عامين. تركت له رسالة قصيرة، غير موقعة، وأجاب على رسالتي بالطريقة نفسها على عنواني الخاص.»
من حين لآخر، كان المفوض المساعد يومئ برأسه إيماءة لا تكاد تلاحظ. أضاف كبير المفتشين أنه لا يظن أن السيد فيرلوك محل ثقة كبيرة لدى الأعضاء البارزين في المجلس الثوري الدولي، ولكن لا شك في أنه كان محل ثقة بوجه عام. اختتم حديثه قائلا: «كلما كان لدي سبب للاعتقاد في وجود شيء يفوح في الأجواء، فدائما ما أجد أنه يمكنه أن يخبرني بشيء يستحق المعرفة.»
أبدى المفوض المساعد ملاحظة مهمة. «لقد خذلك هذه المرة.»
رد كبير المفتشين هيت: «وكذلك لم أشتم رائحة أي شيء في الأجواء بأي طريقة أخرى. لم أسأله عن شيء؛ ومن ثم لم يكن بوسعه أن يخبرني بأي شيء. إنه ليس أحد رجالنا. ليس الأمر وكأنه يتقاضى راتبا منا.»
همهم المفوض المساعد: «كلا. إنه جاسوس ويتقاضى أجرا من حكومة أجنبية. لا يمكن أن نثق به أبدا.»
قال كبير المفتشين: «يجب أن أنجز عملي بطريقتي الخاصة. وعندما يتعلق الأمر بذلك، فسأتعامل مع الشيطان نفسه، وأتحمل العواقب. ثمة أشياء ليس من المناسب أن يعرفها الجميع.» «يبدو أن فكرتك عن السرية تتلخص في إخفاء المعلومات عن رئيس إدارتك. ربما تكون تلك مغالاة فيها أكثر مما ينبغي، أليس كذلك؟ هل يقطن فوق متجره؟» «من، فيرلوك؟ أوه نعم. إنه يقطن فوق متجره. أظن أن والدة زوجته تقطن معهما.» «هل المنزل تحت المراقبة؟» «أوه، يا إلهي، كلا. ما كنت لأفعل ذلك. بل نراقب أشخاصا بعينهم يترددون على المكان. ورأيي أنه لا يعلم شيئا عن تلك المسألة.» «وما تفسيرك لهذه؟» أشار المفوض المساعد برأسه إلى خرقة القماش المرمية أمامه على المكتب. «ليس لدي تفسير لها على الإطلاق، يا سيدي. ببساطة لا يمكن تفسيرها. لا يمكن تفسيرها بناء على ما أعرفه.» أبدى كبير المفتشين تلك الاعترافات بصراحة رجل بنيت سمعته على أرض صلبة. «على أي حال، لا يمكن تفسيرها في الوقت الحاضر. أظن أنه سيثبت لاحقا أن الرجل الذي كان له أكبر صلة بها هو ميكايليس.» «أتظن ذلك؟» «نعم يا سيدي؛ لأنه يمكنني أن أقدم أجوبة شافية عن الآخرين كلهم.» «ماذا عن الرجل الآخر الذي من المفترض أنه هرب من الحديقة؟»
خمن كبير المفتشين قائلا: «أظن أنه بعيد جدا الآن.»
رمقه المفوض المساعد بنظرة حادة، ونهض فجأة، وكأنه رتب أفكاره تجاه مسار معين من الإجراءات. في الحقيقة، كان قد خضع في تلك اللحظة تحديدا إلى إغراء ساحر. تلقى كبير المفتشين الأمر بالانصراف مع تعليمات بمقابلة رئيسه باكرا في الصباح التالي لمزيد من التشاور حول القضية. استمع بوجه لا يبدي أي تعبيرات، وخرج من الغرفة بخطوات معتدلة.
أيا كانت خطط المفوض المساعد، فإنه لم يكن لها أي صلة بالعمل في هذا المكتب، الذي كان لعنة عليه بسبب طبيعته المقيدة والافتقار الواضح للحقائق. ما كان يمكن أن يكون لها أي صلة، وإلا لتعذر تفسير حالة النشاط العامة التي حلت على المفوض المساعد. بمجرد أن أصبح بمفرده، بحث عن قبعته مندفعا ووضعها على رأسه. بعد أن فعل ذلك، جلس مرة أخرى ليعيد التفكير في المسألة برمتها. ولكن بما أنه كان قد اتخذ قراره بالفعل، لم يستغرق هذا طويلا. وقبل أن يمضي كبير المفتشين هيت بعيدا في طريقه إلى المنزل، كان هو الآخر قد غادر المبنى.
الفصل السابع
مشى المفوض المساعد في شارع قصير وضيق وكأنه خندق موحل رطب، ثم عبر طريقا واسعا للغاية ودخل إلى مبنى عام ضخم، وسعى للحديث مع سكرتير خاص شاب (بلا أجر) لشخصية كبيرة.
قابل هذا الشاب الأشقر نضر البشرة، الذي أضفى عليه شعره الممشط بتماثل مظهر تلميذ ضخم وأنيق، طلب المفوض المساعد بنظرة متشككة، وتحدث بأنفاس متقطعة. «هل سيوافق على مقابلتك؟ لا علم لي بذلك. لقد غادر دار المجلس التشريعي منذ ساعة للتحدث مع الوكيل الدائم، وهو الآن مستعد لأن يمضي في طريقه عائدا. ربما أرسل في طلبه؛ لكنه يفعل ذلك من أجل قليل من التريض حسب ظني. هذا كل التريض الذي يمكن أن يجد له وقتا أثناء مدة انعقاد هذه الجلسة. أنا لا أتذمر، بل إنني أستمتع بتلك النزهات البسيطة. إنه يستند إلى ذراعي، ولا ينبس ببنت شفة. ولكني أرى أنه متعب جدا، كما أنه ... حسنا ... ليس في أفضل حالاته المزاجية الآن.» «للأمر صلة بالحادث الذي وقع في جرينتش.» «أوه! يا إلهي! إنه يشعر بمرارة شديدة منكم أيها القوم. ولكني سأذهب وأتحقق، إن كنت مصرا.»
همهم المفوض المساعد: «افعل. أنت رجل صالح.»
أعجب السكرتير المتطوع بهذه الجرأة. متخذا وجها تكسوه البراءة، فتح بابا ودخل بثقة طفل لطيف ومميز. وبعد فترة وجيزة عاود الظهور، وأومأ برأسه إلى المفوض المساعد، الذي عبر من الباب نفسه الذي ترك مفتوحا له، ووجد نفسه في حضرة الشخصية العظيمة في غرفة كبيرة.
بدا الشخص العظيم رجلا هائلا، بجسده الضخم في الحجم والقامة، ووجه أبيض طويل، عريض من الأسفل، إذ كان له ذقن كبيرة تحته ثنية من الدهون، فبدا الوجه على شكل بيضة يعلوها شعر رمادي. لسوء الحظ من وجهة نظر أي خياط، أن الطيات المتقاطعة في منتصف معطفه الأسود المزرر زادت من انطباع أن أزرار المعطف قد ربطت بعناء شديد. ومن الرأس، المستقر فوق رقبة مكتنزة، حدقت العينان، ذاتا الجفنين السفليين المنتفخين، بنظرة متغطرسة متعالية من جانبي أنف معقوف بارز بشكل ملحوظ وسط وجه شاحب كبير. وكذلك بدت الضخامة على قبعة من الحرير اللامع وزوج من القفازات القديمة موضوعة على طرف مكتب طويل.
وقف على بساط المدفأة مرتديا حذاء ذا مقاس كبير وواسع، ولم يتفوه بأي عبارات تحية.
سأل على الفور بصوت منخفض وناعم للغاية: «أود أن أعرف إن كانت هذه بداية حملة ديناميت أخرى. لا تستغرق في التفاصيل. ليس لدي وقت لذلك.»
بدا المفوض المساعد أمام ذلك البدن الضخم الريفي وكأنه قصبة نحيلة وضعيفة تخاطب شجرة بلوط. وبالفعل فإن السجل المتصل لنسب ذلك الرجل تجاوز في عدد القرون عمر أقدم شجرة بلوط في البلاد. «كلا. بقدر ما يمكن للمرء أن يكون إيجابيا حيال أي شيء، يمكنني أن أضمن لك أن الأمر ليس كذلك.»
قال الرجل الضخم وهو يلوح بيده ازدراء باتجاه نافذة تطل على الشارع الواسع: «نعم. ولكن يبدو أن فكرتك عن الضمانة في ذلك الأمر تتمثل في المقام الأول في جعل وزير الخارجية يبدو أحمق. سبق أن قيل لي على نحو لا يقبل الجدل في هذه الغرفة نفسها منذ أقل من شهر أنه لا يمكن حتى حدوث عمل من هذا القبيل.»
نظر المفوض المساعد في اتجاه النافذة بهدوء. «اسمح لي أن أعلق، أيها السير إثيلريد، بأنه لم تتح لي حتى الآن أي فرصة لأن أعطيك ضمانات من أي نوع.»
عندئذ تركزت نظرة العينين المتعجرفة على المفوض المساعد.
قال صاحب الصوت العميق الناعم: «صحيح. أرسلت أطلب هيت. أنت لا تزال غرا في منصبك الجديد. وكيف تتدبر أمورك هناك؟» «أعتقد أنني أعرف شيئا جديدا كل يوم.» «بالطبع، بالطبع. أتمنى أن تتدبر أمورك.» «أشكرك، أيها السير إثيلريد. لقد عرفت شيئا اليوم، بل في غضون الساعة الماضية أو نحو ذلك. هذا أن هذه القضية تنطوي على كثير من الأمور من النوع الذي لا يلاحظه المرء في عمل لا سلطوي عنيف معتاد، حتى لو أمعن المرء النظر فيها قدر الإمكان. ولهذا السبب جئت إلى هنا.»
وضع الرجل الضخم ظاهري يديه الكبيرتين على وركيه، بحيث برز مرفقا ذراعيه إلى الخارج. «حسن جدا. استمر. ولكن أرجوك دون أن تسهب في التفاصيل. أعفني من التفاصيل.»
بدأ المفوض المساعد حديثه بنبرة توكيد هادئة وواثقة: «لن أزعجك بالتفاصيل يا سير إثيلريد.» أثناء حديثه، كانت عقارب الساعة خلف الرجل الضخم، التي كانت عبارة عن شيء ثقيل ولامع، ذات حلية ضخمة من نفس الرخام الأسود المصنوع منه رف الموقد، قد تحركت حيزا يشير إلى مرور سبع دقائق. تحدث بإخلاص متناه مستخدما جملا اعتراضية، أدخل فيها كل الوقائع الصغيرة - أي كل التفاصيل - بسهولة ممتعة. لم تصدر همهمة ولا حتى حركة تشير إلى مقاطعة حديثه. بدا صاحب الشخصية العظيمة وكأنه تمثال لأحد أسلافه الأمراء خلعت عنه عدة محارب في الحروب الصليبية، وألبس معطفا بمقاس غير ملائم. شعر المفوض المساعد وكأنه منح حرية الحديث لمدة ساعة. ولكنه حافظ على هدوئه وفي نهاية الوقت المذكور آنفا، أنهى حديثه بخاتمة مفاجئة، أعاد فيها جملته الافتتاحية، أدهشت السير إثيلريد وسرته بسلاستها وقوتها الجليتين. «إن ما نواجهه تحت السطح في هذه القضية، مع أنه لا ينطوي على خطورة، فإنه أمر غير عادي - بهذا الشكل الدقيق على الأقل - ويتطلب تعاملا خاصا.»
صارت نبرة صوت السير إثيلريد عميقة، ومليئة بالاقتناع. «أظن ذلك فعلا ... ما دام سفير دولة أجنبية متورطا في الأمر!»
اعترض الآخر، ذو الجسد المنتصب النحيل، وسمح لنفسه بابتسامة خفيفة: «يا إلهي! السفير! ستكون حماقة مني أن أقترح أي شيء من هذا القبيل. وهذا غير ضروري على الإطلاق، لأنه إن كنت محقا في تخميناتي، فإن كون الشخص سفيرا أو حمالا في فندق هو مجرد تفصيلة.»
فتح السير إثيلريد فما واسعا، ككهف، بدا الأنف المعقوف متلهفا لأن يمعن النظر فيه؛ ومنه خرج صوت رنان خافت، كأنه صادر من أرغن بعيد، يدل على سخط وازدراء. «كلا! تصرفات هؤلاء الناس بغيضة إلى أقصى حد. ماذا يعنون باستجلاب أساليبهم المماثلة لأساليب تتار القرم إلى هنا؟ إن الترك يتحلون بلياقة أكثر من ذلك.» «لقد نسيت، يا سير إثيلريد، أننا بالمعنى الدقيق للكلمة لا نعرف شيئا على وجه اليقين ... حتى الآن.» «كلا! ولكن كيف يمكنك تعريف الأمر؟ باختصار.» «جرأة سافرة، تصل إلى حد تصرفات صبيانية من نوع غريب.»
قال الشخص العظيم الضخم، متضخما أكثر قليلا، إن جاز القول: «لا يمكننا أن نتحمل سذاجة تصرفات صبيانية بغيضة.» أصابت سهام النظرة المتغطرسة المتعالية الساحقة السجادة عند قدمي المفوض المساعد. «لا بد أن يتلقوا ضربة شديدة على خلفية هذه القضية. يجب أن نكون في وضع يسمح لنا بأن ... ما فكرتك العامة باختصار؟ لا حاجة إلى الخوض في التفاصيل.» «لا، يا سير إثيلريد. من حيث المبدأ، لا بد أن أؤكد بحسم أن وجود عملاء سريين أمر لا ينبغي التهاون معه؛ لأنهم يميلون إلى تضخيم المخاطر الحقيقية التي تكمن في الشر الذي يستخدمون لمحاربته. إن فكرة تلفيق الجاسوس لمعلوماته هي أمر اعتيادي تماما. ولكن في مجال العمل السياسي والثوري، الذي يعتمد جزئيا على العنف، يمتلك الجاسوس المحترف كل الوسائل لتلفيق الحقائق الواضحة نفسها، وسينشر الشر المزدوج المتمثل في المساجلة من جهة، وفي بث الذعر، وسن التشريعات من دون روية، والكراهية المندفعة من الجهة الأخرى. ومع ذلك، فهذا عالم غير مثالي ...»
دون أن تصدر حركة من صاحب الصوت العميق الواقف على بساط المدفأة، ومرفقاه الضخمان بارزان إلى الخارج، قال بسرعة: «كن واضحا من فضلك.» «نعم يا سير إثيلريد؛ عالم غير مثالي. ولذلك فور أن اتضحت لي طبيعة تلك القضية، فكرت في أنه يجب التعامل معها بسرية خاصة، وغامرت بالمجيء إلى هنا.»
وافقه الشخص العظيم، وهو ينظر إلى أسفل، راضيا عن نفسه، من فوق ذقنه المتخم بالشحم، قائلا: «هذا صحيح. أنا مسرور أنه يوجد شخص في إدارتك يظن أنه يمكن الوثوق في وزير الخارجية بين الحين والآخر.»
ارتسمت ابتسامة مبتهجة على شفتي المفوض المساعد . «في الحقيقة كنت أفكر أنه قد يكون من الأفضل في هذه المرحلة أن نستبدل بهيت شخصا ...»
صاح الرجل صاحب المقام الرفيع بنبرة تنم عن عدائية واضحة: «ماذا! هيت؟ أحمق هو ... أليس كذلك؟» «مطلقا ... على الإطلاق. من فضلك يا سير إثيلريد، لا تفسر ملاحظاتي هذا التفسير الجائر.» «ماذا إذن؟ داهية، ولكن تعيبه عجرفته؟» «ولا ذاك ... على الأقل ليست قاعدة. فكل أسباب تخميناتي مأخوذة منه. الشيء الوحيد الذي اكتشفته بنفسي هو أنه كان يستغل ذلك الرجل لصالحه هو. من ذا الذي يستطيع أن يلومه؟ إنه رجل شرطة قديم. قال لي تقريبا إنه يجب أن يكون لديه أدوات للعمل بها. خطر لي أن تلك الأداة يجب أن تخضع لقسم الجرائم الخاصة ككل، بدلا من أن تظل في حوزة كبير المفتشين هيت بمفرده. يمتد تصوري للواجبات المنوطة بالإدارة التي أرأسها إلى إخضاع العميل السري. ولكن كبير المفتشين هيت يعمل في الإدارة منذ زمن طويل. وربما اتهمني بإفساد أخلاقيات العمل والتحامل على فاعليته. وربما عرف الأمر تعريفا بغيضا بأنه حماية امتدت إلى الفئة الإجرامية من الثوريين. قد يعني الأمر له ذلك فحسب.» «نعم. ولكن ما الذي تقصده؟» «ما أقصده هو، أولا، أنه لا يوجد سوى قدر ضئيل من التعزية في القدرة على التصريح بأن أي عمل من أعمال العنف - إتلاف الممتلكات أو إزهاق الأرواح - ليس عملا لا سلطويا على الإطلاق، وإنما شيء مختلف تماما؛ ضرب من النذالة المصرح بها. وأظن أن هذا يتكرر أكثر مما نتوقع. ثانيا: من الواضح أن وجود هؤلاء الأشخاص الذين يتقاضون أجورا من حكومات أجنبية يقلص من كفاءة رقابتنا. يمكن لجاسوس من هذا النوع أن يكون أكثر تهورا من أكثر المتآمرين تهورا. فعمله خال تماما من جميع المعوقات. إنه لا يملك وازعا من إيمان من شأنه أن يدفعه إلى الرفض التام، ولا من قانون حسبما ينطوي عليه الخروج على القانون. ثالثا: وجود هؤلاء الجواسيس بين الجماعات الثورية - التي نلام على إيوائها هنا - يقضي على كل يقين. لقد سمعت عبارات طمأنة من كبير المفتشين هيت منذ مدة. لم يكن لها أي أساس على الإطلاق؛ ومع ذلك وقعت هذه الحادثة. أسميها حادثة؛ لأنني أجرؤ على القول بأن هذه القضية عرضية؛ إذ لا تمثل جزءا من أي مخطط عام، رغم همجيتها. نفس الخصائص التي تفاجئ كبير المفتشين هيت وتحيره هي التي تحدد طبيعتها في تصوري. إنني أنأى عن التفاصيل يا سير إثيلريد.»
كان الشخص العظيم الواقف على بساط المدفأة يستمع بانتباه شديد. «بالضبط. أوجز قدر المستطاع.»
أشار المفوض المساعد بلفتة احترام جادة إلى أنه كان حريصا على الإيجاز. «تنطوي إدارة هذه القضية على غباء غريب وأوجه ضعف مما يمنحني آمالا كبيرة في سبر أغوارها والتوصل إلى شيء آخر غير كونها نزوة تعصب فردية. لأنها بلا شك عمل قائم على تخطيط. يبدو أن العقل المدبر قد اقتاد الجاني الفعلي إلى مكان التفجير، ثم غادر مسرعا تاركا له حرية التصرف. واستنتاجي أنه قد جلب من خارج البلاد بغرض ارتكاب هذا الاعتداء. وفي الوقت نفسه، لا مفر من استنتاج أنه لم يكن يعرف من الإنجليزية ما يكفي لأن يطلب أن يدله أحد على طريقه، ما لم نقبل بالنظرية الخيالية القائلة بأنه كان أصم وأبكم. إنني أتساءل الآن، ولكن هذا مضيعة للوقت. من الواضح أنه لم يقصد أن يقتل نفسه. ليس حادثا غير عادي. ولكن تبقى حقيقة صغيرة غير عادية؛ ألا وهي العنوان المدون على ملابسه الذي اكتشف بمحض الصدفة أيضا. إنها حقيقة صغيرة غير معقولة، غير معقولة لدرجة أن التعليل الذي سيفسرها لا بد أن يصل إلى عمق هذه القضية. وبدلا من إصدار أوامر لهيت بأن يستمر في تلك القضية، فإنني أنوي أن أبحث عن هذا التعليل شخصيا - أعني بنفسي - في المكان الذي يمكن التوصل إليه فيه. وذلك في محل معين في شارع بريت، وعلى شفتي عميل سري معين كان يوما ما الجاسوس السري والموثوق فيه لدى البارون ستوت فارتنهايم، السفير لدى دولة عظمى في بلاط سانت جيمس الملكي.»
توقف المفوض المساعد قليلا ثم أردف قائلا: «هؤلاء الناس آفات ضارية.» من أجل أن يرفع الشخص العظيم الواقف على بساط المدفأة ناظريه الموجهين إلى الأرض نحو وجه المتحدث، أمال رأسه إلى الخلف رويدا رويدا، ما أعطاه مظهرا متعاليا غير عادي. «لماذا لا تتركها في يد هيت؟» «لأنه رجل له باع طويل في القسم. ولديهم أخلاقياتهم الخاصة. ومن ثم قد تبدو له طريقتي في التحري إفسادا بشعا ينال الواجب. من وجهة نظره، الواجب الواضح هو إلصاق الجرم بأكبر عدد ممكن من اللاسلطويين البارزين بناء على بعض المؤشرات الضئيلة التي كان قد جمعها في سياق تحقيقه في مسرح الحادث؛ بينما أنا، على حد قوله، عازم على إثبات براءتهم. إنني أحاول أن أكون واضحا قدر الإمكان في عرض هذه القضية الغامضة عليك من دون تفاصيل.»
تمتم السير إثيلريد من علوه الشاهق: «سيقول ذلك، هل سيفعل؟» «أخشى ذلك ... بسخط واشمئزاز لا نستطيع أنت ولا أنا أن نتصوره. إنه موظف ممتاز. ويجب ألا نضع قيدا غير ضروري على إخلاصه. تلك طريقة خاطئة دائما. علاوة على ذلك، أريد حرية مطلقة؛ أكثر حرية مما قد يكون من المستحسن منحه كبير المفتشين هيت. ليس لدي أدنى نية في أن أرحم هذا الرجل المدعو فيرلوك. أظن أنه سيندهش غاية الاندهاش عندما يجد أن صلته بهذه القضية، مهما كانت تلك الصلة، قد اتضحت لنا بهذه السرعة. لن يكون تخويفه صعبا جدا. ولكن هدفنا الحقيقي يكمن وراءه في مكان ما. أحتاج إلى سلطتك لمنحه ضمانات بسلامته الشخصية حسبما أرى مناسبا.»
قال الشخص العظيم الواقف على بساط المدفأة: «بالتأكيد. توصل إلى أكبر قدر يمكنك التوصل إليه من المعلومات؛ توصل إليها بطريقتك الخاصة.»
قال المفوض المساعد: «يجب أن أبدأ فورا دون إضاعة للوقت، هذا المساء.»
نقل السير إثيلريد إحدى يديه تحت ذيل معطفه، وأمال رأسه إلى الخلف، ناظرا إليه بثبات.
قال: «ستكون لنا جلسة في وقت متأخر الليلة.» «تعال إلى دار المجلس التشريعي بما اكتشفته إذا لم نكن قد عدنا إلى منازلنا بعد. سآمر تودلز أن ينتظر قدومك. سيأتي بك إلى غرفتي.»
كانت العائلة الكبيرة والعلاقات الواسعة التي يتمتع بها السكرتير الخاص الشاب قد جعلته يتعلق بالأمل في أن يصل إلى مرتبة جلية وسامية. وفي الوقت نفسه، اختار المحيط الاجتماعي الذي كان هو زينته في ساعات فراغه أن يلاطفه باسم التدليل المذكور آنفا. وكان السير إثيلريد، الذي كان يسمعه كل يوم (غالبا وقت الإفطار) على شفاه زوجته وبناته، قد أضفى عليه مهابة أن يناديه به بجدية.
كان المفوض المساعد متفاجئا وممتنا للغاية. «سأحضر بالتأكيد المعلومات التي سأتوصل إليها إلى دار المجلس التشريعي إذا كان لديك الوقت كي ...»
قاطعه الشخص العظيم: «لن يكون لدي الوقت. ولكني سألقاك. ليس لدي وقت الآن ... وأنت هل ستذهب بنفسك؟» «نعم يا سير إثيلريد. أظن أنها الطريقة الأفضل.»
أمال الشخص العظيم رأسه إلى الخلف أكثر، كي يبقي المفوض المساعد تحت ناظريه، حتى كاد يغلق عينيه. «هممم، أها! وكيف تقترح أن ... هل ستتنكر؟» «ليس تنكرا بالمعنى الدقيق! سأغير ملابسي بالطبع.»
كرر الرجل صاحب المقام الرفيع، بنوع من التعالي المتسم بشرود الذهن: «بالطبع.» أدار رأسه الكبير ببطء، ومن فوق كتفه رمق الساعة الرخامية الثقيلة، التي تتحرك عقاربها بدقات مسترقة وخافتة، بنظرة غير مباشرة. كان العقربان المطليان بلون الذهب قد اغتنما الفرصة وسرقا ما لا يقل عن خمس وعشرين دقيقة دون أن يلاحظ.
ازداد قليلا توتر المفوض المساعد، الذي لم يستطع أن يراهما في تلك الفترة القصيرة. ولكن الرجل المهم توجه إليه بوجه هادئ وثابت الجأش.
قال: «جيد جدا»، ثم توقف، وكأنه يتعمد ازدراء الساعة الرسمية. «ولكن ما الذي دفعك بداية في هذا الاتجاه؟»
بادره المفوض المساعد قائلا: «لدي دائما رأيي الخاص.» «آه. نعم! رأي. بالطبع هو ذا. ولكن ماذا كان الدافع الفوري؟» «ماذا بوسعي أن أقول، يا سير إثيلريد؟ عداء رجل جديد للأساليب القديمة. رغبة في معرفة شيء مباشرة. بعض من نفاد الصبر. إنه عملي القديم، ولكن روتين العمل مختلف. لقد كان يزعجني قليلا في مكان أو مكانين حساسين.»
قال الرجل صاحب المقام الرفيع بلطف، وهو يمد يده، الناعمة الملمس، على الرغم من كبر حجمها وقوتها مثل يد مزارع أصيل: «آمل أن تتدبر أمورك هناك.» صافحه المفوض المساعد وانصرف.
في الغرفة الخارجية قابله تودلز، الذي كان ينتظر جالسا على حافة المكتب، وهو يكبح شعور المرح المتأصل في طبعه.
سأل باهتمام مرح: «ماذا إذن؟ هل أنت راض؟»
أجاب المفوض المساعد: «تمام الرضا. سأظل ممتنا لك على الدوام.» بدا وجهه الطويل متجهما بالمقارنة مع الآخر الذي كانت الجدية غريبة عليه، إذ بدا دوما على وشك القهقهة والضحك. «حسن إذن. ولكن بجدية، لا يمكنك أن تتخيل مدى غضبه من الهجمات على مشروعه لتأميم مصايد الأسماك. إنهم يطلقون عليه بداية الثورة الاجتماعية. لا شك في أنه إجراء ثوري. ولكن هؤلاء الناس يفتقرون إلى اللياقة. الهجمات الفردية ...»
قال المفوض المساعد: «لقد قرأت الصحف.» «مشينة؟ ها؟ وليس لديك فكرة عن كم العمل الذي عليه أن ينجزه كل يوم. إنه يؤديه كله بمفرده. يبدو أنه ليس بوسعه أن يثق في أي شخص بشأن هذه المصايد.»
تدخل المفوض المساعد بقوله: «ومع ذلك، فقد منحني نصف ساعة كاملة للنقاش حول قضيتي الصغيرة.» «صغيرة! أهي كذلك؟ أنا سعيد لسماعي ذلك. ولكن من المؤسف إذن أنك لم تنأ به عنها. هذا الصراع يأخذ قدرا كبيرا للغاية من طاقته. بدأ الرجل يشعر بالإنهاك. أشعر بذلك عندما يتكئ على ذراعي في أثناء سيرنا. ولكن، هل يشعر بالأمان في الشوارع؟ أمر مولينز رجاله بالمسير إلى هنا بعد ظهر اليوم. يوجد شرطي يقف عند كل عمود إنارة، وكل شخص نلتقي به بين تلك البقعة وبالاس يارد هو «محقق» بلا شك. سيؤثر الأمر على أعصابه عما قريب. أود أن أقول، من المستبعد أن يلقي هؤلاء الأنذال الأجانب شيئا عليه، هل يمكن ذلك؟ ستكون كارثة وطنية. لا يمكن للدولة أن تستغني عنه.»
اقترح المفوض المساعد بجدية: «ولا عنك. إنه يتكئ على ذراعك. ستموتان معا.» «أليست طريقة سهلة لشاب حتى يخلده التاريخ؟ لم يتعرض كثير من الوزراء البريطانيين للاغتيال لدرجة تجعلها حادثة بسيطة. ولكن جديا الآن ...» «يؤسفني القول إنه إن كنت تريد أن يخلد اسمك في التاريخ، فسيكون عليك تحقيق إنجاز ما. في الحقيقة، لا يوجد أي خطر على كليكما سوى الإرهاق.»
احتفى تودلز المتعاطف بهذا المنفذ بضحكة مكتومة.
قال بمزاح عفوي: «مصايد الأسماك لن تقتلني. أنا معتاد على العمل حتى وقت متأخر.» ولكن لما شعر بندم فوري، بدأ يتظاهر بمظهر رجل الدولة المتقلب المزاج، وكأنما يرتدي قفازا. «سوف يستوعب ذكاؤه المتقد أي قدر من العمل. لا أخشى سوى انفلات أعصابه. فتلك العصابة ذات الفكر الرجعي، وعلى رأسها المدعو تشيزمان البذيء والهمجي ذاك، تهينه كل ليلة.»
تمتم المفوض المساعد: «إذا كان سيصر على تفجير ثورة!»
استشاط تودلز الثوري غضبا أمام نظرة المفوض المساعد الهادئة والتأملية، واحتج قائلا: «لقد حان الوقت، وإنه الرجل الوحيد العظيم بما يكفي لهذا العمل.» في مكان ما على مسافة بعيدة في الردهة دق جرس باستعجال، وبيقظة متفانية أصغى الشاب بانتباه إلى الصوت. صاح همسا: «إنه مستعد للذهاب الآن.» واختطف قبعته، واختفى من الغرفة.
خرج المفوض المساعد من باب آخر بطريقة أقل مرونة. عبر الطريق العريض مرة أخرى، ومشى في الشارع الضيق، وعاود الدخول إلى مبنى إدارته مسرعا. ظل يمشي بهذه الخطى الحثيثة حتى وصل إلى باب غرفته الخاصة. وقبل أن يغلق الباب خلفه، وقعت عيناه على مكتبه. تصلب في مكانه للحظة، ثم سار إليه، ونظر إلى الأرضية من حوله، وجلس على كرسيه، ورن جرسا، وانتظر. «هل غادر كبير المفتشين هيت؟» «نعم يا سيدي. غادر منذ نصف ساعة.»
أومأ المفوض المساعد برأسه. وقال: «حسنا.» وبينما كان جالسا من دون حراك، وقبعته منحسرة عن جبهته، فكر في أن هذه هي صفاقة هيت اللعينة المعهودة للفوز بهدوء بالدليل المادي الوحيد. لكنه فكر في هذا من دون عدائية. سيسمح الموظفون الكبار وذوو القامات لأنفسهم بذلك. إن قطعة قماش المعطف المخيط عليها العنوان لم تكن بالتأكيد شيئا يمكن تركه. بعد أن طرد من عقله هذا المظهر من مظاهر عدم الثقة من جانب كبير المفتشين هيت، كتب ملاحظة إلى زوجته وأرسلها إليها، طالبا منها أن تبلغ اعتذاره إلى السيدة العظيمة التي ترعى ميكايليس، والتي كانا على موعد عشاء معها في تلك الأمسية.
ارتدى السترة القصيرة والقبعة المستديرة المنخفضة في تجويف في جدار الغرفة تغطيه ستارة، ويحتوي على حوض لغسل الأيدي وصف من المشاجب الخشبية ورف، مما أظهر على نحو عجيب طول وجهه الأسمر المتجهم. عاد إلى الغرفة ذات الإضاءة الكاملة وهو يبدو مثل صورة دون كيخوتي الهادئ المتأمل ذي العينين الغائرتين السوداوين المتحمستين والأسلوب الحريص. غادر مسرح عمله اليومي بسرعة وكأنه طيف خفي. كان نزوله إلى الشارع يشبه النزول إلى حوض سمك لزج فرغ منه الماء. أحاطت به رطوبة موحشة ضبابية. كانت جدران المنازل مبتلة، والطين يلمع في الطريق المعبد مثل الفوسفور، ولما خرج إلى شارع ستراند من شارع ضيق بجانب محطة تشيرينج كروس، اندمج في عبقرية المكان. ربما لم يكن سوى شخص أجنبي غريب آخر من الأشخاص الذين يمكن رؤيتهم في إحدى الأمسيات يحومون هناك حول الزوايا المظلمة.
وصل إلى حافة الرصيف ووقف منتظرا. كانت عيناه المتمرستان قد تبينتا وسط الحركات المربكة للأضواء والظلال المتدفقة في الطريق حنطورا يتقدم ببطء مقتربا. لم يشر إلى سائق الحنطور؛ ولكن عندما وصلت الدرجة المنزلقة بطول الرصيف إلى قدمه، ركب في العربة بمهارة أمام العجلة الكبيرة الآخذة في الدوران، وتحدث مفصحا عن وجهته من خلال نافذة صغيرة تشبه بابا خفيا قبل أن يدرك الرجل الذي ينظر أمامه بثبات على كرسيه أن راكبا بأجرة قد صعد إلى حنطوره.
لم تكن رحلة طويلة. انتهت بإشارة مفاجئة، في مكان غير محدد، بين عمودي إنارة أمام مبنى كبير للأقمشة، صف طويل من المحلات كانت أبوابها مغطاة بالفعل بألواح من الصاج المتعرج طوال الليل. عندما دفع عملة معدنية من النافذة الصغيرة، انزلقت الأجرة من يد السائق، مما خلف شعورا غريبا وغير مألوف في ذهنه. لكن حجم العملة المعدنية كان مرضيا عندما لمسها، وإذ لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ظل مطمئنا، لا يكدره الخوف من أن يجد أنها تحولت إلى ورقة عديمة القيمة في جيبه. ولأنه لم يكن له علاقة بقضية الأجور بسبب طبيعة عمله، لم يفكر كثيرا في انعكاساتها. تكشفت فلسفته لما شد بحدة لجام حصانه ليحول اتجاهه.
في تلك الأثناء، كان المفوض المساعد يبلغ طلبه لنادل في مطعم إيطالي صغير عند الناصية، أحد تلك الفخاخ المنصوبة للجياع، مكان طويل وضيق، يصطاد زبائنه بمنظر المرايا والشراشف البيضاء؛ ليس فيه فسحة، ولكن له جوه الخاص، جو من فن الطبخ القائم على الغش الذي يستهزئ بالجنس البشري الذليل في أشد احتياجاته البائسة إلحاحا. في هذا الجو غير الأخلاقي، فكر المفوض المساعد في مغامرته، وبدا له أنه يفقد المزيد من هويته. تملكه شعور بالوحدة، وبحرية آثمة. ولكنه كان شعورا ممتعا إلى حد ما. بعدما دفع ثمن وجبته الصغيرة، ووقف منتظرا الباقي، رأى نفسه في لوح من الزجاج، وأذهله مظهره الغريب. تأمل صورته بنظرة حزينة وفضولية، ثم بإلهام مفاجئ رفع ياقة سترته. بدا له هذا التعديل جديرا بالثناء، وأكمله بفتل طرفي شاربه الأسود إلى الأعلى. سر بهذا التعديل المتقن في مظهره الشخصي الذي أحدثته هذه التغييرات الصغيرة. قال مفكرا: «هذا سيؤدي الغرض جدا.» «سأبتل قليلا، بعض الماء ...»
أدرك وجود النادل عند مرفقه ووجود كومة صغيرة من العملات المعدنية على حافة الطاولة أمامه. راقب النادل النقود بعين، أما عينه الأخرى فتتبعت فتاة طويلة، ليست شابة جدا، من ظهرها، وهي تمر وصولا إلى طاولة بعيدة في مكان بعيد عن الأنظار ومنعزل تماما. بدت زبونة معتادة.
في طريق خروجه، لاحظ المفوض المساعد بينه وبين نفسه أن مرتادي المكان قد فقدوا في اعتيادهم على تلك الأكلات المغشوشة كل خصائصهم الوطنية والخاصة. وكان هذا غريبا؛ لأن المطعم الإيطالي هو مؤسسة بريطانية بطريقة غريبة. لكن هؤلاء الأشخاص تجردوا من جنسيتهم مثل الأطباق الموضوعة أمامهم بحالة من الاحترام الذي لم يكن يحمل طابعا معينا. كذلك بطريقة ما لم تحمل شخصياتهم أي طابع معين، سواء كان مهنيا أو اجتماعيا أو عرقيا. بدا الأمر وكأنهم خلقوا من أجل المطعم الإيطالي ، هذا إن لم يكن المطعم الإيطالي قد أنشئ من أجلهم بالصدفة. لكن هذه الفرضية الأخيرة كانت مستبعدة؛ لأنه لا يمكن للمرء أن يضعهم في أي مكان خارج تلك المؤسسات الخاصة. فلم يكن المرء يلتقي بهؤلاء الأشخاص الغامضين في أي مكان آخر. استحال عليه أن يكون فكرة دقيقة عن أعمالهم التي يمتهنونها نهارا وعن الأماكن التي يأوون إليها ليلا. وكان هو نفسه قد أصبح في موضع غير موضعه. ما كان لأحد أن يخمن مهنته. وفيما يتعلق بذهابه إلى النوم، كان ثمة شك حتى في عقله هو. ليس فيما يخص مكان إقامته نفسه بالتأكيد، ولكن كان الأمر يتعلق إلى حد كبير بالوقت الذي سيعود فيه إلى هناك. استحوذ عليه شعور ممتع بالاستقلالية عندما سمع صوت الأبواب الزجاجية وهي تتأرجح خلف ظهره بنوع من الجلجلة المختلة المرتبكة. تقدم في الحال إلى كتلة ضخمة من الطين الموحل والجص الرطب المرصع بالمصابيح، والمغلف بسواد ليل لندن الرطب الذي تغمره قطرات الماء.
لم يكن شارع بريت ببعيد جدا. كان يتفرع ويضيق من جانب فسحة مفتوحة مثلثة الشكل محاطة بمنازل مظلمة وغامضة، ومنشآت تجارية صغيرة يهجرها أصحابها في الليل. لم يكن يوجد سوى متجر فاكهة على الناصية، يصدر وهجا ساطعا من الضوء والألوان. وراءه كانت العتمة مخيمة، ويخلو الشارع إلا من قلة من الناس اختفوا بعد خطوة لما تجاوزوا أكوام البرتقال والليمون التي يسطع عليها الضوء. لم يكن ثمة صدى لوقع أقدام. لن يسمع صوتها مجددا. باهتمام، ومن بعيد، راقب رئيس إدارة الجرائم الخاصة المغامر هؤلاء المارة وهم يختفون. شعر بفرح، وكأنه تعرض لكمين وحيدا تماما في غابة على بعد آلاف الأميال من المكاتب الإدارية والمحبرات الرسمية. يبدو أن هذا الفرح وتشتت الأفكار قبل مهمة على قدر من الأهمية يثبت أن هذا العالم في نهاية الأمر ليس شأنا ذا بال. إذ لم تكن التركيبة النفسية للمفوض المساعد تميل إلى التهور.
ظهر شرطي الدورية وهو يمر بجدية وحيوية أمام أكوام البرتقال والليمون البراقة، ودخل شارع بريت دون إسراع . ظل المفوض المساعد متواريا عن الأنظار، يترقب عودته، وكأنه فرد من الفئة الإجرامية. ولكن بدا أن هذا الشرطي قد انضم إلى قوة الشرطة التابع لها ولن يعود أبدا. لم يعد مطلقا؛ لا بد أنه خرج إلى الطرف الآخر في شارع بريت.
بعد أن توصل المفوض المساعد إلى هذا الاستنتاج، دخل بدوره إلى الشارع، ووجد عربة كبيرة لنقل البضائع تجرها خيول متوقفة أمام النوافذ الزجاجية المضيئة بإضاءة خافتة لمطعم رخيص يقدم الطعام لأصحاب العربات التي تجرها الخيول. كان الرجل يجدد نشاطه بالداخل، وكانت الخيول خافضة رءوسها الكبيرة إلى الأرض، وتتناول غذاءها بثبات من أكياس العلف المثبتة إلى رءوسها. وهناك على الجانب الآخر من الشارع، توهم أنه رأى بقعة أخرى من ضوء خافت ينبعث من واجهة متجر السيد فيرلوك، المعلقة عليها صحف، وتمتلئ بأكوام غير محددة المعالم من صناديق مصنوعة من الورق المقوى وأشكال من الكتب. وقف المفوض المساعد يراقب واجهة المتجر من الناحية الأخرى للطريق. لا يمكن أن يكون ثمة خطأ على الإطلاق. إلى جانب النافذة الأمامية، المثقلة بظلال أشياء يتعذر وصفها، سمح الباب الموارب بانبعاث شعاع واضح وضعيف من مصباح غازي بالداخل إلى رصيف الشارع.
خلف المفوض المساعد، أصبحت العربة والخيول كتلة واحدة، بدت وكأنها شيء حي، وحش أسود مربع الظهر يسد نصف الشارع، بأصوات خطى مفاجئة لحدوات حديدية، وجلجلة قوية، وأنفاس ثقيلة تنفث الهواء. واجه الوهج الاحتفالي الصاخب المشئوم لحانة كبيرة وعامرة في الطرف الآخر من شارع بريت عبر طريق واسع. بدا أن هذا الحاجز من الأضواء المتوهجة، الذي تباين مع الظلال المتجمعة حول المسكن المتواضع الذي كان يضم سعادة السيد فيرلوك الأسرية، زاد من غموض الشارع، وجعله أكثر تجهما وكآبة وشؤما.
الفصل الثامن
بعد إلحاح متواصل من جانب والدة السيدة فيرلوك على العديد من أصحاب الحانات المرخصين (الذين كانوا يوما ما معارف زوجها الراحل المنكود) تحول اهتمامهم الفاتر إلى نوع من الحماس، وضمنت أخيرا قبولها في إحدى دور المسنين التي أسسها صاحب حانة ثري لإيواء الأرامل المعوزات المنتميات إلى المهنة.
كانت المرأة العجوز قد سعت بسرية وتصميم إلى هذه الغاية التي تراءت لها بفطنة نابعة من قلبها المهموم. كان ذلك عندما لم تستطع ابنتها ويني أن تمنع نفسها من أن تبدي للسيد فيرلوك ملاحظة عابرة هي أن «أمي أنفقت في الأسبوع الماضي نصف كرونة وخمسة شلنات كل يوم تقريبا على أجرة عربات الأجرة.» لكنها لم تصدر هذه الملاحظة عن كره أو ضيق من أمها. كانت ويني تحترم شيخوخة والدتها. ولكن كل ما في الأمر أنها اندهشت قليلا من هذا الهوس المفاجئ بالرغبة في التنقل. أما السيد فيرلوك، الذي كان عظيما، فقد تذمر بنفاد صبر من الملاحظة لأنها قطعت حبل أفكاره. كانت هذه الأفكار متكررة وعميقة وطويلة؛ إذ كانت تتعلق بأمر أهم من خمسة شلنات. لا ريب أنها كانت أهم، وبعيدا عن كل المقارنات، وأصعب، على نحو لا يقارن، في تناولها من جميع الجوانب بصفاء ذهن فلسفي.
بعد أن وصلت العجوز القوية إلى غرضها في سرية وذكاء، أفصحت عما في جعبتها للسيدة فيرلوك. شعرت في روحها بنشوة النصر وبخوف في قلبها. ارتجفت من داخلها لأنها شعرت بخشية وإكبار للطبيعة الهادئة والمتحفظة التي كانت تتسم بها ابنتها ويني، التي كان استياؤها رهيبا ويتخذ أشكالا متنوعة من الصمت المخيف. ولكنها لم تسمح لمخاوفها الداخلية أن تسلبها ميزة الهدوء المهيب البادي على مظهرها الخارجي بسبب ذقنها التي تراكمت فيها الدهون وضخامة جثتها وشلل ساقيها.
لم تتوقع السيدة فيرلوك الخبر الصادم، مما دفعها إلى قطع الأعمال المنزلية التي كانت عاكفة عليها، ولم تكن هذه عادتها عند مخاطبتها. كانت تنفض الغبار عن الأثاث في غرفة المعيشة خلف المتجر. وأدارت رأسها باتجاه أمها.
صاحت في ذهول مصدوم: «لأي سبب تريدين فعل ذلك؟»
لا بد أن الصدمة كانت شديدة لدرجة جعلتها تحيد عن ذلك القبول المتحفظ وغير الفضولي للحقائق الذي كان مصدر قوتها ومنجاتها في الحياة. «ألم يتوفر لك ما يكفي من سبل الراحة هنا؟»
كانت قد انغمست في تلك الأسئلة، ولكن في اللحظة التالية حافظت على ثبات سلوكها بأن عادت إلى نفض الغبار، بينما جلست المرأة العجوز مرتعبة وصامتة مرتدية قبعتها البيضاء وشعرها المستعار الأسود الباهت.
انتهت ويني من نفض الغبار عن الكرسي، ومررت منفضة الغبار على الأريكة المصنوعة من خشب الماهوجني وشعر الخيل التي يحب السيد فيرلوك أن يرتاح عليها وهو يرتدي قبعته ومعطفه. كانت عازمة على العمل، ولكنها سمحت لنفسها حينئذ بأن تطرح سؤالا آخر. «كيف استطعت بحق الرب أن تجدي تلك الدار يا أمي؟»
كان مبدأ السيدة فيرلوك هو التجاهل، ولكن لم يكن ثمة ضير من هذا الفضول، بما أنه لن يؤثر في حقيقة الأمور. لم يصبها الفضول إلا بشأن الوسائل. رحبت المرأة العجوز بالسؤال بلهفة إذ كان يطرح شيئا يمكن التحدث عنه بقدر كبير من الصدق.
منحت ابنتها إجابة مستفيضة تزخر بالأسماء وثرية بالتعليقات الجانبية عن نوائب الزمان التي ظهرت آثارها في تغير ملامح البشر. كانت الأسماء في المقام الأول عبارة عن أصحاب حانات مرخصين «أصدقاء والدك البائس يا عزيزتي.» أسهبت في الإطراء على لطف واحد من صانعي البيرة الكبار وعلى كرمه، وعلى بارونيت وأحد أعضاء البرلمان، ورئيس مجلس محافظي المؤسسة الخيرية. عبرت عن نفسها بتلك الحرارة؛ لأن سكرتيره الخاص سمح لها بموعد لإجراء مقابلة «إنه رجل شديد التهذيب، وكل ملابسه سوداء، وله صوت رقيق وحزين، لكنه رفيع وهادئ جدا. كان يبدو وكأنه طيف يا عزيزتي.»
أطالت ويني عملية نفض الغبار إلى أن انتهت القصة، وخرجت من غرفة المعيشة إلى المطبخ (الذي تنزل إليه درجتين) بطريقتها المعتادة ومن دون أدنى تعليق.
ذرفت والدة السيدة فيرلوك بعض الدموع علامة على ابتهاجها للطف ابنتها في هذه المسألة المروعة، ثم ألمحت إلى ذكائها فيما يتعلق بأثاث المنزل لأنه كان ملكها في الأساس؛ ولكنها كانت تتمنى في بعض الأوقات أن لو لم يكن كذلك. إن البطولة أمر حسن جدا، ولكن ثمة ظروف ربما يكون عندها التخلص من بعض الطاولات والكراسي والأسرة النحاسية، وما إلى ذلك، أمرا ضخما وله عواقب وخيمة وكارثية. طلبت بعض الأثاث لنفسها ، لأن المؤسسة الخيرية التي ضمتها إلى كنفها الرحيم بعد كثير من الإلحاح لم تكن توفر للمشمولين برعايتها سوى أرضية خشبية وجدران مغطاة بورق رخيص. مرت طيبة قلبها، التي قادتها إلى اختيار أقل الأغراض قيمة وأكثرها تداعيا، دون ملاحظة من ويني لأن فلسفة الأخيرة كانت تتمثل في تجاهل باطن الحقائق؛ وافترضت أن أمها قد أخذت أفضل ما يناسبها. أما السيد فيرلوك، فقد عزله تأمله الشديد عزلا تاما، مثل سور صيني، عن ظواهر هذا العالم المليء بالجهد الذي لا طائل منه وبالمظاهر الوهمية.
بعدما حددت اختياراتها، بات التخلص من الباقي مسألة محيرة بطريقة ما. بالطبع كانت ستتركه في شارع بريت. ولكن كان لديها ولدان. تأمنت لويني سبل العيش الكريم بزواجها العقلاني من ذلك الزوج الرائع، السيد فيرلوك. أما ستيفي فكان معدما، كما كان غريب الأطوار بعض الشيء. كان لا بد من النظر في موقفه قبل مزاعم عدالة القانون وحتى قبل دعوات الإجحاف. لن تكون حيازة الأثاث إعالة بأي حال من الأحوال. ينبغي لهذا الصبي البائس أن يحصل عليه. ولكن إعطاءه له سيكون بمثابة عبث مع وضعه القائم على التبعية الكاملة. كان استحقاقا كانت تخشى إضعافه. علاوة إلى ذلك، قد تتسبب مشاعر السيد فيرلوك في أن تجعله لا يطيق أن يعترف بالفضل لصهره على الكراسي التي كان يجلس عليها. في تجربتها الطويلة مع المستأجرين، كانت والدة السيدة فيرلوك قد كونت فكرة سيئة عن الطبيعة البشرية وأخرجت من رأسها فكرة وجود جانب طيب لها. ماذا لو قرر السيد فيرلوك فجأة أن يأمر ستيفي بأن يأخذ عصيه التي يحبها ويخرجها من المكان؟ من ناحية أخرى، فإن التقسيم، مهما أجري بعناية فقد يعطي مبررا للإساءة إلى ويني. كلا، يجب أن يبقى ستيفي معدما ومحتاجا إلى من يعوله. وعندما حانت لحظة مغادرتها لشارع بريت، قالت لابنتها: «لا حاجة إلى الانتظار حتى يحين أجلي، أليس كذلك؟ كل شيء أتركه هنا هو ملك لك الآن بالكامل يا عزيزتي.»
استمرت ويني، وهي واقفة صامتة خلف أمها، وقبعتها فوق رأسها، في ترتيب طوق عباءة المرأة العجوز. حملت حقيبة يدها ومظلة بوجه خال من التعبير. كان الوقت قد حان لإنفاق مبلغ قدره ثلاثة شلنات وستة بنسات على ما قد يفترض أن يكون آخر سيارة أجرة تستقلها والدة السيدة فيرلوك في حياتها. وخرجوا إلى باب المتجر.
كان من شأن العربة التي تنتظرهم أن تكون تعبيرا عن المثل القائل: «قد تكون الحقيقة أقسى من الرسوم الساخرة» لو كان يوجد مثل كهذا. زحفت عربة متهالكة يجرها حصان ضعيف على عجلات مترنحة وجلس على المقصورة سائق مشوه الخلقة. تسببت هذه الصفة الأخيرة في بعض الإحراج. لما وقعت عين والدة السيدة فيرلوك على الخطاف الحديدي المعقوف البارز من كم المعطف الذي يرتديه الرجل، فقدت فجأة شجاعتها البطولية في تلك الأيام. لم تستطع حقا أن تثق في نفسها. قالت، مترددة في المضي قدما: «ما رأيك يا ويني؟» بدت الاعتراضات الانفعالية لسائق العربة ذي الوجه الكبير وكأنها تخرج عنوة من حلق مسدود. انحنى من المقصورة التي يجلس عليها، وهمس بسخط مستتر. ما المسألة الآن؟ هل يمكن معاملة رجل بتلك الطريقة؟ احمر وجهه الكبير الوسخ من شدة الغضب وعربته متوقفة في الحيز الموحل من الشارع. واستفسر باستماتة، هل يمكن أن يمنحوه رخصة، إذا ...
أسكته شرطي الدرك بنظرة ودية؛ ثم موجها حديثه إلى السيدتين من دون احترام ملحوظ، قال: «إنه يسوق عربة أجرة منذ عشرين عاما. ولم أعرف عنه أنه تسبب في حادث قط.»
صاح السائق بنبرة هامسة محتقرة: «حادث!»
حسمت شهادة الشرطي الأمر. وتفرق التجمع الصغير المكون من سبعة أشخاص، كان معظمهم من الأطفال. تبعت ويني والدتها إلى العربة. صعد ستيفي وجلس على المقصورة. كان فمه المفتوح وعيناه الحزينتان يعبران عن حالة عقله بشأن التعاملات التي كانت قيد الحدوث. في الشوارع الضيقة، كانت سرعة تقدم الرحلة معقولة لمن هم داخل واجهات المنازل القريبة التي كانت تمر ببطء وترنح، مع اهتزاز وجلجلة عظيمين للزجاج، وكأنه يوشك على السقوط مع مرور العربة؛ وبدا الحصان الضعيف، بعدة جره الموضوعة فوق عموده الفقري البارز مصطفقة بغير إحكام حول فخذيه، وكأنه يتراقص متبخترا على حوافره بصبر متناه. لاحقا، في النطاق الأوسع من طريق وايتهول، أصبحت جميع الشواهد البصرية على الحركة غير محسوسة. استمر اهتزاز الزجاج وجلجلته بلا توقف أمام مبنى وزارة الخزانة الطويل، وبدا أن الوقت نفسه قد توقف.
أخيرا، قالت ويني: «هذا ليس حصانا جيدا جدا.»
لمعت عيناها، اللتان كانتا تحدقان إلى الأمام بثبات، في ظلمة العربة. وعلى المقصورة، أغلق ستيفي فمه الفاغر أولا، من أجل أن يصيح بجدية: «لا تفعل.»
لم ينتبه له السائق، وهو يرفع عاليا اللجام الملفوف حول الخطاف. ربما لم يسمعه. ارتفعت أنفاس ستيفي. «لا تضربه بالسوط.»
أدار الرجل ببطء وجهه المنتفخ والمتبلد المتعدد الألوان الذي يعج بشعيرات بيضاء خشنة. التمعت عيناه الصغيرتان الحمراوان بالرطوبة. اصطبغت شفتاه الكبيرتان بصبغة أرجوانية. ظلتا مطبقتين. وبظهر يده القذرة الممسكة بالسوط حك الشعر النابت على ذقنه الضخم.
قال ستيفي بعنف متلعثما: «يجب ألا تضربه. هذا يؤلمه.»
همس الآخر متشككا بتفكر: «يجب ألا أضربه بالسوط»، وعلى الفور ضرب الحصان بالسوط. فعل هذا، ليس بسبب قسوة في روحه أو شر في قلبه، وإنما لأنه كان عليه أن يجني أجرته. ولفترة من الوقت، أطلت جدران كنيسة سانت ستيفن، ذات الأبراج والقباب، في جمود وسكون عربة تمضي محدثة قعقعة. ولكنها أيضا كانت تمضي متمايلة. ولكن على الجسر كان ثمة فوضى. بدأ ستيفي فجأة في النزول من المقصورة. تعالت أصوات صياح على الرصيف، واندفع أناس يجرون إلى الأمام، وأوقف السائق العربة، وهو يهمس بلعنات السخط والذهول. أنزلت ويني النافذة، وأخرجت رأسها، بوجه شاحب كشبح. في داخل العربة، كانت والدتها تصيح بنبرة معاناة: «هل تأذى ذلك الصبي؟ هل تأذى ذلك الصبي؟»
لم يتأذ ستيفي، ولم يسقط حتى، ولكن الانفعال المعتاد كان قد سلبه القدرة على الكلام المترابط. لم يستطع فعل شيء إلا الحديث بتلعثم عند النافذة: «ثقيل للغاية. ثقيل للغاية.» وضعت ويني يدها على كتفه. «ستيفي! اصعد إلى المقصورة مباشرة، ولا تحاول النزول مرة أخرى.» «كلا. كلا. سأمشي. لا بد أن أمشي.»
لما حاول أن يذكر طبيعة تلك الضرورة، تلعثم بكلام غير مترابط. لم يكن لديه عجز جسدي يحول دون نزوته المفاجئة. كان يمكن لستيفي بسهولة أن يواكب خطوات الحصان الضعيف المترنح من دون أن تنقطع أنفاسه. ولكن أخته أبت بحسم أن تبدي موافقتها. «الفكرة! من سمع بشيء كهذا! تجري خلف العربة!» قبعت أمها، خائفة من غير حول منها ولا قوة، في داخل العربة، وتوسلت قائلة: «أوه، لا تدعيه يذهب يا ويني. سيتوه. لا تدعيه يذهب.» «بالتأكيد لن أدعه. ماذا بعد! سوف يأسف السيد فيرلوك لو سمع بهذا الهراء يا ستيفي ... أنا واثقة من ذلك. لن يكون سعيدا إطلاقا.»
أثرت فكرة أسف السيد فيرلوك وحزنه بقوة كالمعتاد على مسلك ستيفي سهل الانقياد بالأساس، وجعلته يتخلى عن كل مقاومة وعاود الصعود إلى المقصورة واليأس يعتلي وجهه.
استدار إليه سائق العربة بوجهه الضخم المستشيط غضبا بنظرة عدوانية. وقال: «لا تقدم على تجربة هذه اللعبة السخيفة مرة أخرى، أيها الشاب.»
بعدما أفصح عما بنفسه هكذا بهمس عابس، مجهدا إلى حد الخمود، تابع المضي بالعربة غارقا في التفكير بجدية. في عقله، ظلت الحادثة غامضة بعض الشيء. لكن عقله، على الرغم من أنه كان قد فقد حيويته الفطرية في سنوات خدر الجلوس الطويل متعرضا لتقلبات الطقس، لم يكن يفتقر إلى الاستقلالية أو الرجاحة. نبذ بشدة فرضية أن يكون ستيفي شابا مخمورا.
في داخل العربة كان الصمت المخيم، الذي عانت خلاله المرأتان الجالستان جنبا إلى جنب من الارتجاج والصخب والجلجلة التي كانت تحدثها العربة، قد قطع باهتياج ستيفي. رفعت ويني صوتها. «لقد فعلت ما أردت يا أمي. لا تلومي إلا نفسك إن شعرت بعدم السعادة بعد ذلك. ولا أظن أنك ستكونين سعيدة. لا أظن ذلك. ألم تكوني مرتاحة معنا في المنزل؟ أيا كان ما سيظنه الناس بنا، أترمين نفسك هكذا في مؤسسة خيرية؟»
صاحت المرأة العجوز بجدية وعلا صوتها فوق صوت الضوضاء: «يا بنيتي، كنت أبر البنات بي. أما السيد فيرلوك ... فلا يوجد ...»
لم تسعفها الكلمات لما أتت على ذكر فضائل السيد فيرلوك، فرفعت عينيها الهرمتين الدامعتين إلى سقف العربة. ثم حولت رأسها بحجة النظر من النافذة، وكأنما تريد أن تستنتج مدى تقدم العربة بهم. كان تقدمها طفيفا، وتابعت مسيرها بالقرب من الرصيف. كان غسق الليل، ليل جنوب لندن القذر، والمشئوم، والصاخب، والقانط، والقاسي قد حل عليها في آخر رحلة لها بعربة أجرة. في ضوء مصابيح الغاز للمتاجر ذات الواجهات المنخفضة، توهجت وجنتاها بمسحة من لون برتقالي تحت قلنسوتها ذات اللونين الأسود والبنفسجي.
كان لون بشرة والدة السيدة فيرلوك قد اصفر بسبب أثر التقدم في العمر ومن قابليتها الطبيعية للإصابة بالصفراء، وساعد على ذلك تجارب حياة صعبة وقلقة، في البداية كزوجة، ثم أرملة. كانت بشرتها من النوع الذي تعلوه مسحة من لون برتقالي حينما تتورد وجنتاها خجلا. وكان وجه هذه المرأة، المتواضعة حقا ولكنها صلبة أمام لهيب الشدائد، قد توردت وجنتاه أمام ابنتها، في عمر لا تتوقع فيه حمرة الخجل. في عزلة عربة ذات عجلات أربع، وفي طريقها إلى دار خيري (واحد من صف من الأبنية) ربما يكون، بصغر مساحته وبساطة تجهيزاته، قد صمم بلطف كي يكون مكانا من أجل التدريب على أوضاع القبر الأكثر ضيقا، اضطرت إلى أن تخفي عن ابنتها تورد وجنتيها ندما وخجلا.
ما الذي سيظنه الناس؟ كانت تعرف جيدا جدا ما يظنون، الناس الذين كانت ويني تقصدهم؛ أصدقاء زوجها القدامى، وآخرين غيرهم، الذين كانت قد استجدت اهتمامهم بنجاح باهر. لم تكن تعرف من قبل كم هي جيدة كمتسولة. لكنها أحسنت تخمين الاستنتاج الذي استوحي من طلبها. بناء على تلك الحساسية الآخذة في التقلص، التي كانت موجودة جنبا إلى جنب مع وحشية عدوانية في الطبيعة الذكورية، لم يتماد كثيرا في الاستفسارات حول ظروفها. كانت قد كبحتها بضغط ظاهر على شفتيها وإظهار لبعض الانفعال عاقدة العزم على الصمت البليغ. ومن شأن الرجال أن يصبحوا فجأة غير فضوليين تبعا للأسلوب المتبع في جنسهم. هنأت نفسها أكثر من مرة على عدم تعاملها في هذا الأمر مع النساء، اللواتي من طبيعتهن أنهن أكثر قسوة وشغفا بالتفاصيل، وكن سيحرصن على أن يطلبن منها أن يعرفن بدقة أي نوع من السلوك غير الطيب من قبل ابنتها وزوج ابنتها دفعها إلى تلك النهاية الحزينة. لم يحدث ذلك إلا أمام سكرتير صاحب مصنع البيرة الكبير وعضو البرلمان ورئيس المؤسسة الخيرية، الذي شعر، وهو يؤدي دور مديره، بأنه يتعين عليه أن يكون فضوليا حسبما يمليه ضميره حيال الظروف الحقيقية لمقدمة الطلب، فانهمرت دموعها بالنحيب على الفور وبصوت عال وكأنها امرأة في موقف حرج. بعدما أخذ الرجل الرفيع المهذب يتأملها بشيء من «الارتباك الشديد»، تخلى عن موقفه تحت ستار عبارات مهدئة. يجب ألا تشعر بالكرب. لم تنص وثيقة المؤسسة الخيرية على «الأرامل من دون أطفال» مطلقا. في الواقع، لم تستبعدها بأي شكل من الأشكال. ولكن السلطة التقديرية للجنة لا بد أن تكون مستنيرة. يمكن للمرء أن يفهم جيدا عدم رغبتها في أن تكون عبئا على أحد، وما إلى ذلك. عندئذ، ذرفت والدة السيدة فيرلوك مزيدا من الدموع بقوة أكبر، مما أصابه بخيبة أمل شديدة.
كانت دموع تلك الأنثى الضخمة، التي كانت تضع شعرا مستعارا أسود مغبرا وترتدي فستانا حريريا قديما مزينا بدانتيل قطني ذي لون أبيض متسخ، تنم عن كرب حقيقي. لقد بكت لأنها كانت امرأة شجاعة ومنعدمة الضمير ومفعمة بالحب لولديها. كثيرا ما يضحى بالفتيات من أجل رفاهية الأولاد. في هذه الحالة، كانت تضحي بويني. وبطمس الحقيقة، كانت تفتري عليها. بالطبع، كانت ويني مستقلة ولم تكن بحاجة لأن تهتم بآراء أناس لن تراهم ولن يروها أبدا؛ في حين أن ستيفي البائس لم يكن يملك من حطام الدنيا سوى شجاعة والدته وانعدام ضميرها.
تلاشى بمرور الوقت الشعور الأول بالأمان الذي أعقب زواج ويني (فلا شيء يدوم)، وفي عزلة والدة السيدة فيرلوك في غرفة النوم الخلفية، تذكرت ما تعلمته من انطباعات تلك التجربة التي يفرضها العالم على امرأة أرملة. لكنها تذكرته من دون مرارة لا جدوى منها؛ إذ كان ما لديها من استسلام يوازي تقريبا ما كانت تملكه من كرامة. تدبرت بصبر أن كل شيء في هذا العالم يضمحل، ويتلاشى؛ وأن طريق الإحسان ينبغي أن يمهد لمن لديهم النية الحسنة؛ وأن ابنتها ويني كانت أختا مخلصة جدا وزوجة واثقة من نفسها حقا. فيما يتعلق بتفاني ويني باعتبارها شقيقة، ذبل فتورها. استثنت ذلك الشعور من قاعدة الاضمحلال التي تؤثر على كل ما هو بشري وبعض الأشياء الإلهية. لم تستطع ألا تفعل، وكان عدم فعلها ذلك سيخيفها إلى أقصى حد. ولكن بالنظر إلى ظروف زواج ابنتها، نبذت كل الأوهام المغرية نبذا قاطعا. تبنت وجهة نظر بعيدة عن المشاعر وعقلانية مفادها أنه كلما قل الضغط على لطف السيد فيرلوك، كان من المرجح أن يمتد أثره لفترة أطول. أحب هذا الرجل العظيم زوجته، بالطبع، ولكنه، بلا شك كان من شأنه أن يفضل أن يبقي أقل عدد ممكن من أقربائها بما كان يتسق مع الإظهار المناسب لتلك المشاعر. سيكون من الأفضل لو ركز كل تأثير تلك المشاعر على ستيفي البائس. وصممت المرأة العجوز الجسور على الابتعاد عن ولديها معتبرة ذلك عملا من أعمال التفاني وخطوة نابعة من تخطيط عميق.
تمثلت «فضيلة» هذا التخطيط (كانت والدة السيدة فيرلوك بارعة في طريقتها)، في أن هذه الخطوة سوف تعزز ذريعة ستيفي الأخلاقية. لم يكن الصبي البائس - الطيب والمفيد، حتى لو كان غريب الأطوار بعض الشيء - يمتلك اعتبارا كافيا. كان قد استحوذ عليه على يد والدته، بطريقة تماثل نوعا ما الطريقة التي استحوذ بها على الأثاث في منزل بلجرافيا، كما لو كان ذلك على أساس أنه ينتمي إليها حصريا. سألت نفسها ما الذي سيحدث (إذ كانت والدة السيدة فيرلوك خيالية إلى حد ما) عندما أموت؟ وارتعبت عندما سألت نفسها هذا السؤال. كانت ترتعب أيضا عندما تفكر في أنها لن تمتلك وسيلة لمعرفة ما حدث لذلك الفتى البائس. ولكن بنقل تبعيته إلى أخته، بالرحيل بتلك الطريقة، منحته ميزة أن يكون في وضعية تبعية مباشرة. كان ذلك أدق تصديق على جسارة والدة السيدة فيرلوك وانعدام ضميرها. في الحقيقة كان هجرها للمكان ترتيبا من أجل استقرار ولدها طيلة حياته. قدم آخرون تضحيات مادية من أجل غايات كتلك، وقد فعلت هي الأخرى بتلك الطريقة. كانت الطريقة الوحيدة. إضافة إلى ذلك، ستكون قادرة على أن ترى كيف سارت الأمور. وسواء خيرا أم شرا، فستتجنب الشكوك الرهيبة وهي على فراش الموت. ولكن الأمر كان صعبا، صعبا، صعبا للغاية.
كانت العربة تهتز وتحدث جلبة؛ في الحقيقة، كانت جلبتها استثنائية تماما. بسبب عنف اهتزازها وضخامتها، زال كل إحساس بتقدمها إلى الأمام؛ وكان التأثير هو أن يتعرض المرء للاهتزاز في أداة ثابتة تشبه أداة من العصور الوسطى للمعاقبة على جريمة ما، أو مثل اختراع حديث للغاية لعلاج كسل في الكبد. كان الأمر مؤلما للغاية؛ وبدا علو صوت والدة السيدة فيرلوك وكأنه عويل من الألم. «أعرف يا بنيتي أنك ستأتين لزيارتي كلما سنحت لك الفرصة. أليس كذلك؟»
ردت ويني باقتضاب وهي تحملق أمامها مباشرة: «بالطبع.»
واهتزت العربة أمام متجر مشبع بالبخار والزيوت من لهيب الغاز ورائحة السمك المقلي.
علا نحيب المرأة العجوز مرة أخرى. «ويجب يا بنيتي، أن أرى هذا الفتى البائس كل يوم أحد. لن يمانع في قضاء اليوم مع أمه العجوز ...»
صرخت ويني بتبلد: «يمانع! لا أظن ذلك. سيفتقدك هذا الفتى البائس كثيرا. أتمنى لو أنك كنت فكرت في ذلك قليلا يا أمي.»
لم تفكر في ذلك! ابتلعت المرأة الجسور شيئا هزليا ومزعجا وكأنها ابتلعت كرة بلياردو كانت تحاول أن تخرج من حلقها. جلست ويني صامتة عابسة لفترة من الوقت، في مقدمة العربة، ثم قطعت صمتها، وتحدثت بنبرة غير معتادة منها: «أتوقع أنني سأعاني الأمرين معه في البداية، سيكون مضطربا إلى درجة ...» «مهما فعل، لا تدعيه يزعج زوجك يا عزيزتي.»
ومن ثم تناقشتا نقاشا متقاربا حول احتمالات وضع جديد. واهتزت العربة. أعربت الوالدة عن بعض الشكوك لديها. هل يمكن الوثوق في أن يمشي ستيفي كل ذلك الطريق وحده؟ أكدت ويني على أن «شرود ذهنه» بات أقل بكثير الآن. اتفقتا على ذلك . لا يمكن إنكار هذا. بات أقل بكثير، نادرا جدا. كانت كل واحدة منهما تخاطب الأخرى هتافا في جلجلة العربة بمرح نسبي. ولكن فجأة اندفع قلق الأم من جديد. كان يتعين عليه استقلال حافلتين بينهما مسافة سير قصيرة على الأقدام. كان هذا أمرا بالغ الصعوبة! استسلمت المرأة العجوز للحزن والذعر.
حملقت ويني أمامها. «لا تزعجي نفسك هكذا يا أمي. بالطبع لا بد أن تريه.» «كلا يا بنيتي. سأحاول ألا أفعل.»
مسحت عينيها المغرورقتين بالدموع. «ولكن ليس بوسعك أن تجدي فسحة من الوقت كي تأتي معه، وإذا نسي نفسه وضل طريقه وتحدث إليه أحد بنبرة حادة، فربما ينسى اسمه وعنوانه، وسيظل تائها لأيام وأيام ...»
اعتصر قلبها ألما تصور وجود ستيفي البائس في إصلاحية الأحداث، حتى لو دخلها وقت التحقيقات فقط. لأنها كانت امرأة معتدة بنفسها. زادت حدة حملقة ويني وقلقها وتفكيرها.
صاحت: «لا أستطيع الإتيان به إليك كل أسبوع بنفسي.» «ولكن لا تقلقي يا أمي. سأحرص على ألا يضل الطريق لفترة طويلة.»
شعرتا بارتطام غريب؛ طال مشهد أعمدة الطوب أمام نوافذ العربة المهتزة؛ أذهل المرأتين توقف مفاجئ للاهتزازات العنيفة والجلجلة الصاخبة. ما الذي حدث؟ جلستا بلا حراك ومذعورتين إلى أن فتح الباب، وسمعتا همسا من صوت خشن ومرهق: «ها قد وصلنا!»
مجموعة من منازل صغيرة ذات أسقف جملونية، وبكل واحد منها نافذة واحدة صفراء وقاتمة، في الطابق الأرضي، وتحيط بمساحة مظلمة مفتوحة عشبية مزروعة بالشجيرات، ومفصولة بحاجز عن مزيج الأضواء والظلال في الطريق الواسع، الذي تدوي فيه جلبة حركة المرور المملة. كانت العربة قد توقفت أمام باب أحد هذه المنازل الصغيرة، منزل من دون ضوء في النافذة الصغيرة بالطابق السفلي. خرجت والدة السيدة فيرلوك أولا، بظهرها، وفي يدها مفتاح. ظلت ويني واقفة على الدرب الحجري كي تدفع الأجرة لسائق العربة. بعدما ساعد ستيفي في حمل الكثير من الحزم الصغيرة إلى الداخل، خرج ووقف تحت ضوء مصباح غاز يخص المؤسسة الخيرية. نظر سائق العربة إلى القطع الفضية، التي بدت صغيرة جدا في راحة يده الضخمة والمتسخة، والتي كانت ترمز إلى الحصيلة التافهة التي يجازى بها إنسان، أيامه قصيرة على هذه الأرض المليئة بالشر، على شجاعته وطموحه وكدحه.
كان قد حصل على أجر معقول - أربع قطع من فئة شلن واحد - وتأملها في سكون تام، كما لو كانت تمثل تعبيرا باعثا على الدهشة عن مشكلة عويصة. تطلب الانتقال البطيء لتلك الثروة إلى الجيب الداخلي جهدا كبيرا لتلمس أعماق الملابس البالية. كانت هيئته بدينة ولا تتحلى بالمرونة. وقف ستيفي النحيف عابسا على قارعة الطريق وكتفه مرفوعة إلى الأعلى قليلا ويداه متوغلتان بعمق داخل الجيوب الجانبية لمعطفه الدافئ.
بعد أن توقف سائق العربة مؤقتا عن حركاته المتعمدة، لمعت في ذهنه ذكرى ضبابية.
قال هامسا: «أوه! ها هو أنت أيها الشاب. سوف تعرفه مرة أخرى، أليس كذلك؟»
كان ستيفي يحدق في الحصان، الذي بدا الجزء الخلفي منه مرتفعا على نحو غير متسق بسبب الهزال. بدا الذيل القصير المتصلب وكأنه مخلوق كي تصاغ عليه نكتة قاسية؛ وفي الطرف الآخر، تتدلى الرقبة الرفيعة المسطحة، مثل لوح خشب مغطى بجلد حصان عجوز، إلى الأرض تحت ثقل رأس عظمي ضخم. كانت الأذنان متدليتين بزوايتين مختلفتين بإهمال؛ وتصاعد البخار من ضلوع ذلك المخلوق الأبكم البائس الذي يعيش على سطح الأرض ومن عموده الفقري في سكون الهواء الرطب.
ضرب سائق العربة صدر ستيفي ضربا خفيفا بالخطاف الحديدي البارز من كم رث ومزيت. «انظر أيها الشاب. هل تريد المكوث خلف هذه المؤخرة حتى الساعة الثانية صباحا، ربما؟»
رمق ستيفي العينين الصغيرتين الشرستين بجفنين طرفيهما محمرين بنظرة خالية من التعبير.
أردف الآخر وهو يهمس بحيوية: «ليس أعرج. ليس مصابا بألم في أي مكان من جسمه. ها هو بين يديك. وإذا كنت تود ...»
أضفى صوته الخافت المجهد طابعا من السرية الشديدة على حديثه. ببطء تحولت نظرات ستيفي الخالية من التعبير إلى خوف. «فلتنظر جيدا! حتى الساعة الثالثة والرابعة صباحا. البرد والجوع. البحث عن ركاب تنقلهم لتنال الأجرة. السكارى.»
انتشرت في وجنتيه الأرجوانيتين شعرات بيضاء؛ ومثل سايلينوس، المذكور في كتابات فيرجيل، الذي، بينما كان وجهه ملطخا بعصير التوت، حدث رعاة صقلية الودعاء عن آلهة الأولمب، تحدث إلى ستيفي عن شئون منزلية وأمور رجال يعانون معاناة عظيمة وخلودهم أكيد لا محالة.
همس بسخط متبجح: «أنا سائق على عربة أجرة بالليل.» «يتعين أن آخذ أي عربة لعينة يتفضلون بإعطائي إياها في ساحة عربات الأجرة. لدي زوجة وأربعة أطفال في المنزل.»
بدا وكأن الطبيعة الفظة لذلك التصريح عن الأبوة قد ألقمت العالم حجرا. ساد صمت تصاعد أثناءه البخار من فرائص الحصان العجوز، جواد البؤس المروع، في ضوء مصباح الغاز التابع للمؤسسة الخيرية.
نخر سائق العربة، ثم أردف بنبرته الهامسة غير الواضحة: «الحياة ليست سهلة في هذا العالم.» ظل وجه ستيفي يرتعش لبعض الوقت، وفي النهاية انفجرت مشاعره بعبارات مختصرة كالعادة. «سيئ! سيئ!»
لم ينزل عينه من ضلوع الحصان، بنظرة خجولة ومكتئبة، وكأنه يخشى من أنه لو نظر حوله فسيبصر الشر الذي يعج به العالم. وأضفت عليه نحافته وشفتاه الورديتان وشحوب بشرته وصفاؤها، مظهر صبي رقيق، على الرغم من ظهور بعض الشعرات الذهبية على وجنتيه. عبس وجهه خوفا وكأنه طفل صغير. نظر إليه سائق العربة القصير والسمين بعينيه الصغيرتين الشرستين اللتين كانتا تبدوان وكأنهما تتألمان بشدة في سائل شفاف وفاسد.
أصدر صدره أزيزا مسموعا وهو يتكلم: «شاقة على الخيول، ولكنها أشق على رجال فقراء مثلي.»
تمتم ستيفي: «فقير! فقير!» وهو يدفع يده أعمق إلى داخل جيوبه بتعاطف مرتجف. لم يستطع أن يتفوه بكلمة؛ لأن إحساسه بكل الآلام والبؤس، ورغبته في إسعاد الحصان وسائق العربة، كان قد بلغ حد توق غريب إلى أن يأخذهما معه إلى الفراش. ولكنه كان يعلم أن هذا مستحيل. لأن ستيفي لم يكن مجنونا. يمكن القول، إن جاز التعبير، إنه كان توقا رمزيا؛ وفي الوقت نفسه كان واضحا جدا، لأنه كان نابعا من تجربة، والتجربة هي مصدر الحكمة. لهذا عندما كان طفلا، كان ينكمش في زاوية مظلمة، خائفا وتعيسا وحزينا وبائسا، يحيط بروحه حزن سوداوي، وكانت أخته ويني تأتي إليه، وتحمله إلى السرير معها، وكأنها تحمله إلى جنة سلام وعزاء. وعلى الرغم من أن ذاكرة ستيفي كان يمكن أن تنسى الحقائق المجردة، مثل اسمه وعنوانه، إلا أنه كان لديه ذاكرة لا تخونه فيما يتعلق بالأحاسيس. كان العلاج الأمثل له هو أخذه إلى السرير بتعاطف، ولم يكن يعيب هذا العلاج سوى صعوبة تطبيقه على نطاق واسع. ولما نظر إلى سائق العربة، أدرك حاله على الفور لأنه كان عاقلا.
واصل سائق العربة استعداداته على مهل كما لو أن ستيفي لم يكن موجودا. تحرك وكأنه سيصعد على المقصورة، ولكنه بدافع خفي توقف في اللحظة الأخيرة، ربما لمجرد الاشمئزاز من قيادة العربة. بدلا من ذلك اقترب من شريكه في شقائه الذي كان واقفا بلا حراك، وانحنى ليمسك اللجام، ثم رفع الرأس الكبير المرهق حتى وصل إلى مستوى كتفه بجهد من ذراعه الأيمن وكأنه أمر صعب يتطلب قوة.
همس بصوت خافت: «هيا.»
سار بالعربة مبتعدا، وهو يعرج. لم يخل هذا الرحيل من بعض القسوة؛ إذ كان الحصى المتناثر على الطريق يئن تحت العجلات التي كانت تدور ببطء، وأخذ فخذا الحصان الهزيلتان تتحركان بتأن زاهد بعيدا عن الضوء إلى ظلام الساحة المفتوحة المتاخمة لبعض الأسقف المدببة والنوافذ الخافتة الضوء لملاجئ الفقراء الصغيرة. ظل الحصى يئن من بطء سير العجلات عليه طوال المسيرة. بين مصابيح بوابة المؤسسة الخيرية، عاود الموكب البطيء الظهور تحت الإضاءة للحظة، الرجل القصير السمين يعرج بهمة، رافعا رأس الحصان بقبضته، والحيوان النحيف يمشي في وقار متصلب وبائس، والمقصورة المنخفضة فوق العجلات تتدحرج تدحرجا هزليا مع شيء من التمايل. انعطفت العربة جهة اليسار. كانت توجد حانة في نهاية الشارع، على بعد خمسين ياردة من البوابة.
ترك ستيفي وحده بجانب عمود الإنارة الخاص بالمؤسسة الخيرية، ويداه مدسوستان بعمق في جيوبه، يحملق بعبوس أبله. في قعر جيوبه قبضتان غاضبتان، ضمت يداه الضعيفتان العاجزتان بشدة في هيئة قبضتين غاضبتين. في مواجهة أي شيء كان يؤثر تأثيرا مباشرا أو غير مباشر في خوفه المرضي من الألم، كان الأمر ينتهي بستيفي إلى أن يصير عدوانيا. تعاظم السخط الحانق في صدره الضعيف إلى حد الانفجار، وجعله يغضي عينيه المفتوحتين. لم يكن ستيفي حكيما للغاية في إدراك ضعفه، ولم يكن حكيما بما يكفي لكبح جماح عواطفه. اتخذت رقته في محبة الجميع وجهين لا ينفصم أحدهما عن الآخر، ومتصلين مثل وجهي عملة واحدة. فمعاناة التعاطف المفرط كان يعقبها ألم نابع من غضب بريء لكنه لا يرحم. وإذ كانت هاتان الحالتان تعبران عن ذاتيهما ظاهريا بنفس علامات الانفعال الجسدي العقيم، كانت أخته ويني تهدئ من روعه من دون أن تستوعب طبيعتها المزدوجة. لم تكن السيدة فيرلوك تضيع أي قدر من هذه الحياة العابرة في البحث عن معلومات جوهرية. هذا نوع من التدبير يتسم بجميع مظاهر الحكمة وبعض مزاياها. من الواضح أنه قد يكون من الجيد ألا يعرف المرء أكثر مما ينبغي. ووجهة النظر تلك تتفق مع سمة الخمول الجسدي.
في تلك الأمسية التي يمكن أن يقال إن والدة السيدة فيرلوك بمفارقتها لولديها فيها للأبد قد فارقت هذه الحياة أيضا، لم تستطلع ويني فيرلوك حالة أخيها النفسية. بالطبع كان الفتى البائس منفعلا. بعدما طمأنت المرأة العجوز مجددا على عتبة الباب بأنها ستعرف كيف تحمي ستيفي من خطر أن يضل طريقه لفترة طويلة في رحلاته للبر بأمه، أمسكت ذراع أخيها كي يغادرا. لم يتمتم ستيفي في نفسه حتى، ولكن بفضل الشعور الخاص بالتفاني الأخوي الذي نما لديها في طفولتها المبكرة، شعرت أن الفتى كان بالفعل منفعلا جدا. عندما تمسكت بذراعه بقوة، متظاهرة بأنها تتكئ عليها، فكرت في بعض الكلمات التي تناسب الموقف. «الآن، يا ستيفي، يجب أن تعتني بي جيدا عند تقاطعات الشوارع، وأن تصعد إلى الحافلة أولا، مثل أخ بار.»
استقبل ستيفي هذه المناشدة بالحماية النابعة من الرجولة بطاعته المعتادة. أرضى هذا غروره. رفع رأسه ودفع صدره إلى الأمام.
أجاب بتلعثم مدغم خشن يجمع بين خجل الطفل وحزم الرجل: «لا تقلقي يا ويني. يجب ألا تقلقي! لا بأس بالحافلة.» تقدم بلا خوف والمرأة ممسكة بذراعه، ولكن شفته السفلية كانت متدلية. ومع ذلك، على رصيف الطريق القذر والواسع، الذي كان افتقاره إلى جميع مرافق الحياة مفضوحا بسخافة بفعل إسراف جنوني في أضواء مصابيح الغاز، كان التشابه بينهما واضحا لدرجة أذهلت المارة العابرين في الشارع.
أمام أبواب الحانة على الناصية، حيث بلغ انتشار ضوء مصابيح الغاز ذروة شر متيقن، كانت عربة أجرة بأربع عجلات، واقفة بجانب الرصيف بلا أحد على المقصورة، تبدو وكأنها نبذت على حافة الطريق جراء خراب مستعص فيها. تعرفت السيدة فيرلوك العربة. كان مظهرها يبعث على الأسى الشديد، ببؤس بشع تام وغرابة تفاصيل مروعة، كما لو كانت عربة الموت نفسها، حتى إن السيدة فيرلوك صاحت، بذلك الميل من امرأة لإبداء الشفقة على حصان (عندما لا تكون جالسة خلفه)، بنبرة غير واضحة: «حيوان بائس!»
توقف ستيفي فجأة، وهز أخته هزة ملفتة للانتباه.
هتف فجأة بتفهم: «بائس! بائس!» «سائق العربة بائس أيضا. أخبرني بنفسه.»
سيطر عليه التفكير في الجواد الضعيف والوحيد. تدافع وسط الناس بمنكبيه، ولكنه كان حرونا؛ إذ ود لو بقي هناك، محاولا أن يعبر عن وجهة النظر التي تبدت حديثا لعواطفه عن الارتباط الوثيق بين بؤس الإنسان وبؤس الخيل. ولكن الأمر كان في غاية الصعوبة. كان كل ما استطاع أن يردده: «حيوان بائس، أناس بائسون!» لم تبد مؤثرة كفاية، فتوقف فجأة وهو يتمتم غاضبا: «عار!» لم يكن ستيفي يتقن صياغة العبارات، وربما لذلك السبب بعينه كانت أفكاره تفتقر إلى الوضوح والدقة. ولكنه شعر بقدر أكبر من الإحاطة وبعض العمق. اشتملت تلك الكلمة البسيطة على كل ما كان يشعر به من سخط ورعب تجاه نوع من التعاسة قائم على معاناة الآخرين، تجاه ضرب سائق عربة الأجرة البائس للحصان البائس، إن جاز القول، نيابة عن أطفاله البائسين الذين يعولهم. وكان ستيفي يعرف شعور من يتعرض للضرب. كان يعرفه من واقع تجربة. يا له من عالم سيئ! سيئ! سيئ!
لم يكن بوسع السيدة فيرلوك، أخته الوحيدة، والوصية عليه، وحاميته، أن تتظاهر بهذا القدر من التعمق في بصيرتها. علاوة على ذلك، لم تكن قد خبرت بلاغة سائق عربة الأجرة. كانت تجهل مدى عمق كلمة «عار». وقالت بهدوء: «هيا بنا يا ستيفي. لا يمكنك فعل شيء حيال ذلك.»
مشى ستيفي المطيع؛ ولكنه أضحى يمشي بلا تفاخر، متثاقلا، ويتمتم بكلمات غير مكتملة، بل حتى بكلمات ربما كانت ستصبح مكتملة لو لم تتركب من أنصاف كلمات لم تكن تنتمي لبعضها. بدا الأمر كما لو أنه كان يحاول أن يجعل كل الكلمات التي يمكنه أن يتذكرها تنسجم مع مشاعره من أجل أن يتوصل إلى فكرة منسجمة نوعا ما. وفي الحقيقة، توصل إليها في النهاية. فتوقف من أجل أن يلفظها على الفور. «عالم سيئ للفقراء.»
وفورا بعد أن عبر عن فكرته تلك، صار يدرك أنه يألف هذا العالم بكل ما فيه من عواقب. عزز هذا الظرف قناعته إلى حد كبير، لكنه أيضا زاد من سخطه. شعر أنه لا بد من عقاب شخص ما على ذلك، لا بد أن يلقى عقابا شديدا. ولأنه لم يكن إنسانا متشككا، وإنما أخلاقي، فقد كان بطريقة ما خاضعا لعواطفه النابعة من أخلاقه.
أردف باقتضاب: «وحشية!»
لم يخف على السيدة فيرلوك أنه كان منفعلا انفعالا شديدا.
قالت: «لا يمكن لأحد فعل شيء حيال ذلك. هيا تعال. أتلك هي طريقتك في الاعتناء بي؟»
أطاعها ستيفي وعدل وتيرة خطواته. تفاخر بأنه أخ بار. ذلك ما أملته عليه أخلاقه، التي كانت مكتملة جدا. ولكنه تألم من المعلومة التي نقلتها له أخته ويني التي كانت أختا بارة. لا يمكن لأحد فعل شيء! مشى عابسا، لكنه ابتهج بعد قليل. مثل بقية البشر، الذين تحيرهم ألغاز الكون، كانت لديه لحظات من المواساة النابعة من الثقة في السلطات المنظمة على الأرض.
اقترح واثقا: «الشرطة.»
علقت السيدة فيرلوك بسرعة، وهي تسير متعجلة: «ليس ذلك دور الشرطة.»
استطال وجه ستيفي كثيرا. انشغل عقله بالتفكير. وكلما فكر بعمق أكثر، ازداد تدلي فكه السفلي.
وتخلى عن مبادرته الفكرية وعلى وجهه خواء قانط.
تمتم مستسلما إلا أنه كان مندهشا : «ليس ذلك دورها؟» «ليس ذلك دورها؟» كان قد صاغ لنفسه مفهوما مثاليا عن شرطة العاصمة باعتبارها مؤسسة خيرية نوعا ما، معنية بقمع الشر. كانت فكرة حب الخير على وجه الخصوص مرتبطة لديه ارتباطا وثيقا بمعنى السلطة التي يتمتع بها أصحاب الزي الأزرق. كان قد أحب كل رجال الشرطة حبا جما، ويثق فيهم ثقة ساذجة. واعتصر الألم قلبه. انزعج، أيضا، من شك نخر قلبه بشأن ازدواجية في أعضاء قوات الشرطة. وذلك لأن ستيفي كان صريحا وواضحا كالشمس في كبد السماء. ما الذي يقصدونه بالتظاهر إذن؟ على النقيض من أخته، التي وضعت ثقتها في القيم الظاهرية، رغب في أن يتعمق في أصل المسألة. واصل استفساره باعتراض غاضب. «ما دورهم إذن، يا ويني؟ ما دورهم؟ أخبريني.»
كانت ويني تكره الجدال. ولكن بدافع أولا من خوف شديد من أن يدخل ستيفي في نوبة اكتئاب حاد ناجمة عن افتقاده لأمه كثيرا، لم ترفض المناقشة بالكلية. دون أي تهكم، أجابت بطريقة ربما لم تكن غريبة على زوجة السيد فيرلوك، مفوض اللجنة الحمراء المركزية، والصديق الشخصي لبعض اللاسلطويين ونصير الثورة الاجتماعية. «ألا تعرف دور الشرطة، يا ستيفي؟ إنهم موجودون من أجل ألا يأخذ من لا يملكون شيئا أي شيء ممن يملكون.»
تجنبت استخدام فعل «يسرق» لأنه دائما ما كان يزعج أخاها. لأن ستيفي كان أمينا للغاية. كانت قد غرست فيه بعض المبادئ البسيطة بحرص بالغ (بسبب «غرابة أطواره») لدرجة أن مجرد ذكر أسماء بعض التجاوزات كان يملؤه رعبا. كان دائما يتأثر بسهولة بالأحاديث. كان متأثرا ومذهولا الآن، وكان عقله متنبها جدا.
سأل على الفور بقلق: «ماذا؟ ولا حتى لو كانوا جوعى؟ ألا يتعين عليهم ذلك؟»
كان الاثنان قد توقفا عن المشي قليلا.
قالت السيدة فيرلوك، برباطة جأش شخص لا تقلقه مسألة توزيع الثروات، وهي تستكشف الطريق بحثا عن الحافلة العامة ذات اللون الصحيح: «ولا حتى لو كانوا جوعى. بالتأكيد لا. ولكن ما الفائدة من الحديث عن كل تلك المسائل؟ أنت لم تكن جائعا من قبل.»
رمقت الفتى بنظرة خاطفة وكأنه شاب يمشي بجانبها. رأته لطيفا وجذابا وحنونا، ولم تره غريب الأطوار إلا بقدر ضئيل، ضئيل جدا. ولم تستطع أن تراه خلاف ذلك؛ لأنه كان مرتبطا بما كان ملح العاطفة في حياتها التي لا طعم لها، عاطفة الغضب والشجاعة والرأفة وحتى التضحية بالنفس. لم تردف قائلة: «ولا يحتمل أن تكون كذلك ما دمت أنا على قيد الحياة.» ولكن ربما فعلت ذلك بالفعل؛ لأنها اتخذت خطوات فعالة من أجل تحقيق تلك الغاية. كان السيد فيرلوك زوجا صالحا جدا. وكان انطباعها الصادق أنه لا أحد يمكنه ألا يحب الفتى. صاحت فجأة: «أسرع يا ستيفي. أوقف تلك الحافلة الخضراء.»
ورفع ستيفي، الذي كان مضطربا ومهتما بأخته الممسكة بذراعه، ذراعه الأخرى فوق رأسه مشيرا إلى الحافلة، ونجح في إيقافها.
بعد ساعة، رفع السيد فيرلوك عينيه من الجريدة التي كان يقرؤها - أو ينظر إليها على أي حال - خلف منضدة البيع، وبعد أن توقفت جلبة جرس الباب، رأى زوجته، ويني، تدخل وتعبر المتجر في طريقها إلى الطابق العلوي، يتبعها صهره ستيفي. كان مرأى السيد فيرلوك لزوجته باعثا على الرضا في نفسه. كانت هذه هي طبيعته. ظل السيد فيرلوك غير مدرك لوجود صهره بسبب التفكير الكئيب الذي كان قد خيم على عقله في الفترة الأخيرة وحجب عنه مظاهر العالم الحسية. تابع زوجته مثبتا ناظريه عليها، من دون أن يتفوه بكلمة، وكأنها كانت شبحا. كان صوته في المنزل أجش وهادئا، ولكنه الآن لم يكن يسمع على الإطلاق. لم يسمع صوته على العشاء، الذي دعته إليه زوجته بطريقتها المختصرة المعتادة: «أدولف.» جلس يتناول عشاءه من دون شهية وهو يرتدي قبعته المتراجعة كثيرا إلى الخلف على رأسه. لم يكن هذا انكبابا على الحياة خارج المنزل، ولكن التردد على المقاهي الأجنبية كان مسئولا عن تلك العادة، مغلفا ولاء السيد فيرلوك الثابت لحياته المنزلية بطابع من عدم استقرار معتاد. نهض مرتين عند صلصلة الجرس المتهالك، دون أن يتفوه بكلمة واختفى داخل المتجر وعاد صامتا. أثناء هاتين المرتين اللتين غاب فيهما فيرلوك، تنبهت السيدة فيرلوك بشدة إلى المكان الخالي على يمينها، وافتقدت أمها كثيرا، وأخذت تحدق في شرود؛ بينما ظل ستيفي، للسبب نفسه، يحرك قدميه، وكأن الأرض تحت الطاولة كانت ساخنة على نحو غير مريح. عندما عاد السيد فيرلوك وجلس في مكانه، وكأنه تجسيد للصمت نفسه، تغيرت طريقة تحديق السيدة فيرلوك تغييرا طفيفا، وتوقف ستيفي عن التململ بقدميه، بسبب احترامه الكبير ومهابته لزوج أخته. وجه إليه نظرات تعاطف تنم عن الاحترام. كان السيد فيرلوك حزينا وأسفا. كانت أخته ويني قد أفهمته (في حافلة المواصلات العامة) أنه سيجد السيد فيرلوك بالمنزل في حالة من الحزن، وأنه يجب ألا يقلق من ذلك. كان غضب والده وحدة طباع المستأجرين وجنوح السيد فيرلوك إلى الحزن المفرط، هي الرادع الرئيسي الذي كان يجعل ستيفي يكبح جماح نفسه. من بين هذه المشاعر، التي كان يمكن استثارتها بسهولة جميعها، ولكن لم يكن يسهل دوما فهمها، كان للأخيرة أكبر أثر أخلاقي لأنها كانت «طيبة». كانت والدته وأخته قد أقرتا بهذه الحقيقة عن أخلاقه بناء على أساس لا يتزعزع. أقرتا بها وأثبتتاها وعظمتاها من دون علم السيد فيرلوك؛ لأسباب لم يكن لها علاقة بالأخلاق المجردة. ولم يكن السيد فيرلوك على دراية بذلك. من الإنصاف التام للسيد فيرلوك القول إنه لم يكن لديه أي فكرة عن مظهره الصالح في عيني ستيفي. لكن هكذا كان الحال. بل إنه كان الرجل الوحيد المؤهل لفهم حالة ستيفي، والسبب أن المستأجرين كانوا نزلاء عابرين كما أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن أن يكون لهم أي أثر واضح سوى ربما أثر أحذيتهم؛ وفيما يتعلق بتدابير أبيه التأديبية، فإن شعور أمه وأخته بالوحشة جعلهما تحجمان عن صوغ نظرية عن صلاحه أمام الضحية. كان هذا سيصبح في غاية القسوة. بل كان من المحتمل أيضا أن ستيفي ما كان سيصدقهما. وفيما يتعلق بالسيد فيرلوك، لم يكن يمكن لأي شيء أن يقف في وجه اعتقاد ستيفي. من الواضح أن السيد فيرلوك كان «صالحا» على نحو غامض. وحزن الرجل الصالح حزنا جليلا.
رمق ستيفي صهره بنظرات تنم عن تعاطفه وتبجيله له. كان السيد فيرلوك حزينا وأسفا. لم يشعر شقيق ويني من قبل بهذا القدر من التشارك الوثيق من سر طيبة ذلك الرجل. كان حزنا مفهوما. وكان ستيفي نفسه حزينا وأسفا. كان حزينا جدا. كان نوع الحزن نفسه. ولما انجذب انتباه ستيفي إلى هذه الحالة غير السارة، أخذ يحرك قدميه. كان معتادا أن تظهر مشاعره في انفعالات أطرافه.
قالت السيدة فيرلوك بنبرة آمرة وعطوفة: «أبق قدميك ساكنتين، يا عزيزي.» ثم استدارت إلى زوجها بنبرة غير مبالية، تمثل فيها أداء بارعا للباقة غريزية، وسألته: «هل ستخرج الليلة؟»
بدا التلميح البسيط مستقبحا للسيد فيرلوك. هز رأسه بكآبة، ثم جلس ساكنا منكسا عينيه، ناظرا لدقيقة كاملة إلى قطعة الجبن الموضوعة في الطبق أمامه. في نهاية ذلك الوقت، نهض وخرج، خرج في صلصلة جرس باب المتجر. يتصرف هكذا على نحو غير متسق، ليس بسبب أي رغبة منه في أن يكون مستهجنا، ولكن بسبب قلق لا يقهر. لم يكن ثمة نفع على الإطلاق من خروجه. لم يكن يستطيع أن يجد في أي مكان في لندن ما كان يريده. لكنه خرج. أخذت تراوده مجموعة من الأفكار الكئيبة وهو يمشي في شوارع مظلمة، وعبر شوارع مضيئة، ودخل حانتين وخرج منهما بسرعة، وكأنه يحاول دون حماسة أن يمضي الليل كله خارج البيت؛ وأخيرا عاد إلى بيته المهدد بخطر وشيك، حيث جلس متعبا خلف منضدة البيع، واحتشدت الأفكار في رأسه بإلحاح، مثل مجموعة من كلاب صيد سوداء جائعة. بعدما أقفل باب المنزل وأطفأ مصباح الغاز، أخذها معه إلى الطابق العلوي، ويا لها من رفقة مخيفة لرجل ذاهب إلى الفراش. كانت زوجته قد سبقته ببعض الوقت، وبهيئتها الكبيرة المحددة بغير وضوح تحت اللحاف، ورأسها على الوسادة، وإحدى يديها تحت خدها أوحت لذهنه الشارد بمشهد نعاس مبكر يبرهن على امتلاكها لروح وادعة. حدقت عيناها الواسعتان المفتوحتان على اتساعهما، والخامدتان والداكنتان مقارنة ببياض اللحاف المصنوع من الكتان. لم تتحرك.
كانت روحها وادعة. شعرت في أعماقها بأنه من غير المستحسن التنقيب عن بواطن الأمور. تشكلت قوتها وحكمتها من تلك الغريزة. ولكن صمت السيد فيرلوك أثقل صدرها لأيام كثيرة. وفي الحقيقة، كان صمته يؤثر في أعصابها. لما كانت مستلقية، بهدوء قالت، وهي مضطجعة وساكنة: «ستصاب بنزلة برد إذا ظللت تتمشى بجوربك هكذا.»
هذا الكلام، الخليق باعتناء زوجة وحيطة امرأة، باغت السيد فيرلوك. كان قد ترك حذاءه في الطابق السفلي، لكنه نسي أن يرتدي خفه، وظل يغدو ويروح في غرفة النوم على الألواح من دون صوت مثل دب محبوس في قفص. عند سماعه صوت زوجته، توقف وحدق فيها طويلا بنظرة خالية من التعبير كنظرة رجل مصاب باضطراب المشي أثناء النوم، مما جعل زوجته تحرك أطرافها قليلا تحت اللحاف. لكنها لم تحرك رأسها ذا الشعر الأسود الغارق في الوسادة البيضاء وإحدى يديها تحت خدها وعيناها الكبيرتان السوداوان لا ترمشان.
بتأثير من حملقة زوجها الخالية من التعبير، وتذكرها لغرفة أمها الخالية على بسطة الدرج، شعرت بانقباض وحدة كئيب. لم تكن قد افترقت عن أمها من قبل. كانت إحداهما تعضد الأخرى. شعرت أنهما كانتا كذلك، وقالت لنفسها إن أمها الآن قد رحلت ... رحلت إلى الأبد. لم تكن السيدة فيرلوك تتوهم ذلك. ولكن ستيفي بقي على أي حال. قالت: «فعلت أمي ما أرادت. ولا يمكنني أن أرى أي منطق فيما فعلته. أنا متأكدة من أنه لم يخطر على بالها أنك قد سئمت منها. من الغريب للغاية أن تتركنا بتلك الطريقة.»
لم يكن السيد فيرلوك شخصا واسع الاطلاع؛ كان ما يعرفه من عبارات التلميح محدودا، ولكن كان ثمة توافق غريب في الظروف جعله يفكر في الفئران التي تهرب من سفينة على وشك الغرق. كاد أن يقول هذا. كان قد تزايد لديه الشعور بالتشكك والمرارة. هل من الممكن أنه كان لدى المرأة العجوز ذلك الحدس الذي لا يخيب؟ لكن انعدام معقولية ذلك الشك كان واضحا، ومن ثم أمسك السيد فيرلوك لسانه. ولكن لم يمسكه عن الحديث تماما. تمتم بتثاقل: «ربما يكون ذلك أمرا طيبا.»
بدأ في خلع ملابسه. ظلت السيدة فيرلوك ساكنة، دون حراك تماما، وعيناها تحملقان بنظرة حالمة وهادئة. وبدا أن قلبها قد توقف أيضا لجزء من الثانية. في تلك الليلة «لم تكن على سجيتها» كما يقال، كان الأمر يثقل كاهلها حتى إن جملة بسيطة يمكن أن تحمل معاني متعددة، أغلبها بغيض. كيف يكون ذلك أمرا طيبا؟ ولماذا؟ ولكنها لم تسمح لنفسها بأن تسقط في هوة التكهنات العقيمة. وبالأحرى تأكدت في أعماقها من أنه من المستحسن عدم التنقيب عن بواطن الأمور. ولأنها كانت تفكر بطريقة عملية ودقيقة، أبرزت موضوع ستيفي دون إضاعة للوقت؛ لأن وحدة القصد لديها كانت ذات طبيعة لا تخطئ وقوة غريزية. «لا أعلم حقا ما الذي سأفعله كي أسري عن ذلك الفتى في الأيام القليلة القادمة. سيظل قلقا من الصباح حتى المساء قبل أن يعتاد على غياب أمه. كما أنه فتى طيب. لا أستطيع الاستغناء عنه.»
تابع السيد فيرلوك خلع ملابسه مع تركيز داخلي غير ملحوظ وكأنه رجل يخلع ملابسه في عزلة صحراء شاسعة وقاحلة. لأن هكذا كان التصور الذي رآه السيد فيرلوك في مخيلته لتلك الأرض، إرثنا المشترك، أنها موحشة ومقفرة. كان كل شيء ساكنا في الخارج والداخل حتى إن صوت دقات عقارب الساعة على بسطة الدرج تسلل إلى داخل الغرفة وكأنه يبحث عن صحبة.
بعدما أوى السيد فيرلوك إلى جانبه المعتاد من الفراش، بقي مستلقيا وصامتا خلف ظهر السيدة فيرلوك. استقرت ذراعاه الضخمتان بإهمال على اللحاف مثل أسلحة ملقاة أو أدوات مهملة. في تلك اللحظة، أمسى على قيد شعرة من أن يفصح لزوجته عن كل ما كان ينوء به صدره. بدت اللحظة مواتية. لما نظر بطرف عينيه، رأى كتفي زوجته العريضتين ملتحفتين بالبياض، ومؤخر رأسها وشعرها مضفور من أجل الليل في ثلاث ضفائر مربوطة بأشرطة سوداء من الأطراف. لكنه أحجم عن ذلك. أحب السيد فيرلوك زوجته كما ينبغي أن تحب الزوجة؛ أو بعبارة أخرى، من منظور الحياة الزوجية، بالمراعاة الواجبة لأهم ما يمتلكه المرء. كان لهذا الرأس ذي الشعر المضفر من أجل الليل وهاتين الكتفين العريضتين مظهر قدسية مألوفة؛ قدسية السلام المنزلي. كانت ساكنة وضخمة وبلا شكل محدد لقوامها مثل تمثال راقد في العراء؛ تذكر نظراتها بعينيها الواسعتين إلى الغرفة الفارغة. كانت غامضة، ويكتنفها غموض الكائنات الحية. لم يكن العميل السري الشهير «دلتا» وأخطر مبعوث لدى بارون ستوت فارتنهايم الراحل، هو الرجل الذي يخترق تلك الألغاز. كان من النوع الذي يسهل تخويفه. كما كان كسولا، ذلك الكسل الذي غالبا ما يكون سر طبيعة طيبة. أحجم فيما يخص ذلك الغموض بدافع الحب والخجل والكسل. سيكون لديه دائما ما يكفي من الوقت. ولعدة دقائق، تحمل معاناته بصمت، في سكون الغرفة الباعث على النعاس. ثم كسر ذلك الصمت بإعلان حازم. «سأسافر إلى أوروبا غدا.»
ربما كانت زوجته قد غطت في النوم بالفعل. لم يكن بوسعه أن يتبين ذلك. في الحقيقة، كانت السيدة فيرلوك قد سمعته. ظلت عيناها مفتوحتان على اتساعهما، وظلت راقدة بلا حراك، وأكدت على قناعتها الغريزية بأنه من المستحسن عدم التنقيب كثيرا عن بواطن الأمور. ومع ذلك، لم يكن من غير المألوف أن يسافر السيد فيرلوك في رحلة كتلك. كان يجدد مخزونه من باريس وبروكسل. وعادة ما كان يذهب لشراء حاجياته بنفسه. كانت جماعة سرية صغيرة منتقاة من الهواة تتشكل حول المتجر الكائن في شارع بريت، جماعة سرية مناسبة جدا لأي عمل يضطلع به السيد فيرلوك الذي - بتوافق سري بين الطبع والضرورة - كان قد تميز بأن يكون عميلا سريا طيلة حياته.
انتظر بعض الوقت ثم أردف: «سأظل في سفري أسبوعا أو ربما أسبوعين. اطلبي من السيدة نيال أن تأتيك نهارا.»
كانت السيدة نيال هي خادمة شارع بريت. كانت ضحية زواج فاشل من نجار فاسق، وأرهقتها احتياجات أطفال صغار كثيرين. كانت ترتدي مئزرا بأكمام حمراء مخيط من قماش خشن يصل إلى الإبطين، كانت تنفث عن معاناة الفقر بالعمل في غسل الملابس في المياه والصابون واحتساء شراب الرم المسكر، وفي ضجة الدعك وقعقعة الدلاء المصنوعة من الصفيح.
تحدثت السيدة فيرلوك من أعماقها بنبرة تنم عن أقل درجات اللامبالاة. «لا حاجة إلى أن تمكث المرأة هنا طوال النهار. سأعتني بالعمل على نحو جيد جدا مع ستيفي.»
تركت الساعة الوحيدة على بسطة الدرج تعد خمس عشرة دقة في هاوية الأبدية، ثم سألت: «هل أطفئ المصباح؟»
رد السيد فيرلوك على زوجته بسرعة بصوت مبحوح. «أطفئيه.»
الفصل التاسع
بعدما عاد السيد فيرلوك من أوروبا بعد عشرة أيام، رجع بعقل لا يظهر عليه أنه انتعش بعجائب السفر إلى خارج البلاد وبطلعة لا تظهر عليها مسرات العودة إلى الديار. دخل مع صوت صلصلة جرس المتجر تعلوه كآبة وإرهاق متكدر. مشى منكسا رأسه وحقيبته في يده إلى خلف منضدة البيع مباشرة، وخر على الكرسي، وكأنه قطع الطريق من دوفر كله سيرا على قدميه. كان ذلك في الصباح الباكر. استدار ستيفي نحوه، وهو ينفض الغبار عن البضائع المعروضة في النوافذ الأمامية، وحدق فيه بنظرة تنم عن الوقار والرهبة.
قال السيد فيرلوك: «خذ!» وهو يركل حقيبة الجلادستون على الأرض ركلة خفيفة؛ ثم ألقى ستيفي نفسه عليها وأمسكها وحملها بتفان وكأنه حصل على غنيمة منتصر. كان سريعا لدرجة أن المفاجأة ظهرت على ملامح السيد فيرلوك.
في الوقت نفسه الذي تعالى فيه صوت صلصلة جرس المتجر، نظرت السيدة نيال، التي كانت تلمع موقد المدفأة في غرفة المعيشة بشحم الجرافيت، عبر الباب، وبعدما رفعت ركبتيها عن الأرض، ذهبت، وهي ترتدي مئزرها، ومتسخة من الكدح الملازم لحياتها، كي تخبر السيدة فيرلوك في المطبخ بأن «السيد قد عاد».
جاءت ويني ولم تتخط الباب الداخلي للمتجر.
قالت من مسافة: «لعلك بحاجة لتناول إفطار.»
حرك السيد فيرلوك رأسه قليلا وكأنه فرض عليه اقتراح مستحيل. ولكن بمجرد أن ولج إلى غرفة المعيشة لم يرفض الطعام الذي وضع أمامه. أكل وكأنه في مكان عام، بقبعته المدفوعة إلى الخلف بعيدا عن جبهته، وطرفي معطفه الثقيل المعلقين على شكل مثلث على جانبي الكرسي. وعبر الطاولة المغطاة بفرش مشمع بني اللون، تحدثت إليه زوجته ويني بحديث أزواج، يماثل - في تأقلمها البارع ، بلا شك، مع ظروف عودته - حديث بينيلوبي عند عودة زوجها أوديسيوس من ترحاله. ومع ذلك لم تكن السيدة فيرلوك تنسج الغزل في فترة غياب زوجها. لكنها كانت قد نظفت جميع الغرف في الطابق العلوي جيدا وباعت بعض السلع ورأت السيد ميكايليس عدة مرات. كان قد أخبرها في آخر مرة أنه سينتقل إلى العيش في كوخ في الريف، في مكان ما بين لندن وتشاتام ودوفر. كان كارل يوندت قد أتى هو الآخر، مرة واحدة، متأبطا ذراع «مدبرة شئون منزله الغريبة الأطوار تلك». كان «رجلا مسنا مقززا». أما عن الرفيق أوسيبون، الذي كانت قد استقبلته في زيارة مقتضبة، وهي متحصنة خلف منضدة البيع بوجه متحجر ونظرة شاردة، فلم تقل شيئا، واتسم تذكرها لللاسلطوي القوي بصمت قصير وتورد خفيف للغاية لوجنتيها. ومقحمة ذكر شقيقها ستيفي فور استطاعتها إلى مجرى الحديث عن الأحداث المنزلية، أشارت إلى أن الصبي قد اكتأب كثيرا. «السبب في ذلك هو ترك أمي لنا بتلك الطريقة.»
لم يقل السيد فيرلوك «اللعنة!» ولا حتى «فليذهب ستيفي إلى الجحيم!» وإذ لم يدع السيدة فيرلوك تطلع على سريرته، عجزت عن تقدير فضيلة الضبط للنفس هذا.
أردفت: «لا يعني هذا أنه لا يعمل جيدا مثلما هو شأنه دائما. إنه يحاول دائما أن يكون مفيدا جدا. يجعلك تظن أنه يشعر أنه لا يفعل ما يكفي من أجلنا.»
توجه السيد فيرلوك بنظرة عفوية وهادئة نحو ستيفي، الذي كان جالسا على يمينه، بوجه رقيق شاحب وشفاه وردية وفم فاغر كالأبله. لم تكن نظرة انتقاد. ولم يكن لها مقصد ما. وحتى إن ظن السيد فيرلوك للحظة أن شقيق أخته كان يبدو عديم النفع تماما، فما كان ذلك أكثر من ظن خفي وعابر، ويخلو من تلك القوة والدوام اللذين يجعلان فكرة تغير العالم في بعض الأحيان. مال السيد فيرلوك بظهره إلى الخلف، وخلع قبعته. وقبل أن تضع ذراعه الممدودة القبعة، وثب ستيفي نحوها وحملها بتوقير إلى المطبخ. ومجددا ظهرت المفاجأة على ملامح السيد فيرلوك.
قالت السيدة فيرلوك بأفضل نبرة تنم عن هدوء رصين: «يمكنك فعل أي شيء مع ذلك الصبي يا أدولف.» «سيرمي نفسه في النار من أجلك. إنه ...»
توقفت منصتة، وأدارت أذنها تجاه باب المطبخ.
كانت السيدة نيال تحك الأرضية هناك. لما ظهر ستيفي، تأوهت بحزن؛ إذ لاحظت أنه يسهل استثارة عاطفته وتأخذ منه الشلن، الذي كانت أخته ويني تعطيه له من وقت إلى آخر، لمنفعة أطفالها الصغار. بينما كانت جاثية على أربع فوق البلاطات المبتلة والمتسخة، مثل حيوان برمائي أو مستأنس يعيش في عشة ومياه متسخة، تلفظت باستهلالتها المعتادة: «كل أحوالك على ما يرام، ظللت لا تفعل أي شيء وكأنك رجل نبيل.» واستتبعتها بالشكوى الأزلية من الفقر، بعبارات كاذبة تثير الشفقة تؤكدها الرائحة الكريهة لشراب الرم الرخيص في أنفاسها والصابون مما يبرهن على بؤسها. ظلت تجد في الحك، وهي تخنفر من أنفها طيلة الوقت، وتثرثر بصوت عال. وكانت مخلصة. وعلى كلا جانبي أنفها الرفيع الأحمر، تذرف عيناها المتعبتان الضبابيتان الدموع؛ لأنها كانت تشعر باحتياج حقيقي إلى بعض المنبهات في الصباح.
في غرفة المعيشة، علقت السيدة فيرلوك بدراية قائلة: «ها هي السيدة نيال لا تبرح مجددا تسرد حكاياتها المروعة عن أطفالها الصغار. لا يمكن أن يكونوا جميعا صغارا كما تحكي عنهم. لا بد أن بعضهم كبروا الآن بما يكفي لأن يحاولوا فعل شيء لأنفسهم. إن هذا يغضب ستيفي.»
تأكدت تلك الكلمات بضربة وكأن قبضة تضرب طاولة المطبخ. وفي سياق التطور الطبيعي للعاطفة لدى ستيفي، كان قد صار غاضبا عندما اكتشف أنه لم يكن يمتلك شلنا في جيبه. لما لم يستطع أن يخفف عن السيدة نيال عوزها من أجل «أطفالها الصغار»، شعر بأن شخصا آخر لا بد أن يعاني من أجل ذلك. نهضت السيدة فيرلوك وذهبت إلى المطبخ كي «توقف ذلك الهراء». وأوقفته بحزم، ولكن بلطف. كانت تدرك جيدا أنه فور أن تتلقى السيدة نيال أجرتها، كانت تذهب إلى مكان قريب لتناول مشروبات روحية في حانة عامة وضيعة وقذرة، المحطة التي لا مفر منها على «طريق الآلام» الذي تقطعه في حياتها. كان لتعليق السيدة فيرلوك على هذه الممارسة أثر عميق غير متوقع لأنه يأتي من شخص لا يرغب في النظر إلى ما تحت ظاهر الأمور. «بالطبع، ما الذي يمكنها أن تفعله كي تصمد؟ لو أنني كنت في مكان السيدة نيال، أتوقع أنني كنت سأتصرف بطريقة لا تختلف عنها.»
في عصر ذلك اليوم نفسه، بعد أن استيقظ السيد فيرلوك فزعا من آخر سلسلة طويلة من الإغفاءات أمام مدفأة غرفة المعيشة، أعلن عن نيته في التنزه سيرا على الأقدام، قالت ويني من المتجر: «أرجو أن تأخذ هذا الصبي معك يا أدولف.»
فوجئ السيد فيرلوك للمرة الثالثة في ذلك اليوم. حدق في زوجته غير مصدق. تابعت حديثها بطريقتها الثابتة. كان الاكتئاب يصيب الصبي في المنزل عندما لا يكون مشغولا بأي شيء. اعترفت بأنه أزعجها وأصابها بالتوتر. وبدا هذا الكلام مبالغة من ويني الهادئة. ولكن، إحقاقا للحق، كان ستيفي مكتئبا بطريقة لافتة للنظر وكأنه حيوان أليف غير سعيد. كان يصعد على البسطة المظلمة ويجلس على الأرض تحت الساعة الطويلة ضاما ركبتيه وواضعا رأسه بين يديه. كان أمرا مزعجا أن يرى وجهه الشاحب ذو العينين الواسعتين اللتين تلمعان في الظلام؛ ولم يكن التفكير في جلوسه بتلك الهيئة يدعو إلى الراحة.
تقبل السيد فيرلوك هذه الفكرة الجديدة المباغتة. كان مولعا بزوجته كما ينبغي لرجل أن يكون؛ بعبارة أخرى، كان يحبها كثيرا. ولكن اعتراضا مهما بدر إلى ذهنه، وصاغه بالكلمات.
قال: «ربما يغيب عن ناظري، ويتوه في الشارع.»
هزت زوجته رأسها واثقة. «لن يفعل. أنت لا تعرفه. ذلك الفتى يوقرك كثيرا. ولكن إذا فقدته ...»
توقفت السيدة فيرلوك للحظة؛ ليس أكثر من لحظة. «تابع سيرك فحسب، واستمتع بنزهتك. لا تقلق. سيكون بخير. لا شك أنه سيعود بأمان قبل أن يمر وقت طويل.»
هذا التفاؤل جعل السيد فيرلوك يتفاجأ للمرة الرابعة في ذلك اليوم.
تذمر متشككا: «حقا سيفعل؟» ولكن ربما لم يكن صهره بهذا الحمق الذي كان يبدو عليه. من شأن زوجته أن تعرف أفضل منه. أشاح عينيه الناعستين بعيدا وقال بصوت أجش: «حسنا، دعيه يأتي معي إذن.» وعاد للوقوع في براثن القلق السوداوي، فربما كان صهره يفضل الجلوس خلف فارس، لكنه يعرف أيضا كيف يتعقب عن كثب أناسا ليسوا أثرياء بما يكفي لامتلاك خيول؛ مثل السيد فيرلوك على سبيل المثال.
عند باب المتجر لم تر ويني هذا المرافق القاتل (القلق السوداوي) يمشي في أعقاب السيد فيرلوك. وإنما شاهدت السيد فيرلوك وستيفي يسيران في الشارع القذر، أحدهما طويل وضخم الجثة، والآخر نحيف وقصير وله رقبة نحيفة وترتفع كتفاه الهزيلتان قليلا أسفل الأذنين الكبيرتين شبه الشفافتين. كان المعطفان من الخامة نفسها، وقبعتاهما سوداوين وذاتي شكل دائري. أطلقت السيدة فيرلوك العنان لخيالها من وحي التشابه في ملابسهما.
قالت لنفسها: «كأنهما أب وابنه.» فكرت أيضا في أن السيد فيرلوك كان أقرب تجسيد للأب في حياة ستيفي البائس. كانت تدرك أيضا أن هذا جهدها. وبفخر مطمئن، هنأت نفسها على قرار معين سبق أن اتخذته قبل بضع سنوات. كان القرار قد كلفها بعض الجهد، وأيضا بعض الدموع.
هنأت نفسها أكثر لما لاحظت بمرور الأيام أن السيد فيرلوك بدا متقبلا برحابة صدر لرفقة ستيفي. والآن عندما كان السيد فيرلوك يستعد للخروج لنزهته، كان ينادي على الفتى بصوت عال، على الوجه الذي ينادي به رجل على كلبه الأليف ليرافقه، على الرغم من اختلاف الأسلوب بالطبع. وفي المنزل، كان يمكن ملاحظة السيد فيرلوك وهو يحملق باهتمام في ستيفي لفترة طويلة. كان سلوكه قد تغير. كان لا يزال قليل الكلام، ولكنه لم يكن فاترا جدا. اعتقدت السيدة فيرلوك أنه كان عصبيا نوعا ما في بعض الأحيان. وربما كان ذلك يعتبر بمثابة تحسن. أما ستيفي، فلم يعد يجلس مغتما تحت الساعة، ولكنه بدلا من ذلك كان يتمتم لنفسه في الأركان بنبرة تهديدية. عندما سئل: «ما الذي تقوله يا ستيفي؟» لم يفعل شيئا سوى أنه فتح فمه وحدق في أخته بعينين نصف مغمضتين. وفي أوقات نادرة، كان يضم قبضتي يديه من دون سبب واضح، وعندما يكتشف في عزلة، فربما يرى عابسا بجانب الحائط ومعه ورقة وقلم رصاص أعطيا له كي يرسم دوائر فارغة على طاولة المطبخ. كان هذا تغيرا، ولكنه لم يكن تحسنا. أدرجت السيدة فيرلوك كل هذه التقلبات ضمن التعريف العام للانفعال، وبدأت تخشى أن ستيفي كان يسمع أكثر مما يناسبه من محادثات زوجها مع أصدقائه. أثناء «نزهاته»، كان السيد فيرلوك، بالطبع، يقابل العديد من الأشخاص ويتحدث معهم. لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك. كانت نزهاته جزءا لا يتجزأ من أنشطته خارج البيت، التي لم تكن زوجته قد تمعنت فيها بعمق مطلقا. شعرت السيدة فيرلوك أن الموقف كان حساسا، لكنها واجهته بنفس الهدوء المستغلق الذي كان يثير إعجاب زبائن المتجر واندهاشهم أيضا، وجعل الزوار الآخرين يتجنبونها قليلا متعجبين. كلا! أخبرت زوجها أنها كانت تخشى من أن ستيفي يسمع أشياء لا ينبغي أن يسمعها. كانت هذه الأشياء تثير انفعال الصبي البائس لأنه لم يكن يمكن ألا يثار منها. لا أحد يمكنه ذلك.
دار هذا الحديث في المتجر. لم يعلق السيد فيرلوك بشيء. لم يرد بشيء، ومع ذلك كان الرد واضحا. ولكنه امتنع عن أن يشير إلى زوجته بأن فكرة اصطحاب فيرلوك في نزهاته كانت فكرتها هي ولا أحد غيرها. في تلك اللحظة، ومن وجهة نظر محايدة، كانت ستتجلى شهامة السيد فيرلوك الفائقة. أنزل صندوقا صغيرا من الورق المقوى من فوق أحد الأرفف، ونظر بداخله نظرة خاطفة وتأكد من أن المحتويات كانت على ما يرام، ثم وضعه برفق على منضدة البيع. حتى تلك اللحظة، لم يكسر حاجز الصمت إلا بعد أن فعل ذلك، قائلا ما مفاده أن ستيفي على الأرجح سيستفيد استفادة كبيرة بإرساله خارج المدينة لبعض الوقت؛ إلا أنه كان يتوقع أن زوجته لن تستطيع الاستغناء عنه.
كررت زوجته ببطء: «لا أستطيع الاستغناء عنه! لا أستطيع الاستغناء عنه إن كان ذلك لصالحه! عجبا مما تقول! بالطبع أستطيع الاستغناء عنه. ولكن لا يوجد مكان يذهب إليه.»
أخرج السيد فيرلوك ورقة بنية اللون وبكرة خيط؛ وفي تلك اللحظة تمتم بأن ميكايليس كان يقطن في كوخ صغير في الريف. لن يمانع ميكايليس في أن يمنح ستيفي غرفة ينام فيها. لم يكن ثمة زائرون ولا أحاديث هناك. كان ميكايليس عاكفا على كتابة كتاب.
صرحت السيدة فيرلوك بميلها إلى ميكايليس؛ وأعربت عن اشمئزازها من كارل يوندت بقولها «رجل مسن بغيض»؛ ولكنها لم تذكر شيئا عن أوسيبون. أما ستيفي، فلا يمكن إلا أن يكون سعيدا جدا. كان السيد ميكايليس دوما لطيفا وعطوفا جدا معه. بدا أنه يحب الصبي. وفي الحقيقة، كان الصبي مطيعا.
بعدما توقفت قليلا، أردفت بثقة راسخة: «أرى أنك أنت أيضا قد ازددت حبا له في الفترة الأخيرة.»
بينما كان السيد فيرلوك يربط الصندوق الورقي في طرد كي يرسله عبر البريد، جذب الخيط عفويا وقطعه، ثم تمتم بعدة شتائم بينه وبين نفسه. بعد ذلك رفع صوته وتكلم بصوته الأجش المعتاد، وأعرب عن استعداده لأن يأخذ ستيفي بنفسه إلى الريف، وأن يتركه في أمان تام مع ميكايليس.
نفذ هذا المخطط في اليوم التالي مباشرة. لم يبد ستيفي اعتراضا. بل بدا متحمسا نوعا ما بطريقة تثير الحيرة. توجه بنظراته المحدقة المليئة بالفضول إلى السيد فيرلوك ذي الوجه الكبير على فترات متقطعة، خاصة عندما كانت أخته تحيد بنظرها عنه. عبرت ملامحه عن الفخر والتخوف والتركيز، مثل ملامح طفل صغير يعهد إليه لأول مرة بعلبة ثقاب ويؤذن له بأن يقدحه. شعرت السيدة فيرلوك بالرضا عن سلاسة أخيها، وأوصته بألا يوسخ ملابسه من دون داع في الريف. عندئذ، رمق ستيفي أخته - راعيته وحاميته - بنظرة بدت للمرة الأولى في حياته أنها تفتقر إلى صفة الثقة الطفولية التامة. كانت نظرة متجهمة بغطرسة. فابتسمت السيدة فيرلوك. «يا إلهي! لا داعي للاستياء. أنت تعرف أنك بالفعل توسخ نفسك كثيرا عندما تتاح لك الفرصة لذلك، يا ستيفي.»
كان السيد فيرلوك قد قطع بعض المسافة في الشارع.
وهكذا نتيجة لتصرفات والدتها البطولية ولغياب أخيها في الريف، وجدت السيدة فيرلوك نفسها وحيدة أكثر من المعتاد، ليس في المتجر فقط، وإنما في المنزل أيضا. وذلك لأن السيد فيرلوك كان لا بد أن يخرج في نزهاته. كانت وحيدة لفترة أطول من المعتاد في يوم التفجير المدبر في جرينتش بارك؛ لأن السيد فيرلوك خرج في وقت مبكر جدا من صباح ذلك اليوم ولم يرجع حتى وقت الغسق تقريبا. لم تمانع كونها وحيدة. فلم تكن لديها رغبة في الخروج. كان الطقس سيئا للغاية، وكان المتجر أدفأ من الشوارع. جلست خلف منضدة البيع عاكفة على بعض أعمال الخياطة، ولم ترفع عينيها عن عملها عندما دخل السيد فيرلوك مع جلجلة الجرس المزعجة. كانت قد تعرفت على خطواته وهو على الرصيف بالخارج.
لم ترفع عينيها، ولكن بينما كان السيد فيرلوك يتوجه، صامتا ومنزلا قبعته على جبهته، مباشرة إلى غرفة المعيشة، قالت بنبرة هادئة: «يا له من يوم سيئ جدا! لعلك ذهبت لرؤية ستيفي؟»
قال السيد فيرلوك بنعومة: «كلا! لم أفعل.» وأغلق باب غرفة المعيشة الزجاجي بقوة غير متوقعة.
لبعض الوقت ظلت السيدة فيرلوك ساكنة والأشغال التي تخيطها في حجرها، ثم وضعتها جانبا تحت منضدة البيع ونهضت كي تشعل مصباح الغاز. بعدما فعلت، مرت بغرفة المعيشة في طريقها إلى المطبخ. سيرغب السيد فيرلوك في كوب شاي بعد قليل. مع ثقة ويني في جمالها، لم تتوقع من زوجها أن يبدي لها حفاوة في الخطاب أو لطفا في الأسلوب في تعاملهما اليومي في حياتهما الزوجية؛ كانت طرقا عديمة الجدوى وقديمة في أفضل الحالات، وربما لم يعد أحد يحرص عليها حرصا تاما، بل صارت مهملة في هذه الأيام حتى في أرقى الطبقات الاجتماعية، ودائما ما كانت غريبة على أعراف طبقتها. لم تكن ترجو مجاملات منه. ولكنه كان زوجا صالحا، وكانت تحترم حقوقه حق الاحترام.
كانت السيدة فيرلوك ستمر عبر غرفة المعيشة في طريقها لإنجاز واجباتها المنزلية في المطبخ بهدوء تام يليق بامرأة واثقة من سحر جمالها. ولكن نما إلى سمعها صوت رنان ضعيف، ضعيف للغاية، وسريع. كان غريبا وغير مفهوم، حتى إنه استحوذ على انتباه السيدة فيرلوك. ثم عندما أصبح طابعه واضحا للأذن، توقفت فجأة ، مندهشة وقلقة. بعدما أشعلت عود الثقاب من العلبة التي كانت تحملها في يدها، استدارت وأنارت أحد مصباحي الكيروسين على طاولة غرفة المعيشة؛ ولأن المصباح كان به عيب، صدر منه في البداية صفير كأنه صوت اندهاش، ثم مضى يصدر صوت قرقرة ناعمة كقطة.
كان السيد فيرلوك قد خلع معطفه وألقاه على غير عادته. كان ملقى على الأريكة. استقرت قبعته - التي لا بد أنه رماها هي الأخرى - مقلوبة تحت حافة الأريكة. كان قد سحب كرسيا أمام المدفأة ومد قدميه داخل المصد ووضع رأسه بين يديه، شاردا في أفكاره فوق موقد المدفأة المتوهج. كانت أسنانه تصطك بعنف لا يمكن التحكم فيه، مما جعل ظهره العريض كله يرتعش بنفس الدرجة. تملك الذهول من السيدة فيرلوك.
قالت: «لقد أصابك البلل.» «ليس كثيرا»، استطاع السيد فيرلوك أن يتلفظ بتلك الكلمات متلعثما، بارتعاشة شديدة. بجهد جهيد أخمد اصطكاك أسنانه.
قالت بقلق حقيقي: «سأجعلك تستلقي مستريحا على يدي.»
علق السيد فيرلوك وهو يتنشق بصوت مبحوح: «لا أظن ذلك.»
كان بالتأكيد قد أصيب بنزلة برد شديدة بين الساعة السابعة صباحا والخامسة مساء. نظرت السيدة فيرلوك إلى ظهره المقوس.
سألته: «أين كنت اليوم؟»
أجاب السيد فيرلوك بصوت مختنق ومنخفض أخنف: «لم أذهب إلى أي مكان.» أوحى سلوكه هذا باستياء وامتعاض أو بصداع حاد. لم يخف اقتضاب إجابته وغموضها في هذا الصمت الذي خيم على الغرفة. تنشق معتذرا، ثم أردف: «ذهبت إلى البنك.»
تنبهت زوجته.
قالت بدون انفعال: «حقا! ما السبب؟»
تمتم السيد فيرلوك، وأنفه فوق موقد المدفأة، برغبة واضحة في ألا يجيب. «كي أسحب المال!» «ما الذي تقصده؟ كله؟» «أجل. كله.»
فرشت السيدة فيرلوك بعناية مفرش الطاولة الخفيف، وأخرجت سكينتين وشوكتين من درج الطاولة، وتوقفت فجأة عن أعمالها الرتيبة. «لماذا فعلت ذلك؟»
بغموض، وهو يتنشق، أجاب السيد فيرلوك، الذي كان على وشك الوصول إلى نهاية تصرفاته الطائشة العديدة: «ربما أحتاجه عما قريب.»
علقت زوجته بنبرتها المعتادة، ولكنها كانت تقف من دون حراك بين الطاولة والخزانة: «لا أعرف ما ترمي إليه .»
علق السيد فيرلوك بصوت أجش وهو ينظر إلى موقد المدفأة: «كما تعرفين، يمكنك أن تثقي في.»
توجهت السيدة فيرلوك بخطى متثاقلة نحو الخزانة وهي تقول بتأن: «أوه نعم. يمكنني أن أثق فيك.»
ثم تابعت أعمالها الرتيبة. وضعت طبقين وأتت بالخبز والزبد وظلت تغدو وتروح بهدوء بين الطاولة والخزانة في سلام وسكينة منزلها. عندما كانت تخرج المربى، فكرت بطريقة عملية: «سيشعر بالجوع لأنه ظل غائبا طوال اليوم»، ثم عادت إلى الخزانة مرة أخرى كي تحضر لحم البقر البارد. وضعته تحت مصباح الكيروسين ذي صوت القرقرة، وبنظرة عابرة إلى زوجها الساكن الملتصق بالمدفأة، نزلت (درجتين) إلى المطبخ. لم تتحدث مرة أخرى إلا عندما عادت وفي يدها سكين لتقطيع اللحم وشوكة. «لو لم أكن أثق فيك، ما كنت تزوجتك.»
انحنى تحت رف المدفأة، ممسكا رأسه بين كلتا يديه، وبدا وكأنه قد غلبه النعاس. أعدت ويني الشاي، ونادت عليه بصوت خافت: «أدولف.»
نهض السيد فيرلوك في الحال، وترنح قليلا قبل أن يجلس إلى الطاولة. تفحصت زوجته الحافة الحادة لسكين تقطيع اللحم، ووضعتها على الطبق، واسترعت انتباهه إلى لحم البقر البارد. ظل غير منتبه إلى إشارتها، وذقنه على صدره.
قالت زوجته بنبرة جازمة: «يجب أن تأكل لتتخلص من البرد الذي أصابك.»
رفع بصره وهز رأسه. كانت عيناه محتقنتين ووجهه أحمر. كانت أصابعه قد نكشت شعره وجعلته أشعث وغير مهندم. كان مظهره سيئا بوجه عام ويدل على عدم الراحة والتهيج والاكتئاب الذي يعقب الانغماس في فسوق كبير. لكن السيد فيرلوك لم يكن فاسقا. كان محترما في سلوكه. ربما كان مظهره قد تأثر بحمى مصاحبة للبرد. احتسى ثلاثة أكواب من الشاي، ولكنه امتنع تماما عن تناول الطعام. نكص عنه بنفور متجهم عندما ألحت السيدة فيرلوك، التي قالت في النهاية: «أليست قدماك مبتلتين؟ من الأفضل أن ترتدي خفك. لن تخرج مرة أخرى هذا المساء.»
ألمح السيد فيرلوك بهمهمات وإشارات عابسة إلى أن قدميه ليستا مبتلتين، وأنه غير مهتم على أي حال. تجاهل اقتراح ارتداء خفه وكأنه أمر لم يكن جدير باهتمامه. ولكن مسألة عدم الخروج في المساء قوبلت بتطور غير متوقع. لم يكن الخروج في المساء هو ما كان يفكر فيه السيد فيرلوك. تبنت أفكاره مخططا أوسع. من العبارات المزاجية وغير المكتملة، بات واضحا أن السيد فيرلوك كان يفكر في جدوى الهجرة. لم يكن واضحا جدا إن كان يفكر في الهجرة إلى فرنسا أم إلى كاليفورنيا.
عدم التوقع التام لوقوع هذا الحدث، وعدم احتماليته وعدم تصوره سلب هذا التصريح الغامض كل تأثيره. قالت السيدة فيرلوك، بهدوء وكأن زوجها كان يهددها بنهاية العالم: «عجبا!»
صرح السيد فيرلوك بأنه تعب وسئم من كل شيء، وعلاوة على ذلك ... فقاطعته. «أنت مصاب بنزلة برد حادة.»
كان واضحا بالفعل أن السيد فيرلوك لم يكن في حالته الطبيعية، جسديا وحتى عقليا. تملكت منه حيرة كئيبة وأبقته صامتا بعض الوقت. ثم همهم بكلام مبهم نكد عام حول موضوع الضرورة.
كررت ويني، وهي جالسة هادئة، عاقدة ذراعيها، في مواجهة زوجها: «ستضطر إلى ذلك.» «أود أن أعرف من الذي يزعجك. أنت لست عبدا. لا أحد بحاجة إلى أن يكون عبدا في هذه البلاد، ولا تجعل من نفسك عبدا.» توقفت قليلا، ثم عادت للحديث بصدق كئود وراسخ. أردفت: «العمل ليس سيئا جدا. ولديك بيت مريح.»
نظرت في أرجاء غرفة المعيشة، من الخزانة في الزاوية إلى النيران المشتعلة في موقد المدفأة. هذا المنزل، الذي كان محتجبا على نحو مريح خلف المتجر الذي يبيع سلعا تحوم حولها التساؤلات، بنافذته المعتمة بغموض، وبابه الموارب بطريقة تثير الريبة في الشارع المظلم والضيق، كان منزلا لائقا وفقا لكل أساسيات الملاءمة والراحة المنزلية. افتقدت عاطفتها المخلصة أخاها ستيفي، الذي كان حينئذ يستمتع بجو ريفي رطب في حارات كينتيش تحت رعاية السيد ميكايليس. افتقدته بشدة، بكل قوة عاطفة الحماية لديها. كان هذا بيت الصبي أيضا، السطح، والخزانة، وموقد المدفأة المتأجج. نهضت السيدة فيرلوك، وعقلها منشغل بتلك الخاطرة، وسارت إلى الجانب الآخر من الطاولة، قائلة من أعماق قلبها: «وأنت لم تسأم مني.»
لم ينبس السيد فيرلوك ببنت شفة. استندت ويني على كتفه من الخلف، وقبلته على جبهته. وأطالت هكذا. لم يصل إليهما أي همس من العالم بالخارج.
تلاشى صوت وقع الأقدام على الرصيف في ظلمة المتجر المعتمة. لم يكن ثمة صوت سوى صوت قرقرة مصباح الكيروسين على الطاولة في الصمت الكئيب الذي خيم على غرفة المعيشة.
أثناء تلامس تلك القبلة الطويلة غير المتوقعة، ظل السيد فيرلوك، متمسكا بكلتا يديه بحافة كرسيه، في حالة جمود كهنوتي. عندما رفعت شفتيها من فوق جبهته، تخلى عن تمسكه بالكرسي، ونهض ومشى حتى وقف أمام المدفأة. لم يكن حينئذ موليا ظهره للغرفة. بتورم ملامحه ومظهره الذي يوحي بأنه مخدر، تابع بعينيه حركات زوجته.
مضت السيدة فيرلوك بهدوء في تنظيف الطاولة. علقت بصوتها الهادئ على الفكرة المطروحة بنبرة عقلانية وأليفة. لم يكن ثمة ما يدعو للتمحيص فيها. استهجنت الفكرة من جميع النواحي. لكن همها الحقيقي الوحيد كان مصلحة ستيفي. بدا لها في تفكيرها في هذا الصدد أنه «غريب» بما يكفي ولا يصح التسرع في السفر به إلى الخارج. وكان ذلك كل ما في الأمر. ولكن في حديثها الذي تجنبت فيه تلك النقطة الحيوية، وصلت في لهجتها إلى درجة الحدة الطاغية. وفي تلك الأثناء، بحركات حادة، ارتدت مئزرا من أجل أن تغسل الأطباق. وكأنها مولعة بوقع صوتها الذي لم يدحض حديثه، تجرأت أن تقول بنبرة كادت أن تكون لاذعة: «إذا كنت ستسافر إلى الخارج، فسيكون عليك أن تذهب بدوني.»
قال السيد فيرلوك بصوت مبحوح، وارتعش صوته المنخفض في حديثه مع زوجته بعاطفة مبهمة: «تعرفين أنني لا يمكن أن أفعل هذا.»
كانت السيدة فيرلوك قد ندمت على ما تفوهت به من كلمات. فقد بدت أقسى مما كانت تقصد. كما أنها كانت كلمات طائشة عن أمور غير ضرورية. في الواقع، لم تكن تقصدها على الإطلاق. كانت من نوعية العبارات التي يوحي بها شيطان الوحي المنحرف. ولكنها كانت تعرف طريقة تنسيه بها ما قالته.
استدارت برأسها من فوق كتفها ورمقت ذلك الرجل المنزرع أمام المدفأة بنظرة تحوي بعضا من المكر وبعضا من القسوة من عينيها الواسعتين، نظرة كانت ويني تعجز عنها أيام كانت تعيش في منزل بلجرافيا بسبب احترامها وجهلها. ولكن الرجل زوجها الآن، ولم تعد جاهلة. أبقت عينها عليه لثانية كاملة، بوجهها الجاد الجامد مثل قناع، بينما قالت بنبرة مرحة: «لا تستطيع. ستفتقدني كثيرا.»
بدأ السيد فيرلوك يمشي إلى الأمام.
قال بصوت أعلى: «بالضبط.» وفرد ذراعيه ومشى خطوة نحوها. انطوى تعبير وجهه على شيء من الجموح والريبة فبدا غير واضح إن كان يقصد خنق زوجته أم احتضانها. ولكن انتباه السيدة فيرلوك انصرف عن استجلاء ذلك بسبب صلصلة جرس المتجر. «المتجر يا أدولف. اذهب أنت.»
توقف وأنزل ذراعيه ببطء.
كررت السيدة فيرلوك: «اذهب أنت. أنا مرتدية مئزري.»
أطاع السيد فيرلوك أمرها بطريقة جامدة وعينين متحجرتين مثل إنسان آلي طلي وجهه باللون الأحمر. وكان هذا التشابه بينه وبين الإنسان الآلي غريبا إلى حد أنه كان مدركا للطبيعة الميكانيكية بداخله.
أغلق باب غرفة المعيشة، وتحركت السيدة فيرلوك بخفة وهي تحمل الصينية إلى المطبخ. غسلت الأكواب وبعض الأشياء الأخرى قبل أن تتوقف عن العمل كي تستمع. لم يصل أي صوت إلى أذنيها. ظل الزبون في المتجر لفترة طويلة. كان زبونا؛ لأنه لو لم يكن كذلك، كان السيد فيرلوك سيصطحبه إلى الداخل. فكت خيوط مئزرها بشدة قوية، ورمته على كرسي، ورجعت إلى غرفة المعيشة بخطى بطيئة.
في تلك اللحظة بالتحديد، دخل السيد فيرلوك من المتجر.
كان قد ذهب ووجهه أحمر. وعاد بشحوب غريب كبياض الورق. كانت ملامح وجهه - التي فقدت ذهولها المخدر المحموم - قد اكتست في ذلك الوقت القصير بتعبير ينم عن الارتباك والضيق. مشى إلى الأريكة مباشرة، ووقف وهو ينظر إلى معطفه الموضوع عليها، وكأنه يخشى أن يلمسه.
سألت السيدة فيرلوك بصوت خافت: «ما الأمر؟» عبر الباب الذي كان مواربا، استطاعت أن ترى أن الزبون لما يذهب بعد.
قال السيد فيرلوك: «أجدني مضطرا للخروج هذا المساء.» لم يحاول أن يلتقط معطفه.
دون أن تنطق بكلمة، مضت ويني إلى المتجر وأغلقت الباب خلفها، ودخلت ووقفت خلف منضدة البيع. لم تنظر مباشرة إلى الزبون حتى استقرت على الكرسي بجلسة مريحة. ولكن مع الوقت كانت قد لاحظت أنه كان طويلا ورفيعا وله شارب مبروم إلى أعلى. في الحقيقة، برم أطراف شاربه المدببة في تلك اللحظة. ظهر وجهه الطويل ذو العظام الناتئة فوق ياقة مرفوعة إلى أعلى. كان متناثرا عليه قليل من قطرات الماء، ومبتلا قليلا. كان رجلا ذا بشرة داكنة، ونتوء عظم وجنته محدد جدا تحت صدغ مجوف قليلا. لم تكن قد رأته من قبل. لم يكن زبونا أيضا.
نظرت إليه السيدة فيرلوك في هدوء.
بعد مدة قالت: «هل أنت آت من أوروبا؟»
لم يجب الغريب الطويل النحيف، الذي لم ينظر إلى السيدة فيرلوك مباشرة، إلا بابتسامة باهتة وغريبة.
لم تنزل السيدة فيرلوك نظرتها الثابتة والفضولية عنه. «أنت تفهم الإنجليزية، أليس كذلك؟» «أوه نعم. أفهم الإنجليزية.»
لم تكن لكنته أجنبية، عدا أنه بدا أنه كان يبذل مجهودا في نطقه البطيء. وكانت السيدة فيرلوك، من خلال تجربتها الواسعة، قد توصلت إلى استنتاج مفاده أن بعض الأجانب يمكنهم التحدث بالإنجليزية على نحو أفضل ممن كانت الإنجليزية هي لغتهم الأم. قالت، ناظرة بثبات إلى باب غرفة المعيشة: «ألا تفكر في المكوث بإنجلترا بشكل دائم؟»
مجددا لم يجبها الغريب إلا بابتسامة صامتة. كان له فم لطيف وعينان ثاقبتان. وهز رأسه بقليل من الأسف، أو هكذا بدا. «سوف يعتني بك زوجي جيدا. في غضون ذلك، إن كانت إقامتك لأيام قليلة، لن تجد أفضل من أن تقيم عند السيد جيوجلياني. الفندق اسمه كونتيننتال. يتسم بالخصوصية. إنه مكان هادئ. سيأخذك زوجي إلى هناك.»
قال الرجل الأسمر الرفيع، الذي كانت نظرته قد تصلبت فجأة: «فكرة جيدة.» «أنت تعرف السيد فيرلوك من قبل، أليس كذلك؟ ربما في فرنسا؟»
أقر الزائر بنبرته البطيئة المتثاقلة، التي كان لها قصد معين: «سمعت عنه.»
صمت قليلا. ثم تحدث مجددا، بطريقة أقل بطئا بكثير. «ربما يكون زوجك قد خرج كي ينتظرني في الشارع؟»
كررت السيدة فيرلوك مندهشة: «في الشارع! لا يمكنه ذلك. لا يوجد باب آخر للمنزل.»
للحظة جلست صامتة، ثم غادرت مقعدها كي تذهب وتلقي نظرة سريعة من الباب المزجج. فتحته فجأة واختفت في غرفة المعيشة.
لم يكن السيد فيرلوك قد فعل شيئا سوى أنه ارتدى معطفه. لكنها لم تفهم لماذا بقي مستندا على الطاولة بذراعيه وكأنه يشعر بدوار أو مرض. نادت عليه بصوت عال بعض الشيء: «أدولف»؛ ولما اعتدل، قالت: «هل تعرف ذلك الرجل؟» سألته بسرعة.
همس السيد فيرلوك منزعجا، وهو ينظر إلى الباب بنظرة حادة: «سمعت عنه.»
لمعت عينا السيدة فيرلوك الجميلتان الهادئتان بوميض من الاشمئزاز. «أحد أصدقاء كارل يوندت؛ الرجل المسن البغيض.»
اعترض السيد فيرلوك وهو منشغل بالبحث عن قبعته: «كلا! كلا!» ولكن عندما التقطها من تحت الأريكة، أمسكها وكأنه لا يعرف نفع القبعة.
قالت السيدة فيرلوك في النهاية: «حسنا؛ إنه ينتظرك. أدولف، أليس هذا أحد رجال السفارة الذين انزعجت بسببهم مؤخرا؟»
كرر السيد فيرلوك باختلاجة قوية نابعة من المفاجأة والخوف: «انزعجت بسبب موظفي السفارة. من الذي أخبرك عن موظفي السفارة؟» «أنت.» «أنا! أنا! تحدثت معك عن السفارة!»
بدا السيد فيرلوك مرتعبا ومتحيرا إلى حد يفوق الوصف. أوضحت زوجته: «كنت تتحدث قليلا وأنت نائم في الفترة الأخيرة، يا أدولف.» «ماذا ... ماذا قلت؟ ما الذي تعرفينه؟» «لا أعرف الكثير. بدا أغلب الكلام هراء. ولكنه يكفي كي يجعلني أخمن أن أمرا ما كان يقلقك.»
ضغط السيد فيرلوك قبعته على رأسه بقوة. اجتاح فيضان قرمزي من الغضب وجهه. «هراء؛ أليس كذلك؟ رجال السفارة! سأقتلع قلوبهم واحدا تلو الآخر. ولكن فليحذروا. يمكنني أن أفصح عن أمور كثيرة.»
تملكه الغضب وظل يروح ويغدو بين الطاولة والأريكة، ومعطفه المفتوح يمسك في الزوايا. انحسر فيضان الغضب الأحمر من وجهه، وتركه شاحبا تماما، وفتحتا أنفه ترتعشان. وكي تحافظ السيدة فيرلوك على أسلوب الحياة العملي، أرجعت هذه الظواهر إلى إصابته بالبرد.
قالت: «حسنا، تخلص من الرجل، أيا من كان، بأسرع ما تستطيع، وعد إلي. أنت بحاجة إلى الرعاية ليوم أو يومين .»
هدأ السيد فيرلوك، وكان قد فتح الباب بالفعل، والتصميم منطبع على وجهه الشاحب، عندما دعته زوجته للعودة همسا: «أدولف! أدولف!» رجع إليها مندهشا. فسألته: «ماذا عن ذلك المال الذي سحبته؟ هل هو معك في جيبك؟ ألم يكن من الأفضل أن ...»
حملق السيد فيرلوك ببلاهة في راحة يد زوجته التي ظلت ممدودة لبعض الوقت قبل أن يصفع جبهته. «المال! أجل! أجل! لم أعرف ماذا تقصدين.»
أخرج من جيب الصدر محفظة جيب جديدة من جلد الخنزير. أخذته السيدة فيرلوك من دون أن تتكلم بكلمة أخرى، ووقفت دون حراك حتى هدأت صلصلة الجرس بعدما خرج السيد فيرلوك وزائره. عندئذ فقط، ألقت نظرة على مبلغ النقود، مخرجة الأوراق النقدية لذلك الغرض. بعد هذا التفحص، نظرت حولها بتفكير، وبشيء من عدم الثقة في الصمت والعزلة اللذين كانا يخيمان على المنزل. بدا لها منزل الزوجية منعزلا وغير آمن وكأنه مقام وسط غابة. بدت لها كل حاوية، استطاعت أن تفكر فيها وسط الأثاث الصلب الثقيل، سهلة الكسر وتمثل إغراء خاصا للص المنازل حسب تصورها له. كان تصورها عنه مثاليا، تمتع فيه بقدرات عظيمة وبصيرة خارقة. لم يكن من الوارد البتة التفكير في درج النقود. كان الموضع الأول الذي سيعمد إليه أي لص. فكت السيدة فيرلوك مشبكين على عجل، ودست المحفظة تحت صدرية ثوبها. بعد أن خبأت بذلك رأس مال زوجها، أسعدها إلى حد ما سماع صلصلة جرس الباب معلنة وصول زائر ما. متصنعة نظرتها الثابتة السافرة وتعبير الوجه المتحجر المخصص للزبائن العارضين، سارت ووقفت خلف منضدة البيع.
كان رجل واقف وسط المتجر يتفحص أرجاء المكان بنظرات سريعة وهادئة. ألقت عيناه نظرة سريعة على الجدران، ثم توجهت إلى السقف، ومنه إلى الأرضية؛ كل هذا في لحظة. تدلت حواف شارب طويل أشقر إلى تحت خط فكه. ابتسم ابتسامة شخص كان يعرفها منذ زمن بعيد، وتذكرت السيدة فيرلوك أنها رأته من قبل. لم يكن زبونا. لطفت من «التحديقة الخاصة بالزبائن» وجعلتها مجرد نظرة لا مبالاة، وواجهته من خلف منضدة البيع .
أما هو فاقترب منها بحميمية، لكن ليس على نحو ملحوظ جدا.
سألها بنبرة هادئة وواثقة: «هل زوجك في المنزل يا سيدة فيرلوك؟» «كلا. لقد خرج.» «يؤسفني ذلك. جئت في زيارة قصيرة لكي أحصل منه على القليل من المعلومات الخاصة.»
كانت هذه الحقيقة بعينها. كان كبير المفتشين هيت قد وصل إلى المنزل، وكان حتى قد وصل إلى حد التفكير في ارتداء خفه؛ لأنه كان عمليا، كما قال لنفسه، قد أجبر على ترك تلك القضية. انغمس في بعض الأفكار الكريهة والقليل من الأفكار الغاضبة، ووجد الانهماك في التفكير غير مناسب لدرجة أنه عقد العزم على أن يبتغي التفريج عن نفسه خارج المنزل. لم يمنعه شيء من إجراء زيارة ودية إلى السيد فيرلوك، بشكل عرضي، إن جاز القول. استخدم وسائل انتقاله المعتادة بصفته مواطنا عاديا خرج في نزهة خاصة. وقادته إلى بيت السيد فيرلوك. احترم كبير المفتشين هيت خصوصيته بصفته مواطنا عاديا بشدة لدرجة أنه بذل جهدا خاصا لتجنب جميع رجال الشرطة في النقاط والدوريات القريبة من شارع بريت. كان هذا الاحتياط ضروريا لرجل في مكانته أكثر بكثير من كونه ضروريا للمفوض المساعد غير المعروف. دخل المواطن العادي هيت إلى الشارع، مناورا بطريقة ربما لو فعلها أحد أفراد الطبقات الإجرامية لوصم بأنه يتسلل خلسة. كانت قطعة القماش التي التقطها في جرينتش في جيبه. لم يكن ذلك يعني أنه كان لديه أدنى نية في إخراجها بصفته مواطنا عاديا. وعلى النقيض، كان يريد أن يعرف بالضبط ما سيقوله السيد فيرلوك طواعية. كان يأمل أن يكون لحديث السيد فيرلوك طبيعة تدين ميكايليس. كان أملا مهنيا بدقة ولكنه كان يخلو من قيمته الأخلاقية. وذلك لأن كبير المفتشين هيت كان خادما للعدالة. عندما وجد أن السيد فيرلوك لم يكن في المنزل، أحس بخيبة أمل.
قال: «يمكنني أن أنتظره قليلا لو كنت متأكدا من أن غيابه لن يطول.»
لم تتطوع السيدة فيرلوك بأي تأكيد من أي نوع.
كرر: «المعلومات التي أحتاجها خاصة للغاية. هل تفهمين ما أعنيه؟ يا ترى هل بإمكانك أن تعطيني فكرة إلى أين ذهب؟»
هزت السيدة فيرلوك رأسها. «ليس بوسعي أن أقول.»
أدارت ظهرها كي ترتب بعض الصناديق على الرفوف خلف منضدة البيع. ظل كبير المفتشين هيت ينظر إليها بتفكير بعض الوقت.
قال: «أظن أنك تعرفينني، أليس كذلك؟»
نظرت السيدة فيرلوك من فوق كتفها. استغرب كبير المفتشين هيت من هدوئها.
قال بنبرة حادة: «هيا! تعرفين أنني أعمل في الشرطة.»
قال السيدة فيرلوك: «لا أشغل بالي كثيرا بهذه الأمور»، ثم عادت إلى ترتيب الصناديق. «اسمي هيت. كبير المفتشين هيت من إدارة الجرائم الخاصة.»
عدلت السيدة فيرلوك بإتقان صندوقا صغيرا من الورق المقوى في مكانه، واستدارت وواجهته مرة أخرى، بعينين منهكتين ويدين خاملتين متدليتين. ساد صمت لبعض الوقت. «إذن خرج زوجك منذ ربع ساعة! ولم يقل متى سيعود؟»
قالت السيدة فيرلوك سهوا في غفلة منها: «لم يخرج بمفرده.» «مع صديق؟»
تلمست السيدة فيرلوك الجزء الخلفي من شعرها. كان في هندامه الكامل. «شخص غريب زاره.» «فهمت. هل يمكنك أن تصفي لي ذلك الرجل الغريب؟ هل لديك مانع من أن تخبريني؟»
لم تمانع السيدة فيرلوك. وعندما سمع كبير المفتشين هيت أن الرجل أسمر ورفيع وله وجه طويل وشارب له حواف مبرومة إلى الأعلى، ارتسمت على ملامحه علامات الاضطراب وصاح: «اللعنة، لم أفكر في ذلك! إنه لم يضيع أي وقت.»
شعر في قرارة نفسه باشمئزاز كبير من المسلك غير الرسمي من رئيسه المباشر. ولكنه لم يكن غير عملي. ومن ثم فقد أي رغبة في انتظار عودة السيد فيرلوك. لم يعرف السبب وراء خروجهما، ولكنه تصور أنهما من الممكن أن يعودا معا. فكر بمرارة، قائلا في نفسه إنه لم تتبع الأصول المرعية في القضية، وثمة تلاعب يجري فيها.
قال: «يؤسفني القول إنه ليس لدي وقت كي أنتظر زوجك.»
استقبلت السيدة فيرلوك هذا التصريح بفتور. كان انعدام مبالاتها قد ترك انطباعا لدى كبير المفتشين هيت منذ البداية. أثار فضوله في هذه اللحظة بالتحديد. كان كبير المفتشين هيت في مهب الريح، تهيمن عليه عواطفه مثل معظم المواطنين العاديين.
قال، ناظرا إليها بثبات: «أظن أنه يمكنك أن تعطيني فكرة جيدة جدا عما يجري إذا أحببت.»
تمتمت السيدة فيرلوك، وهي ترغم عينيها الجميلتين الخاملتين على مبادلته نظرته: «ما يجري! ما الذي يجري؟» «عجبا، القضية التي جئت كي أتحدث فيها قليلا مع زوجك.»
في ذلك اليوم، كانت السيدة فيرلوك قد ألقت نظرة سريعة على الجرائد الصباحية كالمعتاد. ولكنها لم تخرج خارج البيت. لم يكن موزعو الصحف يدخلون إلى شارع بريت مطلقا. لم يكن هذا الشارع ضمن نطاق عملهم. وكانت أصداء صيحاتهم التي تتردد في الشوارع المكتظة بالمارة تتلاشى بين الجدران القذرة دون أن تصل إلى عتبة المتجر. لم يكن زوجها قد أحضر الصحيفة المسائية معه إلى البيت. لم تكن قد رأتها على أي حال. لم تكن السيدة فيرلوك تعرف أي شيء عن أي قضية. وقالت ذلك، بنبرة تعجب حقيقية بصوتها الهادئ.
لم يصدق كبير المفتشين هيت للحظة هذا الكم من الجهل. وذكر الحقيقة المجردة باقتضاب وفظاظة.
أشاحت السيدة فيرلوك بناظريها.
قالت متثاقلة: «إنني أعتبر هذا سخافة.» ثم توقفت قليلا. «لسنا عبيدا مضطهدين هنا.»
انتظر كبير المفتشين بترقب. لم تضف شيئا آخر. «ألم يذكر زوجك لك أي شيء عندما عاد إلى البيت؟»
لم يكن من السيدة فيرلوك إلا أن أدارت وجهها من اليمين إلى اليسار علامة على النفي. ساد صمت متراخ محير في المتجر. شعر كبير المفتشين هيت باستفزاز يفوق احتماله.
قال بنبرة خالية من التعبيرات: «ثمة مسألة صغيرة أخرى أردت أن أتحدث مع زوجك بشأنها. وصل إلى أيدينا شيء ... شيء نعتقد أنه ... معطف مسروق.»
برفق تلمست السيدة فيرلوك، التي كان عقلها يقظا للصوص ذلك المساء على وجه الخصوص، ثوبها عند منطقة الصدر.
قالت بهدوء: «لم نفقد معاطف.»
أردف المواطن العادي هيت: «ذلك غريب. أرى أنكم تحتفظون بالكثير من حبر الطباعة هنا ...»
أخذ زجاجة صغيرة ونظر إليها أمام مصباح الغاز في وسط المتجر.
علق، وهو يضعها مرة أخرى: «أرجواني، أليس كذلك؟ كما قلت، إنه غريب. لأن المعطف فيه علامة مخيطة من الداخل تحمل عنوانكم ومكتوبة بحبر الطباعة.»
اتكأت السيدة فيرلوك على منضدة البيع وعلى ملامح وجهها تعجب خافت. «ذلك أخي، إذن.»
بسرعة سألها كبير المفتشين هيت: «أين أخوك؟ هل يمكنني رؤيته؟» اتكأت السيدة فيرلوك على طاولة البيع أكثر قليلا. «كلا. إنه ليس هنا. أنا كتبت تلك العلامة بنفسي.» «أين أخوك الآن؟» «يسكن بعيدا مع ... صديق ... في الريف.» «أتى المعطف من الريف. وما اسم الصديق؟»
اعترفت السيدة فيرلوك بهمس ينم عن خوف: «ميكايليس.»
أطلق كبير المفتشين زفيرا من شفتيه المضمومتين. طرفت عيناه. «هكذا إذن. ممتاز. والآن فيما يتعلق بأخيك، كيف يبدو ... شاب قوي البنية مائل إلى السمرة ... هاه؟»
صاحت السيدة فيرلوك بحرارة: «أوه كلا. لا بد أنه اللص. ستيفي نحيف وأشقر.»
قال كبير المفتشين بنبرة موافقة: «جيد.» وبينما كانت مشاعر السيدة فيرلوك تتأرجح بين القلق والتساؤل، محدقة فيه، سعى إلى الحصول على معلومات. لماذا خيط العنوان بهذه الطريقة في المعطف من الداخل؟ وسمع أن البقايا المحترقة التي كان قد تفحصها في ذلك الصباح باشمئزاز كبير كانت لشاب عصبي شارد الذهن وغريب الأطوار وأيضا أن المرأة التي كانت تتحدث إليه كانت ترعى ذلك الفتى منذ أن كان طفلا.
اقترح قائلا: «يمكن استثارة عواطفه بسهولة؟» «أوه نعم. هو كذلك. ولكن كيف فقد معطفه ...»
فجأة أخرج كبير المفتشين هيت جريدة وردية اللون كان قد ابتاعها منذ أقل من نصف ساعة. كان مهتما بالخيل. مدفوعا بداعي مهنته إلى اتباع مسلك يتسم بالشك والريبة تجاه مواطنيه، تحرر كبير المفتشين هيت من غريزة السذاجة المتأصلة في صدور البشر بغرس إيمان غير محدود بالمتكهنين بنتائج مراهنات سباقات الخيل في تلك الجريدة المسائية على وجه الخصوص. بعدما وضع الإصدار الخاص الإضافي للجريدة على طاولة البيع، أدخل يده مرة أخرى في جيبه، وأخرج قطعة القماش التي كان القدر قد أهداها إليه من بين كومة من الأشياء التي بدت وكأنها كانت قد جمعت في مجزر شامبلز ومتاجر الخردة، وأعطاها للسيدة فيرلوك كي تتفحصها. «أظن أنك تعرفين هذه، أليس كذلك ؟»
وضعتها من دون تفكير بين راحتي يديها. بدت عيناها وكأنما تزدادان اتساعا وهي تنظر إليها.
قالت هامسة: «بلى»، ثم رفعت رأسها وترنحت متراجعة قليلا. «لأي سبب هي ممزقة هكذا؟»
مد كبير المفتشين يده عبر منضدة البيع وانتزع قطعة القماش من يديها، وجلست على الكرسي بتثاقل. فكر في نفسه: تحديد الهوية مثالي. وفي تلك اللحظة، اتضحت له الحقيقة المذهلة بأكملها. كان فيرلوك هو «الرجل الآخر».
قال: «يا سيدة فيرلوك، يبدو لي أنك تعرفين عن مسألة التفجير هذه أكثر مما تدركين أنت نفسك.»
جلست السيدة فيرلوك دون أن تتحرك مذهولة وتائهة في استغراب لا حد له. ما هي الصلة؟ وأصابها تصلب في سائر جسدها حتى إنها لم تكن قادرة على أن تلتفت برأسها إلى صلصلة الجرس، التي جعلت المحقق الخاص هيت يلتف على عقبيه. كان السيد فيرلوك قد أغلق الباب، ونظر كل من الرجلين إلى الآخر للحظة.
مشى السيد فيرلوك - من دون أن ينظر إلى زوجته - إلى كبير المفتشين، الذي ارتاح لرؤيته عائدا بمفرده.
تمتم السيد فيرلوك متثاقلا: «أنت هنا! عمن تبحث؟»
قال كبير المفتشين هيت بنبرة خافتة: «لا أحد. اسمع، أود أن أتحدث معك قليلا.»
كان السيد فيرلوك، دون أن يزول شحوب وجهه، قد عاد مع انطباع بالتصميم مرتسم على ملامحه. كان ما زال لم ينظر إلى زوجته. قال: «ادخل هنا، إذن.» وتوجه به إلى غرفة المعيشة.
لم يكد الباب يوصد حتى هرعت إليه السيدة فيرلوك، وثبا من على الكرسي، وكأنها تهم بفتحه على مصراعيه، ولكن بدلا من أن تفعل ذلك جثت على ركبتيها، ووضعت أذنها على ثقب المفتاح. لا بد أن الرجلين توقفا بعد أن عبرا من الباب مباشرة، لأنها سمعت صوت كبير المفتشين بوضوح، على الرغم من أنها لم تستطع أن ترى إصبعه وهو يضغط به على صدر زوجها جازما. «أنت الرجل الآخر يا فيرلوك. شوهد رجلان يدخلان إلى الحديقة.»
وسمع صوت السيد فيرلوك يقول: «حسنا، اقبض علي الآن. ما الذي يمنعك؟ لديك الحق في ذلك.» «أوه كلا! أنا أعلم تمام العلم لمن سلمت نفسك. سيتعين عليه أن يتولى هذه المسألة الصغيرة بنفسه. ولكن كن متأكدا، أنا الذي اكتشفت أمرك.»
ثم لم تسمع إلا همهمة. لا بد أن المفتش هيت كان يطلع السيد فيرلوك على قطعة القماش من معطف ستيفي لأن أخت ستيفي، الوصية عليه وحاميته، سمعت زوجها يتحدث بصوت أعلى قليلا. «لم ألاحظ قط أنها كانت قد اهتدت إلى تلك الحيلة.»
مرة أخرى، لبعض الوقت لم تسمع السيدة فيرلوك شيئا إلا همهمات، كان غموضها أقل كارثية على عقلها من الإيحاءات المروعة للكلمات المسموعة. ثم رفع كبير المفتشين هيت صوته على الجانب الآخر من الباب. «لا بد أنك كنت مجنونا.»
أجاب صوت السيد فيرلوك وفي نبرته شيء من الغضب الحزين: «كنت مجنونا لشهر أو أكثر، ولكنني لست مجنونا الآن. انتهى الأمر. سوف أكشف عن كل شيء، ولا تهمني العواقب.»
ساد صمت، ثم تمتم المواطن العادي هيت: «ما الذي سوف تكشفه؟»
علا صوت السيد فيرلوك، ثم انخفض جدا، قائلا: «كل شيء.»
بعد قليل علا صوته مرة أخرى. «أنت تعرفني منذ عدة سنوات، وقد وجدتني مفيدا، أيضا. تعرف أنني كنت رجلا شريفا. نعم، شريفا.»
لا بد أن هذا الاستعطاف بالاستعانة بالمعرفة الشخصية القديمة كان مستهجنا لدى كبير المفتشين إلى أقصى درجة.
انطوى صوته على نبرة تحذيرية. «لا تثق كثيرا في الوعود التي تلقيتها. لو كنت مكانك، لغادرت فورا. لا أظن أننا سنلاحقك.»
سمع السيد فيرلوك يضحك قليلا. «أوه نعم؛ تأمل أن يتخلص مني الآخرون نيابة عنك؛ أليس كذلك؟ لا، لا؛ لن تتخلص مني الآن. كنت رجلا شريفا مع هؤلاء الناس لمدة أطول من اللازم، والآن لا بد أن ينكشف كل شيء.»
وافقه كبير المفتشين هيت بنبرة غير مبالية: «فلينكشف إذن. ولكن أخبرني الآن كيف هربت.»
سمعت السيدة فيرلوك صوت زوجها وهو يقول: «كنت في طريقي إلى ممشى تشيسترفيلد ووك عندما سمعت صوت الانفجار. عندئذ بدأت أجرى. ضباب. لم أر أحدا حتى تجاوزت نهاية شارع جورج. لا أظن أنني صادفت أحدا حتى ذلك الحين.»
سمع صوت كبير المفتشين هيت متعجبا: «بهذه السهولة! صوت الانفجار أفزعك، أليس كذلك؟»
اعترف صوت السيد فيرلوك المغتم الأجش: «بلى، جاء قبل الأوان.»
ضغطت السيدة فيرلوك أذنها في ثقب الباب؛ كانت شفتاها مزرقتين، ويداها باردتين كالثلج، وشعرت وكأن وجهها الشاحب، الذي بدت فيه عيناها مثل ثقبين أسودين، كان مطوقا بألسنة اللهب.
وعلى الجانب الآخر من الباب، انخفضت الأصوات جدا. كانت تلتقط كلمات بين فينة وأخرى، أحيانا بصوت زوجها وأحيانا أخرى بنبرات كبير المفتشين الناعمة. سمعت هذا القول الأخير: «نعتقد أنه تعثر في جذع شجرة، أتظن ذلك؟»
كانت ثمة تمتمة من صوت أجش، استمرت لبعض الوقت، ثم تحدث كبير المفتشين بطريقة جازمة، وكأنه كان يجيب على بعض الاستفسارات. «بالطبع. تمزق إلى أشلاء: الأطراف، الحصى، الملابس، العظام، الشظايا؛ كلها مختلطة بعضها ببعض. لا أخفيك أنهم قد اضطروا إلى استخدام مجرفة كي يجمعوا أشلاءه.»
انتفضت السيدة فيرلوك فجأة من وضعية القرفصاء التي كانت عليها، وسدت أذنيها، وظلت تروح وتجيء بين منضدة البيع والرفوف على الحائط خلف الكرسي. لاحظت عيناها المذعورتان الصحيفة التي تركها كبير المفتشين، وبينما كانت تصطدم بمنضدة البيع اختطفتها، وهوت على الكرسي، ومزقت الصحيفة الوردية التي تبعث على التفاؤل، وهي تحاول فتحها، ثم ألقتها أرضا. على الجانب الآخر من الباب، كان كبير المفتشين هيت يقول للسيد فيرلوك، العميل السري: «إذن، سيتشكل دفاعك عمليا من اعتراف كامل؟» «سيكون كذلك. سأحكي القصة كلها.» «لن يصدقوك بالقدر الذي تتخيله.»
وأخذ كبير المفتشين يفكر. كان المنعطف الذي كانت تتخذه هذه القضية يعني الكشف عن أشياء كثيرة، إهدار حقول من المعرفة، زرعها رجل بارع، وكان لها قيمة مميزة لدى الفرد والمجتمع. كان تدخلا مؤسفا للغاية. لن يؤدي الأمر إلى أن يمس ميكايليس بأذى؛ وسيلقي الضوء على معمل البروفيسور المنزلي؛ ويفسد نظام المراقبة بالكامل؛ وسيؤدي إلى صخب لا ينتهي في الصحف التي، من وجهة النظر تلك، بدت له بفعل استنارة خاطفة أنها دائما ما تكتب بأقلام حمقى من أجل أن يقرأها بلهاء. اتفق عقله مع الكلمات التي أفصح بها السيد فيرلوك أخيرا دون قصد ردا على تعليقه الأخير. «ربما لن يفعلوا. ولكنها ستزعزع أشياء كثيرة. كنت رجلا شريفا، وسأبقى شريفا في هذه ...»
قال كبير المفتشين ساخرا: «إن سمحوا لك بذلك. لا شك في أنك ستتلقى نصحا قبل أن يضعوك في قفص الاتهام. وفي النهاية، ربما تنال عقوبة ستفاجئك. ما كنت لأفرط في الثقة في الرجل الذي كان يتحدث إليك.»
استمع السيد فيرلوك مقطبا جبينه. «نصيحتي لك هي أن تغادر بسرعة ما دام بإمكانك ذلك. ليس لدي أي تعليمات.» وأردف كبير المفتشين: «يوجد بعض من يظنون أنك قد فارقت الحياة بالفعل.» مشددا تشديدا خاصا على كلمة «بعض».
دفع ذلك السيد فيرلوك إلى أن يقول: «حقا!» على الرغم من أنه منذ عودته من جرينتش كان قد أمضى جل وقته جالسا في غرفة المشروبات الكحولية في حانة صغيرة غير معروفة، لم يكن يأمل في مثل هذه الأخبار السارة. «ذلك هو الانطباع عنك.» أومأ إليه كبير المفتشين. «اختف. غادر بسرعة.»
زمجر السيد فيرلوك: «إلى أين؟» رفع رأسه، ومحملقا في باب غرفة المعيشة المغلق، تمتم من أعماقه: «كل ما أتمناه أن تصطحبني معك الليلة. سأذهب معك بهدوء.»
وافقه كبير المفتشين ساخرا، ومتتبعا اتجاه نظرته: «أظن ذلك.»
ابتل جبين السيد فيرلوك بعرق خفيف. أخفض صوته الأجش وكأنه يقول سرا أمام كبير المفتشين غير المبالي. «كان الفتى أبله، أي إنه كان غير مسئول عن أفعاله. وأي محكمة سترى هذا الرأي من فورها. لم يصلح له إلا المكوث في مستشفى الأمراض العقلية. وذلك كان أسوأ ما كان يمكن أن يحدث له إذا ...»
واضعا يده على مقبض الباب، همس كبير المفتشين في وجه السيد فيرلوك: «ربما كان أبله، ولكن لا بد أنك جننت. من الذي غيب عقلك هكذا؟»
مفكرا في السيد فلاديمير، لم يتردد السيد فيرلوك في اختيار كلماته.
همس بقوة: «حقير من الشمال. شخص يمكن أن تدعوه ... سيدا.»
بعينين ثابتتين، عبر كبير المفتشين بإيماءة قصيرة عن فهمه، وفتح الباب. ربما سمعت السيدة فيرلوك ، القابعة خلف منضدة البيع، ولكنها لم تر رحيله، الذي استتبعه صوت صلصلة الجرس الشرسة. جلست في مكان عملها خلف منضدة البيع. جلست منتصبة بجمود على الكرسي وقطعتين متسختين من ورق الصحف الوردي مفرودتين عند قدميها. ضغطت براحتي يديها على وجهها بتشنج وأطراف أصابعها متقلصة عند جبهتها، وكأن الجلد كان قناعا تستعد لتمزيقه بعنف. عبر الجمود التام في وضعيتها عن فورة الغضب واليأس، وكل العنف المرتقب النابع من عواطف مأساوية، تعبيرا أفضل من الصراخ الحاد، وضرب الرأس المذهول في الحائط. لم يرمقها كبير المفتشين هيت إلا بنظرة خاطفة، وهو يعبر المتجر بخطواته المتسارعة المتمايلة. وعندما توقف الجرس المتصدع المعلق في الطوق المنحني المصنوع من الفولاذ عن الصلصلة، لم تتحرك السيدة فيرلوك، وكأن وضعيتها كانت قوة تعويذة محكمة. حتى شعلتا لهب الغاز، اللتان كانتا على هيئة فراشة على طرفي حامل مصباح معلق على شكل حرف
T ، احترقتا دون أن تهتزا. في متجر السلع المشبوهة هذا، المزود برفوف توزيع مطلية بلون بني باهت، بدا وكأنه يمتص لمعان الضوء، تلألأت الحلقة الذهبية لخاتم زواج السيدة فيرلوك، الذي ترتديه في يدها اليسرى، بشدة بالفخامة النقية لقطعة مجوهرات ثمينة، سقطت في صندوق قمامة.
الفصل العاشر
بعدما استقل المفوض المساعد عربة تجرها خيول مضت به بسرعة من حي سوهو في اتجاه وستمينستر، ترجل منها في قلب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. حياه بعض رجال الشرطة الأقوياء البنية، الذين لم يبد عليهم أنهم منبهرون على نحو مميز بحراستهم لهذا الموضع المهيب. بعدما مر عبر بوابة غير فخمة على الإطلاق إلى حرم دار المجلس التشريعي التي تعتبر «المكان» الأهم «بلا منازع» في عقول الملايين من الرجال، التقى أخيرا بتودلز السريع الانفعال والثوري.
أخفى ذلك الشاب الأنيق والمهندم اندهاشه من الحضور المبكر للمفوض المساعد، الذي كان قد قيل له أن يتوقع حضوره في حوالي منتصف الليل. استنتج أن حضوره المبكر جدا كان علامة على أن الأمور، مهما كانت، قد اتخذت منعطفا خاطئا. بتعاطف حاضر دائما، يتماشى مع روح المرح المتأصلة غالبا في الشباب اللطفاء، شعر بالأسى تجاه تلك الشخصية المهيبة التي كان يطلق عليها اسم «الرئيس» وأيضا تجاه المفوض المساعد، الذي بدا له وجهه أكثر تبلدا وتشاؤما من أي وقت مضى، وكئيبا على نحو عجيب. قال في نفسه: «يا له من رجل غريب أجنبي المظهر.» مبتسما من بعيد بمرح ودي. وما إن التقوا حتى بدأ يتحدث بنية طيبة تهدف إلى دفن الحرج من الفشل تحت كومة من الكلمات. بدا وكأن الهجوم الكبير الذي كان منذرا بالحدوث في تلك الليلة سوف يفشل. كان أحد أتباع «تشيزمان الغاشم ذاك» منصبا على إضجار أعضاء المجلس التشريعي، قليلي العدد جدا، بلا رحمة ببعض الإحصائيات المغلوطة. كان تودلز يأمل أن يضجرهم وصولا إلى أخذ تصويت بالرفض كل دقيقة. ولكنه ربما كان يضيع الوقت فحسب حتى يسمح لتشيزمان الشره بأن يتناول عشاءه على مهل. على أي حال، لم يكن من الممكن إقناع الرئيس بالذهاب إلى المنزل.
قال تودلز مستنتجا بجدية: «أظن أنه سيقابلك على الفور. إنه يجلس وحده تماما في غرفته يفكر في جميع أنواع الأسماك التي في البحر. تعال معي.»
وعلى الرغم من لطف تصرفات السكرتير الخاص (المتطوع)، كان عرضة للأخطاء التي يرتكبها عامة الناس. لم يرغب في إيذاء مشاعر المفوض المساعد، الذي بدا له على نحو غير اعتيادي مثل رجل أفسد عمله. لكن فضوله كان أقوى للغاية من أن يكتمه مجرد التعاطف. وأثناء سيرهما، لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يطرح بلطف سؤالا، وهو يدير رقبته نحوه: «وماذا عن سمكتك؟»
أجاب المفوض المساعد بإيجاز لم يكن يقصد منه أي نفور من الحديث: «أمسكت بها.» «جيد. لا تتصور كم يكره هؤلاء الرجال العظام خيبة الأمل في الأمور الصغيرة.»
بعد هذه الملاحظة العميقة، بدا أن تودلز المحنك يفكر. على أي حال، لم يقل شيئا لثانيتين كاملتين. ثم قال: «أنا سعيد. ولكن ... أقول ... هل هي مسألة تافهة جدا حقا كما تصفها؟»
سأله المفوض المساعد بدوره: «هل تعرف ما الذي يمكن فعله بسمكة صغيرة؟»
بضحكة مكتومة قال تودلز، الذي كانت معرفته بصناعة صيد الأسماك حديثة العهد، وهائلة مقارنة بجهله بجميع المجالات الصناعية الأخرى: «أحيانا توضع في علبة سردين. توجد مصانع تعليب سردين على الساحل الإسباني وهي ...»
قاطع المفوض المساعد رجل الدولة المبتدئ. «نعم. نعم. ولكن أحيانا أيضا نرمي السمكة الصغيرة من أجل اصطياد حوت.»
صاح تودلز، حابسا أنفاسه: «حوت. أوف! أنت تسعى إلى اصطياد حوت إذن؟» «ليس بالضبط. ما أسعى إلى اصطياده أشبه بكلب البحر. ربما لا تعرف شكل كلب البحر.» «بلى؛ أعرفه. إننا غارقون حتى أعناقنا في كتب متخصصة - تعج بها رفوف كاملة - وألواح ... إنه حيوان مقيت وبغيض المنظر تماما ومقرف للغاية، وله وجه ناعم الملمس نوعا ما وشوارب.»
علق المفوض المساعد: «وصف دقيق. عدا أن ما أسعى وراءه حليق الوجه تماما. لقد رأيته. إنه سمكة ذكية.»
قال تودلز وهو لا يكاد يصدق: «أنا رأيته! لا أستطيع أن أتصور أين يمكن أن أكون قد رأيته.»
أخفض المفوض المساعد صوته وقال بهدوء: «أظن في نادي «المستكشفين».» لما سمع تودلز اسم هذا النادي الحصري للغاية، بدا عليه الخوف وتوقف عن الحديث فجأة.
احتج، ولكن بنبرة تملؤها الرهبة: «غير معقول. ماذا تقصد؟ هل هو عضو في النادي؟»
تمتم المفوض المساعد وكأنه يتحدث إلى نفسه: «عضو فخري.» «يا إلهي!»
بدا تودلز مذهولا لدرجة أن المفوض المساعد ابتسم ابتسامة خفيفة.
وقال: «ذلك الحديث فيما بيننا فقط.»
قال تودلز بضعف وكأن المفاجأة سلبته قوة المرح التي لديه في لحظة: «هذا أشنع خبر سمعته في حياتي.»
رمقه المفوض المساعد بنظرة متجهمة. حتى وصلا إلى باب غرفة الرجل صاحب المقام الرفيع، لزم تودلز صمتا نابعا من صدمة وهيبة، وكأن المفوض المساعد أهانه لما كشف له تلك الحقيقة البغيضة والمقلقة. أحدثت تلك الحقيقة ثورة في أفكاره عن الإجراءات الصارمة التي يتخذها نادي «المستكشفين» في اختيار أعضائه وعن طهارته الاجتماعية. لم يكن تودلز ثوريا إلا في السياسة؛ وتمنى أن يحافظ على معتقداته الاجتماعية ومشاعره الشخصية دون تغيير طوال سنوات حياته المقسومة له على هذه الأرض، التي كان يعتقد أنها، في مجملها، مكان جميل للعيش فيه.
تنحى جانبا.
قال: «ادخل من دون أن تطرق الباب.»
أضفت أغطية من حرير أخضر وضعت على جميع المصابيح على الغرفة شيئا من كآبة غابة عميقة. عينا الرجل صاحب المقام الرفيع المتغطرستان كانتا نقطة الضعف في جسده. غلفت هذه النقطة بالسرية. وعندما كانت تسنح الفرصة، كان يريحهما بأن يغمضهما مستيقظا.
عند دخول المفوض المساعد، لم ير في البداية سوى يدين كبيرتين شاحبتين تسندان رأسا كبيرا، وتخفيان الجزء العلوي من وجه شاحب كبير. قبع صندوق مراسلات مفتوح على المكتب بالقرب من بضعة أوراق مستطيلة وحفنة متناثرة من ريش الكتابة. لم يكن يوجد أي شيء آخر على الإطلاق على سطح المكتب باستثناء تمثال صغير من البرونز ملفوف بشملة، يراقب بغموض في جموده المريب. جلس المفوض المساعد بعدما دعي للجلوس. في الضوء الخافت، جعلته الملامح البارزة في شخصيته - الوجه الطويل، والشعر الأسود، وطوله مع نحافته - يبدو أجنبيا أكثر من أي وقت مضى.
لم يظهر الرجل صاحب المقام الرفيع أي مفاجأة أو شغف أو أي نوع من المشاعر على الإطلاق. كانت الوضعية التي أراح بها عينيه المنهكتين تنم عن التأمل العميق. لم يغيرها ولو قليلا. ولكن نبرة صوته لم تكن حالمة. «حسنا! ما الذي اكتشفته حتى اليوم؟ لقد صادفت شيئا غير متوقع في الخطوة الأولى.» «ليس غير متوقع بالضبط يا سير إثيلريد. ما صادفته في المقام الأول كان حالة نفسية.»
تململ صاحب الشخصية العظيمة قليلا. «يجب أن تكون واضحا من فضلك.» «نعم يا سيد إثيلريد. لا يخفى عليك أن معظم المجرمين يشعرون في بعض الأحيان بحاجة لا تقاوم في الاعتراف - بأن يفصحوا عن مكنونات صدرهم لشخص ما - لأي شخص. وغالبا ما يفعلون هذا مع الشرطة. وقد وجدت ذلك المدعو فيرلوك الذي تمنى هيت كثيرا إخفاءه في تلك الحالة النفسية تحديدا. ألقى الرجل، مجازا، بما في جعبته في صدري. كان يكفي من جانبي أن أهمس إليه بهويتي وأن أضيف «أعرف أنك متورط في صميم هذه القضية». لا بد أن معرفتنا بالأمر بالفعل بدت له معجزة، لكنه تقبل كل شيء بهدوء. لم يلجمه التعجب ولو للحظة. عندئذ لم يتبق لي إلا أن أوجه إليه سؤالين هما: من الذي أوعز إليك بفعل هذا؟ ومن الذي نفذ التفجير؟ أجاب على السؤال الأول بتركيز ملحوظ. وفيما يتعلق بالسؤال الثاني، أستخلص أن الشخص الذي نفذ التفجير هو صهره؛ شاب صغير ضعيف العقل ... إنها واقعة غريبة نوعا ما؛ ولا يتسع المقام لذكرها كاملة الآن.»
سأل الرجل صاحب المقام الرفيع: «ما الذي عرفته إذن؟» «أولا: عرفت أن المدان السابق ميكايليس لم يكن له أي علاقة بالقضية، على الرغم من أن الفتى كان بالفعل مقيما معه في الريف مؤقتا حتى الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم. ومن المرجح جدا أن ميكايليس لا يعرف شيئا عن الأمر حتى هذه اللحظة.»
سأل الرجل صاحب المقام الرفيع: «هل أنت متأكد من ذلك؟» «متأكد تماما يا سير إثيلريد. ذهب المدعو فيرلوك إلى هناك هذا الصباح وأخذ الفتى بحجة الخروج في نزهة في الأزقة. بما أنها لم تكن المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك، لم يكن لدى ميكايليس أدنى شك في أي شيء غير عادي. أما عن البقية، يا سير إثيلريد، فإن غضب هذا المدعو فيرلوك لم يترك شيئا للشك، لا شيء على الإطلاق. لقد فقد عقله تقريبا جراء تمثيلية رائعة، قد يصعب علي أو عليك أن نأخذها على محمل الجد، لكن من الواضح أنها تركت انطباعا هائلا عليه.»
بعد ذلك، نقل المفوض المساعد باختصار إلى صاحب المقام الرفيع، الذي جلس ساكنا، يريح عينيه بين راحتي يديه، تقدير السيد فيرلوك لإجراءات السيد فلاديمير وشخصيته. لم يبد أن المفوض المساعد يستنكف أن يمنحها قدرا معينا من الجدارة. ولكن صاحب المقام الرفيع علق قائلا: «كل هذا يبدو غريبا جدا.» «أليس كذلك؟ ربما يظن المرء أنها مزحة شريرة. ولكن رجلنا أخذ المسألة على محمل الجد، على ما يبدو. شعر بأنه مهدد. في السابق، كما تعلم، كان على اتصال مباشر مع ستوت فارتنهايم العجوز نفسه، وكان قد أصبح يعتبر خدماته لا غنى عنها. كانت صدمة عنيفة للغاية. أتصور أنه فقد عقله. صار غاضبا وخائفا. وأقول بصدق، انطباعي أنه ظن أن رجال السفارة هؤلاء ليسوا قادرين على طرده فحسب، بل أيضا على التخلص منه بطريقة أو بأخرى ...»
قاطعه صاحب المقام الرفيع من خلف يده الكبيرة: «كم بقيت معه؟» «نحو أربعين دقيقة يا سير إثيلريد، في فندق سيئ السمعة يسمى كونتيننتال، جلست معه في غرفة، بالمناسبة، استأجرتها لليلة. وجدته تحت تأثير ردة الفعل تلك التي تعقب الجهد المبذول في ارتكاب جريمة. لا يمكن تصنيف الرجل على أنه مجرم عتيد. من الواضح أنه لم يخطط لموت ذلك الفتى البائس؛ صهره. تلك كانت صدمة له؛ كان بوسعي أن أرى ذلك. ربما يكون رجلا مرهف الأحاسيس. وربما حتى كان يحب الفتى؛ من يعلم؟ ربما كان يأمل في أن ينجو الشاب بطريقة ما؛ وفي هذه الحالة يكاد يكون من المستحيل على أي أحد التوصل إلى جوهر الأمر. على أي حال، لم يخاطر بشكل واع بشيء أكثر من إلقاء القبض على ذلك الفتى.»
توقف المفوض المساعد عن تكهناته من أجل التفكر مليا للحظة. «على الرغم من ذلك، في تلك الحالة الأخيرة، ربما كان يأمل إخفاء دوره في الأمر، ولكن لا أستطيع الجزم بذلك» أردف، عن جهل منه بإخلاص ستيفي البائس للسيد فيرلوك (الذي كان «صالحا»)، وصمته الغريب حقا، والذي، في مسألة الألعاب النارية القديمة على درجات السلم، كان قد ظل لسنوات كثيرة عصيا على التغيير رغم توسلات أخته الحبيبة، وملاطفتها وغضبها، ووسائل استنطاق أخرى استخدمتها. لأن ستيفي كان مخلصا ... «كلا، لا يمكنني أن أتصور ذلك. من المحتمل أنه لم يفكر في ذلك على الإطلاق. تبدو هذه فكرة مبالغا فيها، يا سير إثيلريد، ولكن حالة الفزع التي كان يعانيها أوحت لي بأنه رجل مندفع، بعدما حاول الانتحار متخيلا أنه سوف يضع نهاية لكل متاعبه، اكتشف أنه لم يؤد إلى أي شيء من هذا القبيل.»
قدم المفوض المساعد هذا التوضيح بنبرة دفاعية. ولكن في الحقيقة، ثمة نوع من الوضوح يتلاءم مع لغة مغالى فيها، ولم ينزعج صاحب المقام الرفيع. بدت حركة تشنجية بسيطة من الجسم الضخم المختفي جزئيا في ظلمة أغطية المصابيح الحريرية الخضراء، ومن الرأس الكبير الذي يتكئ على اليد الكبيرة، صاحبها صوت مخنوق متقطع، ولكنه قوي. كان صاحب المقام الرفيع قد ضحك. «ماذا فعلت معه؟»
أجاب المفوض المساعد بسرعة شديدة: «تركته يذهب، يا سير إثيلريد، لأنه بدا حريصا جدا على العودة إلى زوجته في المتجر.» «حقا فعلت؟ ولكن ذلك الرجل سيختفي.» «عذرا يا سيدي. لا أظن ذلك. أين يمكن أن يذهب؟ إضافة إلى ذلك، يجب ألا يغيب عن بالك أنه يتعين عليه أن يفكر في الخطر الكامن في رفاقه أيضا. إنه هناك، لم يبرح مكانه. كيف سيستطيع أن يبرر سبب تركه له؟ ولكن، حتى لو لم تكن ثمة عقبات تعوق حريته في التصرف، لن يفعل شيئا. في الوقت الحالي، ليس لديه طاقة معنوية كافية لاتخاذ قرار من أي نوع. اسمح لي أن أوضح أيضا أني لو كنت اعتقلته، كنا سنصبح ملزمين بمسلك معين وددت أن أعلم نواياك فيه أولا.»
نهض صاحب المقام الرفيع متثاقلا، بجسده المهيب غير واضح المعالم في عتمة الغرفة المائلة للخضرة. «سأقابل النائب العام الليلة، وسأرسل في طلبك في صباح الغد. هل لديك أي شيء آخر ترغب في أن تخبرني به الآن؟»
كان المفوض المساعد قد وقف هو الآخر، بجسمه النحيف والمرن. «لا أظن يا سير إثيلريد، إلا إذا سمحت لي بأن أخوض في التفاصيل التي ...» «لا، لا تفاصيل، من فضلك.»
بدا أن صاحب الشخصية المهيبة والغامضة ينأى عن التفاصيل وكأن لديه خوفا ماديا منها؛ ثم تقدم، بجسده المتضخم الهائل الجسيم، وهو يمد يده. «أتقول إن هذا الرجل له زوجة؟»
قال المفوض المساعد، وهو يضغط باحترام على اليد الممدودة: «نعم يا سير إثيلريد. زوجة حقيقية، وعلاقة زوجية حقيقية ومحترمة. أخبرني أنه بعد مقابلته في السفارة، كان ينوي التخلي عن كل شيء ويحاول بيع متجره، ومغادرة البلاد، لولا أنه كان متأكدا من أن زوجته ستأبى حتى أن تسمع فكرة السفر إلى الخارج.» بمسحة من التجهم، أردف المفوض المساعد، الذي كانت زوجته هي الأخرى قد رفضت أن تسمع فكرة السفر إلى الخارج: «لا شيء يمكن أن يميز الرابطة المحترمة أكثر من ذلك.» وتابع: «نعم، زوجة حقيقية. والضحية كان صهرا حقيقيا. من وجهة نظر معينة، نحن هنا أمام مأساة منزلية.»
ضحك المفوض المساعد قليلا؛ ولكن بدا أن أفكار صاحب المقام الرفيع قد شردت بعيدا، ربما مسائل السياسة الداخلية لبلاده، وساحة معركته المقدسة الباسلة في مواجهة الكافر تشيزمان. انسحب المفوض المساعد بهدوء، دون أن يلاحظه، وكأنه نسيه بالفعل.
كان لديه غرائز قتالية هو الآخر. بدت له تلك القضية، التي أثارت، بطريقة أو بأخرى، اشمئزاز كبير المفتشين هيت، نقطة انطلاق، قدمتها له العناية الإلهية، لمسيرة جهاد. حظيت المسألة بقدر كبير في قلبه كي ينطلق منها. سار ببطء إلى المنزل، متأملا تلك المغامرة المقبلة، وأخذ يفكر في الحالة النفسية للسيد فيرلوك بمزاج اختلط فيه الاشمئزاز والرضا. سار حتى وصل إلى البيت. وجد غرفة الاستقبال مظلمة، فصعد إلى الطابق العلوي، وأمضى بعض الوقت بين غرفة النوم وغرفة الملابس، يغير ملابسه، ويروح ويغدو وكأنه شخص يمشي أثناء النوم متفكرا. ولكنه تخلص من تلك الأفكار قبل أن يخرج مرة أخرى كي ينضم إلى زوجته في منزل السيدة العظيمة راعية ميكايليس.
علم أنه سيكون موضع ترحيب هناك. عندما دخل إلى الغرفة الصغرى من غرفتي الاستقبال، رأى زوجته وسط مجموعة صغيرة بالقرب من البيانو. كان ملحنا حديث السن، في طريقه إلى أن يصبح مشهورا، يتحدث، وهو يجلس على كرسي البيانو، مخاطبا رجلين بدينين بدا من ظهريهما أنهما مسنان، وثلاث سيدات نحيفات بدا من ظهورهن أنهن شابات. خلف الحاجز كان بصحبة السيدة العظيمة شخصان فقط؛ رجل وامرأة، جلسا جنبا إلى جنب على كرسيين بذراعين عند طرف أريكتها. مدت يدها لتصافح المفوض المساعد. «لم أكن أتوقع مطلقا أن أراك هنا الليلة. أخبرتني آني ...» «نعم. لم أكن أعلم أن عملي سينتهي مبكرا .»
أردف المفوض المساعد بنبرة صوت منخفضة: «يسعدني أن أخبرك أن ميكايليس لا علاقة له على الإطلاق بهذه ...»
تلقت راعية السجين السابق هذا التأكيد بسخط. «لماذا؟ هل كان رجالك أغبياء لدرجة أن يربطوا بينه وبين ...»
قاطعها المفوض المساعد مبديا اعتراضه بتوقير: «ليسوا أغبياء. أذكياء بما يكفي؛ يتمتعون بالذكاء الكافي لذلك.»
ساد الصمت. توقف الرجل الجالس عند طرف الأريكة عن الحديث مع السيدة، ونظر إليهما بابتسامة باهتة.
قالت السيدة العظيمة: «لا أعلم إن كنتما قد تقابلتما من قبل.»
بعد أن تعرف السيد فلاديمير والمفوض المساعد أحدهما على الآخر، تبادلا التحية بأسلوب مجاملة حذر متمسك بالشكليات.
فجأة، صرحت السيدة الجالسة بجوار السيد فلاديمير، وهي تميل برأسها تجاه ذلك السيد: «إنه يخيفني.» كان المفوض المساعد يعرف السيدة.
بعدما تفحصها بتمعن بنظرته المتعبة والجادة، قال: «لا يبدو عليك أنك خائفة.» في الوقت نفسه، كان يفكر في أنه في هذا المنزل يتقابل المرء مع الجميع عاجلا أم آجلا. كان وجه السيد فلاديمير الوردي تعلوه الابتسامات؛ لأنه كان مرحا، لكن عينيه ظلتا جادتين مثل عيون رجل واثق.
صححت السيدة: «حسنا، لقد حاول على الأقل.»
قال المفوض المساعد، وقد انتابه إلهام لا يقاوم: «ربما بحكم العادة.»
أردفت السيدة التي كانت تنطق الكلمات بتدلل وبطء: «إنه يرهب المجتمع بجميع أنواع الفظائع، ومنها هذا الانفجار الذي وقع في جرينتش بارك. يبدو أنه سيتعين علينا جميعا أن ترتعد فرائصنا مما هو آت إذا لم يقمع هؤلاء الأشخاص في جميع أنحاء العالم. لم أكن أتصور أن هذه القضية خطيرة إلى هذه الدرجة.»
مال السيد فلاديمير، تجاه الأريكة، متظاهرا بأنه لا ينصت، متحدثا بطريقة ودية بنبرة خافتة، ولكنه سمع المفوض المساعد يقول: «ليس لدي شك في أن السيد فلاديمير لديه فكرة دقيقة للغاية عن الأهمية الحقيقية لتلك القضية.»
سأل السيد فلاديمير نفسه عما يلمح إليه ذلك الشرطي المقيت والمتطفل. كونه كان منحدرا من أجيال وقعت ضحية لأجهزة السلطة التعسفية، كان يخشى الشرطة من منظور عنصري وقومي وفردي. كان ضعفا موروثا، منفصلا تماما عن تقديره للأمور ومنطقه وخبرته. كان فطريا لديه. لكن ذلك الشعور، الذي يشبه الرعب غير العقلاني لدى بعض الناس من القطط، لم يقف عائقا في طريق ازدرائه الشديد للشرطة الإنجليزية. أنهى العبارة التي كان وجهها إلى السيدة العظيمة، واستدار قليلا في كرسيه. «تقصد أن لدينا خبرة كبيرة مع هؤلاء الناس. نعم؛ بالفعل، فنحن نعاني كثيرا من نشاطهم، بينما أنتم ...» تردد السيد فلاديمير للحظة، بابتسامة متحيرة، «بينما أنتم تتحملون وجودهم بينكم بسرور.» أنهى حديثه، وظهرت غمازة على كل خد من خديه الحليقين. ثم أردف بجدية أكبر: «يمكنني حتى القول ... لأنكم تفعلون ذلك.»
عندما توقف السيد فلاديمير عن الحديث، أخفض المفوض المساعد طرفه وتوقفت المحادثة. بعد ذلك مباشرة تقريبا غادر السيد فلاديمير.
وبمجرد أن أولى ظهره للأريكة، نهض المفوض المساعد هو الآخر.
قالت السيدة راعية ميكايليس: «ظننت أنك ستبقى وتأخذ آني معك إلى المنزل.» «اكتشفت أن لدي بعض العمل الذي علي أن أنجزه الليلة.» «على صلة ب...؟» «حسنا، نعم ... نوعا ما.» «أخبرني، ما الأمر حقا ... هذا الرعب؟»
قال المفوض المساعد: «يصعب أن أخبرك بالأمر، ولكنها قضية «رأي عام».»
غادر غرفة الاستقبال على عجل ووجد السيد فلاديمير لا يزال في الصالة، يلف وشاحا حريريا حول رقبته بعناية. انتظر خادم خلفه، ممسكا معطفه. ووقف آخر مستعدا لفتح الباب. ساعد الخادم المفوض المساعد في ارتدائه لمعطفه حسب الأصول المرعية، وفتح له الباب ليخرج على الفور. بعدما نزل الدرجات الأولى توقف، وكأنه يفكر في الطريق الذي ينبغي أن يسلكه. عندما نظر من خلال الباب المفتوح، رأى السيد فلاديمير يتريث في الصالة ليخرج سيجارا وطلب عود ثقاب. زوده به رجل مسن من كبار الخدم بمسحة من اعتناء هادئ. ولكن عود الثقاب انطفأ؛ عندئذ أغلق الخادم الباب، وأشعل السيد فلاديمير سيجاره الهافانا الكبير باعتناء وتمهل.
عندما خرج أخيرا من المنزل، رأى باشمئزاز «الشرطي المقيت» لا يزال واقفا على الرصيف. «ترى هل ينتظرني» فكر السيد فلاديمير، وهو ينظر يمنة ويسرة بحثا عن عربة أجرة تجرها خيول. لم ير أي عربة . كانت عربتان تنتظران بحذاء الرصيف، ومصابيحهما تتقد بثبات، والخيول تقف ساكنة تماما، وكأنها منحوتة من حجارة، والسائقان جالسان من دون حراك تحت أغطية الفراء الكبيرة، دون حتى اختلاجة تحرك السيور البيضاء المثبتة في سياطهما الكبيرة. تابع السيد فلاديمير سيره، وبدأ «الشرطي المقيت» السير بجواره بنفس سرعته. لم يقل شيئا. بعد الخطوة الرابعة، شعر فلاديمير بالغضب وعدم الارتياح. لا يمكن لهذا أن يستمر.
زمجر غاضبا: «طقس سيئ.»
قال المفوض المساعد دون انفعال: «إنه معتدل.» ظل صامتا لبعض الوقت. قال بلا مبالاة: «أمسكنا برجل يدعى فيرلوك.»
لم يتعثر السيد فلاديمير ولم يترنح إلى الوراء ولم يغير خطوته. ولكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من الصياح قائلا: «ماذا؟» لم يكرر المفوض المساعد جملته. تابع بالنبرة ذاتها: «أنت تعرفه.»
توقف السيد فلاديمير وأصبح صوته أجش. «ما الذي يجعلك تقول ذلك؟» «ليس أنا من قال. فيرلوك هو الذي يقول ذلك.»
قال السيد فلاديمير بطريقة تعبير شرقية نوعا ما: «إنه كلب كاذب.» لكن من أعماقه، كاد يشعر بالرهبة من الذكاء الخارق للشرطة الإنجليزية. كان تغيير رأيه في الموضوع قويا لدرجة جعلته يشعر بقليل من الغثيان للحظة. رمى سيجاره وتابع سيره.
أردف المفوض المساعد، متحدثا ببطء: «أكثر ما يسرني في هذه القضية هو أنها تمثل نقطة انطلاق ممتازة لعمل شعرت أنه لا بد أن أتولاه؛ وأعني بذلك تنظيف هذا البلد من جميع الجواسيس السياسيين الأجانب، والشرطة، وذلك النوع من ... من ... الكلاب. وفي رأيي، إنهم مصدر إزعاج مروع، كما أنهم يشكلون خطرا. ولكن لا يمكننا أن نلاحقهم واحدا واحدا. الطريقة الوحيدة هي أن نجعل عملهم غير سار لمستخدميهم. أصبح الأمر غير لائق. وخطيرا أيضا، علينا، هنا.»
توقف السيد فلاديمير مرة أخرى للحظة. «ما الذي تقصده؟» «ستظهر محاكمة هذا المدعو فيرلوك للعامة مدى الخطر وكذلك الفحش.»
قال السيد فلاديمير باستخفاف: «لن يصدق أحد ما يقوله رجل من ذلك النوع.»
رد المفوض المساعد بلطف: «إن ثراء التفاصيل ودقتها سيقنعان غالبية العامة.» «إذن ذلك جديا ما تنوي فعله.» «الرجل في قبضتنا ؛ ليس لدينا خيار.»
احتج السيد فلاديمير: «لن تنال من ذلك سوى تغذية روح الكذب لدى هؤلاء الثوريين الأوغاد. ما الغرض الذي من أجله تريد أن تحدث فضيحة؟ بدافع أخلاقي ... أم ماذا؟»
كان قلق السيد فلاديمير جليا. بعد أن تأكد المفوض المساعد بهذه الطريقة بأنه لا بد أن ثمة بعض الحقيقة في التصريحات الموجزة التي أدلى بها السيد فيرلوك، قال بلا مبالاة: «يوجد جانب عملي أيضا. لدينا حقا ما يكفي فعله للاعتناء بالقضية الأصلية. لا يمكنك أن تقول إننا لا نعمل بكفاءة. لكننا لا ننوي أن ندع أي أباطيل تزعجنا بأي ذريعة من الذرائع.»
صارت نبرة السيد فلاديمير متعالية. «من جهتي، لا يمكنني أن أتفق معك في وجهة نظرك. هذه أنانية. إن حبي لبلدي أمر ليس محل شك؛ ولكني، إلى جانب ذلك، أشعر دوما بأنه ينبغي أن يجمعنا حسن الجوار باعتبارنا أوروبيين، أعني الحكومات والشعوب.»
قال المفوض المساعد ببساطة: «نعم. أنت فقط تنظر إلى أوروبا من طرفها الآخر. ولكن ...» وتابع بنبرة ودية: «الحكومات الأجنبية لا يمكنها أن تشكو من كفاءة الشرطة لدينا. انظر إلى هذا الانفجار؛ قضية تتسم بصعوبة خاصة في تتبعها نظرا لأنها كانت مفتعلة. في أقل من اثنتي عشرة ساعة، حددنا هوية الرجل الذي تمزق حرفيا إلى أشلاء، وعثرنا على مدبر الاعتداء، ولدينا لمحة عن المحرض الذي يقف وراءه. وكان بوسعنا المضي قدما إلى ما هو أبعد من ذلك؛ غاية ما هنالك أننا توقفنا عند حدود أراضينا.»
قال السيد فلاديمير بسرعة: «إذن، هذه الجريمة الموجهة خطط لها في الخارج. أنت تقر بأنها خطط لها بالخارج؟» «من الناحية النظرية. من الناحية النظرية فقط، على أرض أجنبية؛ افتراضا فقط، خطط لها بالخارج.» قال المفوض المساعد، في تلميح إلى طبيعة السفارات، التي من المفترض أنها جزء لا يتجزأ من البلد الذي تنتمي إليه. «ولكن تلك مجرد تفصيلة. تحدثت إليك بشأن هذه المسألة لأن حكومتك هي أكثر حكومة تتذمر من شرطتنا. وها أنت ترى أننا لسنا بهذا السوء. أردت على وجه الخصوص أن أطلعك على نجاحنا.»
تمتم السيد فلاديمير من بين أسنانه: «أنا بالتأكيد ممتن لك جدا.»
أردف المفوض المساعد، وكأنه يقتبس قول كبير المفتشين هيت: «يمكننا أن نضع أيدينا على كل لا سلطوي هنا. كل ما نريده الآن هو التخلص من العميل المحرض كي يستتب الأمن.»
رفع السيد فلاديمير يده كي يشير لعربة مارة.
قال المفوض المساعد: «لن تدخل إلى هنا» ناظرا إلى مبنى له أبعاد كبيرة ومظهر محبب، وأنوار القاعة الكبيرة تسطع عبر أبوابه الزجاجية على درجات سلم رحبة.
ولكن السيد فلاديمير، بعدما جلس، بعينين خاليتين من التعبير، داخل الحنطور، مضى به مغادرا دون أن يتفوه بكلمة.
أما المفوض المساعد نفسه فلم يتوجه إلى المبنى الفخم. كان هذا المبنى هو نادي «المستكشفين». كانت الفكرة التي تسللت إلى عقله أن السيد فلاديمير، العضو الفخري، لن يرى كثيرا هناك في المستقبل. نظر إلى ساعته. كانت الساعة لم تتجاوز العاشرة والنصف. كان مساؤه حافلا جدا.
الفصل الحادي عشر
بعدما غادر كبير المفتشين هيت، ظل السيد فيرلوك يتجول في غرفة المعيشة.
من آن إلى آخر كان ينظر إلى زوجته عبر الباب المفتوح. «الآن باتت تعرف كل شيء عن الأمر» هكذا فكر في نفسه بإشفاق على حزنها وببعض الرضا فيما يتعلق بنفسه. كانت روح السيد فيرلوك خليقة بالمشاعر المرهفة، حتى إن كانت تفتقر إلى السمو. كان احتمال أن يضطر إلى نقل الخبر إلى زوجته بنفسه قد أوجفه. كان كبير المفتشين هيت قد خلصه من تلك المهمة. كان ذلك جيدا إلى حد ما. بقي عليه الآن أن يواجه حزنها.
لم يكن السيد فيرلوك يتوقع قط أن يضطر إلى مواجهة حزنها بسبب الموت، الذي لا يمكن مناقشة طبيعته الكارثية بمنطق معقد أو بلاغة مقنعة. لم يقصد السيد فيرلوك قط أن يهلك ستيفي بتلك الطريقة العنيفة المفاجئة. لم يكن يقصد أن يتسبب في هلاكه على الإطلاق. كان موت ستيفي أكثر إزعاجا بكثير من وجوده على قيد الحياة. كان السيد فيرلوك قد تكهن بنتيجة مرضية لمغامرته، دون أن يعتمد على ذكاء ستيفي، الذي كان في بعض الأحيان يخدع الناس بغرابة، ولكن على الطاعة العمياء والتفاني الأعمى اللذين كان يتسم بهما الفتى. على الرغم من أن السيد فيرلوك لم يكن يعرف الكثير عن علم النفس، كان قد قدر عمق تفاني ستيفي المفرط. جرؤ على أن يتعلق بالأمل في أن يبتعد ستيفي عن جدران المرصد كما كان قد أمره أن يفعل، بأن يأخذ الطريق الذي سبق أن أراه إياه عدة مرات، وأن يلتحق بصهره، السيد فيرلوك الحكيم والطيب، خارج حدود الحديقة. خمس عشرة دقيقة كان يجب أن تكون كافية لأغبى أحمق لأن يضع القنبلة ويبتعد. وكان البروفيسور قد ضمن أكثر من خمس عشرة دقيقة. ولكن ستيفي تعثر في غضون خمس دقائق من تركه وحده. واهتز السيد فيرلوك معنويا اهتزازا عنيفا. كان قد توقع كل شيء عدا ذلك. كان قد توقع بأن يتشتت انتباه ستيفي ويتوه، وبعد أن يبحث عنه، يجده في نهاية الأمر في أحد أقسام الشرطة أو إصلاحية أحداث إقليمية. كان قد توقع أن يلقى القبض على ستيفي، ولم يكن خائفا من ذلك؛ لأن السيد فيرلوك كان يثق ثقة كبيرة في ولاء ستيفي، الذي لقن بعناية ضرورة التزام الصمت أثناء نزهات كثيرة. مثل فيلسوف متجول، تجول السيد فيرلوك في شوارع لندن، وعدل وجهة نظر ستيفي تجاه الشرطة من خلال محادثات مليئة بمنطق ماكر. لم يسبق لأي حكيم أن كان له تابع أكثر انتباها وإعجابا. كان الإذعان والتبجيل واضحين لدرجة أن السيد فيرلوك كان قد صار يشعر بشيء يشبه الحب نحو الصبي. على أي حال، لم يكن قد توقع سرعة التوصل إلى صلته بالأمر. كان آخر شيء يمكن أن يفكر فيه السيد فيرلوك أن تصل زوجته إلى فكرة أن تتخذ احتياط خياطة عنوان الصبي داخل معطفه. لا يمكن للمرء أن يفكر في كل شيء. ذلك ما كانت تقصده عندما قالت إنه لا داعي لأن يقلق إذا ضاع منه ستيفي خلال نزهاتهما. كانت قد أكدت له أن الصبي سيعود سالما. حسنا، ها هو قد عاد بأعنف طريقة ممكنة!
تمتم السيد فيرلوك متعجبا: «حسنا، حسنا.» ما الذي كانت تعنيه بذلك؟ إعفاءه من مشقة مراقبة ستيفي والقلق عليه؟ أغلب الظن أن نيتها كانت حسنة. فقط كان عليها أن تخبره بالاحتياط الذي كانت قد اتخذته.
سار السيد فيرلوك إلى خلف منضدة البيع بالمتجر. لم تكن نيته أن ينهال على زوجته بعتاب مرير. لم يشعر السيد فيرلوك بالمرارة. كان سير الأحداث غير المتوقع قد جعله يتحول إلى الإيمان بعقيدة القدرية. لم يكن ممكنا فعل أي شيء الآن. قال: «لم أكن أقصد أن يصاب الفتى بأي أذى.»
اختلجت السيدة فيرلوك لما سمعت صوت زوجها. لم تكشف وجهها. نظر العميل السري الموثوق فيه لدى بارون ستوت فارتنهايم الراحل إليها لبعض الوقت بنظرة صفيقة ثابتة مبهمة. كانت الجريدة المسائية الممزقة ملقاة عند قدميها. لم يكن من الممكن أن تعرف منها الكثير. شعر السيد فيرلوك بالحاجة إلى التحدث مع زوجته.
قال: «إنه ذلك اللعين المدعو هيت ... أليس كذلك؟» «لقد أغمك. إنه شخص فظ لدرجة أن يفشي خبرا كهذا لامرأة دون تفكير. لقد أعياني التفكير في كيفية إخبارك بالأمر. جلست لساعات في ردهة حانة شيشاير تشيز أفكر في أفضل طريقة. تعلمين أنني لم أكن أقصد قط أن يصاب ذلك الفتى بأي أذى.»
كان السيد فيرلوك، العميل السري، يقول الحقيقة. كانت عاطفته الزوجية هي التي تلقت الصدمة الأكبر من الانفجار الذي وقع قبل أوانه. أضاف قائلا: «لم أشعر بأي نوع من السعادة وأنا أجلس هناك وأفكر فيك.»
لاحظ اختلاجة أخرى خفيفة من زوجته، أثرت في شعوره. لما استمرت في إخفاء وجهها بين يديها، فكر أنه من الأفضل تركها بمفردها لبعض الوقت. بهذا الدافع المرهف، ارتد السيد فيرلوك إلى غرفة المعيشة مرة أخرى، حيث كان مصباح الكيروسين يصدر صوت قرقرة مثل قطة راضية. بحكمة الزوجة، كانت السيدة فيرلوك قد تركت لحم البقر البارد على الطاولة مع سكين تقطيع وشوكة ونصف رغيف خبز لعشاء السيد فيرلوك. عندئذ لاحظ كل هذه الأشياء للمرة الأولى، وقطع لنفسه قطعة من الخبز واللحم وبدأ يأكل.
لم تكن شهيته نابعة من قسوة. لم يكن السيد فيرلوك قد تناول أي إفطار في ذلك اليوم. كان قد غادر المنزل في الصباح دون أن يأكل. ولأنه لم يكن رجلا مفعما بالحيوية، فقد وجد الحل في انفعاله العصبي، الذي بدا أنه استولى على مشاعره جدا. لم يكن سيستطيع أن يبتلع أي شيء صلب. كان كوخ ميكايليس يفتقر إلى المؤن مثل زنزانة سجين. اقتات صاحب الإفراج المشروط على قليل من الحليب وكسرات من خبز بائت. علاوة على ذلك، عندما وصل السيد فيرلوك، كان قد صعد إلى الطابق العلوي بعد تناول وجبته الهزيلة. كان منغمسا في عناء وسعادة التأليف الأدبي، حتى إنه لم يجب على صيحة السيد فيرلوك من فوق الدرج الصغير. «سآخذ هذا الشاب إلى البيت ليوم أو يومين.»
وفي الحقيقة، لم ينتظر السيد فيرلوك جوابا، ولكنه خرج من الكوخ على الفور، يتبعه ستيفي المطيع.
والآن بعدما انتهت الأحداث كلها وانتزع مصيره من بين يديه بسرعة غير متوقعة، شعر السيد فيرلوك بخواء جسدي مروع. قطع اللحم إلى شرائح، وقطع الخبز، والتهم عشاءه واقفا بجانب الطاولة، وبين حين وآخر كان يلقي نظرة نحو زوجته. أقلق جمودها الطويل راحته أثناء تناوله لوجبته الخفيفة. عاد إلى المتجر مرة أخرى، ودنا منها كثيرا. هذا الأسى على وجهها الذي أخفته بيديها أصاب السيد فيرلوك بالاضطراب. توقع، بالطبع، أن تكون زوجته في تعاسة شديدة، لكنه أرادها أن تتمالك نفسها. لقد احتاج إلى كل مساعدتها وكل ولائها في هذه الأوضاع الجديدة التي كان بالفعل قد تقبلها بإيمانه بالقدرية.
قال بنبرة تنم عن تعاطف حزين: «ما حصل قد حصل. هيا يا ويني، ينبغي أن نفكر في الغد. ستحتاجين إلى كل قواك بعدما يلقون القبض علي ويذهبون بي.»
توقف عن الحديث. تنفست السيدة فيرلوك بتشنج. لم يكن هذا مطمئنا للسيد فيرلوك، الذي كان من وجهة نظره أن الوضع الجديد كان يستلزم من صاحبي الشأن فيه كليهما الهدوء والحسم وصفات أخرى لا تتوافق مع الاضطراب العقلي الذي يحدثه الحزن العميق. كان السيد فيرلوك رجلا رحيما؛ وكان قد عاد إلى المنزل مستعدا لأن يسمح بأن تعبر زوجته عن حبها لأخيها بكل حرية.
كل ما في الأمر أنه لم يكن يفهم طبيعة تلك المشاعر ولا مداها الكامل. وفي هذا كان معذورا، لأنه كان مستحيلا عليه أن يفهمها دون أن يفقد طبيعته. انتابته الحيرة والإحباط، وظهر هذا في حديثه بنبرة فيها قدر من الخشونة.
بعدما انتظر لبعض الوقت، قال: «أرجو أن تنظري إلي.»
أتى الرد، بصوت مكتوم، ويكاد يكون مثيرا للشفقة، كما لو كان مدفوعا عنوة عبر اليدين اللتين كانتا تغطيان وجه السيدة فيرلوك. «لا أريد أن أنظر إليك طوال حياتي.» «ماذا تقولين؟ عجبا!» ذهل السيد فيرلوك للغاية من المعنى الظاهري والحرفي لهذا القول. من الواضح أنه لم يكن قولا عقلانيا، مجرد صرخة خرجت من رحم حزن مبالغ فيه. ألقى عليه عباءة تسامحه مع زوجته. افتقر عقل السيد فيرلوك إلى العمق. في ظل الانطباع الخاطئ بأن قيمة الأفراد تكمن فيما هم عليه بحد ذاتهم، لم يستطع أن يفهم بأي حال من الأحوال قيمة ستيفي في نظر السيدة فيرلوك. ظن في قرارة نفسه أنها متأثرة بالأمر تأثرا عميقا ومضطربا. كان كل هذا بسبب هيت اللعين. ماذا أراد من إثارة استياء زوجته؟ ولكن من أجل مصلحتها، يجب ألا يسمح لها بأن تستمر هكذا حتى تصل إلى حالة من الهياج الشديد.
قال بقسوة متصنعة، انطوت على قدر من الانزعاج الحقيقي؛ لأن المسائل العملية العاجلة يجب التناقش بشأنها حتى لو اضطرا إلى السهر طوال الليل: «اسمعي! لا يمكنك الجلوس هكذا في المتجر.» وأردف: «ربما يأتي أحد في أي وقت.» ثم انتظر مرة أخرى. لم تصدر منها أي ردة فعل، وخطرت فكرة حتمية الموت على بال السيد فيرلوك أثناء توقفه عن الكلام. غير نبرته. شاعرا أنه يريد أن يأخذها بين ذراعيه ويضمها إلى صدره، حيث يقبع نفاد الصبر والرحمة جنبا إلى جنب، قال بلطف: «هيا. هذا لن يعيده.» ولكن، عدا اختلاجة بسيطة، ظلت السيدة فيرلوك على ما يبدو غير متأثرة بقوة تلك الحقيقة البديهية المرعبة. كان السيد فيرلوك هو من تأثر. تأثر ببساطته ليحثها على الاعتدال من خلال تأكيد المزاعم المرتبطة بشخصيته. «كوني عقلانية، يا ويني. تخيلي ما الذي كان سيحدث لو كنت فقدتني!»
كان قد توقع نوعا ما أن يسمع صراخها. ولكنها لم تتزحزح. مالت قليلا إلى الخلف، وهدأت إلى حد سكون تام لا يفهم ما وراءه. بدأت ضربات قلب السيد فيرلوك تتسارع بحنق وما يشبه الذعر. وضع يده على كتفها، قائلا: «لا تكوني حمقاء، يا ويني.»
لم تبد أي بادرة. كان من المستحيل التحدث حديثا يتناسب مع الموقف مع امرأة لا يمكن للمرء رؤية وجهها. أمسك السيد فيرلوك زوجته من رسغيها. ولكن يديها بدتا وكأنهما ملتصقتان بإحكام. مالت بجسدها إلى الأمام مع جذبه إياها، وكادت تسقط من فوق الكرسي. مرتاعا لشعوره بالارتخاء الشديد لجسدها الواهن، كان يحاول إعادتها إلى الكرسي حينما تصلب جسدها كله فجأة، وتخلصت من يديه، وجرت خارجة من المتجر، وعبرت غرفة المعيشة، ومنها إلى المطبخ. حدث هذا بسرعة شديدة. لم يكن قد رأى من وجهها إلا لمحة وقدرا كبيرا من عينيها علم منه أنها لم تنظر إليه.
بدا الأمر كله وكأنه صراع على حيازة كرسي؛ لأن السيد فيرلوك أخذ على الفور مكان زوجته عليه. لم يغط السيد فيرلوك وجهه بيديه، ولكن تفكيرا كئيبا حجب ملامحه. لن يكون من الممكن أن يفلت من عقوبة بالسجن. لم يكن حينئذ يرغب في أن يفلت منها. كان السجن مكانا آمنا من بعض عمليات الانتقام غير المشروعة مثل القبر، مع ميزة هي أنه في السجن ثمة فسحة للأمل. ما رآه أمامه كان قضاء عقوبة سجن، وإفراج قبل نهاية المدة، ثم عيش في بلد ما خارج وطنه، مثلما كان قد فكر بالفعل، في حالة فشل العملية. وعلى أي حال، فقد باءت بالفشل، وإن لم يكن بالضبط نوع الفشل الذي كان قد شعر بالخشية منه. لقد كانت العملية قاب قوسين أو أدنى من النجاح لدرجة أنه كان سيصبح بوسعه بالتأكيد أن يخيف السيد فلاديمير ليكف عن استهزائه الشديد به بالاستعانة بهذا الدليل على كفاءته المستترة. هكذا على الأقل بدا الأمر للسيد فيرلوك في الوقت الحالي. لو لم تطرأ لزوجته الفكرة غير المواتية بأن تخيط العنوان داخل معطف ستيفي، كان سيحظى بمكانة مرموقة لدى السفارة. كان السيد فيرلوك، الذي لم يكن أحمق، قد أدرك سريعا الطبيعة الاستثنائية لتأثيره غير العادي على ستيفي، على الرغم من أنه لم يفهم تحديدا مصدره؛ وهو عقيدة حكمته السامية وطيبة قلبه التي غرستها امرأتان قلقتان. في جميع الاحتمالات التي كان قد توقعها، كان السيد فيرلوك قد خطط ببصيرة سديدة معتمدا على ولاء ستيفي الغريزي وتقديره الأعمى للأمور. كانت قد أفزعته العاقبة التي لم يتوقعها؛ إذ كان رجلا عطوفا وزوجا محبا. من كل وجهات النظر الأخرى، كان هذا نافعا إلى حد ما. لا يمكن لأي شيء أن يوازي التقدير الأبدي للموت. بينما كان السيد فيرلوك جالسا في ارتباك وخوف في الردهة الصغيرة لحانة شيشاير تشيز، لم يكن بوسعه إلا أن يقر بذلك لنفسه، لأن إدراكه لم يكن يقف عقبة أمام تقديره. على الرغم من أن التفكير في التطاير العنيف لستيفي إلى أشلاء كان أمرا مزعجا، كان فحسب ضمانا للنجاح؛ لأنه، بالطبع، لم يكن الهدف من تهديدات السيد فلاديمير هو هدم الجدار وإنما إحداث تأثير معنوي. مع هذا القدر الكبير من المتاعب والألم من جانب السيد فيرلوك، يمكن القول إن التأثير قد حدث. ومع ذلك، عندما، على غير المتوقع على الإطلاق، انقلب السحر على الساحر في شارع بريت، تقبل السيد فيرلوك، الذي كان يجاهد مثل رجل يحلم بكابوس من أجل الحفاظ على مكانته، الكارثة بروح مؤمنة بالقدرية. ضاعت المكانة ولم تكن خطأ أحد في الحقيقة. كان قد تسبب في ذلك حدث غاية في الصغر. كان الأمر يشبه أن تنزلق على قشرة موز صغيرة في الظلام وتنكسر ساقك.
التقط السيد فيرلوك نفسا كليلا. لم يكن يضمر أي كراهية تجاه زوجته. فكر: سوف يتعين عليها أن تعتني بالمتجر بينما أقضي مدة السجن. وعندما فكر أيضا بشأن كم ستفتقد ستيفي بشدة في البداية، شعر بقلق بالغ على صحتها ومعنوياتها. كيف ستتحمل وحدتها، وحدها تماما في ذلك المنزل؟ ألن يجعلها هذا تنهار وهو في السجن؟ ما الذي سيحدث للمتجر عندئذ؟ كان المتجر ركيزته. على الرغم من أن إيمان السيد فيرلوك بالقدرية جعله يتقبل نهايته كعميل سري، لم يكن يستحسن أن يلحق به خراب تام، ويجب الإقرار أن ذلك في المقام الأول كان نابعا من مراعاة لزوجته.
أخافه صمتها وابتعادها عن مجال رؤيته في المطبخ. ليت أمها كانت معها. لكن تلك العجوز السخيفة ... تملك فزعا حانقا من السيد فيرلوك. لا بد أن يتحدث مع زوجته. كان بوسعه أن يخبرها بالتأكيد أن أي رجل يقع في براثن اليأس في ظل ظروف معينة. ولكنه لم يتماد إلى درجة أن يطلعها على تلك المعلومة. أولا وقبل كل شيء، كان واضحا له أن لا وقت للعمل هذه الليلة. نهض كي يقفل الباب المؤدي إلى الشارع ويطفئ مصباح الغاز في المتجر.
بعدما تأكد السيد فيرلوك من عدم وجود أحد حول بيته، دخل إلى غرفة المعيشة، وألقى نظرة في المطبخ. كانت السيدة فيرلوك جالسة في المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه ستيفي البائس في المساء ومعه أوراق وقلم رصاص كي يروح عن نفسه برسم هذه الومضات العقلية من دوائر لا حصر لها توحي بحالة من الفوضى والأبدية. كانت ذراعاها مطويتين على الطاولة، ورأسها ملقى على ذراعيها. تأمل السيد فيرلوك ظهرها وتسريحة شعرها لبعض الوقت، ثم ابتعد عن باب المطبخ. انعدام الفضول العقلاني والذي كاد أن يكون مزعجا من جانب السيدة فيرلوك، أساس انسجامهما في الحياة المنزلية، جعل من الصعب للغاية أن يتواصل معها، بعدما طرأت هذه الضرورة المأساوية. شعر السيد فيرلوك بهذه الصعوبة بشدة. أخذ يدور حول الطاولة في غرفة المعيشة بطريقته المعتادة مثل حيوان كبير محبوس في قفص.
لأن الفضول أحد أشكال البوح الذاتي، فالشخص الذي يتخذ عدم اكتراثه شكلا منهجيا يبقى دوما غامضا إلى حد ما. في كل مرة كان السيد فيرلوك يمر بالقرب من الباب، كان ينظر إلى زوجته بقلق. لم يكن هذا بسبب أنه كان خائفا منها. تصور السيد فيرلوك أن تلك المرأة تحبه. لكنه لم يكن قد اعتاد منها الاستماع لما يجول بصدره. والسر الذي كان عليه أن يبوح به هذه المرة كان ذا طابع نفسي عميق. فكيف له مع افتقاره إلى الخبرة أن يتمكن من أن يخبرها بما كان هو نفسه يشعر به ولكن بغير وضوح: بأنه توجد مؤامرات نهايتها كارثية، وبأنه أحيانا ما تنمو فكرة في العقل حتى تكتسب وجودا ماديا، قوة مستقلة بذاتها، بل صوتا دالا عليها؟ لم يستطع أن يخبرها بأنه يمكن لرجل أن يطارده وجه سمين ذكي حليق الذقن حتى تكون الوسيلة الأكثر وحشية للتخلص منه فكرة سديدة.
لما بدر إلى عقل السيد فيرلوك السكرتير الأول الذي لدى سفارة عظمى، توقف في المدخل، ونظر إلى داخل المطبخ بوجه غاضب وقبضتين مضمومتين، وخاطب زوجته. «لا تعلمين مع أي شخص غاشم اضطررت للتعامل.»
بدأ جولة أخرى حول الطاولة؛ ثم عندما كان قد أتى إلى الباب مرة أخرى، توقف ونظر من ارتفاع درجتين. «شخص غاشم سخيف، مستهزئ، خطير، إحساسه لا يزيد عن ... بعد كل هذه السنوات! رجل مثلي! وكنت أخاطر بحياتي في تلك اللعبة. لم تكوني تعرفين. كان هذا هو التصرف الصحيح أيضا. ماذا كان النفع من أن أخبرك أنني كنت أواجه خطر التعرض لطعنة غادرة في أي وقت طيلة السنوات السبع لزواجنا؟ لست الرجل الذي يقلق امرأة تحبه. لم تكوني بحاجة لمعرفة ذلك.» طاف السيد فيرلوك في غرفة المعيشة مرة أخرى، غاضبا.
عاد يقول من المدخل: «وحش قاتل. دفعني إلى حفرة كي أموت جوعا على سبيل المزاح. يمكنني أن أرى أنه كان يظنها مزحة لعينة جيدة. رجل مثلي! اسمعيني! بعض من أعظم الناس في العالم يدينون لي بفضل أنهم على قيد الحياة حتى يومنا هذا. ذلك هو الرجل الذي تزوجته، يا فتاتي!»
لاحظ أن زوجته قد اعتدلت في جلستها. بقيت ذراعا السيدة فيرلوك رابضتين ممدودتين على الطاولة. راقب السيد فيرلوك ظهرها وكأن بوسعه أن يكتشف منه تأثير كلماته. «لا توجد مؤامرة اغتيال واحدة طيلة الإحدى عشرة سنة الماضية لم يكن لي صلة بها مخاطرا بحياتي. يوجد عشرات الثوريين ممن أرسلتهم، بقنابلهم في جيوبهم اللعينة، ليقبض عليهم على الحدود. عرف البارون العجوز أهميتي لبلده. وفجأة يأتي خنزير ... خنزير جاهل متعجرف.»
بعدما نزل السيد فيرلوك درجتي السلم متثاقلا، دخل إلى المطبخ، وأخذ قدحا من خزانة المطبخ وسار إلى الحوض، ممسكا به، دون أن ينظر إلى زوجته. «ما كان البارون العجوز سيقدم على الحماقة الشريرة المتمثلة في أن يستدعيني للحضور في الساعة الحادية عشرة صباحا. يوجد رجلان أو ثلاثة في هذه المدينة، لو رأوني أدخل إلى هناك، ما كانوا سيترددون في قتلي عاجلا أو آجلا. كانت مكيدة سخيفة قاتلة لفضح رجل مثلي من أجل لا شيء.»
فتح السيد فيرلوك الصنبور فوق الحوض، وصب ثلاثة أكواب من الماء، واحدا تلو الآخر، في حلقه لإخماد نيران سخطه. كان سلوك السيد فلاديمير مثل وسم بحديد ساخن أضرم النار في بنيته الداخلية. لم يستطع أن يستوعب تلك الخيانة. كان هذا الرجل، الذي لم يكن يقبل أن يعمل في المهام الصعبة المعتادة التي يفرضها المجتمع على أفراده الأدنى، قد مارس نشاطه السري بتفان لا يعرف الكلل. كان السيد فيرلوك يتمتع بقدر كبير من الولاء. كان مخلصا لمستخدميه، ولقضية الاستقرار الاجتماعي، وأيضا لعواطفه، كما اتضح بعدما وضع الكوب في الحوض؛ إذ استدار قائلا: «لو لم أفكر فيك، لأمسكت هذا الغاشم المتنمر من رقبته ورطمت رأسه في المدفأة. كنت سأكون ندا قويا لذلك الرجل ذي الوجه المتورد الحليق ...»
أهمل السيد فيرلوك إنهاء الجملة، وكأنه لا يمكن أن يوجد أي شك في ماهية الكلمة الأخيرة فيها. كانت هذه المرة الأولى في حياته التي يولي فيها ثقته لتلك المرأة غير المبالية. أدى تفرد الحدث وقوة المشاعر الشخصية التي نشطت في سياق هذا الاعتراف وأهميتها، إلى طرد التفكير في مصير ستيفي من عقل السيد فيرلوك. كانت حياة الصبي المتلعثم المتسمة بالخوف والسخط، وكذلك النهاية العنيفة لحياته، قد غابت عن الإدراك العقلي للسيد فيرلوك لبعض الوقت. لذلك السبب، عندما رفع ناظريه، أذهله الطابع غير المحمود العواقب لتحديق زوجته. لم يكن تحديقا جامحا ولم يكن شاردا، ولكن كان انتباهه غريبا وغير مرض لدرجة أنه بدا وكأنه يركز على نقطة ما خلف شخص السيد فيرلوك. كان الانطباع قويا لدرجة أن السيد فيرلوك نظر وراءه. لم يكن يوجد شيء خلفه؛ لم يكن يوجد سوى الحائط الأبيض. لم ير الزوج الطيب لويني فيرلوك أي كتابة على الحائط. التفت إلى زوجته مرة أخرى، مكررا، ببعض التأكيد: «كنت سأمسكه من رقبته. أصدقك القول، لو لم أفكر فيك لكنت خنقت ذلك النذل قبل أن أدعه ينهض. ولا تظني أنه كان سيغدو حريصا على الاتصال بالشرطة أيضا. ما كان سيجرؤ على ذلك. تفهمين السبب، أليس كذلك؟»
غمز لزوجته عن قصد.
قالت السيدة فيرلوك بصوت منخفض ومن دون أن تنظر إليه على الإطلاق: «كلا. عم تتحدث؟»
شعر السيد فيرلوك بإحباط كبير بسبب الإعياء. كان قد مر بيوم مليء بالأحداث، وكانت أعصابه قد أرهقت إلى أقصى حد. بعد شهر من القلق الذي يبعث على الجنون، انتهى بكارثة غير متوقعة، كانت روح السيد فيرلوك التي عصف بها القلق تتوق إلى الراحة. كانت حياته العملية كعميل سري قد انتهت بطريقة لم يكن يمكن أن يتوقعها أحد؛ الآن فقط ربما يتمكن أخيرا من أن ينام ليلا. ولكن عندما نظر إلى زوجته، شك في ذلك. ارتأى أنها كانت متأثرة جدا بما حدث، لم تكن على طبيعتها على الإطلاق. بذل جهدا في الحديث.
قال بنبرة تعاطف: «عليك أن تستجمعي شتات نفسك، يا فتاتي. لقد سبق السيف العذل.»
أصدرت السيدة فيرلوك حركة خفيفة، على الرغم من أنها لم تحرك عضلة واحدة من وجهها الأبيض على الإطلاق. أردف السيد فيرلوك بضجر، من دون أن ينظر إليها. «اخلدي إلى النوم الآن. ما تحتاجين إليه هو بكاء كثير.»
هذا الرأي لم يكن له ما يزكيه سوى توافق بشري عام عليه. من المفهوم على جميع الأصعدة أن كل عاطفة لدى المرأة لا بد أن تنتهي بسيل من الدموع، كما لو أنها لا تعدو في جوهريتها عن أن تكون بخارا يسبح في السماء. ومن المحتمل جدا أنه لو كان ستيفي قد مات على فراشه تحت ناظري السيدة فيرلوك البائسة وبين ذراعيها الواقيتين، كان حزنها سيجد الراحة في سيل من الدموع المريرة والنقية. كانت السيدة فيرلوك، شأنها شأن باقي البشر، مزودة برصيد من الاستسلام اللاواعي الكافي لمواجهة التجلي الطبيعي لمصير الإنسان. دون أن «تتعب رأسها بالأمر»، كانت تدرك أنه «لم يكن يحتمل التفحص فيه كثيرا». ولكن الظروف المؤسفة التي انتهت بها حياة ستيفي، التي اعتبرها السيد فيرلوك ذات طبيعة عرضية فحسب، كونها جزءا من كارثة أكبر، جعلت دموعها تجف من منبعها. كان الأمر يماثل تأثير تمرير مكواة ساخنة للغاية أمام عينيها؛ وفي الوقت نفسه، أبقى قلبها، الذي كان قاسيا ومتجمدا حتى أصبح كتلة من الثلج، جسدها في حالة ارتعاش داخلية، وأبقى على جمود ملامحها المتأملة من دون حراك في الحائط الأبيض الخالي من الكتابة. متطلبات الحالة المزاجية للسيدة فيرلوك، التي عندما جردت من تحفظها العقلاني، صارت نابعة من منطلق الأمومة والعنف، أجبرتها على أن تجيش سلسلة من الأفكار في رأسها الساكن. دارت هذه الأفكار في مخيلتها من دون أن تعبر عنها. كانت السيدة فيرلوك امرأة قليلة الكلام للغاية، سواء في حياتها العامة أو الخاصة. بغضب وارتياع امرأة تعرضت للخيانة، استعرضت سياق حياتها الماضية في رؤى متعلقة غالبا بالحياة الصعبة التي عاشها ستيفي منذ نعومة أظفاره. كانت حياة ذات هدف واحد ومصدر إلهام نبيل واحد، مثل حياة أولئك الأشخاص النادرين الذين تركوا بصمتهم على الأفكار والمشاعر الإنسانية. لكن افتقرت رؤى السيدة فيرلوك إلى النبل والبهاء. تخيلت نفسها تضع الصبي في الفراش على ضوء شمعة واحدة في الطابق العلوي المهجور من «منزل تجاري»، مظلم في الأعلى ومتلألئ على نحو مبالغ فيه بالأضواء والزجاج البلوري في مستوى الشارع مثل قصر خيالي. ذلك البهاء الزائف كان هو البهاء الوحيد البادي في رؤى السيدة فيرلوك. تذكرت تمشيطها لشعر الصبي وربط مريلته - هي نفسها لا تزال ترتدي مريلة؛ وكلمات المواساة التي يتلقاها مخلوق صغير ومرتعد من مخلوق آخر صغير مثله تقريبا إلا أنه ليس مرتعدا مثله؛ تراءى لها مشهد الضربات التي اعترضتها (غالبا برأسها)، وباب موصد باستماتة في مواجهة غضب رجل (ليس لفترة طويلة)، وقذف محراك نار ذات مرة (ليس لمسافة بعيدة) مما أسكن تلك العاصفة وحولها إلى صمت بغيض ومريع كالذي يعقب دوي الرعد. وكل مشاهد الرعب تلك راودتها مصحوبة بضوضاء شتائم صاخبة صادرة من رجل جرح في كبريائه الأبوي، وهو يقول بأن اللعنة حلت عليه بلا شك لأن أحد أولاده كان «أحمق يسيل لعابه والأخرى شيطانة شريرة.» كان هذا ما قيل عنها من سنوات عديدة.
سمعت السيدة فيرلوك الكلمات مرة أخرى كأن طيف نطق بها، ثم هبط ظل منزل بلجرافيا الكئيب على كتفيها. كانت ذكرى ساحقة، مشهد مرهق لأواني إفطار لا حصر لها تحمل صعودا وهبوطا على سلالم لا تعد ولا تحصى، ومساومات لا تنتهي من أجل بنس، وكدح لا ينتهي من كنس ونفض غبار وتنظيف، من القبو إلى العلية؛ بينما كانت الأم العاجزة، التي تترنح على ساقين متورمتين، تطهو في مطبخ متسخ، وستيفي المسكين - الروح الهائمة في المكان غير المدرك لكل تعبهما - يلمع أحذية السادة في حجرة غسل الأطباق. ولكن هذا المشهد تخلله نسيم صيف لندن الحار، والشخصية المحورية فيه كانت شابا يرتدي ملابس الأحد المفضلة لديه، وقبعة من القش على شعره الأسود، وغليون خشبي في فمه. كان حنونا ومرحا، وكان رفيقا رائعا في رحلة في مجرى الحياة المتلألئ؛ ولكن قاربه كان صغيرا جدا. كان يتسع لفتاة تشاركه التجديف، لكنه لم يكن يتسع لركاب. سمح له بالانجراف بعيدا عن عتبة منزل بلجرافيا بينما كانت ويني تتحاشى النظر بعينيها الدامعتين. لم يكن أحد النزلاء. كان النزيل هو السيد فيرلوك، رجل كسول، ويسهر لساعات متأخرة من الليل ، ويمازح ناعسا في الصباح من تحت أغطية فراشه، ولكن مع بريق إعجاب في عينيه الناعستين، ولا تخلو جيوبه من بعض الأموال. لم يكن يوجد بريق من أي نوع في مجرى حياته البطيء. كان يسري عبر أماكن سرية. ولكن مركبه الشراعي بدا مركبا فسيحا، وبشهامته المتحفظة تقبل بطبيعة الحال وجود ركاب.
تابعت السيدة فيرلوك رؤاها عن سبعة أعوام من الأمان لستيفي، دفع ثمنها بإخلاص من جانبها؛ وعن أمان تنامى حتى صار ثقة، ثم شعورا أسريا، راكدا وعميقا مثل بركة هادئة، نادرا ما اهتز سطحها المحمي عند المرور العارض للرفيق أوسيبون، اللاسلطوي القوي البنية ذي العينين الجذابتين الجريئتين، اللتين كان في نظرتهما فساد لا يخفى على أي امرأة ليست معتوهة تماما.
لم تكن قد مرت إلا ثوان قليلة على آخر كلمة نطقت جهرا في المطبخ، وكانت السيدة فيرلوك تحملق شاردة وفي مخيلتها مشهد حدث لم يكن قد مر عليه أكثر من أسبوعين. بعينين كانت حدقتاهما متسعتين عن آخرهما حدقت شاردة وفي مخيلتها مشهد زوجها وستيفي البائس وهما يمشيان في شارع بريت جنبا إلى جنب مبتعدين عن المتجر. كان آخر مشهد صورته مخيلة السيدة فيرلوك حول كيان؛ كيان بلا أي رونق أو سحر، وبلا جمال وبلا تهذيب تقريبا، ولكنه جدير بالإعجاب فيما يتعلق بثبات الاعتقاد والمثابرة على الهدف. كان لهذا المشهد الأخير تجسيد طيع، وقرب في الشكل، ودقة في التفاصيل الموحية لدرجة أنه انتزع من السيدة فيرلوك همهمة حزينة وخافتة، وهي تعيد تجسيد التخيل الأهم في حياتها، همهمة هلعة تلاشت على شفتيها الشاحبتين. «كان يمكن أن يكونا أبا وابنا.»
توقف السيد فيرلوك ورفع وجها يكسوه القلق. سأل: «ماذا؟ ماذا قلت؟» إذ لم يأته رد، استأنف تسكعه بكدر. ثم بتلويحة متوعدة من قبضة غليظة سمينة، انفجر قائلا: «نعم. رجال السفارة. كثيرون جدا، أليس كذلك! قبل أن ينقضي أسبوع، سأجعل بعضهم يتمنون لو كانوا على عمق عشرين قدما تحت الأرض. ماذا؟ ماذا؟»
نظر نظرة جانبية، منكسا رأسه. حدقت السيدة فيرلوك في الحائط الأبيض. حائط فارغ ، فارغ تماما. فراغ يدفعك إلى أن تجري وترطم رأسك فيه. ظلت السيدة فيرلوك جالسة من دون أن تتحرك. ظلت ساكنة مثلما قد يبقى نصف سكان العالم ساكنين في ذهول ويأس، لو خسفت الشمس فجأة من السماء صيفا بسبب غدر العناية الإلهية الموثوق فيها.
بعدما تجهم السيد فيرلوك في خطوة تمهيدية مكشرا عن أنيابه، عاد يقول: «السفارة. ليت بوسعي أن أمضي بحرية هناك ومعي هراوة لمدة نصف ساعة. كنت سأستمر في الضرب حتى لا تبقى فيهم جميعا عظمة غير مكسورة. ولكن لا بأس، يوما ما سوف أعلمهم ما الذي تعنيه محاولة طرد رجل مثلي كي يتعفن في الشوارع. لدي الكثير مما سأقوله. سيعرف العالم أجمع ما فعلته من أجلهم. لست خائفا. لم أعد آبه لشيء. سينكشف كل شيء. كل شيء لعين. فليحذروا!»
بهذه العبارات، أعلن السيد فيرلوك عن تعطشه للانتقام. كان انتقاما مستحقا جدا. كان متناغما مع محفزات التفكير في عقل السيد فيرلوك. كان أيضا يتميز بكونه ضمن نطاق قدراته وبسهولة تكيفه مع طريقة حياته، التي كانت قائمة على وجه التحديد على الإفشاء عن التحركات السرية وغير القانونية لرفاقه. كان اللاسلطويون والدبلوماسيون كلهم سواء في نظره. كان السيد فيرلوك بطبيعته لا يحترم الأشخاص. كان احتقاره موزعا بالتساوي على مجال عملياته كله. ولكن كونه كان منتميا إلى طبقة العمال الثورية - وهو ما كان عليه بلا شك - نما لديه شعور عدائي إلى حد ما تجاه التمييز الاجتماعي.
أردف: «لا شيء على ظهر الأرض يمكن أن يوقفني الآن.» ثم توقف، محدقا في زوجته، التي كانت تحدق في حائط فارغ.
طال الصمت في المطبخ، وشعر السيد فيرلوك بالإحباط. كان قد توقع من زوجته أن تتفوه بأي شيء. ولكن شفتي السيدة فيرلوك - المطبقتين على هيئتهما المعتادة - ظلتا ساكنتين في جمود تمثال كبقية وجهها. وشعر السيد فيرلوك بالإحباط. ولكن الظرف، كما أقر، لم يكن يتطلب أن تقول شيئا. كانت امرأة قليلة الكلام جدا. ولأسباب متعلقة بالتكوين النفسي لدى السيد فيرلوك، كان يميل إلى أن يمنح ثقته لأي امرأة أعطته نفسها. ولذلك كان يثق في زوجته. كان اتفاقهما مثاليا، ولكنه لم يكن محددا. كان اتفاقا ضمنيا ومتناسبا مع لا مبالاة السيدة فيرلوك ومع عادات السيد فيرلوك الذهنية، التي كانت تتسم بالكسل والغموض. كانا يمتنعان عن الخوض في أصل الوقائع والدوافع.
هذا التحفظ، المعبر، بطريقة ما، عن الثقة العميقة بين كل منهما للآخر، أدخل في نفس الوقت عنصرا معينا من الغموض في علاقتهما الحميمة. لا يوجد نظام مثالي في العلاقات الزوجية. افترض السيد فيرلوك أن زوجته كانت قد فهمته، ولكنه كان سيسر لو سمعها تقول ما يجول في خاطرها في تلك اللحظة. كان هذا سيريحه.
كانت توجد أسباب عديدة لحرمانه من هذه الراحة. كان يوجد عائق جسماني: لم تكن السيدة فيرلوك تتمتع بالتحكم الكامل في صوتها. لم تكن ترى أي بديل بين الصراخ أو الصمت، وغريزيا آثرت الصمت. كانت مزاجية ويني فيرلوك تميل إلى الصمت. كذلك كانت فظاعة الأفكار التي كانت تشغل عقلها تشل حركتها. شحب لون وجنتيها، وتحول لون شفتيها إلى الرمادي، وكان جمودها مذهلا. ومن دون أن تنظر إلى السيد فيرلوك، جال في خاطرها: «هذا الرجل أخذ الصبي كي يقتله. أخذ الصبي بعيدا عن بيته كي يقتله. أبعد الصبي عني كي يقتله!»
تعذب كيان السيدة فيرلوك بكامله بتلك الفكرة غير المؤكدة والتي تقود إلى الجنون. كانت في عروقها، وفي عظامها، وفي جذور شعرها. ذهنيا اتبعت طريقة الحداد حسب الكتاب المقدس، الوجه المغطى، والملابس الممزقة؛ امتلأ رأسها بأصوات النحيب والنواح. لكن أسنانها كانت مطبقة بعنف، وعينيها الخاليتين من الدموع اتقدتا بنيران الغضب؛ لأنها لم تكن مخلوقا خنوعا. كانت الحماية التي كانت قد بسطتها على أخيها في أصلها ذات طبيعة عنيفة وغاضبة. كان قد تعين عليها أن تحبه حب مقاتل. لقد حاربت من أجله؛ حتى في مواجهة نفسها. كان لفقدانه مرارة الهزيمة، ومعاناة عاطفة مرتبكة. لم تكن صدمة وفاة عادية. علاوة على ذلك، لم يكن الموت هو الذي أخذ ستيفي منها. بل كان السيد فيرلوك هو الذي اختطفه. لقد رأته. لقد شاهدته وهو يأخذ الصبي، دون أن تفعل شيئا. لقد تركته يأخذه ويذهب وكأنها ... وكأنها حمقاء ... حمقاء عمياء. ثم بعد أن قتل الصبي، عاد إلى البيت إليها. عاد إلى البيت كأي رجل آخر يعود إلى البيت لزوجته ...
عبر أسنانها المطبقة، تمتمت السيدة فيرلوك وهي تنظر إلى الحائط: «وظننت أنه أصيب بنزلة برد.»
سمع السيد فيرلوك تلك الكلمات ووعاها.
قال باستياء: «لم يكن شيئا يذكر. كنت منزعجا. كنت منزعجا من أجلك.»
تحولت السيدة فيرلوك بتحديقها، وهي تدير رأسها ببطء، من الجدار إلى شخص زوجها. كان السيد فيرلوك ينظر إلى الأرض، واضعا أنامله بين شفتيه.
تمتم، تاركا يده تسقط: «لا بد من تقبل الأمر.» وأردف بحنان: «يجب أن تستجمعي شتات نفسك. ستحتاجين إلى كل ذكائك. أنت من جلب الشرطة إلينا. لا بأس، لن أضيف أي شيء عن ذلك الأمر مطلقا. لم يكن بوسعك معرفة ذلك.»
زفرت السيدة فيرلوك قائلة: «لم يكن بوسعي.» بدا الأمر كما لو أن جثة تحدثت. تابع السيد فيرلوك حديثه من حيث انتهى.
تابع حديثه باهتمام صادق: «أنا لا ألومك. سوف أفاجئهم. بمجرد أن أكون خلف القضبان، سيكون مأمونا لي أن أتكلم؛ أنت تفهمين. يجب أن تضعي في حسبانك أنني سأكون بعيدا عنك لمدة عامين. سيكون الأمر أهون عليك مني. سيكون لديك ما تفعلينه، بينما أنا ... اسمعي، يا ويني، ما يجب عليك فعله هو الحفاظ على استمرار هذا العمل لمدة سنتين. أنت تعرفين ما يكفي لذلك. تتمتعين بعقل راجح. سأبعث لك برسالة عندما يحين وقت محاولة البيع. يجب أن تتوخي الحذر للغاية. سيراقبك الرفاق طوال الوقت. يجب أن تكوني بارعة قدر ما تستطيعين، وأن تكوني كتومة كالقبر. يجب ألا يعرف أحد ما تنوين فعله. لا أريد أن تأتيني ضربة على رأسي أو طعنة في ظهري فور خروجي من السجن.»
هكذا تحدث السيد فيرلوك، مستخدما عقله بذكاء وتنبؤ بالمشاكل المستقبلية. كان صوته حزينا، لأنه كان لديه إحساس صائب بالموقف. كان كل شيء لم يرغب في حدوثه قد حدث. كان المستقبل قد صار محفوفا بالمخاطر. ربما كان تقديره للأمور قد أصابه التشويش مؤقتا بسبب خوفه من حماقة السيد فلاديمير وعدوانيته. قد يكون من المبرر أن يزج برجل جاوز الأربعين بقليل في فوضى عارمة، نتيجة لاحتمال فقدانه لوظيفته، خاصة إذا كان الرجل عميلا سريا لدى الشرطة السياسية، مسهبا في الحديث باطمئنان وعيا منه بقيمته العالية وتقدير الشخصيات رفيعة الشأن له. كان لديه ما يبرر تصرفه.
الآن، كان الأمر قد انتهى بانهيار فجائي. كان السيد فيرلوك هادئا؛ لكنه لم يكن مبتهجا. إن العميل السري الذي يلقي بسريته أدراج الرياح رغبة في الانتقام، ويتباهى بإنجازاته في العلن، يصبح هدفا لسخط يائس متعطش للدماء. دون تهويل لمدى الخطر، حاول السيد فيرلوك أن يجعله واضحا لعقل زوجته. وكرر أنه لا ينوي أن يدع الثوريين يتخلصون منه.
نظر في عيني زوجته مباشرة. تلقت حدقتا عيني المرأة المتسعتان تحديقه في أعماقها التي لا يمكن سبر أغوارها.
قال بضحكة عصبية بعض الشيء: «أنا متيم بك لأجل ذلك.»
اكتسى وجه السيدة فيرلوك الشاحب والساكن بتورد خفيف. بعدما انتهت من رؤى الماضي، لم تكن قد سمعت الكلمات التي تفوه بها زوجها فحسب، بل فهمتها أيضا. بسبب الاختلاف المفرط لهذه الكلمات مع حالتها العقلية، أحدثت فيها تأثيرا خانقا قليلا. كانت السيدة فيرلوك تتمتع بحالة عقلية تتميز بالبساطة؛ ولكنها لم تكن في حالة سليمة. كانت تتحكم فيها على نحو مفرط فكرة ثابتة. امتلأت كل زاوية وكل ركن في دماغها بفكرة أن هذا الرجل، الذي كانت قد عاشت معه دون كراهية لمدة سبع سنوات، قد أخذ «الولد المسكين» بعيدا عنها من أجل أن يقتله، الرجل الذي كانت قد اعتادت عليه قلبا وقالبا؛ الرجل الذي كانت قد وثقت به، أخذ الصبي بعيدا ليقتله! في شكلها وجوهرها وتأثيرها، الذي كان شاملا، يبدل حتى مظهر الأشياء الجامدة، كانت فكرة تدفع المرء إلى الجلوس ساكنا والتعجب منها إلى الأبد. جلست السيدة فيرلوك ساكنة. وعبر تلك الفكرة (ليس عبر المطبخ) أخذ جسد السيد فيرلوك يغدو ويروح، على نحو مألوف بقبعته ومعطفه، وقرع حذائه يدق في دماغها. ربما كان يتحدث أيضا؛ ولكن تفكير السيدة فيرلوك غالبا ما كان يحجب صوته.
ومع ذلك، من وقت لآخر، كان صوته يصير مسموعا. برز العديد من الكلمات المترابطة في بعض الأحيان. كان مضمونها تفاؤليا بوجه عام. وفي كل مناسبة من تلك المناسبات، كانت حدقتا السيدة فيرلوك المتسعتان، اللتان فقدتا ثباتهما الذاهل، تتبعان حركات زوجها باهتمام شرير وانتباه لا يمكن سبر غوره. تفاءل السيد فيرلوك بنجاح خططه وتحضيراته، كونه على اطلاع جيد بجميع المسائل المتعلقة بمهنته السرية. كان يعتقد حقا أنه سيسهل عليه إجمالا الهروب من سكين الثوريين الغاضبين. كان قد بالغ في قوة غضبهم ونفوذهم بعيد النطاق (لأغراض متعلقة بمهنته) في كثير من الأحيان لدرجة أنه صنع حولهم الكثير من الأوهام بطريقة أو بأخرى. لأنه من أجل أن يبالغ المرء في الحكم على الأمور، لا بد أن يبدأ بتقديرها بدقة أولا. كان يعرف أيضا كم الفضيلة وكم الخزي الذي ينسى في غضون سنتين؛ سنتين طويلتين. كان حواره السري الفعلي الأول مع زوجته متفائلا عن قناعة. ارتأى أيضا أن عرض كل الضمانات التي يمكنه حشدها سياسة تؤتي ثمارها. فمن شأنه أن يجعل المرأة المسكينة تبذل قصارى جهدها. وعند إطلاق سراحه، الذي سوف يكون سريا، بالطبع، متوافقا مع طبيعة حياته كلها، سوف يختفيان معا دون إضاعة للوقت. وفيما يتعلق بمحو كل أثر لهما، توسل إلى زوجته أن تثق به في تلك النقطة. كان يعرف كيف يفعل ذلك بحيث لا يستطيع الشيطان نفسه ...
لوح بيده. بدا أنه يتفاخر. لم يتمن سوى أن يجعلها تبذل قصارى جهدها. كانت نية طيبة، ولكن من سوء حظ السيد فيرلوك أنه لم يجد أذنا مصغية.
ازدادت نبرة الثقة بالنفس في أذن السيدة فيرلوك مما جعل معظم الكلمات تذهب سدى؛ فما قيمة الكلمات عندها الآن؟ ما الذي يمكن أن تصنعه معها الكلمات، سواء بالخير أو الشر، في مواجهة الفكرة الراسخة في عقلها؟ تتبعت نظراتها السوداوية ذلك الرجل الذي كان يؤكد على إفلاته من العقاب، الرجل الذي أخذ ستيفي المسكين من البيت كي يقتله في مكان ما. لم تستطع السيدة فيرلوك أن تتذكر المكان بالتحديد، ولكن قلبها بدأ يدق على نحو مدرك جدا.
بنبرة حنونة من زوج محب، كان السيد فيرلوك يعبر الآن عن إيمانه الراسخ بأنه ما زال أمامهما بضع سنوات من الحياة الهادئة. لم يتطرق إلى مسألة الوسائل. لا بد أنها ستكون حياة هادئة، في عش ظليل، إن جاز القول، مستترة وسط أناس بسطاء قنوعين؛ حياة بسيطة لا تعقيد فيها، مثل حياة أزهار البنفسج. كانت الكلمات التي استخدمها السيد فيرلوك هي: «نختفي عن الأنظار بعض الوقت.» وبالطبع بعيدا عن إنجلترا. لم يكن واضحا إن كان السيد فيرلوك يفكر في الذهاب إلى إسبانيا أم إلى أمريكا الجنوبية؛ ولكنه مكان خارج البلاد على أي حال.
عندما سمعت السيدة فيرلوك هذه الكلمة الأخيرة، تركت فيها انطباعا محددا. كان هذا الرجل يتحدث عن السفر إلى الخارج. كان الانطباع منفصلا انفصالا تاما؛ وكذا سلطان العادة العقلية حتى إن السيدة فيرلوك سألت نفسها على الفور وبطريقة تلقائية: «وماذا عن ستيفي؟»
كان ضربا من النسيان؛ ولكن على الفور أدركت أنه لم يعد يوجد أي داع للقلق بشأن تلك النقطة. لن يوجد أي داع لذلك بعد الآن على الإطلاق. لقد أخذ الفتى المسكين خارج المنزل وقتل. لقد مات الفتى المسكين.
حفزت هذه الحالة المزلزلة من النسيان عقل السيدة فيرلوك. بدأت تستوعب نتائج معينة كانت ستفاجئ السيد فيرلوك. لم تعد بحاجة الآن إلى البقاء في مكانها، في ذلك المطبخ، ولا في ذلك المنزل، مع ذلك الرجل، ما دام الفتى قد رحل إلى الأبد. لم تعد ثمة حاجة على الإطلاق. ومن ثم نهضت السيدة فيرلوك وكأن شيئا نخسها. ولكنها كذلك لم تستطع أن ترى أي سبب يدعوها للبقاء في هذا العالم على الإطلاق. وهذا العجز أعاقها. راقبها السيد فيرلوك باعتناء الزوج.
قال بنبرة محرجة: «إنك تبدين على طبيعتك أكثر من قبل.» شيء غريب في سواد عيني زوجته عكر تفاؤله. في تلك اللحظة بالتحديد، بدأت السيدة فيرلوك تنظر إلى نفسها باعتبارها متحررة من كل القيود الدنيوية.
لقد نالت حريتها. أشرفت رابطتها بالوجود، التي كان يمثلها ذلك الرجل الواقف هناك، على الانتهاء. صارت امرأة حرة. لو أن السيد فيرلوك أدرك تلك النقطة بطريقة ما، لكان سيصدم صدمة هائلة. في المسائل العاطفية، كان السيد فيرلوك دائما كريما بتهور في العطاء، ولكن دوما دون أي فكرة أخرى سوى فكرة أن يكون محبوبا لذاته. في هذا الشأن، لكون مفاهيمه عن الأخلاق تتفق مع غروره، كان عنيدا تماما. وإذ كان الأمر كذلك، ففيما يتعلق بمسألة علاقاته الأخلاقية والقانونية، كان متأكدا من ذلك تمام التأكد. كان قد تقدم به العمر، وازداد بدانة، وزاد وزنه، اعتقادا منه بأنه لم يكن يفتقر إلى الجاذبية التي تجعله محبوبا لذاته. لما رأى زوجته قد بدأت تمشي من المطبخ من دون أن تنبس ببنت شفة، تملك الإحباط من السيد فيرلوك.
نادى عليها بنبرة حادة بعض الشيء: «إلى أين أنت ذاهبة؟ إلى الطابق العلوي؟»
التفتت السيدة فيرلوك تجاه الصوت وهي عند الباب. حفزتها غريزة الاحتراس المولود من رحم الخوف، الخوف المفرط من أن يقترب منها ذلك الرجل ويلمسها، على أن تومئ إليه إيماءة خفيفة (من علو درجتين) بحركة من شفتيها فهمها السيد فيرلوك، الزوج المحب المتفائل، على أنها ابتسامة باهتة وذاهلة.
شجعها بأسلوب جاف: «هذا صحيح. ما تحتاجين إليه هو الراحة والهدوء. اذهبي. سألحق بك بعد فترة وجيزة.»
أما السيدة فيرلوك، المرأة الحرة التي في الواقع لم تكن تعرف إلى أين هي ذاهبة، فأطاعت الاقتراح بثبات راسخ.
راقبها السيد فيرلوك. أخذت تصعد درجات السلم حتى اختفت. أما هو فكان يشعر بخيبة الأمل. كان لديه شعور بداخله بأنه كان سيصبح مرضيا أكثر لو أنها اتجهت إليه وارتمت على صدره. ولكنه كان كريما ومتسامحا. كانت ويني دوما متحفظة وصامتة. كذلك لم يكن السيد فيرلوك نفسه مفرطا في عبارات التحبب وفي الكلام عموما. ولكن هذه لم تكن أمسية عادية. كانت ظرفا يحتاج فيه الرجل إلى الدعم والمؤازرة ببراهين واضحة على التعاطف والمودة. تنهد السيد فيرلوك، وأطفأ مصباح الغاز في المطبخ. كان تعاطف السيد فيرلوك مع زوجته صادقا وقويا. كادت الدموع تسيل من عينيه عندما كان واقفا في غرفة المعيشة يفكر في الوحدة التي كانت تقض مضجعها. في هذه الحالة، افتقد السيد فيرلوك ستيفي كثيرا في هذا العالم الصعب. فكر بحزن في نهايته. يا ليت هذا الشاب لم يهلك نفسه بغبائه!
مرة أخرى، تغلب عليه مجددا الإحساس بجوع لا يهدأ، وهو إحساس معروف لمغامرين أشد بأسا من السيد فيرلوك بعد إجهاد بسبب مغامرة محفوفة بالمخاطر. شدت انتباهه للغاية قطعة اللحم البقري المشوي، المسجاة وكأنها لحوم مطهية جنائزية من أجل مأتم ستيفي. ومجددا التهمها السيد فيرلوك. التهمهما بشراهة، دون ضبط للنفس ولياقة، مقطعا الشرائح السميكة بسكين التقطيع الحاد، وابتلعها من دون خبز. أثناء تناوله لتلك الوجبة الخفيفة، تبادر إلى ذهن السيد فيرلوك أنه لم يكن يسمع زوجته تتجول في غرفة النوم كما كان من المفترض أن يسمع. فكرة أنه ربما يجدها جالسة في مخدعها في الظلام لم تسد شهية السيد فيرلوك فحسب، بل انتزعت منه الرغبة في أن يتبعها إلى الطابق العلوي في ذلك الوقت. بعدما وضع السيد فيرلوك سكين التقطيع على الطاولة، أنصت بانتباه جزع.
استراح لما سمع خطواتها وهي تتحرك أخيرا. مشت فجأة عبر الغرفة وفتحت النافذة على مصراعيها. بعد فترة من السكون هناك بالأعلى، تخيلها خلالها وهي تخرج رأسها من النافذة، سمع صوت إطار النافذة وهو ينزل ببطء. بعدها مشت بضع خطوات وجلست. كان كل صوت في المنزل مألوفا للسيد فيرلوك، الذي كان مولعا تماما بالحياة المنزلية. عندما سمع بعدها خطوات زوجته فوق رأسه، أدرك، وكأنه كان قد رآها بعينيه، أنها كانت ترتدي حذاءها. التفت السيد فيرلوك بكتفه قليلا عند هذه العلامة المنذرة بسوء، وبعدما ابتعد عن الطاولة، وقف وظهره إلى المدفأة، ورأسه مائلة على أحد الجانبين، وأخذ يقضم أطراف أصابعه بتحير. ظل يتتبع تحركاتها معتمدا على الصوت. ظلت تروح وتجيء بعنف، مع توقفات مفاجئة، مرة أمام الخزانة ذات الأدراج، وأخرى أمام خزانة الملابس. سلب عبء هائل من التعب، حصاد يوم من الصدمات والمفاجآت، السيد فيرلوك من كل قواه.
لم يرفع عينيه حتى سمع زوجته تنزل على السلم. كان الأمر كما خمن. كانت قد ارتدت ملابس الخروج.
كانت السيدة فيرلوك امرأة حرة. كانت قد فتحت نافذة غرفة النوم على مصراعيها إما بنية أن تصرخ قائلة جريمة قتل! ساعدوني! أو بنية أن ترمي بنفسها من النافذة. وذلك لأنها لم تكن تعلم بالضبط ما الفائدة من حريتها. بدت أن شخصيتها قد انشطرت إلى نصفين، والعمليات العقلية فيهما لم ينسجم بعضها مع بعض. ثبط الشارع، الصامت والمهجور من أقصاه إلى أقصاه، عزيمتها بالانحياز إلى جانب ذلك الرجل الذي كان على ثقة كبيرة من أنه سيفلت من العقاب. كانت خائفة من أن تصرخ ولا يأتي أحد لنجدتها. من الواضح أن لا أحد سيأتي. أحجمت غريزة الحفاظ على النفس لديها بسبب عمق السقطة في ذلك النوع الزلق والعميق من الحفر. أغلقت السيدة فيرلوك النافذة، وارتدت ملابسها للخروج إلى الشارع بطريقة أخرى. كانت امرأة حرة. كانت قد ارتدت ملابسها بالكامل حتى إنها وضعت حجابا أسود على وجهها. عندما ظهرت أمام السيد فيرلوك في ضوء غرفة المعيشة، لاحظ أنها كانت معها حتى حقيبة يدها الصغيرة معلقة في رسغها الأيسر ... بالطبع كانت ستهرب إلى أمها.
تراءت لعقله المنهك فكرة أن النساء مخلوقات متعبة بأي حال. لكنه كان كريما جدا لدرجة أنه لم يحتفظ بها في عقله أكثر من لحظة. ظل هذا الرجل، الذي جرح بقسوة في كبريائه، سمحا في سلوكه، ولم يرض من نفسه أن تبدر منه ابتسامة مريرة أو لفتة ازدراء. بسمو نفس حقيقي، لم يفعل شيئا سوى أن نظر إلى الساعة الخشبية على الحائط، وقال بهدوء تام، ولكن بأسلوب مقنع: «الساعة الثامنة وخمس وعشرون دقيقة يا ويني. لا معنى للذهاب إلى هناك في هذا الوقت المتأخر. لن تتمكني مطلقا من العودة الليلة.»
توقفت السيدة فيرلوك فجأة قبل يده الممدودة. أردف متثاقلا: «ستكون أمك قد خلدت إلى النوم قبل أن تصلي إلى هناك. وهذا النوع من الأخبار يمكن الانتظار عليه.»
لم تكن السيدة فيرلوك تفكر على الإطلاق في الذهاب إلى أمها. اشمأزت من مجرد الفكرة، وإذ شعرت بوجود كرسي خلفها، استجابت إلى الإيعاز المتولد عن تلامسها مع الكرسي، وجلست. كانت نيتها ببساطة هي الخروج من الباب بلا رجعة. وإذا كان هذا الشعور صحيحا، فقد اتخذت صورته الذهنية شكلا مبدئيا يتوافق مع أصلها ووضعها. فكرت في نفسها: «سأظل أمشي في الشوارع طوال أيام حياتي.» ولكن هذه المخلوقة، التي تعرضت معنوياتها لصدمة، قد تكون أعنف الزلازل في التاريخ، مقارنة بها، من ناحية الوضع المادي، مجرد رد فعل واهن وضعيف، كانت تحت رحمة مجرد تفاهات وأفكار طارئة. جلست. بقبعتها ووشاحها، بدت وكأنها زائرة جاءت تزور السيد فيرلوك لبعض الوقت. شجعه انقيادها الفوري، بينما استفزه قليلا إذعانها الذي كان مؤقتا فقط وصامتا.
قال بنبرة آمرة: «دعيني أقل لك يا ويني إن مكانك هنا الليلة. اللعنة على كل شيء! بسببك أتت الشرطة اللعينة من كل حدب وصوب إلى هنا. أنا لا ألومك ... ولكن هذا صنيعك على أي حال. من الأفضل أن تخلعي تلك القبعة المقيتة.» أردف بصوت ناعم: «لا يمكنني أن أدعك تخرجين، أيتها الفتاة الكبيرة.»
استوعب عقل السيدة فيرلوك تلك العبارات بعناد رهيب. الرجل الذي أخذ ستيفي بعيدا عن عينيها ليقتله في مكان لم يكن اسمه حاضرا في ذاكرتها في تلك اللحظة لن يدعها تخرج. بالطبع ما كان ليدعها تخرج.
بعد أن قتل ستيفي لن يدعها تذهب أبدا. يريد أن يبقيها دون سبب. وبناء على هذا الاستنتاج المميز، الذي ينطوي على كل قوة المنطق المجنون، بدا أن عقل السيدة فيرلوك المشوش يعمل بطريقة عملية. كان بإمكانها أن تنسل من جانبه وتفتح الباب وتفر هاربة. ولكنه سيندفع خلفها ويمسك بها من جسدها ويسحبها مرة أخرى إلى داخل المتجر. يمكن أن تخربش وتضرب وتعض ... وأن تطعن بسكين أيضا؛ ولكنها بحاجة إلى سكين كي تطعنه به. جلست السيدة فيرلوك ساكنة تحت حجابها الأسود، وفي منزلها الخاص، مثل زائرة مقنعة ومجهولة لها نوايا مبهمة.
لم يكن السيد فيرلوك، مع رحابة صدره، إلا بشرا. لقد أغضبته في النهاية. «ألا يمكنك أن تقولي شيئا؟ لديك حيلك الخاصة من أجل مضايقة رجل. أوه نعم! أعرف حيلة الصمم والبكم خاصتك. رأيتك تفعلينها قبلئذ. ولكنها لن تجدي نفعا الآن. وبداية، اخلعي هذا الشيء الملعون. لا يمكن للمرء أن يعرف إن كان يتحدث إلى دمية أم إلى امرأة حية.»
تقدم نحوها ومد يده وسحب الوشاح، كاشفا عن وجه متبلد لا يمكن تخمين ما تفكر فيه صاحبته، تحطم عليه سخطه العصبي مثل زجاجة قذفت على صخرة. قال: «هذا أفضل.» من أجل أن يخفي ارتباكه المؤقت، ثم عاد إلى مكانه القديم بجانب رف المدفأة. لم يخطر على باله قط أن زوجته يمكن أن تتخلى عنه. شعر بالخجل قليلا من نفسه؛ لأنه كان محبا وكريما. ماذا باستطاعته أن يفعل؟ كل شيء قيل بالفعل. احتج بقوة. «بحق السماء! تعلمين أنني لم أدخر جهدا في البحث. عرضت نفسي لخطر افتضاح أمري لأجد أحدا ما لهذه المهمة اللعينة. وأقول لك مرة أخرى إنني لم أستطع أن أجد أي شخص مجنون بما يكفي أو تواق بما يكفي. ماذا تعتبرينني ... قاتلا أم ماذا؟ لقد مات الصبي. هل تظنين أنني رغبت في أن يفجر نفسه؟ لقد مات. انتهت مشاكله. وأقول لك إن مشاكلنا ستبدأ تحديدا لأنه فجر نفسه. أنا لا ألومك. ولكن حاولي أن تفهمي أن ما حدث كان مجرد حادثة؛ بقدر ما كانت ستصبح حادثة لو كانت حافلة دهسته وهو يعبر الشارع.»
لم يكن كرمه بلا حدود؛ لأنه كان إنسانا ... وليس وحشا، كما كانت تظن السيدة فيرلوك. صمت قليلا، وزمجر فارتفع شاربه فوق أسنان بيضاء لامعة منحته مظهر وحش مفكر، ليس وحشا شديد الخطورة؛ وحش متكاسل له رأس أملس، أكثر تجهما من الفقمة، وصوت أجش. «وفيما يخص ذلك، فإنه صنيعك بقدر ما هو صنيعي. أصدقك القول. يمكنك أن تحملقي بقدر ما تريدين. أعرف ما يمكنك فعله في ذلك الشأن. فلترديني صاعقة صريعا لو كنت قد فكرت يوما في الفتى من أجل ذلك الغرض. أنت من استمر في دفعه إلى طريقي عندما كنت مشتتا بعض الشيء بداعي القلق على إبقائنا جميعا بعيدا عن المشاكل. ما الذي جعلك تفعلين ذلك بحق الشيطان؟ قد يظن المرء أنك كنت تفعلين ذلك عن قصد. وليلعني الرب لو كنت أعلم أنك لم تكوني تقصدين ذلك. من المستحيل على المرء أن يعرف مقدار ما يدور بداخلك وما تحتفظين به في سريرتك بطريقة «لا أهتم على الإطلاق» اللعينة التي تنتهجينها بعدم النظر إلى مكان بعينه، وعدم قول شيء على الإطلاق ...»
توقف صوته الأجش المألوف لفترة. لم ترد السيدة فيرلوك بشيء. قبل ذلك الصمت، شعر بالخجل مما كان قد قاله. ولكن كما يحدث غالبا للرجال المسالمين في المشاجرات الزوجية، دفعه الخجل إلى إثارة نقطة أخرى.
استهل حديثه من جديد دون أن يرفع صوته: «لديك طريقة شيطانية في إمساك لسانك أحيانا. إنها كافية لجعل بعض الرجال يصابون بالجنون. ومن حسن حظك أنني لا أستفز بسهولة مثل بعض الرجال الذين يسهل إثارتهم بعبوسك الأصم والأبكم. أنا أحبك. ولكن لا تتمادي. هذا ليس الوقت المناسب لهذا. يتعين علينا أن نفكر فيما يجب علينا فعله. ولا يمكنني أن أدعك تخرجين الليلة، راكضة إلى أمك بحكاية مجنونة أو أي أشياء أخرى عني. لن أسمح بذلك. كوني واثقة مما أقول: إن كنت تزعمين أنني قتلت الفتى، فقد قتلته أنت أيضا مثلي تماما.»
فيما يتعلق بصدق المشاعر والصراحة في القول، تجاوزت هذه الكلمات بكثير أي شيء كان قد قيل من قبل في هذا البيت، الذي حوفظ على استمراريته بأجور نشاط سري دبرت نفقاته من بيع سلع سرية بشكل أو بآخر؛ وسائل بائسة ابتكرها بشر متواضعو الحال من أجل الحفاظ على مجتمع ذي نقائص من أخطار الفساد الأخلاقي والمادي، وكلاهما من نوع سري أيضا. قيلت هذه الكلمات لأن السيد فيرلوك كان قد شعر بالغضب حقا؛ ولكن على ما يبدو أن آداب السلوك المتحفظة للحياة في هذا البيت، الذي يختبئ في شارع قذر خلف متجر ولم تدخله الشمس قط، ظلت نقية. بلياقة تامة سمعته السيدة فيرلوك حتى انتهى من كلامه، ثم قامت من فوق كرسيها وهي ترتدي قبعتها وسترتها وكأنها زائرة في نهاية زيارتها القصيرة. تقدمت تجاه زوجها ومدت إحدى يديها وكأنها تودعه في صمت. أضفى وشاحها الشبكي، المتدلي من أحد طرفيه على الجانب الأيسر من وجهها، مظهرا شكليا مضطربا لحركاتها المحدودة. ولكن عندما وصلت إلى بساط المدفأة، لم يعد السيد فيرلوك واقفا هناك. كان قد مشى مبتعدا تجاه الأريكة، دون أن يرفع عينيه كي يرى تأثير حديثه المسهب. كان متعبا، ومستسلما بروح زوج صادق. ولكن أوجعته نقطة ضعفه السري الحساسة. إذا كانت ستستمر في عبوسها بذلك الصمت المروع المغالى فيه، فإنه لم يفهم السبب في وجوب ذلك. كانت متمرسة في تلك الحيلة المنزلية. رمى السيد فيرلوك نفسه بتثاقل على الأريكة، متجاهلا كعادته مصير قبعته، التي وجدت ملاذا آمنا تحت الطاولة، وكأنها اعتادت على أن تهتم بحالها.
كان متعبا. كان آخر جزء من قوة أعصابه قد استنفد في عجائب وويلات هذا اليوم المليء بالخيبات المفاجئة التي أتت في نهاية شهر مزعج من التآمر والأرق. كان متعبا. لم يكن الرجل مخلوقا من حجر. اللعنة على كل شيء! رقد السيد فيرلوك في وضعية مميزة، مرتديا ملابس الخروج. كان أحد جانبي معطفه المفتوح طريحا جزئيا على الأرض. تقلب السيد فيرلوك على ظهره. لكنه كان يتوق إلى راحة أفضل، إلى النوم، لبضع ساعات من النسيان الهانئ. هذا سيأتي في وقت لاحق. استراح مؤقتا. وفكر في نفسه: «ليتها تكف عن هذا الهراء اللعين. إنه مستفز.»
لا بد أنه كان يوجد ما ينتقص من شعور السيدة فيرلوك باستعادتها حريتها. فبدلا من أن تمضي إلى الباب، مالت إلى الوراء، واستندت بكتفيها على رف المدفأة، وكأنها عابر سبيل يستريح على سياج. كان ثمة مسحة من الوحشية في مظهرها مستمدة من الوشاح الأسود المتدلي مثل خرقة على وجنتها، ومن ثبات تحديقتها السوداوية التي امتص فيها ضوء الغرفة وضاع دون أثر لأي بريق. هذه المرأة، القادرة على مساومة كان مجرد الظن في وجودها سيشكل صدمة كبيرة لفكرة السيد فيرلوك عن الحب، ظلت مترددة وكأنها مدركة بتحليل مدقق لوجود شيء ناقص من جانبها من أجل الإنهاء الرسمي للاتفاق.
على الأريكة، لوى السيد فيرلوك كتفيه في وضعية مريحة تماما، ومن أعماق قلبه عبر عن أمنية كانت بالتأكيد مخلصة بقدر أي شيء يمكن أن ينبع من هذا المصدر.
دمدم بصوته الأجش: «ليتني لم أر جرينتش بارك ولا أي شيء يتعلق بها على الإطلاق.»
ملأ الصوت المكتوم الغرفة الصغيرة بجهارته المعتدلة، متكيفا جيدا مع الطبيعة المتواضعة للأمنية. تدفقت موجات الهواء ذات الطول المناسب والمنتشرة وفق الصيغ الرياضية الصحيحة، حول جميع الأشياء الجامدة في الغرفة وارتطمت برأس السيدة فيرلوك كما لو كانت رأسا من حجر. ومما لا يصدق أن عيني السيدة فيرلوك بدتا وكأنهما تزدادان اتساعا على اتساعهما. تدفقت الأمنية المسموعة الصادرة من قلب السيد فيرلوك المفعم إلى موضع فارغ في ذاكرة زوجته. حديقة جرينتش بارك. حديقة! ذلك هو المكان الذي قتل فيه الصبي. حديقة؛ فروع مهشمة، أوراق أشجار ممزقة، حصى، قطع من لحم أخيها وعظامه، تقذف إلى أعلى معا مثل الألعاب النارية. تذكرت الآن ما كانت قد سمعته، وتذكرته وكأنها تراه أمام عينيها. لقد اضطروا إلى جمع أشلائه بمجرفة. وإذ ارتعد سائر جسدها بقشعريرة لا يمكن السيطرة عليها، رأت أمام عينيها الأداة نفسها وحمولتها المروعة التي فتتت متطايرة من فوق الأرض. أغلقت السيدة فيرلوك عينيها آيسة، وأسدلت ستار جفنيها على ذلك المشهد، حيث بعدما انهمرت الأطراف المشوهة كالمطر، ظل رأس ستيفي المقطوع معلقا بمفرده، وأخذ يتلاشى رويدا رويدا مثل آخر نجم في عرض ألعاب نارية. فتحت السيدة فيرلوك عينيها.
لم يعد وجهها متحجرا. كان يمكن لأي أحد أن يلاحظ التغيير الطفيف على ملامحها، في حملقة عينيها، مما منحها تعبيرا جديدا ومحيرا؛ تعبيرا نادرا ما يلاحظه الأشخاص الأكفاء في ظل ظروف توافر سبل الراحة والأمان اللازمة لتحليل واف ، ولكن لا يمكن أن تخطئ العين معناه بمجرد نظرة واحدة. لم تعد شكوك السيدة فيرلوك بشأن نهاية المساومة موجودة؛ لم يعد عقلها مشوشا، وكان يعمل تحت سيطرة إرادتها. ولكن السيد فيرلوك لم يلاحظ شيئا. كان راقدا في تلك الحالة المثيرة للشفقة النابعة من تفاؤل ناجم عن إرهاق مفرط. لم يكن يريد المزيد من المشاكل، وبالمثل مع زوجته، من بين كل الناس الذين في العالم. كان دفاعه مفحم. كان محبوبا لذاته. وفسر المرحلة الحالية من صمتها تفسيرا إيجابيا. كان هذا هو الوقت المناسب للتصالح معها. كان الصمت قد ساد لفترة طويلة. قطع هذا الصمت بأن نادى عليها بصوت منخفض. «ويني.»
أجابت السيدة فيرلوك، المرأة الحرة، بطاعة: «نعم.» كانت تتحكم في عقلها الآن، وفي أعضاء الكلام لديها؛ شعرت بأنها في حالة سيطرة تامة شبه خارقة للطبيعة على كل ألياف جسدها. كانت متمالكة لنفسها تماما لأن المساومة كانت في نهايتها. كانت تتمتع بوضوح الرؤية. لقد صارت ماكرة. اختارت أن ترد عليه بسرعة كبيرة لغرض في نفسها. لم ترغب في أن يغير ذلك الرجل وضعيته على الأريكة التي كانت ملائمة جدا للظروف. ونجحت في ذلك. لم يتحرك الرجل. ولكن بعدما ردت عليه، بقيت مستندة بلا مبالاة على رف المدفأة وبطريقة عابر سبيل يستريح. كانت متمهلة. لم تكن قلقة. كان رأس السيد فيرلوك وكتفيه مخفيين عنها بالجانب المرتفع من الأريكة. ومن ثم أبقت عينيها مركزتين على قدميه.
بقيت ساكنة بغموض هكذا وفي رباطة جأش مفاجئة حتى سمع صوت السيد فيرلوك بلهجة الزوج الآمرة، وتحرك قليلا كي يفسح لها مكانا لتجلس على طرف الأريكة.
قال بنبرة غريبة: «تعالي هنا.» ربما كانت تنم عن قسوة، ولكن كانت مألوفة جدا للسيدة فيرلوك على أنها نبرة التودد.
بدأت تتحرك نحوه على الفور، كما لو كانت امرأة مخلصة مرتبطة بذلك الرجل بعهد وثيق. مررت يدها اليمنى برفق على طرف الطاولة، وعندما كانت قد تجاوزتها تجاه الأريكة، كان سكين التقطيع قد اختفى دون أدنى صوت من مكانه على جانب الطبق. سمع السيد فيرلوك صرير خشب الأرضية، وغمرته السعادة. انتظر. السيدة فيرلوك آتية. وكأن روح ستيفي المشردة كانت قد طارت ووجدت مباشرة ملاذا في صدر أخته الوصية والحامية، كان التشابه بين وجهها ووجه أخيها يزداد مع كل خطوة تخطوها، حتى في تدلي الشفة السفلية، وحتى في الحول الطفيف للعينين. ولكن السيد فيرلوك لم يلاحظ ذلك. كان مستلقيا على ظهره ويحملق في السقف. رأى الظل المتحرك المنقسم بين السقف والحائط بذراع يدها مقبوضة وممسكة بسكين تقطيع. اختلج الظل صعودا وهبوطا. كانت حركاته متمهلة. كانت متمهلة بما يكفي لأن يلاحظ السيد فيرلوك الذراع والسلاح.
كانت متمهلة بما يكفي لأن يستوعب المعنى الكامل لنذير الشؤم، وأن يتذوق طعم الموت وهو يتصاعد في حلقه. كان قد تملك زوجته جنون جامح؛ جنون قاتل. كانت متمهلة بما يكفي لأن يزول التأثير الأول الذي يشل الحركة والناجم عن هذا الاكتشاف أمام عزم ثابت على أن يخرج منتصرا من الصراع المروع مع تلك المعتوهة المسلحة. كانت متمهلة بما يكفي لأن يضع السيد فيرلوك خطة دفاع اشتملت على اندفاع إلى خلف الطاولة، وطرح المرأة أرضا باستخدام كرسي خشبي ثقيل. لكنها لم تكن متمهلة بما يكفي لأن تتيح للسيد فيرلوك الوقت لأن يحرك يده أو قدمه. كانت السكين قد غرست في صدره. لم تقابل أي مقاومة في طريقها. يتسم الخطر بتلك الدقة. في تلك الطعنة الغائرة، المسددة من فوق جانب الأريكة، كانت السيدة فيرلوك قد وضعت كل ما لديها من ميراث أصل موغل في القدم ومبهم، والشراسة الساذجة لعصر الكهوف، والغضب الشديد المهتاج غير المتزن لعصر الحانات. مستديرا قليلا على جنبه من قوة الطعنة، لفظ السيد فيرلوك، العميل السري، نفسه الأخير دون أن يحرك ساكنا، متمتما بكلمتين «لا تفعلي» على سبيل الاعتراض.
كانت السيدة فيرلوك قد تخلت عن السكين، وتلاشى شبهها غير العادي بأخيها، وصارت طبيعية جدا الآن. أخذت نفسا عميقا، أول نفس هادئ منذ أن عرض عليها كبير المفتشين هيت قطعة القماش المعنونة من معطف ستيفي. انحنت إلى الأمام مستندة على ذراعيها المطويتين على جانب الأريكة. لم تتخذ هذه الوضعية المريحة من أجل مشاهدة جثة فيرلوك ولا من أجل الشماتة منه، وإنما لأنها شعرت وكأن غرفة المعيشة تتموج وتتمايل بها، وظلت تفعل هذا لبعض الوقت وكأنها كانت في عاصفة في عرض البحر. شعرت بالدوار، ولكنها كانت هادئة. كانت قد أصبحت امرأة حرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى فلم تعد ترغب في شيء ولا شيء لتفعله على الإطلاق الآن؛ إذ لم يعد استحقاق ستيفي العاجل لحبها الشديد موجودا. لم تعد الرؤى تقلق السيدة فيرلوك، التي كان تفكيرها تصويريا، لأنها لم تفكر على الإطلاق. ولم تتحرك. كانت امرأة تتمتع بانعدام كامل للمسئولية وراحة لا متناهية، وكأنها جثة هامدة تقريبا. لم تتحرك ولم تفكر. وكذلك كان حال الجسد الفاني للسيد فيرلوك المتوفى الممدد على الأريكة. لولا أن السيدة فيرلوك كانت تتنفس، لأصبح هذان الاثنان على اتفاق تام؛ ذلك الاتفاق المتسم بالتحفظ الحصيف من دون التفوه بكلمات لا حاجة لها، والاستغناء عن الإشارات، التي كانت أساس حياتهما المنزلية المحترمة. وذلك لأنها كانت حياة أسرية محترمة، غلفت بتكتم متحفظ المشكلات التي قد تنشأ من ممارسة مهنة سرية والتجارة في سلع مشبوهة. وحتى النهاية، لم يتعكر صفو لياقة حياتها المنزلية بصرخات غير لائقة، وغير ذلك من سلوكيات صادقة لا تليق بهذا المقام. وبعد الطعنة، استمر هذا الاحترام في جمود وصمت.
لم يتحرك شيء في غرفة المعيشة حتى رفعت السيدة فيرلوك رأسها ببطء ونظرت إلى الساعة بتساؤل غير واثق. كانت قد أصبحت واعية لصوت دقات في الغرفة. أصبح واضحا أكثر فأكثر في أذنيها، مع أنها كانت تذكر بوضوح أن الساعة على الحائط لم تكن تصدر صوتا، ولم يكن لها دقات مسموعة. ما الذي كان يعنيه أن تبدأ في الدق بصوت مرتفع جدا فجأة هكذا؟ كانت تشير إلى التاسعة إلا عشر دقائق. لم تكن السيدة فيرلوك تأبه للوقت، واستمر صوت الدقات. استنتجت أن الصوت لا يمكن أن يكون آتيا من الساعة، واضطربت نظراتها الكئيبة التي تحركت على طول الحائط وصارت بلهاء، بينما أصغت سمعها كي تحدد مصدر الصوت. تيك، تيك، تيك.
بعد الإنصات لبعض الوقت، خفضت السيدة فيرلوك نظرها عن عمد إلى جثة زوجها. كانت وضعية الجثة المضطجعة مستريحة ومألوفة حتى إنها استطاعت أن تفعل ذلك دون شعور بالحرج من أي تغيير ملحوظ في مظاهر حياتها المنزلية. كان السيد فيرلوك يأخذ رويحته المعتادة. كان يبدو مرتاحا.
بسبب وضعية الجسد، لم يكن وجه السيد فيرلوك مرئيا للسيدة فيرلوك، أرملته. عيناها الجميلتان الناعستان، اللتان كانتا تتجولان نزولا تتعقبان مسار الصوت، صارتا متأملتين عندما تلاقتا مع شيء مسطح عظمي برز قليلا فوق حافة الأريكة. كان هذا هو مقبض سكين تقطيع اللحم المنزلية ولا شيء غريب فيها سوى وضعيتها التي تتخذ زاوية قائمة على صدرية السيد فيرلوك وأن شيئا كان يتقاطر منها. أخذت قطرات داكنة اللون تسقط واحدة تلو الأخرى، على بساط الأرضية، وصوت دقات يتسارع ويحتد مثل دقات ساعة مجنونة. في أعلى سرعة لها، تبدل صوت الدقات هذا متحولا إلى صوت تقاطر مستمر. راقبت السيدة فيرلوك هذا التحول وآثار قلق تظهر وتختفي على وجهها. كان تقطرا قاتما سريعا رفيعا ... كان دما!
في ذلك الظرف غير المتوقع، نفضت السيدة فيرلوك عنها حالة الكسل وانعدام المسئولية.
بمسكة مفاجئة لتنورتها وصرخة خافتة، ركضت نحو الباب، وكأن التقطر كان أول بادرة على فيضان مدمر. عندما اعترضتها الطاولة، دفعتها بكلتا يديها وكأنها كائن حي، بقوة حركتها مسافة على أرجلها الأربع، مصدرة ضوضاء احتكاك عالية، بينما سقط الطبق الكبير مع قطعة اللحم مصطدما بقوة بالأرضية.
ثم سكن كل شيء. كانت السيدة فيرلوك قد توقفت عندما وصلت إلى الباب. ظهرت قبعة مستديرة، في منتصف الأرضية، نتيجة تحرك الطاولة، وأخذت تهتز قليلا على قمتها بفعل الهواء الناتج عن هروبها.
الفصل الثاني عشر
لم تركض ويني فيرلوك، أرملة السيد فيرلوك وشقيقة البار الراحل ستيفي (الذي تفجر إلى أشلاء في حالة من البراءة وبقناعة بأنه كان يشارك في عمل إنساني)، أبعد من عتبة باب غرفة المعيشة. كانت بالفعل قد هربت بعيدا جدا لمجرد قطرات دم، ولكن تلك كانت حركة نفور غريزية. وهناك كانت قد توقفت، بعينين محدقتين ورأس منكس. وكأنها كانت قد أخذت تركض لسنوات طويلة في هروبها عبر غرفة المعيشة الصغيرة، كانت السيدة فيرلوك عند الباب شخصا مختلفا تمام الاختلاف عن المرأة التي كانت منحنية فوق الأريكة، وكانت تشعر بدوار طفيف في رأسها، ولكن فيما عدا ذلك كانت لديها حرية الاستمتاع بالهدوء العميق بكسل وعدم مبالاة. لم تعد السيدة فيرلوك تشعر بالدوار. استعاد رأسها اتزانه. وعلى الجانب الآخر، لم تعد هادئة. كانت خائفة.
إن تحاشت النظر في اتجاه زوجها الممدد، فلم يكن السبب أنها كانت خائفة منه. لم يكن النظر إلى السيد فيرلوك يبعث على الخوف. كان يبدو مرتاحا. إضافة إلى ذلك، كان ميتا. لم تكن السيدة فيرلوك تضمر أي أوهام عبثية بشأن الموتى. لا شيء يعيدهم إلى الحياة، لا الحب ولا الكراهية. لا يمكنهم فعل أي شيء لك. إنهم لا شيء. كان يشوب حالتها العقلية نوع من الازدراء الشديد لذلك الرجل الذي كان قد قبل بأن يقتل بتلك السهولة. كان رب منزل، وزوجا لامرأة، وقاتل شقيقها ستيفي. والآن، لم يعد له أي اعتبار من جميع النواحي. كان أقل قيمة من الملابس التي على جثته، ومن معطفه، ومن حذائه، ومن تلك القبعة الملقاة على الأرضية. كان لا شيء. لم يكن حتى يستحق النظر إليه. لم يعد حتى قاتل ستيفي المسكين. كان القاتل الوحيد الذي سيجده الناس في الغرفة عندما يأتون بحثا عن السيد فيرلوك هو ... هي نفسها!
كانت يداها ترتعش لدرجة أنها أخفقت مرتين في إعادة تثبيت حجابها. لم تعد السيدة فيرلوك امرأة هادئة ومسئولة. كانت خائفة. الطعنة التي طعنتها للسيد فيرلوك لم تكن سوى ضربة. كانت قد خففت من الألم المكبوت لصرخات مختنقة في حلقها، ولدموع جفت في عينيها المتقدتين، ولغضب مجنون وناقم على الدور الفظيع الذي لعبه ذلك الرجل، الذي صار الآن أقل من لا شيء، في حرمانها من الصبي.
كانت طعنة مبهمة الدوافع. كان الدم الذي يقطر على الأرضية من مقبض السكين قد حول الأمر إلى حادثة قتل عادية. كانت السيدة فيرلوك، التي دوما ما كانت تنأى عن التمعن بتعمق في الأمور، مجبرة على التعمق في هذا الأمر. لم تر وجها يطاردها، ولا ظلا مؤنبا، ولا رؤيا تدفعها إلى الندم، ولا أي ضرب من ضروب التصورات المثالية. رأت شيئا يلوح في الأفق. ذلك الشيء هو حبل المشنقة. كانت السيدة فيرلوك خائفة من حبل المشنقة.
كانت مرتعبة منها رعبا تصوريا. وإذ لم تكن عيناها قد وقعت من قبل على ذلك البرهان الأخير على عدالة البشر (في إشارة إلى المشنقة) إلا في رسوم توضيحية طبعت بقوالب خشبية لنوع معين من الحكايات، رأتها الآن لأول مرة منصوبة قبالة خلفية مشهد مظلم عاصف، مزينة بسلاسل وعظام بشرية، تحوم حولها طيور تنقر أعين الموتى. كان هذا المشهد كفيلا بإخافتها، ولكن على الرغم من أن السيدة فيرلوك لم تكن واسعة الاطلاع، فقد كانت لديها معرفة بمؤسسات بلدها كافية لأن تعرف أن المشانق ما عادت تنصب بطريقة مثيرة للعاطفة على ضفاف أنهار موحشة ولا على رءوس بحرية تعصف فيها الرياح، وإنما في ساحات السجون. هناك بين أربعة جدران عالية، وكأنما داخل حفرة، في وقت الفجر، كان يؤتى بالقاتل كي يعدم، في هدوء مريع، وكما ذكرت تقارير الصحف دوما «في حضور السلطات المختصة». بعينيها المحدقة في الأرضية، بينما كانت فتحات أنفها ترتجف غضبا وخزيا، تخيلت نفسها وحيدة تماما وسط جمع من رجال غرباء يرتدون قبعات حريرية يؤدون في هدوء مهمة تنفيذ حكم الإعدام فيها. ذلك ... لن يحدث أبدا! لن يحدث أبدا! وكيف يتم ذلك؟ أضافت استحالة تخيل تفاصيل ذلك الإعدام الهادئ شيئا جنونيا زاد من رعبها المجرد. لم تذكر الصحف أي تفاصيل باستثناء تفصيلة واحدة، ولكن تلك التفصيلة كانت دائما ما تذكر في نهاية تقرير هزيل مع إضافة بعض عبارات التكلف. تذكرت السيدة فيرلوك ماهيتها. تذكرتها بألم حارق قاس في رأسها، وكأن الكلمات «كان عمق السقطة أربع عشرة قدما» كانت قد نقشت في دماغها بإبرة ساخنة. «كان عمق السقطة أربع عشرة قدما.»
أثرت هذه الكلمات عليها جسديا أيضا. صار حلقها متشنجا في موجات لمقاومة الاختناق؛ وكان خوفها من السقطة المفاجئة شديدا لدرجة أنها أمسكت رأسها بكلتا يديها وكأنها تنقذها من أن تنفصل من فوق كتفيها. «كان عمق السقطة أربع عشرة قدما.» كلا! لن يحدث هذا أبدا. لم تستطع أن تتحمل «ذلك». بل إنها لم تتحمل حتى التفكير فيه. لم تتحمل التفكير فيه. ولذا عزمت السيدة فيرلوك على أن تذهب من فورها وترمي بنفسها في النهر من فوق أحد الجسور.
استطاعت هذه المرة أن تعيد تثبيت حجابها. بوجهها الذي بدا مثل قناع، متشحة بالسواد من رأسها وحتى أخمص قدميها إلا بعض الزهور في قبعتها، رفعت ناظريها إلى الساعة بتلقائية. ظنت أنها قد توقفت لا محالة. لم تستطع أن تصدق أنه لم يكن قد مر إلا دقيقتان منذ آخر مرة كانت قد نظرت فيها إليها. طبعا لا. لقد كانت متوقفة طوال الوقت. في الحقيقة، لم يكن قد مر إلا ثلاث دقائق من اللحظة التي أخذت فيها نفسا عميقا وهادئا بعد الطعنة، وحتى هذه اللحظة التي عزمت فيها السيدة فيرلوك على أن ترمي نفسها في نهر التايمز. ولكن السيدة فيرلوك لم تستطع أن تصدق ذلك. يبدو أنها سمعت أو قرأت أن الساعات تتوقف دوما في لحظة القتل من أجل أن يتراجع القاتل. لم تأبه بذلك. «إلى الجسر ... ومن فوقه سأقفز.» ... ولكن حركاتها كانت بطيئة.
جرجرت قدميها بصعوبة عبر المتجر، وكانت قد اضطرت إلى أن تتمسك بمقبض الباب قبل أن تستجمع قواها اللازمة لفتحه. أخافها الشارع؛ لأنه كان يؤدي إما إلى المشنقة أو إلى النهر. تعثرت بعتبة الباب ورأسها متجه إلى الأمام، وذراعاها مفرودتان، مثل شخص يسقط من فوق حاجز جسر. كان هذا الخروج إلى الهواء الطلق منذرا بالغرق؛ غلفتها رطوبة لزجة، دخلت من فتحتي أنفها، وعلقت بشعرها. لم يكن الجو مطيرا في الواقع، ولكن كان لكل مصباح غاز هالة باهتة صغيرة من الضباب. كانت الشاحنة والخيول قد ولت ، وفي الشارع الأسود شكلت نافذة مطعم سائقي العربات المنسدلة الستار رقعة مربعة من ضوء أحمر دموي وهجه خافت قريب جدا من مستوى الرصيف. بينما كانت السيدة فيرلوك تجرجر نفسها ببطء نحوه، فكرت في إنها امرأة وحيدة جدا بلا أصدقاء. كان هذا صحيحا. كان صحيحا جدا حتى إنها، في اشتياق مفاجئ لأن ترى وجها مألوفا، لم يخطر على بالها أحد غير السيدة نيال، الخادمة. لم يكن لها معارف. لن يفتقدها أحد على المستوى الاجتماعي. يجب ألا نتخيل أن الأرملة فيرلوك قد نسيت أمها. لم يكن الأمر كذلك. كانت ويني ابنة بارة لأنها كانت أختا مخلصة. دائما ما كانت أمها تعتمد على مساندتها. لا يمكن توقع أي مواساة أو نصيحة من أمها. والآن بموت ستيفي بدا أن الرابطة قد انقطعت. لم تستطع أن تواجه المرأة العجوز بالحكاية المروعة. إضافة إلى ذلك، كان المكان بعيدا جدا. كان النهر هو وجهتها الحالية. حاولت السيدة فيرلوك أن تنسى أمها.
كل خطوة كلفتها عناء من إرادة وبدت أنها آخر خطوة ممكنة. جرجرت السيدة فيرلوك نفسها متجاوزة الوهج الأحمر لنافذة المطعم. كررت لنفسها بعناد شرس: «إلى الجسر ... ومن فوقه سأقفز.» مدت يدها في الوقت المناسب كي تستند على عمود إنارة. فكرت: «لن أصل إلى هناك أبدا قبل الصباح.» شل الخوف من الموت جهودها للهرب من المشنقة. خيل إليها أن ساعات مضت وهي تمشي مترنحة في ذلك الشارع. فكرت: «لن أصل إلى هناك أبدا.» «سيعثرون علي وأنا أتخبط بين الشوارع. المسافة بعيدة للغاية.» توقفت، وأخذت تلهث تحت حجابها الأسود. «كان عمق السقطة أربع عشرة قدما.»
دفعت عمود الإنارة مبتعدة بعنف، واستعادت قواها لتمشي. لكن اجتاحتها موجة أخرى من الضعف مثل بحر هائج، جرفت قلبها بعيدا خارج صدرها. توقفت فجأة، وهي تترنح قليلا في مكانها، وتمتمت: «لن أصل إلى هناك أبدا. أبدا.»
وإذ أدركت السيدة فيرلوك الاستحالة المطلقة لأن تمشي إلى أقرب جسر، فكرت في السفر إلى خارج البلاد.
خطرت الفكرة على ذهنها فجأة. كان القتلة يهربون. كانوا يهربون إلى خارج البلاد. إلى إسبانيا أو كاليفورنيا. مجرد أسماء. الكون الفسيح المخلوق من أجل مجد الإنسان لم يكن يمثل للسيدة فيرلوك إلا فراغا شاسعا. لم تكن تعرف أي طريق ينبغي أن تسلكه. كان للقتلة أصدقاء، وعلاقات، ومعاونون ... كان لديهم المعرفة. أما هي فلم تكن تمتلك شيئا. كانت الأكثر وحدة على الإطلاق من بين القتلة الذين سددوا ضربة قاتلة. كانت وحيدة في لندن: وكانت مدينة العجائب والطين، بشوارعها التي تشبه المتاهة وأضوائها الكثيرة، غارقة بكاملها، في ليلة يعوزها الأمل، مستقرة في قاع هاوية سوداء لا تستطيع امرأة لا حول لها ولا قوة أن تهرب منها دون عون.
ترنحت إلى الأمام، وانطلقت من جديد من دون ترو، مع خوف شديد من السقوط؛ ولكن بعد بضع خطوات، على غير المتوقع، شعرت بإحساس بالدعم والأمان. رفعت رأسها، فرأت وجه رجل يحدق عن كثب في حجابها. لم يكن الرفيق أوسيبون يخشى النساء الغريبات، ولا يمكن لتأدب زائف أن يمنعه من أن يتعرف على امرأة من الواضح أنها ثملة جدا. كان الرفيق أوسيبون ميالا إلى النساء. أمسك هذه المرأة بين راحتي يديه الكبيرتين، ناظرا إليها بطريقة احترافية حتى سمعها تقول بصوت خافت: «السيد أوسيبون!» ثم كاد أن يدعها تسقط أرضا.
صاح: «سيدة فيرلوك! أنت هنا!»
بدا له مستحيلا أن تكون قد احتست مشروبات كحولية. ولكن لا أحد يعلم. لم يخض في تلك المسألة، ولكن حرصا منه على ألا يعادي الحظ السعيد الذي قدم إليه أرملة الرفيق فيرلوك، حاول أن يضمها إلى صدره. أدهشه أنها أتت بسهولة تامة، حتى إنها استراحت على ذراعه للحظة قبل أن تحاول أن تخلص نفسها من بين يديه. لن يكون الرفيق أوسيبون فظا مع الحظ السعيد. سحب ذراعه بطريقة طبيعية.
قالت متلعثمة، وهي واقفة أمامه، ثابتة إلى حد ما على ساقيها: «لقد عرفتني.»
قال أوسيبون بسرعة تامة: «بالطبع عرفتك. خشيت أن تسقطي. انشغلت بالتفكير فيك في الفترة الأخيرة لدرجة أنه يمكنني أن أتعرف عليك في أي مكان، وأي وقت. إنني أفكر فيك دوما ... منذ أن وقعت عيناي عليك لأول مرة.»
بدا أن السيدة فيرلوك لم تسمعه. قالت بعصبية: «هل كنت آت إلى المتجر؟»
أجاب أوسيبون: «نعم؛ على الفور. بعد أن قرأت الصحيفة مباشرة.»
في الواقع، ظل الرفيق أوسيبون يتوارى ساعتين كاملتين في محيط شارع بريت، دون أن يقدر على أن يتخذ قرار خطوة جريئة. لم يكن اللاسلطوي القوي مبادرا جسورا. تذكر أن السيدة فيرلوك لم تكن قد استجابت قط لنظراته بأدنى علامات التشجيع. علاوة على ذلك، ظن أن المتجر ربما يكون تحت مراقبة الشرطة، ولم يرغب الرفيق أوسيبون في أن تشكل الشرطة فكرة مبالغا فيها عن عواطفه الثورية. وحتى الآن لم يكن يعرف بالضبط ما يتعين عليه فعله. مقارنة بمجازفاته الغرامية المعتادة، كانت هذه مبادرة كبيرة وخطيرة. تجاهل مقدار ما تنطوي عليه وإلى أي مدى عليه أن يتعمق فيها من أجل أن يحصل على ما يمكنه الحصول عليه منها؛ بافتراض أنه كانت ثمة فرصة على الإطلاق. هذه الأمور المحيرة، التي كبحت نشوته أضفت على نبرته رزانة تتلاءم جيدا مع الظروف.
سأل بصوت خافت: «هل لي أن أسألك إلى أين أنت ذاهبة؟»
صاحت السيدة فيرلوك بعنف مكبوت اهتز له جسدها: «لا تسألني!» بكل إرادة الحياة القوية لديها تراجعت عن فكرة الموت. «لا يهم إلى أين كنت ذاهبة ...»
استخلص أوسيبون أنها منفعلة كثيرا إلا أنها كانت متزنة تماما. ظلت صامتة إلى جانبه للحظة، ثم فجأة فعلت شيئا لم يكن يتوقعه. دست يدها تحت ذراعه. أذهله هذا التصرف في حد ذاته بالتأكيد، وبنفس القدر تقريبا أذهلته سمة العزم الجلية في هذه الخطوة. ولكن نظرا لحساسية تلك المسألة، تصرف الرفيق أوسيبون بتأدب. كان قانعا بضغط يدها قليلا على ضلوعه القوية. وفي الوقت نفسه شعر بأنه يدفع للمضي قدما، واستسلم لهذا الاندفاع. عند نهاية شارع بريت، أدرك أنه كان يوجه يسارا. وأذعن لذلك.
كان بائع الفاكهة على الناصية قد أخمد الضوء الذي كان وهجه يضفي بهاء على البرتقال والليمون، وخيم ظلام تام على شارع بريت بليس، تخللته هالات ضبابية من بضعة مصابيح تحدد شكلها المثلثي، إذ كانت مجموعة من ثلاثة مصابيح على حامل في المنتصف. ببطء انسابت على الجدران الهيئتان الداكنتان للرجل والمرأة المتشابكي الذراعين وكأنهما عاشقان مشردان في ليلة بائسة.
سألته السيدة فيرلوك، متأبطة ذراعه بقوة: «ماذا تقول إذا أخبرتك أنني كنت عازمة على أن أبحث عنك؟»
أجاب أوسيبون، متخيلا أنه أحرز تقدما هائلا: «سأقول إنك لن تجدي أحدا أكثر استعدادا لمساعدتك في مشكلتك مني.» في الحقيقة، كاد التقدم في هذه المسألة الحساسة يذهله.
كررت السيدة فيرلوك ببطء: «في مشكلتي!» «نعم.»
همست بتشديد غريب: «وهل تعرف ما مشكلتي؟»
شرح أوسيبون بحماسة: «بعد عشر دقائق من الاطلاع على الصحيفة المسائية، تقابلت مع شخص ربما تكونين قد رأيته مرة أو مرتين في المتجر، وتبادلت معه حديثا، لم يترك لدي أي شك فيما يدور في ذهني. ثم انطلقت إلى هنا، متسائلا إن كنت ... إنني مولع بك إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه منذ أن وقعت عيناي على وجهك لأول مرة.» قال ذلك صائحا، وكأنه عاجز عن التحكم في مشاعره.
افترض الرفيق أوسيبون، مصيبا، أنه لا توجد امرأة بوسعها أن تكذب مثل هذا القول. لكنه لم يكن يعلم أن السيدة فيرلوك قبلته بكل القوة التي تبثها غريزة التشبث بالحياة في قبضة إنسان يغرق. كان اللاسلطوي القوي لأرملة السيد فيرلوك مثل رسول حياة بهي.
مشيا ببطء بإيقاع واحد. تمتمت السيدة فيرلوك بصوت خافت: «ظننت ذلك.»
ألمح أوسيبون بثقة كبيرة: «قرأته في عيني.»
همست في أذنه المائلة نحوها: «نعم.» «لا يمكن إخفاء حب مثل حبي عن امرأة مثلك.» أردف، محاولا أن يبعد عن عقله الاعتبارات المادية مثل قيمة المتجر، والمبلغ المالي الذي ربما يكون السيد فيرلوك قد تركه في البنك. كرس نفسه للجانب العاطفي للمسألة. وفي أعماق قلبه، كان مصدوما قليلا من نجاحه. كان فيرلوك رجلا طيبا، وبالتأكيد زوجا محترما جدا بقدر ما يمكن للمرء أن يرى. ومع ذلك، لم يكن الرفيق أوسيبون سيعاند حظه من أجل رجل ميت. بحزم، قمع تعاطفه مع شبح الرفيق فيرلوك وتابع حديثه. «لم أستطع إخفاءه. كنت مغرما بك بكل كياني. يمكنني القول بأنه لم يكن بوسعك إلا أن تري ذلك في عيني. ولكنني لم أستطع أن أخمن ذلك. كنت دوما بعيدة جدا ...»
صاحت السيدة فيرلوك: «وما الذي كنت تتوقعه غير ذلك؟ لقد كنت امرأة محترمة ...»
توقفت عن الكلام، ثم أضافت، وكأنها تتحدث إلى نفسها باستياء نكد: «حتى جعلني ما أنا عليه الآن.»
تجاوز أوسيبون ذلك، وأمسك بدفة الحديث. استهل حديثه، تاركا الإخلاص يذهب أدراج الرياح: «لم يبد لي قط أنه كان جديرا بك. كنت تستحقين مصيرا أفضل.»
قاطعته السيدة فيرلوك بنبرة فيها مرارة: «مصيرا أفضل! ظل يخدعني لمدة سبع سنين من حياتي.» «كنت تبدين سعيدة جدا معه.» حاول أوسيبون أن يبرئ فتور سلوكه السابق. أضاف: «وهذا ما جعلني خجلا. كان يبدو أنك تحبينه. كنت متفاجئا ... وغيورا.»
صاحت السيدة فيرلوك في همس مليء بالسخرية والغضب: «أحبه!» «أحبه! كنت زوجة صالحة له. أنا امرأة محترمة. كنت تظن أنني أحبه! كنت تظن ذلك! اسمع، يا توم ...»
ابتهج الرفيق أوسيبون فخرا لما سمع اسمه. وذلك لأن اسمه كان ألكسندر، وكان يدعى توم اتفاقا مع أقرب المقربين منه. كان الاسم الدارج بين أصدقائه ... اسم لحظات التبسط. لم يكن لديه أي فكرة عن أنها كانت قد سمعت أي شخص يستخدمه من قبل. كان واضحا أنها لم تكن قد التقطته فحسب، بل خزنته في ذاكرتها ... وربما في قلبها. «اسمع يا توم! كنت فتاة صغيرة. كنت مستنزفة. كنت متعبة. كان لدي شخصان يعتمدان على ما يمكنني فعله، وبدا بالفعل أنني لم أكن أستطيع أن أفعل أكثر مما كنت أفعل. شخصان؛ أم وصبي. كان ابنا لي أكثر مما كان ابنا لأمي. سهرت ليالي وليالي وهو في حضني بمفردنا في الطابق العلوي حينما لم يكن عمري قد تجاوز ثمانية أعوام. وبعد ذلك؛ كان ابنا لي ... لا يمكنك أن تفهم ذلك. لا يوجد رجل بوسعه أن يفهم ذلك. ما الذي كان يمكنني فعله؟ كان ثمة فتى صغير ...»
انتعشت ذكرى الرومانسية المبكرة مع الجزار الشاب وظلت حاضرة مثل صورة مثالية خاطفة في ذلك القلب الذي يئن في مواجهة الخوف من المشنقة ومليء بالتمرد على الموت.
أردفت أرملة السيد فيرلوك: «ذلك كان الرجل الذي أحببته في ذلك الوقت.» «أظن أنه استطاع أن يرى ذلك الحب في عيني أيضا. خمسة وعشرون شلنا في الأسبوع، وهدده والده بأن يطرده من العمل لو تصرف بتلك الحماقة وتزوج بفتاة ترعى أما مقعدة وصبيا أحمق مخبولا. لكنه ظل يحوم حولي، حتى واتتني الشجاعة في إحدى الأمسيات أن أغلق الباب في وجهه. كنت مضطرة إلى فعل هذا. أحببته كثيرا. خمسة وعشرون شلنا في الأسبوع! كان ثمة ذلك الرجل الآخر؛ نزيل طيب. ما الذي يمكن لفتاة فعله؟ هل كان يمكن أن أتيه في الشوارع؟ بدا لطيفا. كان يريدني على أي حال. ما الذي كان علي أن أفعله مع أمي ومع ذلك الفتى البائس؟ ماذا؟ وافقت. بدا طيب القلب، وكان سخيا، ويملك المال، ولم يقل شيئا على الإطلاق. سبع سنوات ... سبع سنوات ظللت فيها زوجة وفية له، ذلك العطوف، الطيب، الكريم، ال... كما أنه أحبني. أوه نعم. أحبني حتى تمنيت لنفسي في بعض الأحيان ... سبع سنوات. سبع سنوات زوجة له. وهل تعرف ماذا كان، صديقك العزيز ذاك؟ هل تعرف ماذا كان؟ كان شيطانا!»
العنف الفائق في ذلك البيان الهامس صعق الرفيق أوسيبون. استدارت ويني فيرلوك نحوه وأمسكته من كلتا ذراعيه، وواجهته تحت رذاذ المطر المتساقط في ظلمة شارع بريت بليس ووحشته، الذي بدت فيه كل أصوات الحياة مفقودة وكأنهما في بئر مثلثة الشكل من الأسفلت والطوب، ومن بيوت مبهمة وأحجار جامدة.
بنوع من الغباء الواهن، الذي كان جانبه الفكاهي غائبا عن امرأة يطاردها الخوف من حبل المشنقة، قال: «لا، لم أكن أعرف. أنا ... أنا أفهم.» تخبط في الحديث وأخذ عقله يتكهن نوع الفظائع التي يمكن أن يكون فيرلوك قد مارسها في ستر المظاهر الخاملة والهادئة لزواجه. كانت مريعة بالتأكيد. كرر: «أفهم.» ثم بإلهام مفاجئ تلفظ بعبارة «امرأة تعيسة!» بمواساة نبيلة بدلا من القول الأكثر حميمية «عزيزتي المسكينة!» كما اعتاد أن يقول. لم تكن هذه حالة عادية. أدرك أن شيئا غير طبيعي يجري، بينما لم يغب عن ناظره قط عظم الرهان. «امرأة تعيسة شجاعة!»
سره أنه اكتشف ذلك الاختلاف، ولكنه لم يستطع أن يكتشف أي شيء آخر. «آه، ولكنه ميت الآن.» كان أفضل ما استطاع فعله. وأضفى قدرا كبيرا من العداء في هتافه المتحفظ. أمسكت السيدة فيرلوك بذراعه بنوع من الجنون.
تمتمت، وكأنها ذاهلة: «لقد خمنت إذن أنه قد مات. أنت! خمنت ما اضطررت إلى فعله. اضطررت إلى ذلك!»
كان ثمة إيحاءات بالانتصار، والارتياح، والامتنان في النبرة الغامضة التي قيلت بها هذه الكلمات. استحوذت على كل انتباه أوسيبون على حساب المعنى الحرفي المجرد. تساءل ما خطبها، ولماذا أقحمت نفسها في هذه الحالة من الانفعال الجامح. بدأ حتى يتساءل عما إن كانت الأسباب الخفية لواقعة جرينتش بارك تلك كامنة في الظروف التعيسة لحياة فيرلوك الزوجية. ذهب به التفكير إلى حد الشك في أن السيد فيرلوك قد اختار الانتحار بتلك الطريقة غير العادية. يا إلهي! ذلك من شأنه أن يفسر التفاهة المطلقة والتوجه الخاطئ بشأن الأمر. لم تتطلب الظروف مظهرا لا سلطويا. على النقيض تماما؛ وكان فيرلوك على علم تام بذلك مثل أي ثوري آخر في منزلته. يا لها من مزحة هائلة لو كان فيرلوك ببساطة قد استغفل أوروبا بأكملها، والعالم الثوري، والشرطة، والصحافة، والبروفيسور المغرور أيضا. في الحقيقة، فكر أوسيبون في نفسه، بذهول، أنه بالفعل يبدو أنه من شبه المؤكد لأنه قد فعل! يا له من رجل بائس! خطر له أنه من المحتمل جدا أن في تلك الأسرة المكونة من فردين لم يكن الرجل هو الشيطان على وجه التحديد.
كان ألكسندر أوسيبون، الملقب بالطبيب، يميل بطبعه إلى أن يفكر بتساهل بشأن أصدقائه من الرجال. رمق السيدة فيرلوك وهي متعلقة بذراعه. كان يفكر بشأن صديقاته من النساء تفكيرا عمليا بوجه خاص. لم يشغله كثيرا السبب وراء تعجب السيدة فيرلوك من علمه بموت فيرلوك، الذي لم يكن تخمينا على الإطلاق. كثيرا ما يتحدثن كالمجانين. ولكن انتابه فضول لأن يعرف كيف علمت بذلك. لم يكن ممكنا للصحف أن تخبرها بأي شيء أكثر من الحقيقة المجردة: الرجل الذي تفجر إلى أشلاء في جرينتش بارك لم يتعرف على هويته بعد. ولا يمكن تصور، بناء على أي فرضية من الفرضيات، أن فيرلوك قد ألمح لها عن نيته، مهما كانت. هذه المشكلة أثارت اهتمام الرفيق أوسيبون للغاية. توقف فجأة. كانا عندئذ قد سارا في الجهات الثلاث لبريت بليس، وكانا قريبين من نهاية شارع بريت مرة أخرى.
تساءل، بنبرة حاول أن يجعلها مناسبة لطبيعة ما كانت قد باحت به المرأة الواقفة بجانبه: «كيف وصل الأمر إلى مسامعك لأول مرة؟»
انتفضت بعنف لبرهة قبل أن تجيب بصوت فاتر. «من الشرطة. أتى كبير مفتشين، قال إنه كبير المفتشين هيت. أراني ...»
اختنقت السيدة فيرلوك. «آه يا توم، اضطروا إلى جمع أشلائه بمجرفة.»
علا صدرها ببكاء من دون دموع. بعد هنيهة، تمكن أوسيبون من الكلام. «الشرطة! هل تقصدين أن الشرطة أتت بالفعل؟ أن كبير المفتشين هيت أتى بنفسه وأخبرك.»
أكدت بتلك النبرة الفاترة: «نعم. أتى ببساطة هكذا. أتاني. لم أكن أعلم. أراني قطعة قماش من معطف، و... هكذا ببساطة. هل تعرفين هذا؟ هذا ما قاله.» «هيت! هيت! وماذا فعل؟»
طأطأت السيدة فيرلوك رأسها. تمتمت بنبرة مفجوعة: «لا شيء. لم يفعل شيئا. ذهب إلى حال سبيله. كانت الشرطة في جانب ذلك الرجل. أتى واحد آخر أيضا.»
سأل أوسيبون، بانفعال كبير، وبنبرة تشبه كثيرا طفلا مرعوبا: «آخر ... هل تقصدين مفتشا آخر؟» «لا أعلم. أتاني. بدا أنه أجنبي. ربما كان أحد رجال السفارة.»
كاد الرفيق أوسيبون أن يخر تحت وقع هذه الصدمة الجديدة. «سفارة! هل أنت مدركة لما تقولين؟ أي سفارة؟ بحق السماء ما الذي تقصدينه بالسفارة؟» «إنها ذلك المكان في ميدان تشيشام. الأناس الذين كان يلعنهم كثيرا. لا أعلم. ما أهمية ذلك!» «وما الذي فعله أو قاله ذلك الشخص معك؟»
توسلت بصوت ضجر : «لا أتذكر ... لا شيء ... لا يهمني. لا تسألني.»
وافق أوسيبون برقة: «حسنا. لن أفعل.» وكان يعني هذا أيضا، ليس لأنه تأثر بالتأسي في الصوت المتوسل، ولكن لأنه شعر بأنه ينزلق في أعماق هذه المسألة المبهمة. الشرطة! السفارة! أوف! خوفا من أن يغامر بذكائه في طرق قد تقصر ومضاته الطبيعية عن أن ترشده فيها بأمان، طرد بحزم من عقله جميع الافتراضات والتكهنات والنظريات. المرأة بين يديه، ترمي بنفسها بين ذراعيه بكل معنى الكلمة، وكان ذلك هو الاعتبار الرئيسي. ولكن بعد الذي سمعه، لم يعد يمكن لأي شيء أن يدهشه. وعندما بدأت السيدة فيرلوك، وكأنما استفاقت فجأة مرتاعة من حلم بالأمان، تلح عليه بشدة بضرورة الهروب فورا إلى أوروبا، لم يبد اندهاشه على الإطلاق. قال ببساطة وبأسف غير متكلف إنه لا توجد قطارات حتى الصباح، ووقف يمعن النظر في وجهها المحجوب بشبكة سوداء في ضوء مصباح غاز محجوب بطبقة شفافة من الرذاذ.
بالقرب منه، اندمجت هيئتها القاتمة مع ظلمة الليل، مثل جسم منحوت جزئيا من كتلة من حجارة سوداء. كان من المستحيل أن يخمن ما كانت تعرفه، ومدى تورطها مع رجال الشرطة والسفارات. ولكن إن أرادت أن تهرب، لم يكن من شأنه أن يعترض. كان هو نفسه متلهفا إلى الهروب خارج البلاد. شعر أن العمل - المتجر المألوف بغرابة شديدة لكبار المفتشين وأعضاء من سفارات أجنبية - لم يكن المكان المناسب له. لا بد من إسقاط ذلك من حساباته. ولكن كان يوجد بقية الأمور. تلك المدخرات. الأموال!
قالت بصوت مفزوع: «يجب أن تخبئني حتى الصباح في مكان ما.» «الحقيقة، يا عزيزتي، أنني لا أستطيع أن آخذك إلى حيث أقطن. فأنا أتشارك الغرفة مع صديق.»
كان هو نفسه يشعر بالفزع نوعا ما. لا شك في أن المخبرين المباركين سينتشرون في جميع محطات القطارات في الصباح. وإن أمسكوا بها لسبب أو لآخر، فستضيع من بين يديه بالتأكيد. «لكن يجب أن تفعل. ألا يهمك أمري على الإطلاق ... على الإطلاق؟ ما الذي تفكر فيه؟»
قالت تلك العبارات منفعلة ، ولكنها تركت يديها المتشبثتين به تسقطان بإحباط. خيم الصمت، وبينما كان رذاذ المطر يسقط، وساد الظلام التام على بريت بليس. لم يدن أي مخلوق، ولا حتى قطة شريدة وجامحة ومتوددة من الرجل والمرأة اللذين كانا يقف أحدهما في مواجهة الآخر.
تكلم أوسيبون أخيرا: «ربما يكون من الممكن أن أعثر على مأوى آمن في مكان ما. ولكن الحقيقة، يا عزيزتي، أنا لا أملك ما يكفي من المال من أجل أن أذهب وأحاول ... بضعة بنسات فقط. نحن الثوريين لسنا أغنياء.»
كان معه خمسة عشر شلنا في جيبه. أضاف: «وثمة رحلة أمامنا أيضا ... هذا أول شيء سنفعله في الصباح.»
لم تتحرك ولم تصدر أي صوت، وشعر الرفيق أوسيبون بخيبة الأمل قليلا. ظاهر الأمر أنها لم تكن تملك أي اقتراح لتعرضه. وفجأة، قبضت على صدرها، وكأنها شعرت بألم حاد فيه.
شهقت قائلة: «ولكن أنا معي. أنا أملك المال. أملك مالا كافيا. توم! لنذهب من هنا.»
سألها، دون أن يتحرك استجابة لشدها له؛ لأنه كان رجلا حذرا: «كم معك من المال؟» «قلت لك إنني أملك المال. كل المال.»
سأل بارتياب، ولكن بميل إلى ألا يندهش من أي شيء يأتي عن طريق الحظ: «ما الذي تعنينه بذلك؟ هل تقصدين كل المال الذي كان في البنك، أم ماذا؟»
قالت بعصبية: «أجل، أجل! كل ما كان فيه. كله معي.»
سأل متعجبا: «كيف بحق السماء تمكنت من الحصول عليه بهذه السرعة؟»
ارتعش صوتها وخفت فجأة، وتمتمت: «هو أعطاني إياه.» أخمد الرفيق أوسيبون دهشته المتصاعدة بصرامة شديدة.
وقال ببطء: «عجبا، إذن ... فقد نجونا.»
مالت إلى الأمام، وارتمت على صدره. تلقاها عليه بترحيب. كان معها المال كله. كانت قبعتها تقف في طريق مشاعر متدفقة واضحة جدا؛ وكذلك حجابها. كانت تعبيراته عن مشاعره كافية، ولكن لا أكثر من ذلك. استقبلتها دون مقاومة ودون استسلام، بسلبية، وكأنها شبه متزنة. حررت نفسها من عناقه الفاتر دون صعوبة.
تراجعت، ولكن ظلت متمسكة به من طيتي صدر معطفه الرطب، وانفجرت تصرخ: «أنقذني يا توم. أنقذني. خبئني . لا تدعهم يمسكون بي. يجب أن تقتلني أولا. لا أستطيع أن أفعل ذلك بنفسي ... لا أستطيع، لا أستطيع ... ولا حتى من أجل ما أخشاه.»
قال لنفسه إنها غريبة بطريقة محيرة. بدأت تثير فيه قلقا غير محدود. قال بفظاظة، لأنه كان منشغلا بأفكار مهمة، قال مؤكدا: «ما «الذي» تخشينه بحق الشيطان؟»
صاحت المرأة: «ألم تخمن ما الذي دفعت إلى ارتكابه!» متشتتة تحت تأثير واقعية مخاوفها المروعة، ورأسها يعج بكلمات مدوية، جعلت الرعب من وضعها لا يغيب عن عقلها، كانت قد تخيلت أن عدم ترابط كلامها هو الوضوح نفسه. لم تكن تعي مدى قلة ما كانت قد قالته بكلمات مسموعة في العبارات المفككة التي لم تكتمل إلا في ذهنها. كانت قد شعرت بارتياح الإدلاء باعتراف كامل، وأعطت معنى خاصا لكل جملة تفوه بها الرفيق أوسيبون، الذي لم تكن معرفته تضاهي ما كانت تعرفه على الإطلاق. انخفض صوتها: «ألم تخمن ما دفعت إلى ارتكابه!» أردفت بتمتمة مريرة وحزينة: «لا تحتاج إلى التفكير طويلا كي تخمن ما أخشاه. لن تلف حول عنقي. لن يحدث. لن يحدث. لن يحدث. يجب أن تعدني بأن تقتلني أولا!» هزت طيات معطفه. وأردفت: «يجب ألا يحدث ذلك!»
أكد لها باقتضاب أنه لا ضرورة لأن يقطع لها وعودا من جانبه، لكنه حرص على ألا يعارضها بعبارات محددة؛ لأنه كان لديه باع طويل في التعامل مع النساء المنفعلات، وكان يميل في العموم إلى أن يدع خبرته توجه سلوكه مفضلا أن يستخدم حكمته مع كل حالة خاصة. كانت حكمته في هذه الحالة مشغولة في اتجاهات أخرى. كانت كلمات النساء تسقط في البحر، ولكن أوجه الخلل في جداول المواعيد باقية. الطبيعة المنعزلة لبريطانيا العظمى بحكم كونها جزيرة فرضت نفسها على ملاحظته بطريقة بغيضة. فكر بانفعال، وحيرة وكأن أمامه جدارا عليه أن يتسلقه بتلك المرأة على ظهره: «قد يكون من الجيد أن أخبئها في مكان آمن كل ليلة.» فجأة صفع جبهته. كان قد تذكر بعدما اعتصر ذهنه في خدمة ساوثهامبتون، سانت مالو. غادر القارب في منتصف الليل تقريبا. كان يوجد قطار في الساعة العاشرة والنصف. أصبح مبتهجا ومستعدا للتصرف. «من ووترلو. متسع من الوقت. اتفقنا أخيرا ...» واعترض قائلا: «ما الخطب الآن؟ هذا ليس الطريق.»
حاولت السيدة فيرلوك، بعدما تأبطت ذراعه بذراعها، أن تسحبه مرة أخرى إلى شارع بريت.
همست، منفعلة للغاية: «نسيت أن أقفل باب المتجر عندما خرجت.»
لم يعد الرفيق أوسيبون يهتم بالمتجر وبكل ما كان فيه. كان يعلم كيف يكبح رغباته. أوشك أن يقول «وماذا في ذلك؟ فليكن» ولكنه امتنع عن ذلك. كان يكره الجدال حول تفاهات. بل إنه عدل سرعة خطوه كثيرا ظنا منه أنها ربما تكون قد تركت المال في الدرج. ولكن همته كانت أبطأ من نفاد صبرها المحموم.
بدا المتجر مظلما تماما للوهلة الأولى. كان الباب مواربا. قالت السيدة فيرلوك لاهثة، وهي تستند على الواجهة: «لم يدخل أحد. انظر! الضوء؛ الضوء في غرفة المعيشة.»
مد أوسيبون رأسه إلى الأمام، فرأى ضوءا خافتا وسط ظلام المتجر.
قال: «موجود.»
أتى صوت السيدة فيرلوك من خلف حجابها خافتا: «نسيته.» وإذ انتظر أن تدخل هي أولا، قالت بصوت أعلى: «ادخل وأطفئه ... وإلا فسأجن.»
لم يبد أي اعتراض فوري على هذا الاقتراح، بدافع غريب جدا. سأل: «أين كل ذلك المال؟»
صاحت، ممسكة بكتفيه من الخلف: «معي! اذهب يا توم. بسرعة! أطفئه ... ادخل!»
غير مستعد لاستعراض قوته الجسدية، تعثر الرفيق أوسيبون وقطع شوطا داخل المتجر بسبب دفعتها. دهش من قوة المرأة وصدم مما فعلته. لكنه لم يعد أدراجه من أجل أن يعنفها محتجا في الشارع. كان قد بدأ يتولد لديه انطباع سيئ بسبب سلوكها الغريب. علاوة على ذلك، كان هذا هو الوقت المناسب كي يلاطف المرأة، وإلا فلن تحين الفرصة ثانية أبدا. بسهولة تحاشى الرفيق أوسيبون حافة منضدة البيع، واقترب بهدوء من باب غرفة المعيشة المزجج. وإذ كانت الستارة على الألواح الزجاجية متراجعة قليلا، بدافع طبيعي جدا، نظر إلى الداخل، في اللحظة التي كان يستعد فيها لإدارة مقبض الباب. نظر إلى الداخل دون تفكير، ودون قصد، وفضول من أي نوع. نظر إلى الداخل لأنه لم يستطع أن يمنع نفسه من النظر إلى الداخل. نظر إلى الداخل، واكتشف أن السيد فيرلوك كان ممددا في هدوء على الأريكة.
تلاشت صرخة خرجت من أعمق أعماق صدره دون أن يسمعها أحد وتحولت إلى طعم دهني غث على شفتيه. في الوقت نفسه نفذ الرفيق أوسيبون ذهنيا قفزة جنونية إلى الوراء. ولكن جسده - الذي ترك هكذا من دون توجيه من عقله - ظل ممسكا مقبض الباب بقوة غريزية ذاهلة. لم يترنح اللاسلطوي القوي البنية على الإطلاق. ووقف يحملق، ووجهه قريب من زجاج الباب، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما. لو كان الأمر بيده لقدم أي شيء مقابل أن يهرب، ولكن عقله الذي كان قد عاد إليه أنبأه بأنه ليس من التعقل أن يترك مقبض الباب. ماذا كان هذا، جنون، أم كابوس، أم فخ خدع ليقع فيه بمهارة شيطانية؟ لماذا؛ ما السبب؟ لم يكن يعرف. دون أي شعور بالذنب في صدره، وبكامل سلامة ضميره فيما يخص هؤلاء الناس، لم تمر بعقله فكرة أن يقتله فيرلوك وزوجته لأسباب لا يعرفها بقدر ما مرت بتجويف معدته، وتلاشت، مخلفة أثر شعور بالغثيان؛ وتوعك. شعر الرفيق أوسيبون على نحو خاص جدا بأنه لم يكن على ما يرام للحظة؛ لحظة طويلة. وأخذ يحملق. في هذه الأثناء، كان السيد فيرلوك مستلقيا بلا حراك، متظاهرا بالنوم لأسباب تخصه، بينما كانت تلك المرأة المتوحشة تحرس الباب؛ غير مرئية وصامتة في الشارع المظلم والمهجور. هل كان كل هذا ترتيبا مرعبا من نوع ما اخترعته الشرطة للإيقاع به؟ خجل تواضعه من ذلك التفسير.
لكن المعنى الحقيقي للمشهد الذي كان أوسيبون يراه جاءه من خلال التأمل في القبعة. بدت قبعة غير عادية، نذير شؤم، علامة. كانت تقبع، سوداء وحافتها نحو الأعلى، أمام الأريكة وكأنها مستعدة لاستقبال المساهمات بالبنسات ممن سيأتون بعد قليل لمشاهدة السيد فيرلوك في كامل راحته المنزلية مضطجعا على الأريكة. ومن القبعة، جالت عينا اللاسلطوي القوي إلى الطاولة المزاحة من مكانها ونظر إلى الطبق المكسور لبعض الوقت، وأصيب بنوع من الصدمة البصرية لما لاحظ ومضة بيضاء من تحت الجفنين غير المغلقين تماما للرجل الممدد على الأريكة. لم يبد السيد فيرلوك نائما الآن بقدر ما كان مستلقيا ورأسه منحنية وينظر بإصرار إلى الجهة اليسرى من صدره. وبعدما كان الرفيق أوسيبون قد لاحظ مقبض السكين، استدار مبتعدا عن الباب المزجج، وشعر برغبة شديدة في التقيؤ.
الاصطدام بباب الشارع الذي اندفع نحوه قذف الرعب في صدر الرفيق أوسيبون. كان لا يزال من الممكن أن يكون هذا المنزل وساكنه غير المؤذي فخا؛ فخا مروعا. لم يستقر الرفيق أوسيبون حينئذ على تصور لما كان يحدث له. ارتطمت فخذه بحافة منضدة البيع، فاستدار وترنح مطلقا صرخة ألم، وشعر مع صلصلة الجرس المزعجة بذراعيه تشل حركتهما على جانبيه بعناق متشنج بينما تحركت شفتا امرأة باردتان برعب أمام أذنه تصيغان هذه الكلمات: «شرطي! لقد رآني!»
توقف عن المقاومة؛ لم تطلق سراحه مطلقا. تشابكت يداها بانثناء لا يمكن فصله للأصابع على ظهره القوي. بينما كانت الخطوات تدنو، تسارع تنفسهما، وصدراهما متقابلان، بأنفاس عسيرة مجهدة، وكأنهما كانت وضعيتهما هي وضعية صراع مميت، بينما كانت، في الحقيقة، وضعية خوف مميت. وكان الوقت طويلا.
كان شرطي الدورية قد لاحظ في حقيقة الأمر شيئا بشأن السيدة فيرلوك؛ لما كان آتيا للتو من الطريق المضاء في النهاية الأخرى لشارع بريت، لم يكن قد رآها أكثر من شيء يتحرك في الظلام. ولم يكن حتى متأكدا تمام التأكد من أنه كان قد رأى حركة. لم يكن لديه أي داع للاستعجال. عندما أصبح في مواجهة المتجر، لاحظ أنه كان قد أغلق في وقت مبكر. لم يكن يوجد شيء غير عادي في ذلك. كان لدى رجال الشرطة المنوطين بالخدمة تعليمات خاصة بشأن ذلك المتجر؛ كان يجب عدم التدخل فيما كان يجري هناك ما لم يخل بالنظام تماما، ولكن كان يجب الإبلاغ عن أي ملاحظات هناك. لم تكن توجد أي ملاحظات يتعين الإبلاغ عنها؛ ولكن بدافع من حس الواجب وسلامة الضمير، وأيضا بسبب تلك الحركة المريبة في الظلام، عبر الشرطي الطريق وحاول فتح الباب. كان المزلاج الزنبركي، الذي كان مفتاحه قابعا خارج الخدمة للأبد في جيب صدرية السيد فيرلوك الراحل، مغلقا بإحكام كالمعتاد. بينما كان الشرطي يقظ الضمير يهز المقبض، أحس أوسيبون بشفتي المرأة الباردتين وهما تتحركان برعب مرة أخرى أمام أذنه: «إذا دخل اقتلني ... اقتلني يا توم.»
تحرك الشرطي مبتعدا، مسلطا بينما كان يمر ضوء فانوسه المعتم، في مجرد إجراء روتيني، على نافذة المتجر. للحظة أطول، وقف الرجل والمرأة بالداخل دون حراك، يلهثان، وصدراهما متقابلان؛ ثم فكت تشابك أصابعها، وسقط ذراعاها بجانبها ببطء. مال أوسيبون مستندا على منضدة البيع. كان اللاسلطوي القوي بحاجة إلى معاونة عاجلة. كان هذا مروعا. كان يشعر باشمئزاز شديد كاد يمنعه من الكلام. ولكنه تمكن من صياغة فكرة حزينة في كلمات، مبينا على الأقل أنه أدرك موقفه. «دقيقتان أخريان وكنت ستجعلينني أرتكب غلطة شنيعة في حق الرجل الذي يدور مفتشا حول المكان هنا بمصباحه المعتم اللعين.»
بإصرار قالت أرملة السيد فيرلوك، الواقفة بلا حراك في وسط المتجر: «ادخل وأطفئ ذلك المصباح يا توم. سيقودني إلى الجنون.»
رأت بغير وضوح إيماءته العنيفة الدالة على الرفض. لم يكن يوجد شيء في الكون يمكن أن يغري أوسيبون بالدخول إلى غرفة المعيشة. لم يكن يؤمن بالخرافات، ولكن كان يوجد الكثير جدا من الدماء على الأرضية؛ بركة بغيضة من الدماء حول القبعة. قرر أنه كان قد اقترب بالفعل من تلك الجثة أكثر مما ينبغي لسلامة عقله ... وربما أكثر مما ينبغي لسلامة عنقه! «عند العداد إذن! هناك. انظر. في ذلك الركن.»
بخطى حادة خطا جسد الرفيق أوسيبون القوي عبر المتجر تكسوه الظلال، وجثم في الركن بخضوع؛ لكن هذا الخضوع كان دون رشاقة. تلمس متخبطا بعصبية؛ وفجأة بصوت تمتمة مصحوبة بلعنات، انطفأ المصباح خلف الباب المزجج يرافقه تنهد امرأة لاهث هستيري. كان الليل، المكافأة المحتومة للرجال الكادحين المخلصين على هذه الأرض؛ قد أرخى أستاره على السيد فيرلوك، الثوري الخبير - «أحد قدامى الثوريين» - وحامي حمى المجتمع المتواضع؛ العميل السري فائق القيمة «دلتا» لإرساليات البارون ستوت فارتنهايم؛ خادم القانون والنظام، المخلص، الموثوق فيه، الدقيق، والمثير للإعجاب، ربما مع نقطة ضعف لطيفة وحيدة: الإيمان المثالي بكونه محبوبا لذاته.
تحسس أوسيبون طريقه عائدا إلى منضدة البيع عبر الجو الخانق الذي صار الآن أسود كالحبر. ارتعش خلفه صوت السيدة فيرلوك، الواقفة في وسط المتجر، في تلك العتمة باحتجاج مستميت. «لن أشنق يا توم. لن ...»
توقفت فجأة عن الكلام. أصدر أوسيبون من عند منضدة البيع تحذيرا: «لا تصيحي هكذا.» ثم بدا أنه أخذ يتأمل بعمق. تساءل بصوت عميق، ولكن مع تظاهره بهدوء متسلط ملأ قلب السيدة فيرلوك بثقة متسمة بالامتنان في قدرته على حمايتها: «ارتكبت هذه الفعلة بمفردك تماما؟»
همست، غير مرئية في الظلام: «نعم.»
تمتم: «ما كنت لأصدق أن هذا ممكن. لا أحد سيصدق.» سمعته يمشي في المكان وسمعت صوت طقطقة قفل في باب غرفة المعيشة. كان الرفيق أوسيبون قد أدار المفتاح وأقفل باب الغرفة على جسد السيد فيرلوك الراقد؛ ولم يفعل هذا احتراما لطبيعته الأبدية ولا لأي اعتبارات عاطفية مبهمة أخرى، ولكن لسبب محدد هو أنه لم يكن متأكدا تمام التأكد من عدم وجود شخص آخر مختبئ في مكان ما بالمنزل. لم يصدق المرأة، أو بالأحرى لم يكن قادرا حينئذ على الحكم على ما يمكن أن يكون صحيحا، أو ممكنا، أو حتى محتملا في هذا الكون المذهل. كان مرتعبا إلى حد أنه لم يكن لديه أي قدرة على تصديق أو عدم تصديق أي شيء بخصوص هذه القضية غير العادية، التي بدأت بمفتشي الشرطة والسفارات ولا يعلم إلا الله أين ستنتهي، ربما بأن يوضع شخص ما على منصة الإعدام. كان مرتعبا من فكرة ألا يستطيع إثبات كيف أمضى وقته منذ الساعة السابعة؛ لأنه كان يتسكع في شارع بريت. كان مرتعبا من هذه المرأة المتوحشة التي جلبته إلى ذلك المكان، وربما تورطه في تهمة التواطؤ في تلك الجريمة، على الأقل إن لم يكن حذرا. كان مرتعبا من السرعة التي صار بها متورطا في تلك المخاطر، ومن الوقوع في شركها. كان قد مر على مقابلته لها نحو عشرين دقيقة، لا أكثر.
زاد خفوت صوت السيدة فيرلوك، متوسلة بطريقة مثيرة للشفقة: «لا تدعهم يشنقونني يا توم! أخرجني من البلاد. سأكون خادمة لك. سأكون مستعبدة لك. سأحبك. ليس لي أحد في العالم ... من سينظر لي إن لم تفعل أنت!» توقفت للحظة؛ ثم في أعماق الوحدة التي أحاطت بها بسبب قطرات دم تافهة تتقاطر من مقبض سكين، راودها وحي أفكار مروعة، هي من كانت الفتاة المحترمة في منزل بلجرافيا، والزوجة المخلصة المحترمة للسيد فيرلوك. همست بنبرة يشوبها الخزي: «لن أطلب منك أن تتزوجني.»
تقدمت خطوة إلى الأمام في الظلام. كان مرتعبا منها. ما كان سيفاجئه أن تخرج فجأة سكينا أخرى وتغمدها في صدره. ما كان سيبدي أي مقاومة بالتأكيد. في الواقع، لم يكن لديه الجرأة الكافية ليطلب منها أن تبقى بعيدة عنه. ولكنه تساءل بنبرة عميقة وغريبة: «هل كان نائما؟»
بكت، وأردفت بسرعة: «كلا. لم يكن نائما. لم يكن. كان يقول لي أن لا شيء يمكن أن يصيبه. بعدما أخذ الولد من تحت ناظري كي يقتله؛ ذلك الفتى المحب البريء العديم الأذى. فتاي، قلت لك. كان يضطجع على الأريكة مطمئنا تماما ... بعدما قتل الفتى ... فتاي. كنت سأمضي في الشوارع كي أغرب عن وجهه. وقال لي ببساطة هكذا: «تعالي هنا»، بعدما قال لي إنني ساعدته في قتل الفتى. أتسمع يا توم؟ قال لي ببساطة هكذا: «تعالي هنا»، بعدما انتزع قلبي مني ومعه الفتى ليرميه في الوحل.»
توقفت، ثم كررت مرتين بنبرة ذاهلة: «الدم والوحل. الدم والوحل.» سطع نور قوي في عقل الرفيق أوسيبون. لقد كان الفتى المخبول هو من لقي حتفه في الحديقة. وبدا خداع الجميع من كل النواحي أكثر اكتمالا من ذي قبل، بدا هائلا. صاح مدركا، في قمة دهشته: «المخبول ... يا للسماء!»
ارتفع صوت السيدة فيرلوك مرة أخرى: «تعال إلى هنا.» وتابعت: «من ماذا كان يظنني أنني خلقت؟ قل لي يا توم. تعال إلى هنا! أنا! هكذا! كنت أنظر إلى السكين، وفكرت في نفسي قائلة سآتي إذن إذا كان يريدني إلى هذه الدرجة. أوه نعم! أتيت ... للمرة الأخيرة ... ومعي السكين.»
كان مرتعبا منها للغاية ... شقيقة مخبول العقل ... هي نفسها مخبولة من نوع قاتل ... أو من النوع الكاذب. يمكن القول بأن الرفيق أوسيبون كان مرتعبا بطريقة إدراكية بالإضافة إلى جميع أنواع الخوف الأخرى. كان خوفا غير محدود ومركب، من شدة إفراطه أضفى عليه في الظلام مظهرا زائفا من الهدوء والتفكير العميق. ولذلك كان يتحرك ويتكلم بصعوبة، وكأن إرادته وتفكيره شبه متجمدين، ولا يمكن لأحد أن يرى وجهه المرتعب. شعر كأنه شبه ميت.
وثب بارتفاع قدم. على نحو غير متوقع، كانت السيدة فيرلوك قد انتهكت آداب السلوك المتحفظ الثابتة لبيتها بصرخة حادة ومرعبة. «ساعدني يا توم! أنقذني. لن أشنق!»
اندفع إلى الأمام، وأخذ يتحسس بحثا عن فمها ليسكتها بيده، وخمدت الصرخة. ولكن في اندفاعه كان قد أطاح بها أرضا. شعر بها الآن متشبثة بساقيه، ووصل رعبه إلى ذروته، وصار نوعا من الثمالة، أضمر أوهاما، واكتسب سمات الهذيان الارتعاشي. كان متيقنا من أنه يرى ثعابين الآن. رأى المرأة ملتفة حوله مثل ثعبان، لا يمكن نفضه عنه. لم تكن مميتة. كانت الموت نفسه ... رفيق الحياة.
وكأن الصرخة أراحتها، لم تعد السيدة فيرلوك الآن تتصرف بطريقة صاخبة. كانت جديرة بالشفقة.
تمتمت وهي على الأرض: «توم، لا يمكنك أن تتخلص مني الآن. إلا إذا سحقت رأسي بكعب حذائك. لن أتركك.»
قال أوسيبون: «انهضي.»
كان وجهه شاحبا لدرجة أنه كان يمكن رؤيته بوضوح في ذلك الظلام اللجي المخيم على المتجر؛ بينما لم يكن يرى وجه السيدة فيرلوك، المتشحة بالحجاب، وكاد لا تكون له هيئة يمكن تمييزها. تحدد مكانها وحركاتها باهتزاز شيء صغير وأبيض، هو زهرة في قبعتها.
ارتفعت الزهرة في الظلام. كانت قد نهضت من فوق الأرضية، وندم أوسيبون على أنه لم يهرب من فوره إلى الشارع. ولكنه أدرك بسهولة أن هذا لن يجدي نفعا. لن يجدي نفعا. كانت ستجري خلفه. كانت ستلاحقه وهي تصرخ صراخا حادا حتى تدفع كل شرطي على مرمى السمع إلى مطاردته. وعندئذ، الرب وحده يعلم ما الذي ستقوله عنه. كان خائفا لدرجة أنه راودته للحظة فكرة مجنونة بأن يخنقها في الظلام. وصار خائفا أكثر من أي وقت مضى! لقد تمكنت منه! رأى نفسه يعيش في رعب يائس في قرية مجهولة في إسبانيا أو إيطاليا؛ حتى يجدوه في صباح أحد الأيام ميتا هو الآخر، وسكين مغمدة في صدره، مثل السيد فيرلوك. تنهد بعمق. لم يجرؤ على الحركة. وانتظرت السيدة فيرلوك صامتة على أمل أن تسمع ما يسرها من مخلصها، مستمدة العزاء من صمته التأملي.
فجأة، تحدث بنبرة صوت طبيعية تقريبا. كان قد انتهى من تأملاته. «هيا نخرج، وإلا فلن نلحق بالقطار.»
سألت على استحياء: «أين سنذهب يا توم؟» لم تعد السيدة فيرلوك امرأة حرة. «لنذهب إلى باريس أولا، أفضل طريقة ممكنة لنا ... أولا اخرجي، وانظري إن كان الطريق خاليا.»
أطاعته. أتى صوتها خافتا من خلال الباب المفتوح بحذر. «كل شيء على ما يرام.»
خرج أوسيبون. على الرغم من محاولته التحرك بخفة، صلصل الجرس المتصدع خلف الباب المغلق في المتجر الفارغ، وكأنه يحاول عبثا أن يحذر السيد فيرلوك الراقد برحيل زوجته النهائي، برفقة صديقه.
في العربة التي تجرها خيول التي أقلتهما توا، أخذ اللاسلطوي القوي يقدم إيضاحاته. لا يزال شاحبا شحوبا فظيعا، وبدت عيناه غائرتين نصف بوصة كاملة في وجهه المتوتر. لكن يبدو أنه فكر في كل شيء بطريقة غير عادية.
خاطبها بنبرة غريبة ورتيبة: «عندما نصل، يجب أن تدخلي المحطة قبلي وكأننا لا يعرف بعضنا بعضا. سأشتري التذاكر وأدس تذكرتك في يدك وأنا أمر من جانبك. ثم ستدخلين صالة انتظار الدرجة الأولى المخصصة للسيدات، وتجلسين هناك حتى يتبقى على قيام القطار عشر دقائق. ثم تخرجين. سأكون بالخارج. ستصعدين على الرصيف أولا وكأنك لا تعرفينني. ربما تكون هناك عيون تراقب وتعرف كل ما يجري. بمفردك، فأنت مجرد امرأة تسافر بالقطار. أنا شخص معروف. معي، ربما يخمن أنك السيدة فيرلوك الهاربة.» أضاف بصعوبة: «هل تفهمينني يا عزيزتي؟»
قالت السيدة فيرلوك، وهي تجلس قبالته في العربة جامدة تماما ومرتعبة من المشنقة ومن الخوف من الموت، قالت: «نعم. نعم، يا توم.» وأردفت تقول لنفسها، مثل لازمة مروعة: «كان عمق السقطة أربع عشرة قدما.»
قال أوسيبون، دون أن ينظر إليها، وبوجه يشبه قالب جص مصبوب حديثا لوجهه بعد مرض مهلك: «بالمناسبة، يجب أن آخذ المال من أجل التذاكر الآن.»
أخذت السيدة فيرلوك تفك بعض أزرار صدريتها، بينما كانت تحدق إلى الأمام خلف حاجبة العربة، وناولته محفظة جيب جديدة من جلد الخنزير. تلقاها دون أن يتفوه بكلمة، وبدا أنه يدخلها في مكان عميق في صدره. ثم ضرب بكفه على معطفه من الخارج.
كل هذا حدث دون أن يتبادلا نظرة واحدة؛ كانا مثل شخصين يترقبان أول لمحة لهدف منشود. لم يفتح أوسيبون شفتيه مرة أخرى إلا حينما انعطفت العربة واتخذت وجهتها نحو الجسر.
سأل، وكأنه يخاطب ببطء عفريتا جالسا بين أذني الحصان: «هل تعرفين كم من المال داخل ذلك الشيء؟»
قالت السيدة فيرلوك: «لا. هو أعطاني إياه. لم أعد. لم أفكر في أي شيء في ذلك الوقت. بعد ذلك ...»
حركت يدها اليمنى قليلا. كانت تلك الحركة، من تلك اليد اليمنى التي كانت قد ضربت الضربة القاتلة في قلب رجل قبل أقل من ساعة، معبرة لدرجة أن أوسيبون لم يتمكن من قمع ارتجافة. ومن ثم بالغ في الأمر عن عمد، وتمتم: «أشعر بالبرد. أنا أرتجف من البرد.»
نظرت السيدة فيرلوك أمامها مباشرة متخيلة مشهد هروبها. من وقت إلى آخر، مثل راية سوداء تطير مع الريح عبر طريق، اعترضت الكلمات «كان عمق السقطة أربع عشرة قدما» طريق تحديقها المتوتر. ومن خلال حجابها الأسود، كان بياض عينيها الكبيرتين يلمع مثل عيني امرأة مقنعة.
كان في جمود أوسيبون شيء عملي، تعبير رسمي غريب. سمع مجددا فجأة، وكأنه قد أزاح مزلاجا عن شفتيه كي يتحدث. «اسمعي! هل تعرفين إن كان زوجك ... إن كان احتفظ بحسابه في البنك باسمه أم باسم آخر.»
استدارت إليه السيدة فيرلوك بوجهها المقنع واللمعان الأبيض الكبير لعينيها.
قالت في تفكير: «اسم آخر؟»
قال لها أوسيبون محذرا أثناء السير السريع للعربة: «كوني محددة فيما تقولين. هذا أمر بالغ الأهمية. سأوضح لك. البنك لديه أرقام هذه الأوراق المالية. وإذا كانت قد دفعت له باسمه هو، فعندئذ عندما يصبح ... عندما يصبح موته معروفا، ربما تستخدم النقود في تعقبنا بما أنه ليس معنا أموال أخرى. أليس معك أموال أخرى؟»
هزت رأسها بالنفي.
ألح قائلا: «لا شيء على الإطلاق؟» «بضع بنسات.» «سيكون الأمر خطيرا في تلك الحالة. يجب إذن التعامل مع المال بطريقة خاصة. خاصة جدا. ربما نفقد أكثر من نصف المبلغ من أجل تغيير هذه الأوراق النقدية في مكان آمن أعرفه في باريس. في الحالة الأخرى، أقصد إن كان حسابه باسم آخر ودفعت له النقود بذلك الاسم - ولنقل سميث على سبيل المثال - فالمال آمن تماما للاستخدام. أتفهمين؟ لا يملك البنك وسيلة لمعرفة أن السيد فيرلوك وسميث، مثلا، هما نفس الشخص. أترين كم هو مهم ألا تخطئي في الإجابة على سؤالي؟ هل لديك إجابة على ذلك السؤال أصلا؟ ربما لا. هل أنا محق؟»
قالت بتأن: «أتذكر الآن! لم يتعامل مع البنك باسمه هو. أخبرني ذات مرة أنها مودعة باسم بروزور.» «هل أنت متأكدة؟» «متأكدة.» «ألا تظنين أن البنك لديه علم باسمه الحقيقي؟ أو أي شخص في البنك أو ...»
هزت كتفيها. «كيف لي أن أعرف؟ هل هذا محتمل، يا توم؟» «لا. لا أظنه محتملا. كان سيغدو مريحا أكثر لو كنا نعرف ... ها قد وصلنا. اخرجي أولا، وامشي إلى المحطة مباشرة. تحركي بسرعة.»
تخلف عنها، ودفع لسائق العربة أجرته من فكة نقوده. نفذ البرنامج الذي وضعه ببصيرته الدقيقة. عندما دخلت السيدة فيرلوك إلى غرفة انتظار السيدات وفي يدها تذكرة إلى سانت مالو، دخل الرفيق أوسيبون إلى الحانة، وفي غضون سبع دقائق احتسى ثلاثة أكواب من البراندي اللاذع والماء.
أوضح للساقية بإيماءة ودودة وابتسامة مضطربة: «أحاول أن أتخلص من البرد.» بعد ذلك خرج، مبديا من ذلك الفاصل الاحتفالي وجه رجل شرب من ينبوع الأحزان. رفع عينيه ونظر إلى الساعة. حان الوقت. انتظر.
في الوقت المحدد، خرجت السيدة فيرلوك وقد أرخت حجابها ويكسوها السواد، سواد مثل الموت المبتذل نفسه، وتوجت رأسها ببعض الزهور الرخيصة والذابلة. مرت بالقرب من مجموعة صغيرة من رجال كانوا يضحكون، ولكن ضحكاتهم كان يمكن إسكاتها بكلمة واحدة. كانت مشيتها متثاقلة، ولكن ظهرها كان مستقيما، وراقبها الرفيق أوسيبون في رعب قبل أن يبدأ هو نفسه في السير.
وصل القطار، ولم يكن يوجد أي أحد تقريبا بالقرب من صف أبوابه المفتوحة. نظرا لذلك الوقت من السنة والطقس السيئ لم يكن يوجد مسافرون تقريبا. مشت السيدة فيرلوك ببطء بمحاذاة صف من المقصورات الفارغة حتى لمس أوسيبون مرفقها من الخلف. «ادخلي إلى هنا.»
دخلت، وبقي هو على الرصيف ينظر من حوله. مالت إلى الأمام، وقالت هامسة: «ما الأمر يا توم؟ هل يوجد أي خطر؟ انتظر لحظة. هناك حارس.»
رأته يقترب من الرجل ذي الزي الرسمي. تبادلا الحديث لبعض الوقت. سمعت الحارس يقول: «حسنا يا سيدي» ورأته يلمس قبعته. ثم عاد أوسيبون، قائلا: «أخبرته ألا يدع أحدا يدخل إلى مقصورتنا.»
كانت تتكئ إلى الأمام على مقعدها. «أنت تفكر في كل شيء ... ستساعدني على الهرب، يا توم؟» سألته في فورة من الحزن، رافعة حجابها بحدة كي تنظر إلى مخلصها.
كانت قد كشفت عن وجه مثل الصخر. ومن هذا الوجه، نظرت العينان الكبيرتان الجافتان المتسعتان المظلمتان، اللتان اختفى ضوءهما مثل ثقبين سوداوين في الكرتين البيضاوين البراقتين. «لا يوجد خطر» قال، محملقا فيهما بجدية شبه شاردة، بدت للسيدة فيرلوك، الهاربة من حبل المشنقة، مليئة بالقوة والحنان. أثر هذا الإخلاص فيها تأثيرا عميقا، وفقد وجهها الصلب جموده الشديد النابع من الرعب. حدق الرفيق أوسيبون فيه كما لم يحدق عاشق في وجه معشوقته. كان ألكسندر أوسيبون، اللاسلطوي، الملقب بالطبيب، مؤلف كتيب طبي (وغير لائق)، المحاضر السابق في الجوانب الاجتماعية للنظافة في نوادي العاملين، متحررا من القيود الأخلاقية التقليدية، ولكنه تقيد بقواعد العلم. كان علميا، وحدق في تلك المرأة بطريقة علمية، شقيقة الفتى مخبول العقل، وهي نفسها مخبولة، من نوع قاتل. حدق فيها، واستحضر لومبروزو، مثل فلاح إيطالي يفوض أمره إلى قديسه المفضل. حدق بطريقة علمية. حدق في وجنتيها وفي أنفها وفي عينيها وفي أذنيها ... سيئ! ... مميت! تباعدت شفتا السيدة فيرلوك، واسترختا قليلا تحت تأثير نظراته المهتمة والشغوفة، وحدق أيضا في أسنانها ... لم يبق مجال للشك ... من نوع قاتل ... إذا لم يفوض الرفيق أوسيبون أمر روحه المرتعبة إلى لومبروزو، فهذا فقط لأنه لم يستطع على أسس علمية أن يصدق أنه كان يحمل في داخله شيئا يدعى الروح. ولكن كان يحمل في داخله الروح العلمية، التي دفعته إلى أن يشهد على رصيف السكك الحديدية بعبارات عصبية متشنجة. «كان فتى غير عادي، أخوك ذاك. مشوق للدراسة. نوع مثالي بطريقة ما. مثالي!»
تحدث بطريقة علمية في خوفه الخفي. لما سمعت السيدة فيرلوك كلمات الثناء هذه التي تعطف بها على فقيدها المحبوب، مالت إلى الأمام وفي عينيها القاتمتين وميض ضوء، مثل شعاع شمس يؤذن بزوبعة مطر.
همست بنعومة، بشفتين مرتعشتين: «كان كذلك حقا. كنت تلاحظه بكثير من الاهتمام يا توم. أحببتك لهذا.»
تابع أوسيبون، معربا عن خوفه المستمر، ومحاولا أن يخفي نفاد صبره العصبي والمضني في انتظار أن يتحرك القطار: «لا يكاد يصدق الشبه الذي كان بينكما. نعم، إنه يشبهك.»
لم تكن تلك الكلمات مؤثرة أو متعاطفة على نحو خاص. ولكن حقيقة ذلك التشابه الذي أكد عليه كانت كفيلة بأن تؤثر على مشاعرها بقوة. ببكاء خافت قليل، فاردة ذراعيها، انهمرت دموع السيدة فيرلوك أخيرا.
دخل أوسيبون المقصورة، وبسرعة أغلق الباب ونظر إلى الخارج كي يرى الوقت في ساعة المحطة. تبقت ثماني دقائق. في الثلاث الدقائق الأولى، انتحبت السيدة فيرلوك نحيبا شديدا ويائسا دون توقف أو انقطاع. ثم تحسنت نوعا ما، وبكت بكاء هادئا بدموع غزيرة. حاولت الحديث مع مخلصها، مع الرجل الذي كان مبعوث الحياة. «آه يا توم! كيف لي أن أهاب الموت بعد أن أخذ بعيدا عني بتلك القسوة! كيف لي ذلك! كيف أكون بذلك الجبن!»
رثت جهرا حبها للحياة، تلك الحياة الخالية من البهجة أو الجمال وتكاد تخلو من الفضيلة، ولكنها تزخر بإخلاص فائق للهدف، حتى إن كان هو القتل. وكما يحدث عادة في رثاء البشرية البائسة، الزاخرة بالمعاناة ولكنها فقيرة في الكلمات، فإن الحقيقة - صرخة الحقيقة عينها - كانت موجودة في شكل مبتذل ومصطنع في مكان ما وسط عبارات عاطفة زائفة. «كيف لي أن أهاب الموت! لقد حاولت، يا توم. ولكني خائفة. حاولت التخلص من نفسي. ولكن لم أستطع. هل أنا قاسية؟ أظن أن كأس الأهوال لم يكن ممتلئا بالقدر الكافي لشخص مثلي. ثم عندما أتيت ...»
توقفت عن الكلام. ثم في فورة من الثقة والامتنان، قالت باكية: «سأعيش كل أيامي من أجلك، يا توم!»
قال أوسيبون باهتمام: «انتقلي إلى الركن الآخر من المقصورة، بعيدا عن الرصيف.» سمحت لمخلصها أن يجلسها بارتياح، وراقب مجيء نوبة نحيب أخرى، ولكنها أعنف من الأولى. راقب الأعراض بشيء من الحس الطبي وكأنه يعد الثواني. سمع صافرة الحارس أخيرا. كشف انقباض لا إرادي لشفته العليا عن أسنانه عن مظهر تصميم شرس تام عندما شعر بأن القطار يبدأ في التحرك. لم تسمع السيدة فيرلوك شيئا ولم تشعر بشيء، ووقف أوسيبون، مخلصها، ساكنا. شعر بالقطار يزيد من سرعته، ويقرقع بقوة مع صوت نحيب المرأة العالي، ثم عبر المقصورة بخطوتين واسعتين وفتح الباب، وقفز خارجا.
كان قد قفز من المقصورة في نهاية الرصيف بالضبط؛ وكم كان تصميمه على الالتزام بخطته اليائسة كبيرا حتى إنه تمكن بأعجوبة، وهو يكاد يطير في الهواء، من أن يضرب باب المقصورة بقوة. عندئذ فقط، وجد نفسه يتدحرج رأسا على عقب مثل أرنب أصابته طلقة صياد. عندما نهض، كان مصابا بكدمات، ويرتجف، وشاحبا كالموتى، ومنقطع النفس. ولكنه كان هادئا، وقادرا تماما على مواجهة الحشد المتحمس من رجال السكك الحديدية الذين كانوا قد تجمعوا حوله في لحظة. بنبرة لطيفة ومقنعة، أوضح أن زوجته كانت قد غادرت من فورها إلى بيرتاني من أجل أمها المحتضرة؛ حتى إنها، بالطبع، كانت منزعجة كثيرا، وكان قلقا بشدة على حالتها؛ وكان يحاول أن يسري عنها، ولم يلاحظ على الإطلاق أن القطار كان يتحرك خارجا من المحطة. تساءل الجمع باستغراب: «ولماذا لم تستمر إلى ساوثهامبتون، إذن، يا سيدي؟» تذرع بشقيقة زوجته قليلة الخبرة التي كانت وحدها في المنزل مع ثلاثة أطفال صغار، وبقلقها من غيابه، وبأن مكاتب التلغراف مغلقة. كان قد تصرف غريزيا. قال في النهاية: «ولكن لا أظن أنني سأجرب تلك الفعلة ثانية قط.» وابتسم لمن حوله، ووزع بعض قطع النقود الصغيرة، ومشى من دون أن يعرج إلى خارج المحطة.
بالخارج، رفض الرفيق أوسيبون، الذي كان معه وفرة من الأوراق النقدية الآمنة مثلما لم يحدث من قبل في حياته، عرض ركوب عربة أجرة.
قال، بابتسامة لطيفة صغيرة إلى السائق المهذب: «يمكنني أن أمشي.»
كان يمكنه أن يمشي. مشى. مشى عابرا الجسر. وفي وقت لاحق كانت أبراج الدير في ثباتها الهائل شاهدة على شعره الأشقر وهو يمر تحت المصابيح. شهدته أضواء فيكتوريا أيضا، وميدان سلون، وأسوار الحديقة. ومجددا وجد الرفيق أوسيبون نفسه على جسر. أسر انتباهه بالنهر، أعجوبة مشئومة من ظلال ساكنة وومضات متدفقة تختلط أسفله في صمت كئيب. وقف ينظر من فوق الحاجز لفترة طويلة. هدر برج الساعة بدوي دقات معدنية حادة فوق رأسه المتدلي. نظر إلى عقارب الساعة ... كانت تشير إلى الثانية عشرة والنصف في ليلة موحشة في القنال الإنجليزي.
ومجددا استأنف الرفيق أوسيبون سيره. شوهد بمظهره القوي في تلك الليلة في أجزاء بعيدة من المدينة الكبيرة الغافية مثل وحش على بساط من الطين تحت ستار من ضباب شديد. شوهد يجتاز الشوارع الخالية من الحياة والصوت، أو وهو يختفي تدريجيا في منظور رؤية مستقيمة لا نهائية من منازل مظللة متاخمة لطرق خالية تصطف فيها سلاسل من مصابيح الغاز. سار عبر ميادين وساحات وطرق بيضاوية ومتنزهات عامة، وعبر شوارع رتيبة مجهولة الأسماء حيث يستقر غبار الإنسانية خاملا ويائسا خارج مجرى الحياة. مشى. وفجأة ، انعطف إلى شريط حديقة أمامية وبها قطعة أرض عشبية جرباء، ودخل إلى منزل صغير قذر بعد أن فتح بمفتاح مزلاج أخرجه من جيبه.
ارتمى على سريره بكامل ملابسه، واستلقى من دون حراك لمدة ربع ساعة كاملة. ثم جلس منتصبا فجأة، مجتذبا ركبتيه إليه ومحتضنا ساقيه. عندما ظهر الخيط الأول من الفجر، كان مفتوح العينين، في تلك الوضعية نفسها. هذا الرجل الذي كان يمكنه أن يمشي وقتا طويلا، مسافات بعيدة، على غير هدى، دون أن تظهر عليه أي أمارة للإرهاق، يمكنه أيضا أن يظل جالسا ساكنا لساعات دون أن يحرك ساكنا أو يطرف له جفن. ولكن عندما أرسلت شمس آخر النهار أشعتها إلى داخل الغرفة، فك تشابك يديه وعاد يرتمي على الوسادة. حدقت عيناه في السقف. وفجأة أغلقتا. نام الرفيق أوسيبون تحت أشعة الشمس.
الفصل الثالث عشر
القفل الحديدي الكبير على أبواب خزانة الحائط كان الشيء الوحيد في الغرفة الذي يمكن أن تستقر عليه العين من دون أن تتضايق بالقبح البائس للأشكال والافتقار إلى المواد. إذ لم يكن من الممكن بيعها في السياق المعتاد للتجارة بسبب أبعادها الهائلة، تنازل عنها تاجر معدات سفن في شرق لندن إلى البروفيسور مقابل بنسات قليلة. كانت الغرفة كبيرة، ونظيفة، ولائقة، وفقيرة ذلك الفقر الموحي بالافتقار الشديد إلى كل حاجة بشرية عدا مجرد الخبز. لم يكن يوجد على الجدران سوى الورق، مساحة من اللون الأخضر الزرنيخي، متسخة بلطخات لا تمحى هنا وهناك، وببقع تشبه خرائط باهتة لقارات غير مأهولة.
على طاولة مستديرة بالقرب من نافذة، جلس الرفيق أوسيبون ممسكا برأسه بين قبضتيه. كان البروفيسور قد أدخل يده بعمق في الجيوب المهترئة لسترته، مرتديا بدلته الوحيدة من التويد الرديء، لكنه ظل يقرع بخفه المتهالك بشدة، وهو يروح ويجيء في الغرفة، على الألواح الخشبية العارية. كان يحكي لضيفه القوي عن زيارة قام بها مؤخرا إلى المصلح ميكايليس. حتى اللاسلطوي المثالي كان ميالا إلى الاسترخاء قليلا. «لم يعرف الرجل أي شيء عن موت فيرلوك. بالطبع! لا يطلع على الجرائد البتة. يقول إنها تجعله حزينا للغاية. ولكن لا يهم. دخلت إلى كوخه. لم يكن يوجد أي مخلوق. تعين علي أن أنادي عليه ست مرات قبل أن يرد علي. ظننت أنه كان مستغرقا حينها في النوم، في سريره. ولكنه لم يكن كذلك على الإطلاق. كان عاكفا على كتابة كتابه منذ أربع ساعات. جلس في تلك الحجيرة الصغيرة وسط كومة من المخطوطات. كان يوجد جزر نيئ مأكول نصفه على الطاولة بالقرب منه. إفطاره. إنه يعيش على نظام غذائي يتكون من الجزر النيئ وقليل من الحليب الآن.»
سأل الرفيق أوسيبون بفتور: «كيف ينظر إلى الأمر؟» «تراوده أفكار ملائكية ... التقطت حفنة من أوراقه من فوق الأرضية. فقر المنطق مذهل. لا يوجد لديه منطق. لا يمكنه أن يفكر بترابط. ولكن ذلك لا شيء. قسم سيرته الذاتية إلى ثلاثة أقسام، عناوينها «الإيمان، الأمل، الأعمال الخيرية». إنه يطور الآن فكرة عالم مصمم مثل مستشفى كبير وجميل، له حدائق وزهور، وفيه يكرس الأقوياء أنفسهم من أجل رعاية الضعفاء.»
توقف البروفيسور عن الكلام قليلا.
تابع بثقته الكئيبة: «هل تتصور هذه الحماقة يا أوسيبون؟ الضعفاء! مصدر كل الشرور على هذه الأرض! قلت له إنني أحلم بعالم مثل المذبح يباد فيه الضعفاء على بكرة أبيهم.»
وتابع: «هل تفهم يا أوسيبون؟ مصدر كل الشرور! إنهم سادتنا الأشرار؛ الضعفاء، أصحاب الهمم الضعيفة، والسخفاء، والجبناء، وأصحاب القلوب الواهنة، وأصحاب العقول الخاضعة. إنهم يتمتعون بالسلطة. إنهم الأكثرية. مملكة الأرض هي مملكتهم. الإبادة، الإبادة! ذلك هو السبيل الوحيد للتقدم. ذلك هو السبيل! تابعني، يا أوسيبون. أولا يجب التخلص من الأكثرية الكبيرة من الضعفاء، ثم الأقوياء نوعا ما فقط. هل تفهمني؟ أولا العميان، ثم الصم ثم البكم، ثم العرج والمقعدون، وهكذا. لا بد من التخلص من كل شائبة ومن كل رذيلة ومن كل تحيز ومن كل عرف.»
سأل أوسيبون بصوت مختنق: «وماذا يبقى؟» «أبقى أنا ... إذا كنت قويا بما يكفي.» أكد البروفيسور، الذي اكتست فجأة أذناه الكبيرتان، والرقيقتان مثل الأغشية، والبارزتان على جانبي جمجمته الضعيفة، بلون أحمر داكن.
تابع بنبرة قوية: «ألم يكف ما عانيته جراء اضطهاد الضعفاء؟» ثم ربت على جيب الصدر في سترته وتابع قائلا: «ومع ذلك، «أنا» القوة نفسها. ولكن الوقت! الوقت! أعطني وقتا! آه! تلك الأكثرية، إنهم أغبى من أن يشعروا بالشفقة أو الخوف. أحيانا أظن أن كل شيء إلى جانبهم. كل شيء - حتى الموت - سلاحي.»
قال أوسيبون القوي، بعد فترة من الصمت تخللها القرع السريع للخف الذي كان يلبسه اللاسلطوي المثالي: «تعال واشرب معي البيرة في سيلينوس.» قبل الأخير الدعوة. كان مرحا في ذلك اليوم بطريقته الخاصة. ربت على كتف أوسيبون. «البيرة! فليكن! لنشرب ونمرح، لأننا أقوياء، وغدا نموت.»
انشغل بارتداء حذائه، وتحدث في أثناء ذلك بنبرته الفظة الحازمة. «ما خطبك يا أوسيبون؟ تبدو حزينا لدرجة أنك تسعى إلى صحبتي. نما إلى سمعي أنك شوهدت مرارا في الأماكن التي يتلفظ فيها الرجال بكلمات حمقاء وهم يشربون كئوس الخمر. لماذا؟ هل اعتزلت مجموعتك من النساء؟ إنهن الضعيفات اللواتي يغذين الأقوياء؛ أليس كذلك؟»
ضرب الأرض بإحدى قدميه وأخذ فردة الحذاء الأخرى، المزود برباط، الثقيل، السميك النعل، غير المصقول بالورنيش، المرتوق مرات كثيرة. ابتسم لنفسه ابتسامة عابسة. «أخبرني يا أوسيبون، أيها الرجل السيئ، هل سبق أن قتلت واحدة من ضحاياك نفسها من أجلك أم أن انتصاراتك حتى الآن غير مكتملة؛ لأن الدم وحده هو الذي يضع ختم العظمة؟ الدم. الموت. تأمل التاريخ.»
قال أوسيبون من دون أن يلتفت برأسه: «فلتحل عليك اللعنة.» «لماذا؟ دع هذا يكون رجاء الضعفاء الذين ابتدع لاهوتهم جهنم للأقوياء. أوسيبون، أشعر نحوك بازدراء ودي. لا يمكنك أن تقتل ذبابة.»
لكن في طريقهما للاحتفال، يستقلان سطح حافلة مواصلات عامة، فقد البروفيسور روحه المعنوية العالية. أخمد تأمل الحشود المزدحمة على الأرصفة ثقته تحت وطأة الشك والقلق اللذين لا يستطيع التخلص منهما إلا بعد فترة من العزلة في الغرفة التي فيها الخزانة الكبيرة المغلقة بقفل ضخم. «وهكذا إذن» من فوق كتفه قال الرفيق أوسيبون، الجالس على المقعد الذي خلفه. «إذن ميكايليس يحلم بعالم يشبه مستشفى جميلا ومبهجا.»
أكد البروفيسور بنبرة تهكمية: «بالضبط هكذا. جمعية خيرية هائلة لعلاج الضعفاء.»
أقر أوسيبون: «تلك سخافة. لا يمكنك علاج الضعف. ولكن على كل حال، قد لا يكون ميكايليس مخطئا للغاية. في غضون مائتي عام، سيحكم الأطباء العالم. العلم هو السائد بالفعل. إنه سائد في الخفاء ربما ... ولكنه سائد. وكل العلوم يجب أن تتوج في النهاية بعلم الشفاء، ليس شفاء الضعفاء، بل الأقوياء. البشرية تريد أن تحيا ... أن تحيا.»
أكد البروفيسور ببريق ثقة بالنفس من نظارته ذات الإطار الحديدي: «البشرية، لا تعرف البشرية ماذا تريد.»
قال أوسيبون بتذمر: «لكنك تعرف. للتو كنت تصيح أنك بحاجة إلى الوقت ... الوقت. حسنا. الأطباء سيقدمون لك الوقت ... إذا كنت بصحة جيدة. أنت تفتخر بأنك واحد من الأقوياء ... لأنك تحمل في جيبك مواد كافية لأن ترسلك، ولنقل، عشرين آخرين إلى الخلود. ولكن الخلود حفرة لعينة. إن الوقت هو ما تحتاج إليه. أنت نفسك ... لو قابلت رجلا بوسعه أن يمنحك على وجه اليقين عشرة أعوام إضافية، ستدعوه سيدك.»
قال البروفيسور بطريقة فيها ميل للوعظ، وهو يترجل من الحافلة: «شعاري هو: لا إله! لا سيد.»
تبعه أوسيبون. رد وهو يقفز من موطئ القدم بعد الأخرى: «انتظر حتى تستلقي على ظهرك في نهاية وقتك.» أردف وهو يعبر الشارع ويثب إلى الرصيف: «وقتك القصير الحقير البالي الرث.»
قال البروفيسور وهو يفتح أبواب سيلينوس الشهير: «أوسيبون، أظن أنك مخادع.» ولما جلسا على طاولة صغيرة، توسع أكثر في هذه الفكرة اللطيفة. «أنت لست طبيبا حتى. ولكنك مرح. فكرة عن بشرية جمعاء تخرج ألسنتها وتتناول حبة الدواء من القطب الشمالي إلى الجنوبي بأمر من بعض المهرجين الوقورين فكرة جديرة بنبي. نبوءة! ما نفع التفكير فيما سيكون؟!» رفع نظارته. قال بهدوء: «فليحل الدمار على ما هو كائن.»
احتسى شرابه ثم غرق في حالة من الصمت الغريب. أغمته فكرة أن البشرية كرمل البحر الذي لا يعد لكثرته؛ ومن ثم لا يمكن تدميرهم، ويصعب التحكم فيهم. ضاع صوت القنابل المتفجرة دون أن يحدث صدى وسط الكثرة الهائلة لحبيباته الخاملة. ومنها على سبيل المثال، قضية فيرلوك هذه. من الذي يفكر فيه الآن؟
وكأن قوة غامضة أجبرته فجأة، سحب أوسيبون صحيفة مطوية طيا كثيرا من جيبه. رفع البروفيسور رأسه لما سمع حفيف الورق.
سأل: «ما تلك الصحيفة؟ هل فيها أي شيء؟»
ذهل أوسيبون مثل سائر أثناء النوم أفزع من نومه. «لا شيء. لا شيء على الإطلاق. إنها قديمة، منذ عشرة أيام. نسيتها في جيبي، على ما أظن.»
لكنه لم يرم الصحيفة القديمة. قبل أن يعيدها إلى جيبه، استرق النظر إلى آخر سطور إحدى الفقرات. كان مكتوب فيها ما يلي: «لغز لا سبيل إلى سبر أغواره يبدو مقدرا له أن يظل عالقا إلى الأبد إثر هذا الفعل النابع من الجنون أو اليأس.»
تلك كانت الكلمات الأخيرة لخبر بعنوان: «انتحار مسافرة من إحدى البواخر العابرة للقناة». كان الرفيق أوسيبون معتادا على جماليات أسلوبها الصحفي. «لغز لا سبيل إلى سبر أغواره يبدو مقدرا له أن يظل عالقا إلى الأبد ...» حفظ كل كلمة عن ظهر قلب. «لغز لا سبيل إلى سبر أغواره ...»
تدلى رأس اللاسلطوي القوي على صدره، وغرق في حلم يقظة طويل.
هذا الشيء كان يهدد حياته. لم يستطع أن يندفع لملاقاة من أغواهن من النساء العديدات، أولئك اللواتي كان يتودد إليهن على المقاعد في حدائق كنسينجتون، وأولئك اللواتي كان يقابلهن بالقرب من سياجات المنطقة، دون الخوف من الحديث معهن عن لغز لا سبيل إلى سبر أغواره مقدر له ... بات من منظور علمي خائفا من جنون يتربص له بين تلك السطور. «عالق إلى الأبد.» كان هوسا، بل عذابا. كان قد عجز في الفترة الأخيرة عن أن يفي بالعديد من تلك المواعيد، التي كانت السمة الغالبة عليها فيما مضى هي الثقة المتناهية في لغة العواطف والحنان الذكورية. النزعة إلى الثقة من جانب نساء من طبقات اجتماعية مختلفة أشبعت لديه احتياجات حبه لذاته، وأمدته ببعض الوسائل المادية. كان يحتاجها للعيش. كانت موجودة. ولكن إن لم يعد بوسعه الاستفادة منها، فسيكون معرضا لخطر أن تتضور مثالياته وجسده جوعا ... «هذا الفعل النابع من الجنون أو اليأس.»
كان من المؤكد أن «لغزا لا سبيل إلى سبر أغواره سيظل عالقا إلى الأبد» فيما يخص البشرية كلها. ولكن ماذا سيحدث لو لم يستطع هو وحده من بين كل الرجال أن يتخلص قط من تلك المعلومات اللعينة؟ والمعلومات التي عرفها الرفيق أوسيبون كانت تتساوى في دقتها مع تلك التي بوسع الصحفي أن يتوصل إليها، وصولا إلى أعتاب «اللغز المقدر له أن يظل عالقا إلى الأبد ...»
كان الرفيق أوسيبون مطلعا على نحو جيد على الأمر. كان يعرف ما رآه حارس ممشى الباخرة: «سيدة ترتدي ثوبا أسود وحجابا أسود، تتجول في منتصف الليل، على رصيف الميناء. كان قد سألها مشجعا إياها: «هل ستسافرين بالباخرة يا سيدتي؟ من هنا.» بدا أنها لم تكن تعرف ما يتعين عليها فعله. ساعدها كي تصعد على متن الباخرة. بدت واهنة القوى.»
وكان يعرف أيضا ما رأته المضيفة: «سيدة ترتدي ملابس سوداء ذات وجه أبيض تقف في منتصف مقصورة السيدات الفارغة.» حثتها المضيفة على أن تستلقي هناك. بدت السيدة غير راغبة في الكلام تماما وكأنها واقعة في مشكلة مريعة. بعد ذلك، علمت المضيفة أنها خرجت من مقصورة السيدات. بعد ذلك، صعدت المضيفة إلى سطح المركب لتبحث عنها، وعلم الرفيق أوسيبون أن المرأة الطيبة وجدت السيدة التعيسة مستلقية على أحد المقاعد المزودة بمظلة. كانت عيناها مفتوحتين، ولكنها لم تكن ترد على أي شيء يوجه إليها. بدت مريضة للغاية. أحضرت المضيفة رئيس طاقم المضيفين، ووقف هذان الاثنان بجانب المقعد ذي المظلة يتشاوران في أمر تلك الراكبة غير العادية والبائسة. كانا يتحدثان بهمسات مسموعة (إذ يبدو أنها قد سمعتهما) عن سانت مالو والقنصل هناك، وعن التواصل مع أهلها في إنجلترا. بعد ذلك، سارا مبتعدين كي يرتبا إنزالها إلى الأسفل؛ لأنه بالفعل مما كان بوسعهما أن يرياه من وجهها بدت لهما على وشك الموت. ولكن الرفيق أوسيبون علم أنه خلف هذا القناع الأبيض من اليأس، كانت توجد قوة حيوية تصارع الرعب واليأس، حب للحياة يمكنه أن يقاوم الكرب الشديد الذي يقود إلى القتل والخوف، ذلك الخوف الأعمى الجنوني من حبل المشنقة. كان يعلم. لكن المضيفة ورئيس طاقم المضيفين لم يعلما شيئا، سوى أنهما عندما عادا من أجلها بعد أقل من خمس دقائق، لم تعد السيدة ذات الملابس السوداء موجودة على المقعد ذي المظلة. لم تكن موجودة في أي مكان. كانت قد ذهبت. كانت الساعة وقتها الخامسة صباحا، ولم تكن حادثة أيضا. بعد ساعة، وجد أحد العمال على الباخرة خاتم زواج متروكا على المقعد. كان قد التصق بالخشب الذي كان رطبا قليلا، ولفت بريقه انتباه الرجل. كان محفورا بداخله تاريخ، 24 يونيو 1879. «لغز لا سبيل إلى سبر أغواره مقدر له أن يظل عالقا إلى الأبد ...»
ورفع الرفيق أوسيبون رأسه المنكس، المحبوب من نساء متواضعات مختلفات في هذه الجزر، الذي يشبه رأس أبولو في إشراق شعره.
في ذلك الوقت، كان البروفيسور قد ازداد تململا. ونهض.
قال أوسيبون بسرعة: «فلتبق. قل لي، ما الذي تعرفه عن الجنون والقنوط؟»
مرر البروفيسور طرف لسانه على شفتيه الجافتين الرفيعتين، وتحدث وكأنه طبيب: «لا وجود لمثل هذه الأشياء. المشاعر كلها مفقودة حاليا. العالم عادي، واهن، بلا قوة. والجنون والقنوط قوة. والقوة جريمة في أعين الحمقى والضعفاء والمغفلين الذين يمسكون بزمام الأمور. أنت عادي. فيرلوك - الذي تمكنت الشرطة من إخماد قضيته ببراعة شديدة - عادي. ورجال الشرطة الذين اغتالوه. كانوا عاديين. الجميع عاديون. الجنون والقنوط! أعطني أداة، وسأحرك العالم. أوسيبون، أنا أحتقرك من قلبي. أنت حتى غير قادر على تصور ما يسميه المواطن السمين جريمة. أنت لا تملك أي قوة.» توقف قليلا عن الكلام، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة تحت البريق الشديد لنظارته السميكة. «واسمح لي أن أقول لك إن هذا الإرث الصغير الذي يقولون إنه آل إليك لم يحسن ذكاءك. أنت تجلس تحتسي البيرة مثل دمية. إلى اللقاء.»
رفع أوسيبون ناظريه بابتسامة حمقاء، وقال: «هلا أخذته؟» «آخذ ماذا؟» «الإرث. كله.»
ابتسم البروفيسور النزيه فحسب. كانت ملابسه تكاد تسقط منه، وحذاؤه عديم الشكل بسبب الترقيعات، وثقيل مثل الرصاص، ويسمح للماء بالدخول مع كل خطوة. قال: «سأرسل إليك بالمناسبة فاتورة صغيرة بمواد كيميائية معينة سأطلبها غدا. أحتاج إليها بشدة. مفهوم؟»
طأطأ أوسيبون رأسه ببطء. كان بمفرده. «لغز لا سبيل إلى سبر أغواره ...» بدا له أنه يرى عقله معلقا في الهواء أمامه وينبض على إيقاع لغز لا سبيل إلى سبر أغواره. من الواضح أن عقله صار مريضا ... «هذا الفعل النابع من الجنون أو اليأس.»
عزف لحن فالس صاخب على البيانو الميكانيكي القريب من الباب، ثم صمت فجأة، وكأنما صار نزقا.
خرج الرفيق أوسيبون، الملقب بالطبيب، من حانة سيلينوس. عند الباب تردد، وأخذ يرمش في ضوء الشمس غير الساطع بشدة، والجريدة التي تحتوي على تقرير انتحار سيدة كانت في جيبه. كان قلبه يدق تحتها. انتحار سيدة، «هذا الفعل النابع من الجنون أو اليأس».
سار في الشارع من دون أن ينظر إلى موطئ قدمه؛ ومشى في اتجاه لن يقوده إلى مكان اللقاء مع سيدة أخرى (مربية حضانة تضع ثقتها في رأس طيب يشبه رأس أبولو). كان يبتعد عنه. لم يستطع أن يواجه أي امرأة. كان هذا خرابا. لم يستطع التفكير، ولا العمل، ولا النوم، ولا الأكل. ولكنه بدأ يشرب بابتهاج، بترقب، بأمل. كان هذا خرابا. مسيرته الثورية - المدعومة بمشاعر الكثير من النساء وثقتهن - كان يهددها لغز لا سبيل إلى سبر أغواره؛ لغز دماغ بشري ينبض بطريقة خاطئة على إيقاع عبارات صحفية. «... «سيظل عالقا إلى الأبد إثر هذا الفعل» ... كان آخذا في الانحراف إلى الحضيض ... «النابع من الجنون أو اليأس».»
تمتم لنفسه ببصيرة علمية: «أنا مريض للغاية.» بالفعل كان جسده القوي - بالإضافة إلى أموال الخدمة السرية للسفارة (التي ورثها من السيد فيرلوك) في جيوبه - يتجه إلى الحضيض وكأنه يتدرب على مهمة مستقبلية لا مفر منها. كان بالفعل قد أحنى منكبيه العريضين ورأسه ذا الخصل الذهبية، وكأنه جاهز لتلقي النير الجلدي للوحة إعلانات مزدوجة، على صدره وظهره. في مثل تلك الليلة، منذ أكثر من أسبوع ، مشى الرفيق أوسيبون من دون أن ينظر إلى موطئ قدمه، دون إعياء، ودون أن يشعر بشيء، ودون أن يرى شيئا أو يسمع صوتا. «لغز لا سبيل إلى سبر أغواره ...» سار دون أن يلتفت إليه أحد ... «هذا الفعل النابع من الجنون أو اليأس.»
مشى البروفيسور النزيه أيضا، وهو يصرف بصره عن حشود البشر البغيضة. لم يكن له مستقبل. كان يزدريه. كان قوة بذاته. داعبت أفكاره مشاهد الخراب والدمار. سار ضعيفا، تافها، رثا، بائسا ... ومفزعا في بساطة فكرته التي تستحضر الجنون والقنوط لتجديد العالم. لم ينظر إليه أحد. تابع سيره غير مثير للشكوك وحاملا الموت معه، مثل وباء في شارع يعج بالناس.
Bilinmeyen sayfa