ومرت الأيام، وانتشى برنارد من اطراد النجاح، وشعر خلال ذلك بالتوافق التام بينه وبين العالم (كما يفعل أي مخدر جيد)، وكان حتى آنئذ ساخطا عليه، ورضي عن النظام القائم ما دام يعترف له بالأهمية، غير أنه برغم ما كان بينه وبين النظام القائم من وفاق من أثر النجاح، أبى أن يتخلى عن حقه الممتاز في نقد هذا النظام؛ لأن النقد كان يقوي إحساسه بأهميته ويجعله يحس بالعظمة، ثم إنه كان فوق ذلك يعتقد بإخلاص أن هناك من الأمور ما يستحق النقد (وهو في نفس الوقت يحب أن ينجح، وأن يظفر بكل من يريد من البنات)، فكان برنارد يتظاهر بالخروج على التقاليد، وبالنقد أمام أولئك الذين يتوددون الآن من أجل الهمجي، وكان الناس يصغون إليه مؤدبين، ولكنهم يهزون رءوسهم من خلفه، ويقولون: «إن مصير ذلك الشاب سوف يكون سيئا.» متنبئين وهم واثقون أنهم هم أنفسهم سوف يعملون بأشخاصهم في الوقت المناسب على سوء المصير، ثم يقولون: «إنه لن يجد همجيا آخر يعينه على النجاة مرة أخرى.» ولكن الهمجي الأول كان على أية حال لا يزال ماثلا أمامهم، فكانوا متأدبين، وما داموا كذلك فقد كان برنارد يحس بعظمته الشامخة، كان يحس بالعظمة كما يحس بنشوة الغرور، وكأنه أخف من الهواء.
وقال برنارد مشيرا إلى أعلى: «أخف من الهواء.»
وتلألأ منطاد مصلحة الجو الأسير وردي اللون في ضياء الشمس، كأنه لؤلؤة في السماء، تعلو عليهم علوا كبيرا.
وجاء في أوامر برنارد أن: «هذا الهمجي يجب أن يطلع على الحياة المتحضرة من جميع وجوهها ...»
وكان الهمجي آنئذ يشرف من أعلى على هذه الحياة، ويلقي عليها نظرة عامة من رصيف برج تشيرنج-ت، وقام بإرشاده ناظر المحطة وعالم الطبيعيات المقيم، ولكن برنارد هو الذي تكفل بالقسط الأوفر من الحديث، وكان سلوكه - في نشوته - كأنه على الأقل مراقب عالمي زائر - أخف من الهواء.
وسقط من السماء صاروخ بومباي الأخضر، ونزل منه الركاب، وأطل من النوافذ الجانبية لإحدى غرف الصاروخ ثمانية توائم درافيديين (أي غير آريين) على صورة واحدة، يلبسون الكاكي - وأولئك هم خدام السفينة الطائرة.
وقال ناظر المحطة مؤكدا: «ألف ومائتان وخمسون كيلومترا في الساعة، ما رأيك في هذا أيها الهمجي؟»
وكانت تلك السرعة مدهشة حقا في رأي جون، غير أنه قال: «لكن أربيل يستطيع أن يطوق الأرض في أربعين دقيقة.»
وكتب برنارد في تقريره لمصطفى مند: «من العجيب أن الهمجي يبدي دهشة قليلة جدا - أو رهبة - من مخترعات المدنية، ولا شك أن هذا من ناحية يرجع إلى أنه سمع لندا ... تتحدث عنها». (وقطب مصطفى مند جبينه، وقال: «هل يحسب هذا الغبي أن التقزز يبلغ بي حد الاشمئزاز من رؤية الكلمة مكتوبة بتمامها؟».) «ويرجع من ناحية أخرى إلى تركيزه اهتمامه فيما يسميه «الروح» التي يصر على اعتبارها كائنا مستقلا عن البيئة الطبيعية، في حين أني حاولت أن أفهمه ...»
وغض المراقب طرفه عن العبارات التالية، وأوشك أن يقلب الصفحة باحثا عن شيء مادي أكثر تشويقا، عندما وقعت عيناه على سلسلة من العبارات البالغة في الغرابة، فقرأ ما يلي: «... ولكني أقر أني أوافق الهمجي على أن الطفولة في حياة المدنية يسيرة جدا، أو أنها - على حد تعبيره - تكلفنا أقل مما ينبغي، وأحب أن أنتهز هذه الفرصة؛ لأنبه سيادتكم إلى أن ...»
Bilinmeyen sayfa