وكانت ليننا تحب دق الطبول، فانغمضت عيناها واسترسلت مع ذلك الصوت المتكرر الذي يشبه قصف الرعد، ومكنته من أن يتغلغل في شعورها وإحساسها شيئا فشيئا، حتى لم يبق في العالم في نهاية الأمر، سوى نبضات الطبل الشديدة المتوالية، وذكرها ذلك الصوت تذكيرا قويا بالضوضاء المصطنعة، التي تحدث في صلاة الجماعة وفي الاحتفال بعيد فورد، فدمدمت قائلة «شولم، شولم.» إذ إن الطبل الذي طرق سمعها كان يدق على هذا النغم.
ثم تفجر الغناء بغتة فتنبهت ليننا. كانت أصوات المئات من الذكور تصيح معا بشدة، وكأنها رنين المعدن الغليظ، وأنشد المغنون بضع نغمات طويلة ثم صمتوا، وبقيت الطبول وحدها تجلجل كالرعد، ثم أجاب النسوة بصوت حاد كأنه الصهيل المرتفع، ثم عادت الطبول إلى دقها، وعاد الرجال المتوحشون إلى غنائهم، بصوت عميق يؤكد رجولتهم. عجيب حقا، كان ذلك المكان عجيبا، وكذلك كانت الموسيقى، وكذلك كانت الأزياء والغدد الدرقية المتضخمة، والأمراض الجلدية والشيوخ المسنون، أما الأداء نفسه فلم يكن فيه ما يستدعي العجب بصفة خاصة.
وقالت لبرنارد: «يذكرني هذا بالغناء الجماعي للطبقات الوضيعة.»
ولكن بعد فترة قصيرة لم يعد هذا الغناء يذكرها - كما كان يفعل من قبل - بغناء الطبقات الفقيرة الذي لا يعود على أحد بالضرر، إذ إنها شهدت بغتة جماعة شاحبة اللون، من أولئك المتوحشين تخرج من تلك الحجرات السفلية وتتجمهر، وكان أفراد تلك الجماعة يبدون في هيئة زرية، يختلفون عن البشر في مظهرهم كل الاختلاف، وقد بدءوا يدبون حول الميدان، وهم يرقصون رقصة غريبة مرتخية، وأخذوا يدورون حول الميدان مرة بعد أخرى مغنين وهم يرقصون - وكانوا يسرعون في كل رقصة عن الرقصة السابقة. وتغير دق الطبول وأسرع في النغم، حتى أصبح مسمعها كنبض الحمى في الآذان، وشرعت الجماهير تغني مع الراقصين، وعلا غناؤهم، وقد صاحت إحدى النسوة، ثم تبعتها ثانية فثالثة كأنهن يقتلن، وبعدئذ خرج عن الصف بغتة قائد الفرقة الراقصة، واندفع نحو صندوق خشبي كبير قائم في طرف من أطراف الميدان، ثم رفع الغطاء وأخرج ثعبانين أسودين، فانفجرت الجماهير صائحة، وجرى بقية الراقصين نحوه ومدوا له أيديهم، فألقى الثعبانين على أول القادمين ، ثم أدخل يده في الصندوق ليخرج غيرهما، وتكاثرت الثعابين، منها الأسود ومنها البني ومنها المرقش - وقد طوحها جميعا، ثم بدأ الرقص مرة أخرى على نغمة أخرى، فداروا حول الميدان يحملون الثعابين ويتلوون مثلها، ويتماوجون تماوجا خفيفا عند الركب والأرداف، ثم أشار لهم قائدهم، فألقيت الثعابين واحدا بعد الآخر وسط الميدان، وظهر حينئذ رجل عجوز من تحت الأرض ونثر فوقها دقيق الحنطة، وخرجت من الفتحة الأخرى امرأة رشت فوقها الماء من وعاء أسود، وعندئذ رفع الشيخ يده، فصمت الجميع مذعورين خائفين، وكفت الطبول عن الدق وكأن الحياة قد انعدمت من كل شيء، وأشار الشيخ صوب الفتحتين اللتين تؤديان إلى العالم السفلي، وقد برز من إحداهما تمثال نسر ملون، رفعته في بطء شديد أياد مختفية، وبرز من الفتحة الأخرى تمثال رجل عار مسمر فوق صليب، وبقيا هناك معلقين، وكأن كلا منهما يقيم نفسه، وكأنهما يرقبان. وصفق الشيخ بيديه، وتقدم من الجمع الحاشد غلام في الثامنة عشرة من العمر تقريبا، عاري الجسد لا يتستر إلا بقطعة يسيرة من القماش عند ردفيه، ووقف أمام الشيخ، ويداه متصالبتان فوق صدره، ورأسه منحن، فرسم الشيخ فوقه علامة الصليب ثم انصرف، فشرع الغلام يسير مبطئا حول كومة الثعابين الملتوية، وبعد ما أتم الدورة الأولى وقطع من الثانية نصفها، تقدم نحوه من بين الراقصين رجل طويل القوام، يتقنع بجلد الذئب ويمسك في يده سوطا من الجلد المضفور، فتحرك الغلام كأنه لا يعلم بوجود الرجل، فرفع الرجل المستذئب سوطه، وتعلقت الأنفاس لحظة طويلة في ارتقاب ما عساه يحدث، ثم تحرك الرجل حركة سريعة أعقبها صفير السوط وهو يهبط، وصوته الضخم وهو يمس جسد الغلام، واهتز جسم الصبي، ولكنه لم يحدث صوتا، بل واصل سيره محتفظا بخطوته البطيئة الثابتة، وأخذ الرجل المستذئب يضربه مرة بعد أخرى، وعند كل ضربة يعلو من الجمهور اللهاث، الذي يعقبه الأنين العميق، وظل الغلام يدور للمرة الثانية، فالثالثة، فالرابعة، والدم يتدفق منه، ثم دار للمرة الخامسة فالسادسة، فحجبت ليننا لفورها وجهها بيديها، ثم أجهشت بالبكاء ، وقالت متوسلة: «أوقفوهم، أوقفوهم.» ولكن السياط توالت بغير انقطاع، ودار الغلام دورته السابعة، ثم ترنح وخر على وجهه صريعا دون أن ينبس ببنت شفة، فانحنى فوقه الشيخ ومس ظهره بريشة طويلة بيضاء، ثم رفع الريشة ليراها الناس، فإذا بها قرمزية اللون، ثم هزها ثلاث مرات فوق الثعابين، وسقطت بضع قطرات، ثم شرعت الطبول تدق مرة أخرى مسرعة تثير الرعب، وسمعت صيحة عالية فاندفع الراقصون إلى الأمام، والتقطوا الثعابين وجروا بعيدا عن الميدان، وتبعهم الرجال والنساء والأطفال وكل الجمع المحتشد، وبعد دقيقة خلا الميدان ولم يبق به غير الغلام، منكفئا على وجهه ساكنا حيث خر، وخرج ثلاث من النسوة العجائز من أحد المنازل، ورفعنه في شيء من المشقة ثم أدخلنه الدار، وبقي النسر والرجل المصلوب برهة يحرسان القرية الخاوية، ثم هبطا مبطئين خلال الفتحتين واختفيا في العالم السفلي، وكأنهما اكتفيا بما شاهدا.
وما برحت ليننا تبكي وتكرر قولها: «هذا شيء مريع! تلك الدماء!» ولم يجدها عزاء برنارد نفعا، وارتعدت رعبا وفزعا، ثم قالت: «وددت لو تناولت السوما.»
وسمع في الغرفة الداخلية وقع أقدام، فلم تتحرك ليننا، بل لبثت مكانها ووجهها بين يديها، في عزلة عن العالم، لا ترى شيئا، والتفت برنارد وحده.
وبرز إلى الدهليز شاب في زي الهنود، غير أن شعره المضفور كان في لون القش، وعيناه زرقاوان شاحبتان، وجلده أبيض برنزي.
قال هذا الرجل الغريب في لغة إنجليزية عجيبة برغم خلوها من الخطأ: «أهلا، عموا غدا، إنكم قوم متمدنون، أليس كذلك؟ أتيتم من العالم الآخر خارج هذه المنطقة.»
فدهش برنارد وبدأ الكلام بقوله: «من ذا عسى أن يكون ...؟»
فتنهد الشاب وهز رأسه وقال: «إنه رجل بائس!» ثم أشار إلى لوثات الدم وسط الميدان، وقال: «هل ترون تلك البقعة اللعينة؟» وقد تهدج صوته من شدة العطف.
Bilinmeyen sayfa