وهمس برنارد، وقد حدق فيه بعينين واسعتين قائلا: «إنه مجنون، سوف يقتلونه، سوف ...» وارتفعت من الجماهير صيحة عالية، مفاجئة، وقد دفعتها حركة خفيفة نحو الهمجي مهددين، فقال برنارد، وقد التفت ناحية أخرى: «كان فورد في عونه.»
فقال هلمهلتز: «فورد في عون من كان في عون نفسه.» وضحك ضحكة ابتهاج فعلي، وشق طريقه وسط الجماهير.
فصاح الهمجي قائلا: «كونوا أحرارا، كونوا أحرارا.» واستمر يقذف السوما بيد واحدة في الفضاء، وأخذ يلكز باليد الأخرى وجوه المعتدين عليه، تلك الوجوه التي لا يتميز أحدها عن الآخر، «كونوا أحرارا.» وأدرك فجأة أن هلمهلتز صديقه الطيب القديم كان إلى جواره، واستمر يلكز ويقول: «لقد صاروا رجالا في النهاية!» وظل بين الفينة والفينة يقذف السم خلال النافذة المفتوحة، وقد ملأ به قبضة يده مرات عدة، «نعم، رجال! رجال!» ولم يبق شيء من السم، فالتقط الصندوق وأطلعهم على فراغه المظلم، وقال: «إنكم أحرار.»
وأعول الدالات وهاجموه بغضب مضاعف.
ووقف برنارد مترددا في حاشية المعركة، ثم قال: «لقد انتهت حياتهم.» ودفعه باعث مباغت، فهرع لمعونتهم، ثم راجع نفسه ووقف، غير أنه خجل فخطا ثانية إلى الأمام، وراجع نفسه مرة أخرى، ووقف متألما من هذا التردد المذل - يخشى أنهم قد يقتلون إذا لم يقدم لهم يد المعونة، وأنه هو نفسه قد يقتل لو فعل - وفي تلك اللحظة جاء رجال الشرطة مسرعين، عيونهم محملقة، وأنوفهم كأنوف الخنازير وهم يلبسون الأقنعة التي تقيهم الغازات، فحمدا لفورد!
فانطلق برنارد للقائهم، ولوح بذراعيه، وكانت تلك حركة لها قيمتها - وظن أنه قام بعمل شيء ما، وصاح عدة مرات: «المعونة، المعونة!» وعلا صوته تدريجا كي يتوهم المعونة.
فأبعده رجال الشرطة من طريقهم وباشروا عملهم، ونشر بخار السوما في الفضاء سحبا متكاثفة، ثلاثة رجال يحملون آلات للرش شدت إلى أكتافهم، وأخذ اثنان آخران يعملان حول صندوق الموسيقى المركبة الخفيف، وشق طريقهم وسط الجمهور أربعة آخرون يحملون المسدسات المائية محشوة بمخدر قوي، وأخذوا يصرعون أشد المقاتلين افتراسا، ويخدرونهم وهم يطلقون الماء من المسدسات بطريقة منظمة دفعة بعد دفعة.
وصاح برنارد قائلا: «أسرعوا، أسرعوا! إنهم سوف يقتلون إن لم تعجلوا، إنهم سوف ... أوه!» وقد أغضبت ثرثرته هذه أحد رجال الشرطة، فأطلق عليه دفعة من مسدسه المائي، ووقف برنارد لحظة أو لحظتين، وقد جاشت معدته وترنح على ساقيه، كأنهما فقدا العظام والأعصاب والعضلات، فأصبحتا عصوين من الهلام - بل ومن الماء في آخر الأمر، فخر مكوما على الأرض.
وبدأ يتكلم بغتة صوت صادر من صندوق الموسيقى المركبة، وذلك هو صوت العقل، وصوت الشعور الطيب، وانفضت صحيفة الآثار الصوتية، ونطقت عن الخطاب الصناعي رقم 2 (بالقوة المتوسطة) الخاص بمناهضة الثورات، وصدر الخطاب رأسا من أعماق قلب لا وجود له، وقال: «إخواني، أصدقائي!» بنغمة شجية تنطوي على تأنيب بالغ في الرقة، حتى إن عيون رجال الشرطة أنفسهم امتلأت لحظة بالدموع خلف الأقنعة الواقية من الغازات، ثم قال الصوت: «ما معنى هذا؟ لماذا لستم جميعا سعداء طيبين في عشرتكم؟ سعداء طيبين، في سلام آمنين.» ثم ارتعش الصوت وخفت حتى بات همسا ثم تلاشى حينا ما، ثم عاد يقول في حماسة وشغف: «إني أحب لكم السعادة، وإني لا أحب لكم أن تكونوا طيبين! فأرجوكم وألحف في الرجاء، أن تكونوا كذلك وأن ...»
وبعد دقيقتين كان للصوت وبخار السوما أثرهما، فتبادل الدالات القبلات والدمع ينهمر من عيونهم، وتعانقوا - كل ستة توائم دفعة واحدة في عناق شامل، وحتى هلمهلتز والهمجي كانا يبكيان، وجيء من المخزن بمدد جديد من صناديق الحبوب، ووزعت الأقراص على عجل من جديد، وبعدئذ تشتت التوائم على نغمة الوداع الموسيقية المشوبة بالمحبة الحارة، ينفطرون من البكاء حتى توشك قلوبهم أن تتحطم، «وداعا يا أعز أصدقائي، يحفظكم فورد! وداعا يا أعز أصدقائي ... يحفظكم فورد، وداعا يا أعز ...»
Bilinmeyen sayfa