فأما ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وأنا فقد ارتحلنا عن مكة بعد خطوب وألوان من الجهد، نلتمس الدين عند أهل الكتاب من يهود، وعند أهل الكتاب من نصارى الروم.
وأما عبيد الله بن جحش فقد أقام في مكة حائرا ينتظر. ولم ندر إذا ماذا كان ينتظر. ولكني قد علمت الآن أنه كان ينتظر أن يهبط دين إبراهيم من السماء على مقام إبراهيم في الأرض، من طريق فتى من فتيان قريش. إني لأذكره الآن وأتمثله وأراه وكأني أسمع له. لم يشاركنا في عيدنا ذاك، وما رأيته قط يشاركنا في عيد من أعيادنا تلك التي كنا نقيمها حول الأوثان. لقد فهمت الان، لقد كنت أراه يعتزلنا إذا عكفنا على أصنامنا. ولقد كنت أعجب من أمره. ولقد هممت غير مرة أن أسأله ما باله لا يأخذ مع قومه فيما يأخذون فيه؟ وما باله لا يطوف بالكعبة إلا فردا؟ ولكني كنت أرد عنه ردا كلما هممت بسؤاله. وكثيرا ما سألت نفسي: ما الذي يصرفني عنه حين كنت أقبل عليه؟
لقد فهمت الآن! ما كان الله ليختار لرسالته رجلا عكف على صنم، أو تقرب إلى وثن، أو شارك قومه في بعض الإثم.
لقد كان محمد منزها عن حب الأصنام والقرب منها، وعن عبادة الأوثان والعكوف عليها، وعن مشاركة قومه فيما كانوا يغرقون فيه من الآثام. ولقد كان محمد يعيش وحده، وإن كنا نرى أنه كان يعيش معنا! لقد فهمت الآن!
ثم يطرق زيد بن عمرو إطراقا طويلا، ثم يرفع رأسه إلى صاحبه قائلا: ولكني لم أتمم لك الحديث. لقد ارتحلنا من مكة إلى بلاد الروم، فجعلنا نسأل اليهود عن دين إبراهيم، فيعرضون علينا ما عندهم، فلا نرضاه ولا نطمئن إليه. ثم عدلنا عنهم إلى رهبان النصارى وأحبارهم، فما يكادون يقرءون علينا كتبهم ويظهروننا على بعض ما عندهم من العلم حتى يؤمن صاحباي وتطمئن قلوبهما إلى النصرانية. فأما ورقة بن نوفل فقد أخذ منها بحظه، ثم عاد إلى وطنه على أن يقيم فيه على عبادة الله وإكبار المسيح.
وأما عثمان بن الحويرث فلم تعجبه النصرانية وحدها، ولكن أعجبته بلادك فهام بها، وفتن بحضارتها، ومضى إلى قسطنطينية ليعيش فيها عيشة الروم، ويموت فيها ميتة الروم. وأما أنا فلم يعجبني أمر النصارى كما لم يعجبني أمر يهود. رأيت في هذا وذاك أشياء لم أفهمها ولم أذقها، ولم أحس ملاءمتها لقلب هذا العربي الساذج السمح اليسير. وما شككت في أن اليهود والنصارى قد عقدوا أمورهم تعقيدا ، وأخرجوها عن طبيعتها السمحة ويسرها الأول. فجعلت أطوف على أدياركم في الجزيرة والشام، حتى لم أدع منها ديرا إلا طرقته، وسألت من فيه من الأحبار والرهبان. فلم أجد عند أحد منهم شيئا، وإنما هو كلام أسمعه ولا أفهمه، وعلم أحفظه ولا أحصله، وألغاز لا أهتدي إلى حلها، وأسرار يعجزني كشفها، حتى أنتهي إلى صومعة في البلقاء، يقيم فيها راهب فذ لا يعايشه أحد؟ فأسأله عن دين إبراهيم، فينبئني بما أنبأتك به من أن دين إبراهيم ليس في بلاد الروم، ولكنه سيهبط على بلاد العرب، وقد آن أوان ظهوره فيها. فأعود إلى وطني، وألقاك في بعض الطريق، وإذ أنت تعلم من الأمر ما أعلم، وتنتظر منه ما أنتظر، بل أنت تعلم أكثر مما أعلم، وتنتظر أكثر مما أنتظر.
قال صبيح وقد بهره ما سمع: فإنك قد علمت من أمري ما علمت، ورأيت أن حيرتك في بلادك لا يشبهها إلا حيرتي في بلادي. وإني قد طوفت في الأرض كما طوفت أنت فيها، وانتهيت من الأمر إلى مثل ما انتهيت أنت إليه. وما أرى إلا أن الله قد استنقذنا من الحيرة، ورد إلى قلوبنا الثقة والاطمئنان. ولئن بلغنا الحجاز وانتهينا إلى هذا الفتى القرشي لنكونن أسعد الناس به، وأحرص الناس على اتباعه.
قال زيد بن عمرو: ولنمنحنه ما نملك من نصر وتأييد، ولنعيننه على إظهار أمره وتبليغ رسالته إلى الناس، وليعلمن الخطاب بن نفيل عمي الذي كان يؤذيني ويغري بي السفهاء من شباب قريش أني لم أكن واهما ولا متكلفا.
قال صبيح: نعم! ولكن متى نبلغ الحجاز؟ ومتى ننتهي إلى سيد قريش؟
قال الشيخ: ليس الأمد بيننا وبين مكة بعيدا، وإنما هي أيام وليال، ننفق أكثرها في هذا الحديث الذي يعيننا على السفر، ويحمينا من أنصابه وأوصابه، ويجدد عزيمتنا، ويثبت قلوبنا، ثم ننتهي إلى ما نحب، ونظفر بما نريد.
Bilinmeyen sayfa