وهو الآن ينظر إلى سيرة سادته معه وأمرهم فيه، فيرى عجبا. هؤلاء القوم الغلاظ الجفاة، الذين يحيون حياة خشنة كلها غلظة وشظف، قد رقت قلوبهم لهؤلاء العبيد، وعطفت نفوسهم عليهم، فهم يخلطونهم بأنفسهم في أكثر ألوان الحياة، لا يكادون يمتازون منهم في شيء إلا في هذه الأمور التي ترضي غرور الرجل البدوي.
هم لا يكلفونهم جهدا إلا وهم يتكلفون مثله، ولا يحملونهم مشقة إلا وهم يتحملون مثلها، ولا يؤثرون أنفسهم من دونهم بطيبات الحياة، وإنما يشاركونهم عن طيب نفس وقرة عين فيما يتاح لهم من هذا الرزق اليسير الذي تنبته لهم الأرض حين يبلها الغيث. وهم لا يستمتعون بنعمة طارئة أو لذة عارضة إلا أشركوهم في بعض ما يستمتعون به. وإذا استأثروا من دونهم بشيء فإنما يستأثرون بالجهد والمشقة: يستأثرون بالحرب مدافعين ومهاجمين، مغيرين على العدو وذائدين عن الحرمات. وهم بعد لم يتحضروا ولم يتثقفوا، ولم يبنوا المدن، ولم يشيدوا القصور، ولم يستمتعوا بألوان اللذة والترف، ولم يذوقوا علم أرسطاليس، وفلسفة أفلاطون، ولكنهم على فطرتهم الأولى، أو هم لم يجاوزوا فطرتهم الأولى إلا قليلا.
فكر «كلكراتيس» في ذلك تفكيرا متصلا طويلا، فتغير رأيه في أشياء كثيرة، وكون لنفسه قيما أخرى مخالفة لتلك القيم التي كان يقدر بها الحياة حين كان روميا متحضرا مترفا. وما له لا يفعل وقد أصبح عبدا بدويا يعيش عيشة الأعراب؛ فليفكر تفكير الأعراب إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
والواقع أنه شارك هؤلاء الأعراب في كل شيء، فأخلص لهم الحب، وأضمر لهم النصح، واستيقن فيما بينه وبين نفسه أنه واحد منهم، يسوءه ما يسوءهم، ويسره ما يسرهم، وإن فراقهم إن أتيح له سيكون عليه عسيرا وإليه بغيضا. ولعله لو مهدت له سبل الإفلات من هذا الرق لأبى أن يفارق هؤلاء الناس الذين استرقوه وبغوا عليه. ولم يفارقهم وهو لم يفقد عندهم من عزته وكرامته شيئا، وهو لم يستمتع قط بحرية نفسه واسعة مطلقة بعيدة الآماد كما يستمتع بها في هذا الطور من أطوار حياته؟ إنه أسير الجسم، ولكنه حر العقل إلى أبعد مدى. أسير الجسم إلى حد ما؛ فقد يكون من العسير عليه أن يحاول الهرب أو الإفلات، ولكنه حر فيما دون ذلك، يذهب ويجيء إلى أي وجه أحب، وعلى أي نحو أراد. وقد وثق به سادته واطمأنوا إليه؛ فهم يكلون إليه أموالهم ويأمنونه عليها، ويثقون بتدبيره لها وذياده عنها وعنايته بها. فإساره ظاهر لا يكاد يكون له ظل من الحق. فأما حرية عقله فلم تمس ولم يضيق عليه منذ أقام بين هؤلاء الناس. لم يسألوه قط عن رأيه، ولم يمتحنوه قط في دينه، ولم يراقبوه قط فيما ينكر أو يعرف من الأمر. وقد فكر الفتى فيما يمكن أن يكون لهؤلاء الناس من رأي ودين، فأعجبه من أمرهم ما رأى وإن كان لم يرضه لنفسه، ولم يتخذه لها رأيا ودينا.
لم يرهم قط يعبدون إلها أو يتقربون إليه بالطاعة وفنون الضحايا، وإنما سمعهم يديرون بينهم أسماء آلهة يذكرونها ولا يحققونها، ويظهرون الخوف منها والإكبار لها، ولكنهم لا يبذلون في إرضائها وتملقها جهدا ما. هم أحرار الأنفس أحرار الضمائر، كأنما اشتقوا حرية نفوسهم وضمائرهم من حرية هذا الهواء الطلق الذي يتنفسونه ويعيشون فيه.
وهم أحرار الأجسام أيضا، لا تقيدهم المدن ولا تحبسهم القصور والدور، ولكنهم ينزلون ويرحلون متى دعتهم حاجتهم إلى أن ينزلوا أو يرحلوا. حرية مطلقة يستمتع بها الجسم، وحرية مطلقة تستمتع بها النفس والضمير.
كل ذلك كان يعجب الفتى ويرضيه. وكل ذلك كان يعزيه عما فقد، ويسليه عما احتمل، ويغريه بالإقامة على حب هؤلاء الناس والوفاء لهم. ولكن شيئا واحدا لم ينسه قط ولم تسل عنه نفسه قط، وإنما كان ذكره له يزداد، وشوقه إليه يقوى ويشتد، وتفكيره فيه يتصل، ولا سيما إذا جنه الليل وخلا إلى نفسه وأبى أن يأوي إلى خيمته، أو يطمئن في مضجعه، وآثر الجلوس في العراء مسرحا طرفه أمامه يرى حينا ولا يرى حينا آخر، مرسلا نفسه في هذه الصحراء تهيم في غير وجه وتذهب في غير طريق وكان تفكيره فيه يتصل إذا أصبح فطرد الإبل أمامه إلى مراعيها، ثم انتهى إلى حيث يستطيع أن يخلي بينها وبين ما ترعى من الكلأ والعشب، ويفرغ هو لنفسه يريد أن يستقصي أخبارها، ولضميره يريد أن يتعمق أسراره، وهو هذا المكان البعيد الذي كان يعيش فيه ذلك الصبي العربي اليتيم.
الصبي! كلمة كانت تجري على لسانه وتتردد في ضميره؛ لأن العادة قد أجرتها على لسانه ورددتها في ضميره منذ ذلك اليوم البعيد الذي قضاه مع رفيقه «بحيرى» في الصحراء. وكم مضى بعد ذلك اليوم من أيام! وكم انقضى بعد ذلك اليوم من أشهر وأعوام! وكم تغير بعد ذلك اليوم من شأن! وكم حدث بعد ذلك اليوم من أمر؟! لقد كان هو في ذلك اليوم فتى روميا غض الشباب، نضر الجسم، قارح النفس. لقد أخذ شبابه يتولى عنه، وأخذ جسمه يفقد نضرته، وقد أخذ وجهه يتجعد ويربد، وقد أخذ قلبه يهدأ، وقد أخذت نفسه تحس الفتور. ليس هو الآن فتى روميا، ولكنه عبد كهل قد تقدمت به السن ونيف على الأربعين، وقد ثقل جسمه ونفسه بعض الشيء، فهو لا يسرع إذا مشى، ولكنه يسعى في رزانة وأناة. وهو لا يسرع إذا تحدث، ولكنه يتكلم في ريث ووقار. وهو لا يسرع إذا فكر، وإنما تخطو نفسه إلى خواطرها وآرائها خطوات متقاربة تسيطر عليها الدعة والهدوء.
ليس هو فتى روميا الآن، ولكنه كهل قد بلغ الشيخوخة أو كاد يبلغها! فما ينبغي أن يكون ذلك الصبي العربي صبيا كما كان حين رآه «بحيرى» وتحدث عنه بتلك الأعاجيب. لقد مضت الأيام وتبعتها الأيام، وقد مرت السنون وتبعتها السنون، ولقد صار هو كهلا، فيجب أن يكون ذلك الصبي العربي قد صار فتى غض الشباب نضر الجسم، قارح النفس، بعيد الهم، ذكي القلب، كريم الخلق، سمح الطبع، معتدل المزاج.
من لهذا الكهل الرومي الغريب بأنباء ذلك الفتى العربي الذي يقيم في واد بعيد من أودية الحجاز؟ ماذا جد من أمره؟ ماذا أحدثت له الأيام؟ عم تكشف الغيب؟ أتراه قد أنبئ ببعض ما خبئ له وما خبئ للناس على يديه؟ أتراه قد أظهر أمره أو كاد يظهره؟ إن هذا الحي من كلب بن وبرة ليضطرب في جانب من الأرض العريضة، يذهب فيه ذات اليمين وذات الشمال، ويذهب فيه إلى أمام وإلى وراء، ولكنه لا يبعد ولا يدنو من هذه الطرق التي تمر منها القوافل آتية من الحجاز أو عائدة إليه.
Bilinmeyen sayfa