قال «أندروكليس»: راهب شيخ يلقاه الحاكم حفيا به، مكبرا له، متبسطا معه. من عسى أن يكون؟!
قال «كلكراتيس»: وهو يريد أن نلقاه، ويتعجل مقدمنا إن أبطأنا ! أفتراه قد دعا هذا الراهب ليعظنا ويفقهنا في الدين؟ إنه ليحرق السفن من ورائه، ولا يكفيه أن يسمع لمشورتك، بل يسرع إلى العمل بها إسراعا. ما أشد حرصه على رضا.
ولم يمكنه «أندروكليس» من إتمام مقالته، وإنما غمزه مسرعا وقال للحاجب: أفلا تريد أن تستأذن لنا؟
قال الحاجب: نحن لسنا في حاجة إلى ذلك! فقد أمرنا أن ندخلكما عليه فورا.
ثم مضى أمامهما وتبعاه، ثم انفرجت لهما الأستار واجتمعت من دونهما. ولم يكادا ينظران إلى هذا الراهب الشيخ الذي كان يتحدث إلى صديقهما في أناة وهدوء، حتى أخذهما الدهش، ودفعا إلى الشيخ دفعا وهم يصيحان بصوت واحد: كلينيكوس!
ونهض الشيخ لهما في رزانة ووقار، فضمهما إليه، وقبلهما تقبيل الوامق المشوق، وبارك عليهما في غير تكلف ولا تصنع، وهو يقول: فقد أذن الله لي أن أراكم جميعا قبل أن أترك هذه الأرض.
قال «كلكراتيس»: فإنك قد تركت هذه الأرض عن رضا وتعمد. وما أدري ماذا أزعجك عنها! وما علمت قط ماذا صرفت عما كنت فيه من حياة ناعمة وعيش لين. وما كنت أحسب أن فراق الأصدقاء يهون عليك إلى هذا الحد، وأن نفوس الناس تتجافى عن أوطانها على هذا النحو.
وهم الشيخ أن يجيب، ولكن «أندروكليس» قال متعجلا: عجبا للذين ينكرون على الناس، ولا ينكرون على أنفسهم. فإني أشاركك فيما تقول لكلينيكوس، ولكني أحب أن تقوله لنفسك. ثم التفت إلى حاكم المدينة قائلا: ولكنك تجهل من أمره كل شيء. فاعلم أنه قد أزمع الهجرة عن هذه الأرض، وهو الآن يفكر في مهاجره الذي يقصد إليه ويستقر فيه.
وأظهر الحاكم دهشه وإنكاره. ولكن الراهب الشيخ نظر إلى «كلكراتيس» نظرة حب وحنان، وقال: فقد مسك إذن جناح من رحمة الله وأنت تريد الفراغ له، والخروج لطاعته عن حياتك الناعمة، وعيشك اللين، وأيامك المقبلة التي قد تكون حافلة، إن انتظرتها، بالسلطان والجاه. فلا تلتمس مهاجرا ولا تفكر فيه، ولكن ارتحل معي من الغد، أو ارتحل في أثري إن احتجت إلى أيام تصلح فيها أمر من تترك وراءك من الأهل والصديق: فما أراك تجد ديرا أرفق بك من ديرنا، وما أراني أهدي إلى ديرنا خيرا منك.
قال «أندروكليس»: فإنك لم تأت للقائنا إذا، وإنما أتيت للتفريق بيننا. وما كفاك أن انتزعت نفسك من وطنك وصديقك انتزاعا حتى تريد أن تنتزع «كلكراتيس»!
Bilinmeyen sayfa