قالت الفتاة: إن لهذا الصوت تاريخا لو عرفه أصحاب السلطان لحظروا غناءه على فتيات الريف.
قال الحاكم: سأعرفه ولك علي ألا أحدث في أمره شيئا.
قالت: فإنه صيحة من تلكم الصيحات التي انبعثت من نفوس الشعب حين فرض عليها دين المسيح وصدت في قوة وعنف عن دين الآباء والأجداد. ألم تسمعوا إلى ألفاظه؟ ألم تفهموا معانيه؟ إنها تسأل عن نجم كان يشرق في السماء إذا تقدم الليل، وكان يبعث مع أشعته إلى نفوس الناس لذة وحبا وأملا، وكان الناس ينتظرون مطلعه ليتلقوا أشعته التي كانت تحمل إليهم الحياة، وتجدد في نفوسهم الأمل، وتمس قلوبهم بأجنحة الحب المحرقة. فلما فرض عليهم الدين الجديد فرضا وأخذوا بالإعراض عن حياة آبائهم وأجدادهم أخذا عنيفا، أعرضوا كارهين عن هذا النجم، فأخذوا لا ينتظرون مطلعه، ولا يستقبلون أشعته، ولا يرسلون نفوسهم إليه إذا جنهم الليل إلا أقلهم؛ فقد كانوا يترقبونه خفية ويستقبلون أشعته سرا، ويرسلون إليه نفوسهم من وراء الحجب. وكأن هذا النجم قد أنكر إعراض عباده عنه، وضاق بجحودهم لما كان يسدي إليهم من يد، ويصنع فيهم من معروف، أو كأنه أشفق من هذا الإله الجديد الذي ملأ عليه أرجاء الأرض وآفاق السماء، فترقبه عباده الليلة بعد الليلة، والليالي بعد الليالي ولكنهم لم يجدوه، وأرسلوا إليه نفوسهم ولكنها عادت إليهم باليأس والإخفاق، وبالحسرة واللوعة، وبالجزع والقنوط.
فهذا الصوت سؤال ساذج، توجهه النفوس الساذجة إلى السماء الصامتة وإلى النجوم الخرساء، تسألها عن نجمها الذي أضلته ما خطبه؟ وأين يمكن أن يكون؟ وهل لها إليه من سبيل؟ فلا ترجع عليها السماء جوابا، ولا ترد عليها النجوم صدى، كأنما أدركها الصمم، وكأنما عقدت ألسنتها عن الكلام. ومع ذلك فما كان أكثر ما تسمع السماء والنجوم لأهل الأرض! وما كان أكثر ما يسمع أهل الأرض لحديث السماء والنجوم!
قال «كلكراتيس»: فهو ذاك يا ابنتي! وإنك لتتحدثين إلينا بحديث أنفسنا، وتعرضين علينا صورة قلوبنا، فما أكثر الذين يلتمسون هذا النجم أو نجما يشبهه في السماء فلا يجدونه! وما أكثر الذين يسألون عن هذا النجم أترابه التي تبدو إذا جن الليل فلا يظفرون منها بشيء!
قال «أندروكليس»: إن النجوم صماء قد آذاها صوت هذه النواقيس التي تقرع من كل بيعة في كل قرية، وفي كل وجه من وجوه المدن، فتملأ الجو بهذا الرنين والطنين، وتبسط بين أصوات الناس وأسماع النجوم حجابا صفيقا لا يخترقه السؤال ولا ينفذ منه الجواب.
قال حاكم المدينة وهو يتكلف الوقار ويتصنع الهيبة: مهلا! إنكم تلحدون في دين قيصر! وإنكم تعلمون أن قيصر قد أعد للملحدين في دينه عذابا شديدا، وإني أنا الموكل بهذا العذاب. لقد آمنتك يا ابنتي على نفسك وعلى صوتك هذا الجميل، فلا بأس عليك! ولكن خذي إن شئت في غير هذا الغناء، أو أريحي نفسك لنأخذ نحن في غير هذا الحديث.
وخلا الحاكم بعد ساعة إلى صاحبيه، ولكنه لم يخض معهما في لون آخر من ألوان الحديث، وإنما حذرهما وحذر نفسه أيضا من هذا التهاون والتفريط، وذكرهما وذكر نفسه أيضا بأن قيصر لا يعرف هوادة في الإلحاد، ولا لينا مع الملحدين، وبأن الوثنية إثم يعاقب عليه القانون أشد العقاب: تصادر فيه الثروة، وتستصفى فيه الأموال، وتسفك فيه الدماء.
قال الحاكم: وقد أقامني قيصر كما تعلمان حفيظا على دينه، كما أقامني حفيظا على سياسته ومدبرا لأمره في هذا الإقليم، فكيف به لو ارتفع إليه بعض ما نحن فيه! وكيف به لو علم أنه قد آمنني على الدين فأنا أخونه في الدين، وأعين اثنين من صديقي على مثل ما أمعن فيه من خيانة!
قال «أندروكليس»: هون عليك فإنا لم نزد منذ الليلة على ما تعودنا أن نفعل وأن نقول منذ أعوام، قبل أن تلي الحكم وبعد أن وليته، ولم يرتفع إلى قيصر من أمرنا شيء، فماذا يخيفك؟ وماذا يدعوك إلى هذا الغلو في التحفظ والإغراق في الاحتياط؟ أمشفق أنت من هذه المغنية المصرية التي لا يبلغ صوتها ما وراء غرفتك وحجراتك، ولا تتصل الأسباب بينها وبين أحد غيرك من الناس؟
Bilinmeyen sayfa