ديار بني سعد، وإنك لتعلمين أن أتاننا منهوكة مكدودة، وأن شارفنا ما تبض قطرة من لبن. قالت؛ فلنقم فإن الأطفال يولدون، ولعل الله أن يرزقنا بين اليوم وغد رضيعا نجد عند أهله ما يرضينا.
وهم المراضع بالقفول، وأخذت بنت أبي ذؤيب تنظر إليهن محزونة مكلومة، يؤذيها ما ترى من إنجاحهن وإخفاقها، ومن قفولهن وتخلفها. وأخذ الأعرابي ينظر إلى رفاقه يشدون الرحال على المطايا، ويحملون النساء على الأتن، فيؤذيه ذلك ويغيظه، ولكنه يخفي ما يجد من الغيظ ويظهر التجلد والصبر. حتى إذا مضى اليوم وأمعنوا في الطريق وبعدوا عن مرمي العين، نظر الرجل إلى امرأته، ونظرت المرأة إلى زوجها، ونظر الزوجان إلى ابنهما واستمعا لبكائه، وإذا هي تقول لزوجها: ما أدري! لعلي لم أحسن حين جاريت أترابي وأعرضت عن هذا اليتيم، وإن نفسي لتنازعني إليه، وإن قلبي ليعطفني عليه، وإني لأحس كأنه يدعوني، وأني لأشعر كأني لا أستطيع عنه صبرا، وإني لأرجو إن استجبت لهذا الدعاء الخفي أن يكون الله قد قدر لنا خيرا وآثرنا ببعض ما نحب! قال: فلا عليك يا ابنة أبي ذؤيب! اذهبي إلى يتيمك فخذيه؛ فإني أكره أن يرحل القوم ونبقى، وأن يصلوا إلى ديار بني سعد، فيتحدث المراضع أنهن قد ظفرن بالرضعاء، وأن نفوس الآباء والأمهات قد انصرفت عنك وزهدت فيك.
وتنهض بنت أبي ذؤيب فتعود إلى آمنة فتعرض عليها إرضاع الطفل، وإذا آمنة تأبى وقد آذاها ما رأت من إعراض المراضع وانصرافهن، وعلى وجهها آيات حزن عميق، وفي صوتها بقية من بكاء، وأمتها بركة تعينها على الإباء وتحرضها على الامتناع. ولكن ابنة أبي ذؤيب تنظر إلى الطفل فإذا قلبها يمتلئ حبا له، وإذا هي تحس أنها مدفوعة إليه دفعا، وإذا هي تسرع إلى الطفل فترفعه بين يديها وتدنيه من صدرها، وإذا الطفل يلتمس الثدي كأنما كان منه على ميعاد، وإذا هو يشرب حتى يروى، وإذا بنت أبي ذؤيب تجد من اللبن ما لم تكن تجد من قبل، وإذا آمنة تستجيب لها، وكيف تأبى عليها وقد رأت من حبها للطفل ومن إقبال الطفل عليها ومن إرضاعها له ما رأت! لقد أصبحت هذه الظئر له أما. قالت آمنة: خذيه ولا تراعي؛ فإني لأرجو ألا تجدي منه إلا خيرا؛ فلقد حملته فما وجدت له ثقلا، ولقد انتظرته تسعة أشهر فما أحسست مما يحس النساء قليلا ولا كثيرا. ولولا غاشية الحزن التي غشيتنا بفقد أبيه لكانت هذه الأشهر أسعد ما تظفر به امرأة من دهرها. ولكن الحوادث تحدث والخطوب تلم والآمال تقطع وقد كان يرجى أن تتصل، والسحب تتراكم فتحجب ضوء الشمس! ولقد وضعت هذا الصبي فما عرف صاحباتي علي وعليه شيئا مما تعودن أن يعرفن على الأمهات والولدان. وإنك لتنكرين يا ظئر لو تسمعين. قالت حليمة: وماذا أسمع؟ وماذا أنكر؟ قالت آمنة: لم أكن تلك الليلة في دار من دور قريش، وإنما كنت في مكان لم يألفه الناس: كنت في بحر من النور كله رحمة وبر ورضوان. وما لك لا تنكرين هذا يا ظئر وقد أنكرته أنا وأنكرته صواحبي! ومالك لا تعجبين يا ظئر وقد عجبت وعجبت صواحبي وعجب جده الشيخ! سلي حاضنته هذه تنبئك بما رأت وما سمعت. سلي من شئت من نساء بني هاشم ورجالهم تعلمي أن لابني هذا اليتيم شأنا ليس لغيره من أبناء الأغنياء وأهل اليسار. لا تراعي يا ظئر؛ فإنك تحملين وليدا كريما لأب كريم، وجد كريم. ثم انهلت من عينها دموع غزار، وقالت في صوت يقطعه البكاء: لا تيأسي يا ظئر؛ فإن معروفنا على قلته سيصل إليك، ورب قليل خير من كثير. قالت حليمة: وقد رق قلبها، وجادت عينها ببعض الدمع على غير عادة الأعرابيات: لا بأس عليك يا ابنة وهب! فإني والله ما استطعت صبرا على هذا الصبي منذ رأيته. وإني والله ما أدري ما الذي عطفني عليه حتى رجعت إليك آخذه منك. وقد كنت أستطيع القفول، وقد كنت أستطيع المكث في بلدكم هذا يوما أو أياما؛ فالأطفال يولدون، وسراة قريش في حاجة إلى المراضع كل يوم، ولكنه والله أمر يراد. وانصرفت حليمة بابنها الجديد راضية مسرورة، قانعة بما زودتها به آمنة من البر والمعروف. حتى إذا انتهت إلى زوجها الأعرابي لقيها باسم الثغر، مشرق الوجه، سعيدا أن لم تعد إليه صفر اليدين. ولم يكد ينظر إلى الطفل حتى انطق لسانه، وإذا هو يقول لامرأته: إيه يا ابنة أبي ذؤيب! ما رأيت كاليوم وجها مشرقا يفيض منه البشر؛ إني والله لأرجو أن يكون لنا من هذا الغلام خير.
وينهض الأعرابي إلى شارفه يلتمس في ضرعها الجاف قطرات من لبن يبل بها ظمأ امرأته، وينقع بها بعض غلته. فما أسرع ما يأخذه عجب لا ينقضي حين يرى شارفه حافلة تمنحه من اللبن ما يريد وما تريد امرأته، وفوق ما يريد وما تريد امرأته. وينظر الأعرابي فإذا ابنه الأول يجد عند أمه ما يرويه ويرضيه، وإذا وجهه الكالح المظلم قد أخذ يشرق ويضيء، وإذا ابتسامة حلوة طاهرة قد ارتسمت على ثغره البريء، وإذا هو يقول لامرأته: تعلمي يا ابنة أبي ذؤيب أنك قد حملت نسمة مباركة!
وتنهض الظئر إلى أتانها فتركبها وتضع الرضيع بين يديها، وينهض الأعرابي إلى شارفه فيمتطيها، ويرميان بنفسيهما في الطريق يلتمسان الركب من بني سعد، والركب بعيد قد دفع به في الطريق طويلة نائية. ولكن الأعرابية تجد من أتانها نشاطا وحدة، ولكن الأعرابي يجد من شارفه قوة ومرحا، وهما يمضيان وكأنهما تطوى لهما الأرض طيا. ثم يقول الأعرابي لامرأته: مدي عينيك يا ابنة ذؤيب. أترين شيئا؟ قالت: أي والله أني لأراهم، وإنهم لأدنى من مرمى العين. وما هي إلا أن يبلغ الأعرابي جماعة بني سعد، فيعجب الناس بأمر حليمة وقد أدركتهم في غير جهد ولا كد. والأمد بعيد والطريق شاقة. ويسأل النساء حليمة عن هذا الرضيع الذي تحمله، فإذا أنبأتهن بنبئه أظهرن لها الرقة والرثاء، وأضمرن التيه والكبرياء. ويمضي الركب آخذا بأطراف الحديث، وإن حليمة لتسبق أترابها حتى تعييهن، وإن أترابها ليقلن لها: أهذه أتانك يا ابنة أبي ذؤيب التي أقبلت بك إلى مكة؟ فتقول: هي والله أتاني ما غيرتها. فيقلن: اربعي علينا
2
يا ابنة أبي ذؤيب؛ فما رأينا كاليوم مرحا ولا عدوا.
ويبلغ الركب ديار بني سعد، ويثوب المراضع إلى بيوتهن، ويستأنفن حياة أهل البادية في أرض مجدبة قل فيها الرعي والماء، وكثر فيها البؤس والشقاء. وغنم حليمة ترعى كما ترعى الغنم، ولكنها تروح ملاء حفلا لا يظمأ أصحابها ولا يجوعون، وتروح غنم السعديين مهزولة نحيلة ناضبة، لا تكاد تبض بما يبل الريق. وهم يقولون لرعاتهم: ويلكم! ارعو حيث ترعى غنم ابنة ذؤيب. فيقول الرعاة: والله إنا لنرعى حيث ترعى، وإنها والله لا تجد أكثر مما نجد، ولكنها تروح ملاء ونروح بغنمنا كما ترون، لا تغني من ظمأ ولا جوع. فيقولون: إن لابنة أبي ذؤيب لشأنا. وتنعم حليمة وينعم أبناؤها بحياة راضية هادئة، وينمو رضيعها ويزكو. وتقضي هذه الأسرة عامين راضيين لا تعرف فيهما مشقة ولا جهدا، ولا تجد فيهما ألما ولا سقما، وإنما هي أيام وليال تطرد ويمضي بعضها في أثر بعض لا كدر فيها ولا تنغيص حتى إذا آن للرضيع أن يثوب إلى أمه نظرت حليمة وزوجها فإذا الطفل قد نما وزكا كأحسن ما ينمو الأطفال ويزكون، لم يكد يتم الثانية وكأنه ابن أربع، والقوم عليه حراص، ولكنهم يؤدونه على ذلك إلى أمه كارهين.
ثم تهم حليمة أن ترجع وقد أرضت آمنة وعبد المطلب، وأرضتها آمنة وعبد المطلب، ولكنها لا تستطيع فراق الطفل حبا له وحدبا عليه، ورغبة في استبقاء ما وجدت في استصحابه من خير؛ فتلح على آمنة أن ترده معها إلى البادية، هناك حيث الهواء النقي، والسماء الصافية، والحياة الهادئة البريئة، هناك حيث لا مرض ولا وباء ولا فساد. وتجيبها آمنة إلى ما أرادت وقد آثرت الطفل على نفسها، وضحت بلذة الأمومة في سبيل تنشئ ابنها تنشيئا صالحا. وهل عرفت آمنة إلا التضحية! وتمضي حليمة بالصبي راضية، وتبقى آمنة في مكة محزونة. وتنظر بركة إلى حليمة نظرات فيهن الحسد. وتنظر بركة إلى آمنة نظرات فيهن اللوم.
قلت لمحدثي: فكيف قضى الصبي أيامه بعد ذلك في البادية؟ وكم أقام عند ظئره في ديار بني سعد؟ قال: إن لهذا لحديثا عجيبا، مهما أبلغ من البراعة وقوة البيان فلن أقصه عليك في تلك السذاجة الحلوة الأخاذة التي كان يقصها مكحول على أهل الشام. فاسمع حديث مكحول فإنك واجد فيه مثل ما وجدت من اللذة والعظة والعبرة والمتاع.
Bilinmeyen sayfa