ولكن عبد المطلب لم يفرغ من شأنه ذاك، ولم يعد إلى المسجد مع العصر، حتى رأى أندية قريش متجمعة فيه، تلهج كلها بحديث غريب ونبأ طريف! أذاعه في مكة رجل من أهل الظواهر، فشغل به الناس وتناقلوه. وكان هذا الرجل طلبة أهل المسجد، ينتقل بحديثه من ندي إلى ندي، فلا يكاد يتم حديثه إلى قوم حتى يدعوه إليهم قوم آخرون ليسمعوا منه ويسألوه. وكان يستجيب لمن يدعوه، ولا يزهد في أن يعيد قصته مرة ومرة، وكأنه قد أحس لنفسه خطرا، وكأنه قد رأى نفسه مطلوبا بعد أن لم يكن من قبل إلا طالبا، وكأنه قد كبر في نفسه، فكان يقول ويطيل في القول، وكان يفصل ويغرق في التفصيل. وكانت أفناء قريش تسمع له، فمنها من يعجب، ومنها من يرتاع، ومنها من يلقى الحديث بالإغراق في الضحك، ومنها من يلقى الحديث بهز الرءوس.
وكان هذا الرجل يقص قصصه فيقول: ما كنت أعلم أن لليل أسرارا ليست للنهار. وما كنت أعلم أن للصحراء أنباء ليست للمدن والأرض العامرة. وما كنت أحسب أن في هذا الهواء الذي نتنسمه وفي هذا الفضاء الذي يحيط بنا أرواحا تتناجى، وأحياء تتجاذب الحديث، حتى رأيت ما رأيت، وسمعت ما سمعت، فتبينت أن حياتنا غرور، وأن علمنا جهل، وأن أحاديثنا لهو وهراء. والناس يتعجلونه فيقولون له: هات ما عندك من النبأ، حتى إذا فرغت من قصته فقل ما شئت، وهو يقول: لقد جنني الليل، وإني لفي طريقي من الطائف إلى مكة فلا أحفل بذلك ولا آبه له، ولا أفكر في أن آوي إلى حي من هذه الأحياء التي تنتشر بيوتها في الطريق لأنتظر مشرق الشمس، ولكنني أمضي أمامي لا ألوي على شيء ولا أرهب شيئا، وماذا أرهب والطريق آمنة واضحة يسلكها الناس إذا أصبحوا، ويسلكونها إذا أمسوا، يسيرون فيها مع ضوء النهار، ويسيرون فيها مع ظلمة الليل؛ قد عرفوها فهم لا يحتاجون إلى مرشد ولا دليل. فأمضى أمامي مجدا في السرى، أريد أن أفجأ أهلي مع الصبح. وإني لفي بعض الطريق وقد سكن من حولي كل شيء حتى لا أسمع إلا أخفاف مطيتي تمس الأرض مسا رفيقا، وإلا هذه الأنات التي ترسلها المطايا إذا جهدها السير وحنت إلى الراحة، وإلا ما كنت أناجي نفسي به من حديث أهلي إذ طلعت عليهم مع ضوء الشمس. وكان ضوء القمر قد انبسط على الفلاة هادئا نقيا، فملأ نفسي أمنا ودعة وهدوءا.
وإني لفي ذلك، وإذا غمغمة تصل إلي من بعيد، فلا أحفل بها ولا ألقي إليها بالا، وإنما أمضي فيما أنا فيه من الاستمتاع بلذة هذا السرى، ومس أخفاف مطيتي للأرض، وحنينها إلى ما بعد عهدها به من الراحة، وأحاديث نفسي عمن فارقت، في الطائف وعمن سألقى في مكة. ولكن الغمغمة تدنو مني أو أنا أدنو منها، وإذا هي تشتد شيئا فشيئا، وإذا أصواتها تمتاز وتستبين، وإذا أنا أسمع أحاديث قوم يتهامسون، وإذا أنا أنظر فلا أرى أحدا. والقمر مع ذلك مشرق مضيء، والفلاة مع ذلك مبسوطة لا عوج فيها ولا ارتفاع، والحديث مع ذلك من حولي واضح يملأ الهواء، وقلبي مع ذلك يضطرب ويمشي في صدري رعبا. وأنا أذهب بمطيتي إلى أمام وأرجع بها إلى وراء، وأذهب بها عن يمين وأذهب بها عن شمال، وأرفع بصري إلى السماء وأخفض بصري إلى الأرض، فلا أرى شيئا ولا أتبين شيئا إلا جمال هذا الضوء الرائع يغشي الأرض برداء نقي رقيق. وهذه النجوم التي لا تحصى وقد تألقت في السماء كأنها المصابيح، وانطلقت في طريقها مسرعة كأنها تستبق، وهذه الأحاديث الواضحة تتحدث بها جماعات لا أراها، ولكنها لا تستقر، إنما يمضي بعضها إثر بعض. وإني لأسمع قائلا يقول: «انظروا إلى السماء، فما أرى أنها كعهدنا بها من قبل. إن نجومها لتتألق في قوة لم نرها قط. إنها لتستبق في سرعة لم نرها قط. إنها لتدنو من الأرض حتى إن نارها لتوشك أن تحرقنا. إن التصعيد في السماء لعسير. وفيم نصعد إلى السماء وإن السماء لتهبط إلينا! إن البقاء على الأرض لعسير. وأنى لنا الثبات بهذا الضوء الذي لا يخفى عليه شيء، حتى أشباحنا الخفية التي لا تراها العيون! النجاء النجاء! إن للغيب لعجبا، وإن في الأرض لحدثا، وإن الزمان ليستدير، وإنا لا ندري أشر أريد بالناس أم خير!»
وإني لأسمع ما أسمع وأرى ما أرى، فيبهرني ما أسمع ويسحرني ما أرى، وأشغل به حتى عن أن أسائل نفسي، أين أكون وما تكون هذه الأصوات. ولكني أحس أصواتا أخرى كأنها تهيب بأهل تلك الأصوات التي كنت أسمعها قائلة: النجاء النجاء! ولكن إلى أين؟! إنكم لتفرون من مكة كأن شيئا أزعجكم عنها وقد كنت فيها آمنين، وقد كنا نفر إليكم لأن شيئا أزعجنا عن دورنا، وأخرجنا من مأمننا، واضطرنا إلى أن نهيم في الأرض، لا ندري ما هو، ولا ندري من أين جاء، إنا لنتسامع من أطراف الأرض بأن حدثا قد حدث، وبأن كائنا قد كان. إنا لنتسامع بأن إيوان كسرى قد اضطرب ومادت به الأرض، فسقطت شرفاته وتهدم بنيانه. وإذا أصوات أخرى تصيح منتشرة في الفضاء: وإنا لنتسامع بأن نار الفرس قد خبت فجأة لأول مرة منذ ألف سنة. وإذا أصوات أخرى تصيح: إنا لنتسامع بأن بحيرة ساوة قد جفت، وما عهدناها إلا غريزة جمة الماء. وإذا هذه الأصوات كلها تملأ الأرض، رقيقة خفيفة، خائفة قلقة: النجاء! النجاء! إن للسماء لخبرا، وإن الأرض لتستقبل يوما لم تستقبله من قبل، وإن لهذا اليوم في حياة الأرض لشأنا لا ندري أخير هو أم شر! النجاء النجاء!
وقد فقدت صوابي وأضللت عقلي، فلا أحس شيئا، ولا أرى شيئا، ولا أسمع شيئا، كأنما انتزعت من الحياة انتزاعا، ثم يمسني برد السحر فأفيق وكأنما ثبت إلى نفسي من سفر بعيد. وأنظر حولي فأرى أصابع الفجر تمتد إلى الأشياء كأنما تريد أن تلمسها، وأرى الليل ينحسر عن الأشياء كأنما يودعها محزونا، وأرى النجوم تنهزم في السماء كأنما تخاف جيشا منتصرا، وأرى ناقتي مذعنة لحكم السرى تمضي أمامها كأن شيئا لم يكن من حولها. وأبلغ أهلي مع الصبح، فيستقبلونني دهشين كما كنت أقدر، ولكني لا أستمتع بهذا الدهش كما كنت أريد.
ويتفرق الناس عن هذا الرجل وقد سمعوا منه، وإن بعضهم ليسأل بعضا: ماذا يقول وماذا رأى؟ وإن بعضهم ليقول لبعض: لقد أخذه النوم فعبثت به الأحلام، وإن بعضهم ليقول لبعض: لقد مر بجماعة من جن الصحراء كانوا يسمرون.
ويسمع عبد المطلب هذا كله فتثور في نفسه خواطر لا ينكرها ولا يعرفها، ولكنه لا يطيل الوقوف عندها؛ لأنه مشغول عنها بمقدم حفيده اليتيم.
الفصل الثاني عشر
الحاضنة
وعطف الله على هذا اليتيم قلوبا ملئت حبا، وفاضت حنانا ورحمة، قلما يظفر بمثلها المنعمون المترفون من أبناء الأغنياء، وأصحاب الثراء الواسع والجاه العريض. هذه الأمة الحبشية قد ورثها اليتيم عن أبيه الفقيد مع خمسة أجمال أوارك
Bilinmeyen sayfa