وقد عفا النبي عن قاتل عمه، وعفا المسلمون عن قاتل أسد الإسلام. ولكن نفس وحشي لم تعف عن وحشي، ولكن دم مسيلمة لم يغسل من نفسه دم حمزة!
وهذا العبد الحر يمضي مع جيوش المسلمين غازيا، فيقاتل الروم وينتصر مع المنتصرين، ويستقر مع المستقرين في مدينة حمص هذه. ولكن بلاءه أيام الردة، وبلاءه أيام الفتح، وما احتمل في هذا كله من جهد، وما ناضل في هذا كله عن الإسلام، لم يغسل عن نفسه دم حمزة، ولم يبرئ نفسه من الندم لمقتل حمزة. ولم يبلغ الإسلام من قلب هذا الرجل ما بلغ من قلوب كثير من الناس فيمحو من قلبه ما قدم في جاهليته. وإذا هو يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد في معاودة الشراب. وإذا هو معروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر. وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا. وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفا على من يدنو منه، ويصحو حتى يصبح عاقلا حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضا، ويصرفه عن الصحو صرفا. وكلما مضت عليه الأيام ازداد إمعانا في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئا فشيئا، وعقله يذهب قليلا قليلا، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلا إلى الفرار منه إلا إلى الشراب. وهو يضرب في الشراب وقد ضعف وفنى فلا يحتمل الضرب فيموت. ونشهد جنازته اليوم.
أرأيت أني لم أكن ملمحا ولا مؤثرا للغموض حين كنت أحدثك بما كنت أحدثك به من هذه العواطف المختلفة التي كانت تثيرها جنازته في نفوس الناس؟
قال عمير: «أشهد أن حكمة الله بالغة، وأن الرجل الرشيق خليق أن يتعظ بما فهم من قضاء الله، وأن يطمئن إلى عدل الله وعفوه إذا أشكلت عليه الأمور.»
قال محمد بن نصر: «فإني لا أعرف شيئا يغسل عن النفس إثمها وينقيها من السيئات كهذا الذي نحن فيه من جهاد عدو الله ما وجدنا إلى هذا الجهاد سبيلا.»
الفصل الثامن
الوفاء المر
1
أقبل الفتى على أمه وعمه جذلان مبتهجا، قد تألق وجهه بشرا، ولكن الحزم والعزم ظهرا في عينيه الحادتين وفي صوته الممتلئ الهادئ الرزين. ولم يكن كعب قد أتم السابعة عشرة من عمره، ولكنه كان قوي الجسم، مرتفع القامة في السماء، كثير الحركة، عظيم النشاط، في نفسه حزن دفين. يظهر في صوته إذا تحدث إلى الناس، وفي خواطره التي كان يديرها في رأسه كئيبة قاتمة، ويخرجها إلى لداته وأترابه عابسة شاحبة لا حظ فيها للرضا ولا للابتسام.
وكان لداته وأترابه يتحدثون عنه إذا لم يشهدهم، فيذكرون التناقض بين حركته الدائمة ونشاطه، وبين نفسه الحزينة وباله الكاسف، ويقول بعضهم لبعض: ما نظن هذا النشاط المتصل والحركة العنيفة، إلا وسيلة يتخذها كعب ليتسلى بها عن هذا الحزن الخبيء الذي لا يريد أن يظهره ولا أن يبوح به، والذي يحميه في أعماق ضميره كأنه حرم لا ينبغي لغيره أن يبلغه أو يظهر عليه.
Bilinmeyen sayfa