ويبلغ ذلك عتبة فيقول: «سيعلم ابن الحنظلية أينا انتفخ سحره» ثم يدعو بسلاحه ويكون هو وأخوه شيبة وابنه الوليد أول من يخرج إلى القتال، فيقتلون جميعا. ويزحف القوم بعضهم على بعض وقد سقى أبو مرة نديمه وحليفه كأسه الأخيرة من خمر كأنها النار أو نار كأنها الخمر، وزين له أن النصر قريب فخرج أبو جهل يرتجز:
ما تنقم الحرب العوان مني
بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
ولكن أبا جهل لا يكاد يقوم حتى يرى هولا لم ير مثله قط، وما كان يقدر أنه سيراه آخر الدهر. يرى سحائب بين السماء والأرض قد أظلم لها الجو، ومرت كأنها العواصف، ثم هبط منها أشخاص قد لبسوا العمائم وألقوا فضلها على ظهورهم، وركبوا الخيل مسومة، وهم يضربون من المشركين الأعناق ويقطعون منهم كل بنان. وينظر أبو جهل عن يمين وشمال، وينظر أبو جهل وراءه يلتمس حليفه ونديمه أبا مرة، فإذا هو قد ذاب كما يذوب الملح. هنالك يذهب الغرور كله عن عمرو بن هشام، ولا يبقى في نفسه إلا حفاظ الرجل العربي وكبرياؤه. هو بين اثنتين: إن شاء لوى عنان فرسه فطارت به إلى حيث الأمن، وإلى حيث السيادة، وإلى حيث أبو مرة وخمره وكيده، وإلى حيث العار، وإن شاء مضى أمامه فأحس الألم ساعة ثم مضى كما يمضي الناس منذ أول الدهر. ولا والله لا تضحك مني قريش، ولا تحدثني بحديث الفحل، ولا تقول قريش إني ما رأيت محمدا إلا ملئت منه رعبا ووليت فرارا. ثم يقحم فرسه بين الصفوف، وإذا هو صريع قد قطعت إحدى ساقيه والدم ينزف منه نزفا شديدا، ولكنه مستيقظ يقظة لم يعرفها قط، يرى كل شيء، يرى أصحاب محمد يأخذون ظهور قريش برماحهم، ويرى رجلا قد أقبل يسعى حتى وطئ صدره بقدميه. من يكون هذا الرجل؟ إني أعرفه! لقد فتنته بمكة فتنة شديدة! إنه الهذلي ابن مسعود راعي الغنم!
ثم يرتفع صوت أبي جهل متحدثا إلى ابن مسعود رضي الله عنه فيقول: «لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا راعي الغنم.» يقول ابن مسعود: «وهل أخزاك الله يا عدو الله!» قال أبو جهل: «وبم أخزاني! وأي عار على فتى قتلتموه! ولكن أنبئني لمن العاقبة؟» قال ابن مسعود: «لله ولرسوله وللمسلمين»، ثم أهوى إليه فاحتز رأسه وحمله إلى النبي. وبعد قليل ألقي قتلى بدر من المشركين في القليب، ووقف عليهم رسول الله يقول: «يا معشر قريش! أرأيتم ما وعدكم ربكم حقا! فإني رأيت ما وعدني ربي حقا.» يقول المسلمون: «أتكلم الموتى يا رسول الله؟» فيقول
صلى الله عليه وسلم : «والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا ينطقون.»
10
أشرف خالد بن الوليد رحمه الله على بدء الزحف العام يوم اليرموك وكان مشرق الوجه مبتهج النفس، ولكن شيئا من القلق كان يظهر في عينيه اللتين كانتا تمتدان في الأفق كأنما تريدان أن تبلغا ما وراء الجيشين الملتحمين، ثم تنحرفان إلى يمين مرة وإلى شمال مرة أخرى، كأنما تريدان أن تتعجلا عواقب الموقعة لتعودا بها إلى نفس القائد العظيم الذي لم يعرف إلا الانتصار، والذي كان شديد الشوق إلى أن يتبين الموقعة قبل أن تتم وقبل أن تأتيه بها رسله وعيونه.
وكان خالد بن الوليد رحمه الله ينظر إلى هذين الجيشين العظيمين وقد سعى كل منهما إلى صاحبه في أناة ورزانة وثقل، حتى ليخيل إلى من كان يراهما أنهما الجبال المتقابلة يسعى بعضها إلى بعض في مهل وبطء، ثم لا يزال بها السعي البطيء حتى تستحيل الأناة عجلة والمهل سرعة، وحتى يرى الرائي كأنما قد زلزل كل شيء، فمادت الأرض، واضطربت السماء، وماج الجو، واختلط كل شيء اختلاطا هائلا غريبا.
Bilinmeyen sayfa