قال ورقة بن نوفل وقد ظهر على وجهه شيء من الجد: «أفصح يابن أخي فإني لا أفهم عنك.»
قال الفتى: «ستفهم عني، فإن هؤلاء الروم لم يهبطوا هذه الأرض للتجارة وحدها، إنما اتخذوا التجارة وسيلة إلى أشياء أخرى يبتغونها ونخدع نحن عنها بهذه اللذات اليسيرة الفاتنة التي يحملونها إلينا ويغروننا بها.»
قال ورقة: «وما عسى أن تكون هذه الأشياء؟» قال الفتى: «إنما هم عيون قيصر في هذه الأرض ورسله إلى هذا الوجه، يمدون له فيه الأسباب ويمهدون له فيه السبل. وما أرى أن واحدا منهم قد أقبل إلى بلادنا إلا وهو مجمع أن يحبب إلينا أمرا من أمور الروم ويستخف قلوبنا لحب هذه الحياة الرومية التي يحملون إلينا أيسرها وأهونها، ثم يقول قائلهم لنا حين يرى منا الابتهاج والرضا! فكيف لو ذهبتم إلى هذه المدينة أو تلك من مدن الروم! وكيف لو رأيتم هذه اللذات في أصولها التي تخرج منها وبيئاتها التي تنمو فيها! وكيف لو اتصلت أسبابكم بأسبابنا واختلطت أموركم بأمورنا!»
قال ورقة: «وقد أحسست من نسطاس بعض هذا فجئت تتحدث إلي به وتؤامرني فيه؟ وما تراني أصنع لك في هؤلاء وقد اعتزلت قريشا واعتزلتني قريش، وأصبحت أموركم لا تعنيني كما أن أمري لا يعنيكم؟ هلا تحدثت بذلك إلى عمك الوليد أو إلى الملأ من قريش!»
قال الفتى: «إني لأغبطك على أن قريشا قد اعتزلتك وعلى أنك قد اعتزلت قريشا. وإني لأتمنى أن يتاح لي من ذلك ما أتيح لك. فإني أعرف أي الناس أستطيع أن ألقي إليه بهذا الحديث. إنما جئت لأحدثك بالعجب من أمر نسطاس هذا الذي تلومني فيه كما لامني فيه عمي الوليد.»
قال ورقة: «وعند نسطاس أعجب مما ذكرت؟» قال الفتى: «نعم.»
قال الشيخ: «وما ذاك؟» قال الفتى: «تعلم أيها الشيخ أني لا ألتمس الخمر واللذة والغناء عند نسطاس فحسب، وإنما ألتمس عنده العلم أيضا. وقد تعلمت منه كثيرا أكثر مما تعلمت منك؛ فقد عرفت منه شئون الروم مفصلة وأخبارهم مطولة، وأنت لا تحدثنا من ذلك إلا بالنزر اليسير لأن ذلك لا يعنيك، فأما هو فيكفي أن يتقدم الليل وأن ينصرف شباب قريش إلى بيوتهم وأن يخلو إلي وإلى ثلاثة أو أربعة من غلمانه وجواريه وقد صرف سائرهم، فإذا خلا بعضنا إلى بعض أديرت علينا خمر لا تدار على غيرنا، وسمعنا غناء لا يسمعه غيرنا، حتى إذا تقدم الليل خطوات أخرى وأغرق كل شيء في الصمت والسكون وخيل إلينا أننا قد اقتطعنا من الحياة والأحياء اقتطاعا وأننا نعيش في جزيرة من النور والحركة يحيط بها بحر من الظلمة والسكون، قال نسطاس بلسانه الملتوي وصوته الأجش: «الآن طاب الحديث.» ثم نأخذ في حديث الروم فأسمع منه العجب العجاب. وقد اتصل الود بيني وبين نسطاس منذ أعوام، وجعل أترابي من قريش يلمون معي بدار نسطاس ثم ينتقلون منها إلى غيرها من دور الروم والنبط يتبعون في ذلك أهواء نفوسهم ويفرون بذلك من الحياة المطردة المتشابهة. وما أكثر ما ألحوا علي في أن أذهب مذاهبهم وأسلك مسالكهم وأتنقل معهم في الغي كما يتنقلون، ولكني لم أنحرف قط عن دار نسطاس ولم أمل قط إلى اللهو في غير دار نسطاس؛ لأن عند نسطاس ما ألزمني داره وشغلني بمودته، حتى لامني فيه اللائمون، وحتى ظنت قريش بي الظنون، وحتى شكا من ذلك أهلي وأترابي، وعاتبني فيه عمي الوليد.»
قال الشيخ: «وماذا علمت يابن أخي من أمر نسطاس؟ فقد أثرت في نفسي شغفا بالعلم لا عهد لي به منذ ودعت الشباب.»
قال الفتى وقد دنا من ورقة كأنما يريد أن يهمس إليه بما لا يحب أن يسمعه غيره: «علمت أن وراء نسطاس التاجر الخمار الذي يفتن شباب قريش بالخمر والنساء والغناء فيلسوفا يلتمس الحق، وديانا يلتمس الدين الصحيح.» قال الشيخ دهشا: «إنه لكذلك يا ابن أخي؟» قال الفتى: «نعم! وقد كنت أعرف أنك وأمثالك تخرجون من بلادنا هذه لتضربوا في الأرض ولتلتمسوا الحق والعلم والدين، عند هؤلاء الأعاجم من الفرس والروم ومن اليهود. وما كنت أنكر من ذلك شيئا، فهم قد سبقونا إلى الحضارة، وهم قد سبقونا إلى الكتاب. فأما أن يخرج الروم من بلادهم إلى هذه البلاد المجدبة القاحلة الغليظة الجافية التي لا حظ لأهلها من حضارة أو علم أو كتاب، ليلتمسوا عندنا الحق والعلم والدين، فهذا هو الذي لا أفهمه، ولم تطمئن إليه نفسي حتى حدثني نسطاس بما حدثني به أمس.»
قال الشيخ وقد أهمه الأمر إلى أبعد مدى، واسترد نشاطا غريبا وقوة كانت تخيل إلى من يراه أنه قد عاد إلى شبابه، أو أن شبابه قد عاد إليه: «وبماذا حدثك؟»
Bilinmeyen sayfa