Sıra Kenarında

Taha Hüseyin d. 1392 AH
131

Sıra Kenarında

على هامش السيرة

Türler

صريع الحسد

1

كان الشيخ مهيبا رهيبا، وكان فخما ضخما، قد ارتفعت قامته في السماء وامتد جسمه في الفضاء. وكان وجهه جهما عريضا، تضطرب فيه عينان صغيرتان غائرتان بعض الشيء. ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكادان تستقران، وهما متوقدتان دائما ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئا أو أطالتا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر أو تسلطان عليه شواظا دقيقا قويا من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكيا حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقا لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي ثقيل الحركة وقورا في كل ما يصدر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتا ضخما عميقا، يسمع السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكبارا وإعظاما، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش، ورجل عظيم من رجالات البطحاء.

وكان ابن أخيه عمرو بن هشام في ذلك اليوم فتى قويا نحيفا شديد النشاط كثير الحركة لبقا في كل ما يصدر عن جسمه، رائعا في كل ما يصدر عن عينيه القويتين البراقتين. وكان على وجه الفتى دائما، وفي ذلك اليوم خاصة، غشاء غريب فيه عبوس يصور الجد المر، وفيه ابتسام يصور الدعابة الحلوة. فكان الذين ينظرون إليه يطمعون فيه ويشفقون منه. وكان الذين يسمعون له يحارون فيما يسمعون أجد هو أم هزل. وقد أقبل في ذلك اليوم على عمه يمشي مشية فيها كثير من الخال والكبرياء وكثير من الاعتداد بالنفس والازدراء لغيره من الناس، وفيها مع ذلك شيء من السخط والحزن.

كل شيء في هذا الفتى كان يصور رجلا شديد الطموح بعيد الأمل واسع الرجاء. ولكن الأسباب قد تقطعت به، فهو غير راض عن نفسه ولا عمن حوله من الناس ولا عما حوله من الأشياء. يريد أن يذعن لظروف الحياة التي لا يستطيع لها تغييرا ولا تبديلا، ولكن نفسه لا تطيق الإذعان ولا تطمئن إليه، فهي في جهاد متصل، وصراع مستمر. وكان الذين ينظرون إليه في ذلك اليوم يتساءلون عن مصدر هذه الخيلاء التي كانوا يرونها في مشيته، وفي تلك الابتسامة الحائرة على وجهه التي كانت تظهر لتستخفي، وتستخفي لتظهر، كأنها وميض البرق في الليلة المظلمة. وكان بعضهم يظن أن مصدر هذه الكبرياء هؤلاء الرقيق الذين كانوا يسعون بين يديه يحملون أثقالا من الذهب والفضة لا تجتمع إلا لأصحاب الثراء الضخم من سادة قريش. وكان بعضهم يرد هذه الكبرياء إلى أن عمرو بن هشام كان يسعى إلى عمه الوليد بن المغيرة، فكان يستحضر في نفسه مجد مخزوم كلها تليده وطريفه، وثروة مخزوم كلها ما استقر منها في مكة، وما انتشر منها هنا وهناك في أطراف البلاد العربية، وما تجاوز منها البلاد العربية إلى تلك البلاد البعيدة التي كانت تنتشر فيها تجارة قريش.

وكان الشباب من أتراب عمرو بن هشام يرمقونه بأبصارهم ثم يردونها عنه مسرعين، منهم من يرضى عنه، ومنهم من يسخط عليه، وكلهم يبتسم له ابتسامة فيها كثير من الحسد وفيها شيء من الاستخفاف. فقد كان أتراب عمرو بن هاشم ينكرون غروره وافتنانه بنفسه، ويبادونه بهذا الإنكار جادين حينا وهازلين أحيانا. وكان منظرا لا يخلو من روعة مضحكة، مقام هذا الفتى الرشيق الأنيق الساخر العابث بين يدي عمه الوقور المهيب وقد وضع الغلمان أثقالهم، وقال الفتى في صوت لا يخلو من فكاهة ولكنه لا يخلو من بعض الملالة والسأم أيضا: «ها أنا ذا يا عم قد أقبلت أحمل إليك تحيتي وأحمل إليك مالي؛ فقد يظهر أن من الحق علي أن أساهم فيما سترحل به القافلة من قريش إلى الشام، فهذه أسهمي من الذهب والورق أطرحها بين يديك، وما أشك في أنك ستردها علي أضعافا مضاعفة.» ثم تضاحك الفتى وهم أن ينصرف ولكن عمه أشار إليه أن أقم، ثم قال له في هدوء وأناة: «ما أرى أنك أقبلت لتحمل إلي هذا المال وتلقي إلي هذا السخف من القول، فقد كان هؤلاء الغلمان يستطيعون أن يحملوا إلي تحيتك ومالك، وما أظن إلا أنك أقبلت وأنت تريد أن تنفق معي شيئا من وقتك وأن تفضي إلي ببعض الحديث، ولكنك تأبى إلا أن تعبث دائما. تقبل وأنت تريد أن تدبر، وتدبر وأنت تريد أن تقبل، لا تفرق في عبثك بين من تلقى من الناس، سواء عندك لقاء الأتراب ولقاء الشيوخ الذين ينبغي أن تلقاهم بوجه غير هذا الوجه وحديث غير هذا الحديث.»

قال الفتى في صوته الساخر الحزين: «ما تزال تنكر علي شيئا كلما لقيتني، وما أزال عاجزا عن أن أبلغ رضاك. فإني لا ألقاك بهذه الدعابة في أندية قريش ومجالسها، وإنما ألقاك حرا في هذه الدار لا يظهر علينا فيها أحد من قريش. ولست أدري إلى أين تنتهي بنا هذه الأوضاع التي تفرضها قريش على عقولنا وقلوبنا وأجسامنا! فنحن لا نستطيع أن نفكر ولا أن نشعر ولا أن نتحرك إلا على النحو الذي رسمته قريش للتفكير والشعور والحركة. ما أشد حاجتنا إلى شيء من السماحة ننعم فيها بالحرية فيما نفكر وفيما نشعر وفيما نأتي وما ندع من الأمور.»

قال الشيخ: «فأنت إذا ساخط دائما، منكر للمألوف من عادات قومك وأوضاعهم دائما. وقد كنت أنتظر مقدمك، ولو لم تقبل الآن لبعثت في طلبك؛ فإن بيني وبينك حديثا أرجو ألا يطول، وأرجو مع ذلك أن يبلغني منك ما أريد.»

قال الفتى وهو يبتسم عن رضا صريح وفكاهة لا غموض فيها: «وإذا فلا بد من أن أقيم، فلا أقل من أن تأذن في أن أسقي ما يبل الظمأ وينقع الغلة، فقد جف حلقي ويبس لساني.»

قال الشيخ: «وآية ذلك أني لا أجد إلى وقفك عن الكلام سبيلا، اجلس حيث شئت، يا غلام اسقه ما شاء من شراب.»

Bilinmeyen sayfa