والغريب أن الخواطر التي كانت تملأ نفسيهما هما وحزنا، وتفعم قلبيهما خوفا وقلقا، هي بعينها تلك الخواطر التي كانت تملأ نفس عبد المطلب بن هاشم وآمنة بنت وهب، وتشغل قلبيهما منذ خمسة وعشرين عاما حين سافر عبد الله مع العير إلى الشام في التجارة لأول مرة ولآخر مرة أيضا.
وكان ذلك يزيد في خوف أبي طالب، وقلق خديجة، ويضيف إلى إشفاقهما شيئا غير قليل من الندم اللاذع، والأسف الذي لا يغني ولا يفيد. كان أبو طالب يلوم نفسه أشد اللوم، ويؤنبها أعنف التأنيب! لما فرط في ذات ابن أخيه، وقد كان حريصا على ألا يفارقه ولا يخلي بينه وبين غوائل الدهر وعاديات الأيام. وهو يعلم بعد هذا كله أن قد كانت للأسرة من بني هاشم في هذا النوع من المحن سابقة، وأنه كان خليقا أن يتعظ بما مضى، وأن يضن بمحمد على ما تعرض له عبد الله.
وكان يقول لنفسه إن عبد المطلب حين أغرى ابنه بالرحيل وحثه عليه، لم يكن إلا رجلا من قريش، يأخذ ابنه بحياة قريش وما تعودت من الاضطراب في الأرض، والتماس الرزق طورا في الشام، وطورا في اليمن. ولم تكن الأيام قد وعظت عبد المطلب، ولا قدمت بين يديه من النذر ما كان خليقا أن يحمله على التردد ويغريه بالاحتياط. فأما هو فقد وعظته الأيام وتقدمت إليه النذر.
وعظته الأيام بما وقع لعبد الله، ذلك الذي فجع به بنو هاشم على حداثة السن ونضرة الشباب، فكان خليقا أن يتعظ، وكان خليقا ألا يعرض الفتى لما تعرض له أبوه. وتقدمت إليه النذر؛ فما أكثر ما سمع، وما أكثر ما شهد، وما أكثر ما فكر في أن ابن أخيه خليق بالعناية المطردة والحماية المتصلة، والاحتياط الذي لا يغفل ولا ينام! وإن في آخر تلك النذر لما كان خليقا أن يمنعه من التخلية بين ابن أخيه وبين الرحيل، فضلا عن أن يغريه به ويدفعه إليه. وإنه ليذكر حديث بحيرى وإشفاقه وتحذيره إياه من مكر النصارى وكيد يهود. وإنه ليذكر كيف ارتد بابن أخيه الصبي إلى مكة، دون أن يقضي حاجته من الشام، ودون أن يقوم على ما كان في يده من التجارة بالبيع والشراء، وإنما وكل بذلك من وكل من قومه متعمدا رد الصبي إلى وطنه، وحفظه من الغوائل والعاديات.
وإنه ليذكر إعراضه منذ سمع ذلك النذير عن الرحلة، ولزومه مكة، وإصراره على ألا يفارق ابن أخيه، وألا يطيل بينه وبينه الأمد. فما الذي غير رأيه في هذا كله؟ وما الذي دفعه إلى أن يحمل ابن أخيه على هذه الرحلة التي لا يأمن عواقبها؟ وأخذ الشيخ يتحدث إلى نفسه بمثل ما كان يتحدث به عبد المطلب إلى نفسه. وأخذ الشيخ يسأل نفسه عن هذا الذي ألقى في روعه قبول ما عرضت خديجة: أكان ناصحا له أم ماكرا به؟ أكان إلهاما من الله أم غرورا من الشيطان؟
وجعلت هذه الخواطر تفسد على الشيخ أمره، وكان يزيدها شدة عليه وإيلاما له أن الشيخ كان يستعرض حاله السيئة وفقره المدقع، وما كان يلقى من الجهد في قوت عياله، وكان يشعر في أعماق نفسه بشيء من الخوف الأليم أن يكون قد عرض ابن أخيه لبعض الخطر إيثارا لنفسه ولبنيه بالخير.
وما له لم يغر بهذه الرحلة ابنه طالبا أو ابنه عقيلا، وإنما أغرى بها هذا الفتى اليتيم الذي فقد أمه وامتحن في أبيه بمثل ما يمتحن به الآن! وكثيرا ما جعل الشيخ يرد هذا الخاطر عن نفسه بأن خديجة لم تعرض عليه استئجار أحد أبنائه، وإنما عرضت عليه استئجار ابن أخيه، فما كان يستطيع أن يعرض عليها طالبا أو عقيلا. ولأمر ما رغبت خديجة هذا العام عمن كانت تكل إليهم تجارتها في الأعوام الماضية، ولم تختر إلا هذا الفتى، ولم تعرض عليه ما كانت تدفعه إلى غيره من الأجر، وإنما أضعفت له الأجر إضعافا.
ولكن هذه المعاذير لم تكن تسلي الشيخ عن زلته، ولا تقيله عن عثرته، ولا تخفف عليه حزنا، ولا ترد عنه ألما، وإنما كان ندمه يزداد وينمو حتى يكاد يخرجه عن طوره، ويتجاوز ما ألف من نفسه وما عرف الناس فيه من الرزانة والوقار. ولقد حدثته نفسه غير مرة أن يشد راحلته، ويلحق بابن أخيه، فإما رده عن هذه الرحلة، وإما رافقه فيها. ولكنه كان يستحي أن تقول قريش : ضعف أبو طالب، وجزع على فتى قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره. كان يستحي من ذلك لنفسه، وكان يستحي من ذلك لابن أخيه. وما رأيك في رجل لم يكن يعدل بحسن رأي الناس فيه وحديثهم عنه شيئا؟!
وضاق أبو طالب بهذا الأمر أشد الضيق، فلم يستطع كتمانه على شدة ما حاول من ذلك، وإنما تحدث به إلى بنيه وإخوته، ولمح لهم على استحياء بأن من الخير أن يلحق به منهم لاحق، يتكلف ذلك، ويظهر حاجته إلى الرحلة، وندمه على التخلف عن القافلة. ولكن إخوته وبنيه نظروا إليه باسمين، وأجابوه مشفقين، وقالوا له: «تالله إنك لمسرف في الإشفاق على هذا الفتى، مغرق في الخوف عليه من كل شيء، حتى تحدث الناس عنك بذلك، فاتهموك بالضعف، وأنكروا عليك هذا الغلو في الخوف، وإنا لنعرف رعايتك لهذا اليتيم، وحدبك عليه! ولكن من الحب ما يؤذي، والإسراف في الإشفاق والرعاية قد يسوء هذا الفتى. فخل بينه وبين الحياة، ودعه يضطرب في الأرض ليكسب قوته. فما أنت بباق له آخر الدهر، وما ينبغي له أن يقنع بهذا العيش الضيق الذي هو فيه.»
وكذلك عاش أبو طالب مقسما بين الخوف والرجاء، وبين اليأس والأمل، وبين الثقة والشك، وبين اللوم لنفسه والاعتذار عنها. وما أظن أنه شقي قط في حياته كما شقي في هذه الأيام التي فرقت بينه وبين ابن أخيه.
Bilinmeyen sayfa