قال آخر: أفليس هو الذي قتل الناصر ابن سيده، وخلع الظاهر صديقه، وغدر بصاحبه جانبلاط الذي وثق به وأسلم له الأمر كله؟ فمن أين لمثله أن يكون له قلب أو عقل؟!
في تلك اللحظة، أقبل على دكان علي بن أبي الجود شيخ جليل، له وقار وسمت، فأمسكوا عن الحديث ووقفوا إجلالا وتحية حين همس واحد منهم: الشيخ جلال الدين السيوطي!
وألقى الشيخ إليهم السلام وهم أن يستأنف سيره، بعد أن أسر كلمتين في أذن ابن أبي الجود، فقال واحد من الجماعة: ادع لنا يا سيدنا الشيخ أن يكشف الله عنا هذه الغمة!
فأسبل الشيخ جفنيه وهز رأسه في أسف وهو يقول: الله لهذه الأمة من ذلك الفاسق! عجل الله به لنخلص من شره، ورحمة الله على ذلك الشهيد.
ثم استأنف سيره لتعود الجماعة إلى ما كانت فيه من الحديث.
قال جركسي قصير القامة كان جالسا في أقصى المجلس: ليس لنا والله في هذه المحنة إلا تدبير الأمير الكبير قنصوه الغوري، لولا عزوفه عنها!
ومال طومان برأسه ينظر، فإذا غلامه أبرك ... فابتسم ابتسامة ثم قال: ومن أين لعمي الغوري أن يؤمن بأن عليه اليوم فرضا أن يخرج من صومعته ليقيم هذا العوج؟ إنه ليكره أن يظن الناس به الظنون حين يسمعون له صوتا في هذه الملمة، وإن أبغض شيء إليه أن يكون من أصحاب السلطان، فيحمل أوزار هذه الخلائق جميعا على رأسه يوم القيامة.
قال شيخ كبير: فإذا لم يحملها الغوري فمن يحملها؟ إنه ليزعم أنه يفر من حمل أوزار الناس، وإن فراره ذاك لإثم أكبر، فقد فسد الأمر كله حتى يوشك الناس أن يأكل بعضهم بعضا، ويتخذوا سلطانهم قدوة في الغدر والخيانة.
قال طومان: ولكن الغوري يا أبت شيخ كبير يضعف عن احتمال تبعاتها ...
قال الشيخ: بل قل كما قلت من قبل: إنه يفر من تبعاتها. وماذا صنع الشبان الأربعة الذين تداولوا عرش قايتباي من بعده، ماذا فعلوا إلا الغدر والفتك، وهتك الحرمات وسفك الدم، أفلم يكن قايتباي شيخا قد حطم الثمانين؟ فأين منا تلك الأيام السعيدة المجيدة؟!
Bilinmeyen sayfa