الحرب سجال
ارتجت القاهرة رجة عنيفة كأنما رجفت بها زلزلة في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 922، حين تدفقت عليها جيوش العثمانيين كالسيل الجارف لا يعترض سبيله شيء، ثم لم تلبث إلا أياما حتى رجفت بها زلزلة أخرى أعنف، وأقسى في مساء الثلاثاء الرابع من المحرم سنة 923، ولكن هذه الرجفة الأخيرة - على عنفها وقسوتها - كانت أروح لقلوب المصريين، وأخف وقعا على نفوسهم ؛ فقد كانت هذه زلزلة أقدام المصريين من جند السلطان طومان باي، يقتحمون على العثمانيين مضاربهم في هدأة الليل ويدخلون القاهرة بعد خمسة أيام من جلائهم عنها، فلم يلبثوا أن تغلغلوا في السكك والدروب، واحتلوا الدور والمصانع، ووضعوا سيوفهم في أقفية الروم، وأضرموا النار في مضاربهم على حين لهو وغفلة.
وسرى النبأ بسرعة في المدينة النائمة فهبت من رقادها تستطلع الأخبار، فما هي إلا ساعة حتى كانت البشرى على كل لسان بأن السلطان طومان باي قد عاد إلى القاهرة بجيش لجب فأحاط بجيش ابن عثمان ... فهب كل مصري إلى سلاحه وأخذ أهبته لمعونة السلطان الباسل، فما أشرق الصبح حتى كان جيش السلطان طومان باي قد استرد أكثر أحياء المدينة وكاد يغلب على سائرها، واجتمع في المدينة جيش من المصريين على رأسه الأمير علان الدوادار، فزحف من الناصرية لينضم إلى عسكر السلطان!
واتخذ طومان باي مسجد الأمير شيخو بالصليبة مقرا لقيادته، وعادت رحى الحرب تدور بين المصريين والعثمانيين في دروب المدينة. ونادى المنادي في القاهرة بالأمان لمن يستأسر من جند ابن عثمان، ويدخل في طاعة السلطان طومان باي. وعاد الطالب مطلوبا!
واستمرت الحرب في القاهرة أياما، فلما كان يوم الجمعة السابع من المحرم، خطب في مساجد القاهرة ثانية باسم السلطان طومان باي ملك القطرين، وسيد البحرين، وحامي حمى الحرمين.
وكانت نوركلدي تطل من شرفة دارها في سوق مرجوش؛ لتشهد جند المصريين يجوسون خلال الديار يبحثون عن المختبئين من أمراء ابن عثمان وجنده، فيسوقونهم أسرى إلى حيث كان السلطان طومان باي في مركز قيادته بمسجد الأمير شيخو، وكان هتاف الرجال وزغاريد النساء تتجاوب أصداؤها بين أبعاد المدينة، وفيالق فتيان الزعر وكتائب الأعراب تتوالى مواكبها على عينيها في طريقها إلى حيث تأتمر بأمر السلطان المجاهد طومان باي.
وسألت نوركلدي نفسها وفي عينيها دموعها: ترى أين أرقم الساعة ليحدثها حديثه وينبئها بما يعرف من خبر السلطان؟! إنه لغائب عن عينيها منذ ذاع في المدينة النبأ برجوع السلطان طومان باي، وإنها لتنتظر مقدمه قلقة تريد أن تعرف كيف ينتهي ذلك الأمر فيصحبها على الطريق إلى حيث تلقى ولدها الذي لم تزل على الطريق إليه منذ ثلاثين سنة.
وطالت غيبة أرقم ثم عاد ... - ورأيته بعينيك يا أرقم؟ - نعم! - وتحدثت إليه بلسانك؟ - نعم! - واستمعت إلى حديثه بأذنيك؟ - نعم! - ومتى تراه أمه بعينيها يا أرقم وتتحدث إليه بلسانها وتستمع إلى نجواه؟ - قريبا ترينه يا نوركلدي بعينيك وتتحدثين إليه بلسانك وتسمعين نجواه، أما اليوم فما أراك تستطيعين وإن بينك وبينه طريقا قد ازدحمت على جانبيه رمم القتلى من المصريين والروم، وإن الموت ليتطاير فيه على رءوس السابلة؛ ففي كل شارع معركة دامية، وإن أولئك الروم الغلاظ ليحملون بنادق البارود يرسلون قذائفها من نوافذ الدور ومن فوق السطوح ومآذن المساجد، فلا يكاد يخلص بروحه عابر سبيل ... لو كان بالسيف والرمح والمزراق ما بيننا وبين الروم من معارك لأيقنا بالنصر؛ فإن أولئك الروم لا خبرة لهم بأساليب الحرب، وليس لهم صبر على القتال، لولا هذه النار! - ماذا تقول يا أرقم؟ أفلست موقنا بالنصر؟ - بلى، ولكن دون ذلك أهوالا يا نوركلدي ... - ويتعرض طومان باي للشر؟ - لا تخافي يا سيدتي! - وتظنه يعود إلى عرشه في القلعة؟ - الصبر يا نوركلدي، إن الحرب مراحل! - وفي أي مراحلها هي اليوم؟ - ستعرفين بعد قريب؛ فإن جيشا من جند ابن عثمان قد احتشد بمصر العتيقة في طريقه إلى الصليبة للقاء المصريين عند جامع شيخو ... - ثم يكون ماذا يا أرقم؟ - ثم يكون النصر إن شاء الله! - وأرى ولدي طومان؟ - وترينه وتتحدثين إليه! - ويومئذ أصف له ما لقيت من صاحبه أرقم الرمال، وأسأله أن يضعف له المكافأة!
وصرت أسنان أرقم وضاق بما يضمر من سره فهم أن يجيب، ثم أمسك وهو يقول لنفسه في همس: ويومئذ يكون أرقم في غير حاجة إلى مكافأة نوركلدي أو مكافأة السلطان، ويمضي لوجهه فلا يراه أحد ... حسبه يومئذ أن يرى امرأته وولده في سعادة وأمان!
ثم نهض لبعض شأنه، فتعلقت به نوركلدي تسأله أن يبقى، ولكنه كان في حاجة إلى أن يستروح بعض أنفاس الحياة في جو طلق، ويذرف دموعا قد ازدحمت في عينيه ...
Bilinmeyen sayfa