135

وكأنما خشي أن يفتضح، فطوى منديله ونهض لم يتحدث إلى واحدة من النساء بشيء، وخلا بنفسه مطرقا لا يكاد يستجمع فكره من دهش المفاجأة؛ إذن فهي نوركلدي، وإن لها ولدا تفتقده كما تفتقد أباه ... إلى أي طريق تسوقه المقادير؟

فلما كانت العشاء الآخرة، نهض أرقم يدب على الأرض حتى بلغ خيمة نوركلدي، فناداها ...

وسمعت المرأة في هدأة الليل صوتا يهتف باسمها، فكأنما سمعت صوتا من وراء السنين أو من عالم الأحلام، فخفت إلى باب الخيمة فأزاحته ونظرت، فإذا أرقم الرمال.

وجلس وجلست تستمع إليه، وقد جمع أمره على أن يخفي من أمره ما لا بد أن يخفي؛ حتى لا يمحو من خيالها تلك الصورة الجميلة التي بقيت لها من سعادة الماضي، ولكنه أراد أن يعرف.

قالت نوركلدي في قلق: سيدي! إن لك أسبابا وثيقة إلى الغيب، وأنا امرأة مقطوعة بائسة، فهلا أنبأتني بما عندك من خبر أركماس، وطومان باي! - طومان باي! - نعم، ولدي طومان باي الذي فارقته منذ ثلاثين عاما أو يزيد، فلم أره ولم يرني! - ثلاثين عاما! - نعم، وأمه على الطريق ضالة مقطوعة، وهو على عرش مصر نائب السلطان! «يا ويحه! إذن فهو أبو طومان باي! وكان قنصوه الغوري يزعم أنه عمه ولا عم له ... وأبوه أركماس يتربص للغوري ليأخذ منه بثأره، وولده في حجره ... ويجتمع في مكان وتحت سقف ألد الأعداء وأعز الأحباب ... وينفذ عدل الله، ويجلس طومان باي على العرش سلطانا، وتلقاه أمه، ويلقاه أبوه، كما لقي يوسف الصديق أبويه على العرش، ولكن كم دون ذلك من الأهوال!»

كان أرقم كالمغشي عليه يناجي نفسه، تلك العجيبة التي انبثقت له من حوادث الأيام لم تكن تخطر له على بال، فكأنما طار صوابه فلم يفكر فيما يقول، ولم يذكر ما أجمع عليه رأيه من الكتمان، وفاضت عواطفه فاجتاحت كل ما أقام فكره من سدود وقيود، حتى المرأة التي تجلس بين يديه صامتة تصغي إليه، لم تكن في باله ولا في مرأى عينيه، فلم يبال ما يقول.

على أن نوركلدي لم تسمع ما سمعت منه على الوجه الذي أراد، ولم يخطر في بالها قط أنها تسمع حديث أب عن ولده، فلم يكن ذلك الشيخ الجالس بين يديها يحدثها إلا رمالا حاذقا يقرأ سطور الغيب، وقد رأت من أمارات اليقين في حديثه ما لا يدع في نفسها سبيلا إلى الشك فيما تسمع منه، فما يعرف أحد من الناس أن لها زوجا، وأن اسمه أركماس، وأن لها حبيبا قد فارقها منذ سنين بعيدة، وأن ولدها لا عم له ... كل ما يعرفه الناس مما حدثها به ذلك الرمال، أن اسمها نوركلدي، فمن أين لهذا الشيخ ما حدثها به من تلك الأنباء إلا أن تكون له أسباب وثيقة إلى الغيب؟ وإنها إلى ذلك لتسمع صوته فتطمئن إليه، إنه صوت لم تسمع مثله فيما تسمع من أصوات الناس، وإنها لتجد في نبره ذلك السحر الذي يجده العاشق في صوت محبوبه، فتحس خدرا لذيذا يهيئ نفسها لأن تصدق وتؤمن.

واستراحت إلى ما سمعت من نبوءة الشيخ، فشكرت له ونهضت إلى متاعها، ثم عادت وفي يدها دنانير تريد أن تدفعها إليه، فترقرقت دمعتان في عين الرجل، هذه الأم تريد أن تأجر زوجها على ما ساق إليها من البشرى بقرب اجتماع شملها وشمله، بولدها وولده، يا لها سخرية!

وقال أرقم في صوت مختنق وهو يدفع يدها: سيدتي ... هل تأذنين لي أن أكون منذ اليوم صاحبا لا يطمع في أجر على معروفه؟

قالت مترددة: سيدي ...

Bilinmeyen sayfa