119

ثم بدأت طلائع الحملة المصرية تخرج إلى الشام في طريقها إلى حلب؛ انتظارا لما يكون من أمر الغوري والسلطان سليم، وكان على رأسها الأمير أبرك صاحب الدوادار الكبير طومان باي.

الفصل التاسع والعشرون

شعاع من النور

استدار المملوك الشاب على عقبيه، وفي وجهه أمارات غيظ شديد، فالتقت عيناه بعيني تلك الجركسية الملثمة التي تلاحق خطاه منذ خرج من دار الإمارة في حلب، فأقبل عليها مغضبا يقول: ما شأنك وشأني يا أماه، ولماذا تطاردينني كذلك على طول الطريق كأنما مطلتك بدين؟!

قالت نوركلدي وقد اخضلت عيناها وبدا في وجهها الانكسار والذلة: لا تعجل علي بالغضب يا بني، إن أنا إلا أم فقدت وحيدها فبرزت إلى الطريق تتفرس وجوه الناس؛ آملة أن تجد فتاها الذي تفتقده منذ عمر مديد!

قال المملوك وقد زاد به الغيظ والغضب: وتحسبينني ذلك الفتى أيتها الجركسية، أم أنت تحاولين أن تخدعيني كأنني لا أعرف من تكونين؟

ثم عاد فأولاها ظهرها ومضى في طريقه، وتركها في مكانها لا تنقل قدما ولا تحاول حركة، وقد تعاقبت على نفسها ألوان من العاصفة، وغمرتها موجة من الشك والقلق وهي تقول لنفسها في حيرة: إذن فهو يعرف من أكون ... فهل يعرف أين ألقى ولدي طومان!

ثم هرولت إليه تناديه في لهفة لا تبالي نظرات الناس، وما ارتسم على وجوههم من أمارات السخرية والدهشة، وما تلفظ شفاههم من عبارات الاستنكار.

امرأة في خريف العمر قد جف عودها وأدبر عنها الشباب، لا يزال يراها الناس في حلب منذ سنين، تجوس خلال أسواق المدينة تتفرس في وجوه الرجال بعينين ظامئتين فيهما لهفة وحنين، وتعترض سبيل الشبان في الأسواق بوجه ليس فيه حياء، فلو قدرت لاستوقفت كل عابر في الطريق، وكل جالس على دكانه تتحدث إليه ...

وعرفها كل فتى في المدينة وكل رجل، تلك الجركسية الملثمة التي تبرز للرجال في حنايا الدروب، على شفتيها ابتسامتها وفي نظراتها الحنين واللهفة! مجنونة!

Bilinmeyen sayfa