أما الطريق الثانية فهي طريق الأم التي خرجت من الغور تطلب ابنها، فهي تمر ببلاد الروم، ثم بالإمبراطورية المصرية، وهي تلقى في هذه الطريق أهوالا وأهوالا، وهي لا تعرف مكان ابنها إلا بعد أن يقتل الغوري ويصبح ابنها سلطانا، وهي تسعى لتلقاه، وتبلغ مصر مع المنهزمين، ولا تتيح لها الحرب لقاء ابنها على كثرة ما تحاول من ذلك، ولكنها تراه ذات يوم وفي آخر طريقها وفي آخر طريقه: جثة معلقة على باب زويلة!
وهاتان الطريقان لا تخلصان لطومان وحده ولا لأمه وحدها، وإنما هما ممتلئتان بضروب مختلفة من الناس، وبألوان متباينة من الأحداث والخطوب ، وبفنون متمايزة من الشخصيات: شخصيات الرجال الطامحين الطامعين، والضعفاء الأذلاء، والذين يترددون بين العزة والذلة، والذين يكيدون في سبيل المال، والذين يكيدون في سبيل الحب، والذين يكيدون في سبيل السلطان، والذين يعيشون للذاتهم، والذين يعيشون لعبادة الله والتخلص من أوزار الحياة الدنيا، وشخصيات النساء اللاتي يكدن ليدخلن القصر، ثم يكدن ليبلغن العرش، ثم تخرجهن الثورات من القصر فيكدن للعودة إليه، وتنزلهن الفتن عن العرش، فيمكرن ليرقين إليه مرة أخرى، كل هؤلاء وغير هؤلاء تكتظ بهم الطريقان.
والأشخاص في هذه القصة كثيرون، قد تفرقت بهم الطرق والتوت بهم المذاهب، واختلفت بهم وعليهم الأهواء، وهم مع ذلك لا يصرفون القارئ عن قراءته ولا يردونه عن غايته، وإنما يدفعونه إلى هذه الغاية دفعا، ليس منهم إلا من يثير في القارئ عاطفة حب أو بغض، أو رغبة في الاستطلاع، أو تذكرا لشخصيات أخرى من شخصيات التاريخ، أو تفكرا في بعض الأحداث والخطوب التي يشهدها هنا وهناك في حياة العصر الحديث.
قلت لك إنه كتاب رائع بأدق معاني الكلمة وأوسعها، وأصدقها في وقت واحد.
وإذا كان الناقد مستشارا للقراء، وإذا كان المستشار مؤتمنا كما يقال، فإني أشير على القراء أن يقرءوا هذا الكتاب، فسيجدون فيه أدبا رفيعا وتاريخا صحيحا، وتحليلا دقيقا وأسلوبا رصينا، لولا هذه الإنات التي يسرف بها الكاتب على نفسه وعلى الناس، لا في هذا الكتاب وحده، بل في كل ما يكتب، وأكاد أملي: في كل ما يقول!
بدأت حوادث هذه القصة منذ خمسمائة سنة في بلاد الكرج «جورجيا: موطن ستالين»، وانتهت بالقاهرة في قصور السلاطين.
الفصل الأول
في بلاد الكرج
على امتداد الطرف في أرجاء الغور المنبسط بين جبال القبج (القوقاز)، كانت تقيم قبيلة من أشد قبائل الجركس بأسا، وأعزهم نفسا، وأقواهم شكيمة في الحرب والسلم، وأحرصهم على الغلبة وإدراك الثأر ...
على أن هذه القبيلة على ما تهيأ لها من أسباب المنعة في أرضها هذه التي تكتنفها رءوس الجبال، منتصبة في كل ناحية كأنها أنياب الأسد، ومن قوة بأس أبطالها المغاوير ذوي الحفاظ والنخوة، لم يتعود أهلها الهدوء يوما على حال من الطمأنينة والسلام، فلم يزالوا - منذ كانوا - هدفا لغارات التتار، وغزوات التركمان، وبغتات تجار الرقيق؛ فقد اشتهر فتيان هذه القبيلة وفتياتها بصباحة الوجوه، ورقة الطباع، ولين الخلق، وجمال القوة؛ فإن كل ذي مطمح من أصحاب الجاه ليرنو بعينيه من وراء هذه الجبال المنيعة إلى فتى من فتيان هذه القبيلة، يتخذه ولدا أو يصطنعه بطانة وحاشية، أو إلى فتاة من فتياتها يؤاخيها على السراء فيتخذها حليلة أو جارية ... من أجل ذلك لم تنم هذه القبيلة ليلة من لياليها إلا على وتر، ولم تصبح إلا على غارة!
Bilinmeyen sayfa