سألته: «كيف هو عقلك؟» «يتراوح بين الذكاء الشديد والمتوسط، هذا عندما يكون صافيا. الجعة هي أفضل وقود له.» «هل تستطيع كتابة قصة بوليسية مشوقة؟» «كلا، فأنا لا أحسن التهجئة.» «لكن هل بإمكانك أن تحل لغز واحدة ؟» «أجل، أنجح بذلك في كل مرة.» «إذن، ما رأيك أن تقدم لي تفسيرا؟ لقد نجحت ببراعة في إثبات أن الآنسة فروي لا يمكن أن تكون حقيقية، لكن إن كان وجودها حقيقيا، فهل بإمكانك أن تكتشف ما عساه أن يكون قد حدث لها، أم أن ذلك صعب عليك للغاية؟»
انفجر هير ضاحكا وقال: «لطالما ظننت أني إن أعجبت بفتاة، فستكون قائدة فرقة موسيقية لها شعر مموج. لم يخيل لي قط أني سأضطر لأن ألعب دورا مساندا لمعلمة عجوز. أعتقد أن الدهر ينتقم مني؛ فمنذ زمن طويل عضضت معلمة، وقد كانت معلمة بارعة بحق. حسنا، لنبدأ.»
أشعل غليونه وقطب جبينه بينما راقبته آيريس باهتمام بالغ. بدا على وجهه - الذي زال عنه التواني واللامبالاة - أمارات التركيز، فبدا كأنه رجل مختلف. كان تارة يمرر أصابعه خلال شعره عندما تنتصب خصلة شعره الثائرة، وتارة أخرى يضحك ضحكات خافتة مكتومة، ثم ما لبث أن صاح صيحة انتصار. «لقد نجحت في حبك قصة ملائمة. يتخلل الخداع بعض أجزائها، لكنها تظل متماسكة. هل تودين سماع القصة التي تدعى «الاختفاء الغريب للآنسة فروي» التي ألفتها؟»
أجفلت آيريس من نبرته المرحة.
قالت له: «سيسرني أن أفعل.» «إذن، لك ما أردت، لكن أولا عندما صعدت على متن القطار، هل كان بالعربة المجاورة راهبة واحدة أم اثنتان؟» «لم ألاحظ إلا واحدة عندما مررنا بالمقصورة. كان وجهها مريعا.» «مم! قصتي تتطلب وجود واحدة أخرى، فيما بعد.» «هذا ملائم، فثمة أخرى. لقد قابلتها في الممر.» «هل رأيتها منذ ذلك الحين؟» «كلا، ولكني لم أكن لألاحظ على أي حال؛ فالزحام شديد.» «هذا جيد. هذا يثبت أنه ما كان أحد ليلحظ على الأرجح إذا كان ثمة راهبة واحدة أم اثنتان يرعيان المريضة المضمدة، لا سيما أن الزحام شديد في نهاية الممر. كما ترين كان علي أن أقلب أمر تلكما الراهبتين المبجلتين في رأسي؛ لذا فهما مهمتان جدا.» «أجل. تابع.» «أنا لم أبدأ بعد. كان أمر الراهبتين مجرد تمهيد. إليك القصة الأساسية. الآنسة فروي جاسوسة بحيازتها معلومات تحاول تهريبها خلسة إلى خارج البلاد؛ لذا يجب اغتيالها. وأي ظروف ستكون أنسب لذلك الغرض من رحلة قطار؟»
سألته آيريس بوهن: «أتعني أنهم ألقوا بها على القضبان أثناء مرور القطار بأحد الأنفاق؟» «دعي عنك تلك السخافة، وذلك الشحوب أيضا. إن كانوا قد ألقوا بها على القضبان لعثر على جثتها ولطرحت الأسئلة الغريبة. كلا، يجب أن تختفي. وما أرمي إليه هو ما يلي. إن اختفت أثناء رحلة، فسيضيع الكثير من الوقت الثمين قبل أن يمكن إثبات أنها مفقودة حتى. في البداية سيظن أهلها أن وسيلة مواصلات فاتتها أو أنها توقفت في باريس لليلة أو ليليتين للتسوق؛ لذا عندما يبدءون بالبحث عنها سيكون أثرها قد انمحى تماما.» «لكنهم لن يعرفوا ما يجب عليهم فعله؛ فهما عجوزان لا حول لهما ولا قوة.» «يا لسوء طالعهما! أنت تجعلين قصتي تبدو مثيرة للشفقة تماما، لكن حتى إن كانا من ذوي النفوذ ويعرفان الإجراءات اللازمة، سيجدان نفسيهما لقاء مؤامرة من الصمت عندما يبدآن في التحري عنها.» «يا للهول! هل الركاب جميعهم مشتركون في المؤامرة؟» «كلا، فقط البارونة والطبيب والراهبتان. بالطبع سيكون هناك مؤامرة من الصمت السلبي، كما ذكرت لك من قبل؛ فلن يجرؤ أي من الركاب من أهل البلدة أن يناقض أيا من أقوال البارونة.» «لكن لا تنس أن البارونة قالت شيئا لم تفهمه أنت لجامع التذاكر.» «أتلك حكايتي أم حكايتك؟ لكن ربما أنت محقة، ربما تواطأ معهم موظف أو اثنان من موظفي السكة الحديدية. في الواقع، لا بد أن تلاعبا ما قد حدث عند مفترق الطرق بخصوص مقعدها المحجوز؛ إذ كان يجب أن يضمنوا أن تجلس في مقصورة البارونة، وأن تكون تلك المقصورة في مؤخرة القطار.» «وأن تكون مجاورة لمقصورة الطبيب كذلك، لكن ماذا حدث لها؟»
كانت آيريس قد قررت الاحتفاظ برباطة جأشها، ومع ذلك قبضت أصابع يدها في ترقب وهي تنتظر.
قال هير بتأمل: «هنا يأتي دور ذكائي. الآنسة فروي ترقد في المقصورة المجاورة لتلك، مغطاة بالأوشحة متخفية وراء الضمادات والقصاصات، حتى إن أمها ما كانت لتتعرف عليها الآن.» «كيف؟ متى؟» «حدث ذلك عندما كنت تغط في النوم. حينها يدخل الطبيب ويسأل الآنسة فروي إن كان بإمكانها أن تؤدي خدمة بسيطة لمريضته. أنا واثق أني لا أعلم كيف أقنعها بذلك، ومعه ممرضة طوع بنانه، لكنها ستذهب معه.» «أنا واثقة أنها كانت لتفعل ذلك.» «فور أن تدلف إلى المقصورة، تجد بانتظارها أكبر مفاجأة في حياتها. بادئ ذي بدء، تجد جميع الستائر منسدلة والظلام يعم المقصورة. ترتاب في الأمر، لكن قبل أن يتسنى لها أن تصرخ، ينقض عليها ثلاثتهم.» «ثلاثتهم؟» «أجل! فالمريضة أحد أفراد العصابة. تقيدها إحداهما، وتكتم الأخرى أنفاسها حتى لا تتمكن من الصراخ، بينما ينهمك الطبيب في حقنها بعقار يجعلها تفقد الوعي.»
شعرت آيريس بدقات قلبها تتسارع وهي تتخيل ذلك المشهد. قالت: «ذلك ممكن الحدوث.»
ابتسم لها هير ابتسامة فرحة. «أتمنى لو أنك كنت حاضرة وأنا أقص حكايات مباريات الهوكي التي خضتها؛ فأنت تبدين رد الفعل المناسب تجاه الأكاذيب؛ أعني الأكاذيب المحبوكة بمهارة بالطبع. بالمناسبة، إحدى الراهبتين رجل؛ تلك ذات الوجه القبيح.» «أظن أنها كذلك.» «لا تكوني متحاملة؛ فالرجال ليسوا جميعا قبحاء. على أي حال، تسقط الآنسة فروي فاقدة الوعي، فيتسنى لهم تضميدها بقوة، ولصق الضمادات الطبية على وجهها لإخفاء هويتها، ثم يقيدونها، ويكممون فمها، ويمددونها حيث كانت ترقد المريضة المزيفة التي ترتدي بالفعل الزي الموحد، إلا أنها كانت تخفيه تحت البطانيات؛ لذا لم يكن عليها سوى إزالة الضمادات اللاصقة ووضع حجاب على رأسها المضمد كي تبدو كراهبة تقليدية. الراهبة رقم اثنين.»
Bilinmeyen sayfa