12
قالت لي إنه أصدق ما قرأت من نوع هذه الكتب في وصف العادات المصرية، وأكثرها إنصافا وأقربها إلى الواقع. وإذا أضفنا إلى ذلك أن «نية سليمة» عاشت في ذلك المجتمع وعاشرته وأحبته، غير ضاربين صفحا عن بطء التطور الاجتماعي، ولا سيما في الشرق وفي الأيام الخالية، أمكننا أن نقول إن هذا الكتاب وإن أنشئ في أواخر القرن التاسع عشر فهو يقرب كثيرا إلى ما كانت عليه في أيام عائشة.
فلتكن إذن «نية سليمة» دليلنا. •••
هي تقول لنا إن هذه السيدة الجميلة البشوشة التي جاءت مرحبة وجلست على المقعد قربنا هي ربة المنزل. أما أولئك النسوة الجالسات على «الشلت» فهاك خبرهن: «إنهن من المترددات على المنزل، وليس لهن أن يجلسن قرب السيدات على المقاعد، وإن كن أرفع قدرا من الخادمات الجاثمات على البساط أو على الحصيرة»، «هن من الجواري البيض المعتوقات ومن الجواري السود اللاتي حججن. ومعهن الدلالات بائعات الأقمشة والبضائع. ومعهن المراضع وأخوات الرضاعة وقارئات القرآن وسواهن من النديمات ومن المختلفات إلى المنزل لأغراض شتى. يأتين ويجلسن القرفصاء كل اثنتين أو ثلاث على «الشلتة» الواحدة، ويشتركن في الحديث ويروين الأخبار.» «أما الزائرات المهمات فتأتين وبعد كلمات الترحيب وتقديم لفائف التبغ تحضر القهوة التي يستغرق تقديمها من الزيارة زمنا. فالعادة في الطبقة المتوسطة أن يؤتى بها مصبوبة في الفناجين على طبق من الفضة. أما في البيوت الكبيرة فيتعاون في تقديمها ثلاث خادمات على الأقل: إحداهن تحمل الطبق يجلله غطاء مخملي مزركش وقد تهدلت من حواشيه الهدبات الذهبية والفناجين مصفوفة عليه. وتحمل الخادمة الثانية أبريق القهوة في شبه مجمرة فضية امتلأت بالرماد المتلظي. بينما الخادمة الثالثة تصب القهوة، وتدور بها على الزائرات»
13
أما الأحاديث فهي طبعا لا تختلف عن المألوف حتى اليوم في الدوائر النسائية غير المتنورة و... وربما المتنورة أحيانا. موضوعات لا تنفد مادتها كأنها الماء كلما غالبت في الإسراف منه زاد تدفقا وسيولا. وتلك الموضوعات هي الولادة، والخطبة، والزواج، والموت، وخصام الأزواج، وخصام العائلات فيما بينها، والثروة، والاغتياب إلخ. ولكن يخيل أن السيدات المصريات لم يكن يومئذ لتنطبق عليهن التهمة التي يحب الرجال أن يلصقوها بالمرأة؛ لأن «نية سليمة» تقول بجلاء إنه:
ليس من الغريب أن يقطع الأحاديث غير مرة سكوت طويل وربة البيت لا تقلق من جراء ذلك ولا تجهد ذهنها للاهتداء إلى موضوع جديد. فقد حضرت مجالس السيدات قليلات التزاور فيما بينهن يظللن جالسات معا دقائق طويلة ثم يفترقن دون أن يتبادلن كلمات التبجيل المبتذل والمجاملة الشائعة ذات المراسيم المسهبة والجمل المهلهلة. فهي تنطوي على تمنيات ودعوات صالحات يتيسر ترديدها مرات عديدة دون أن يكون في ذلك غضاضة أو خشية الهزوه والنكتة.» «ثم تأتي زائرات أخريات فتنهض صاحبة المنزل للاحتفاء بهن ويحذو حذوها الجميع، فتلقي الواصلات الجديدات التحية، ولكن ما أدق الفوارق في أساليب التحية! إنهن يقبلن يد السيدة المسنة ويدعونها «عمتي»، ويقبلن وجنة مثيلتهن في السن والمرتبة ويدعونها باسم «الأخت» العذب، ويقابلن معارفهن الأقل مؤالفة بتحية «تركية» أما السيدات الأوروبيات فيصافحنهن باليد.
14
إن اللائي يحضرن اجتماعات السيدات المصريات يعلمن أن وصف صنوف السلام ما زال حيا بحياة الواقع في أيامنا. ولقد كانت دواما ساعات السلام لي أوقات اغتباط ودرس أتبين فيها العادات الراسخة وأحلل أسبابها ما أمكن، بيد أن هناك نوع سلام آخر يدخل في الصنف الثاني الذي وصفته «نية سليمة» إلا أنه يتجاوزه للإفراط في التودد والتعاطف. وهو ضم الخد إلى الخد مرة بعد أخرى وإرسال قبلات سريعة متوالية في الهواء يسمع لها مصيص شائق كأنه تغريد طائفة خاصة من الطير. وفيما يتعلق بالتحية «التركية» أو «اللاتوركا» كما يقولون فهي كما تقول «نية سليمة»:
كم من نبل وكياسة في التحية التركية، وكم تنويعها ميسور؛ فاليد اليمنى تنفتح بهيبة وبلا توتر وتستطيل في تحدر أكثر أو أقل بعدا حتى ليصل إلى الأرض عند الضرورة. ثم إن النصف الأعلى من الجسد الذي انحنى يعود إلى التقويم والاعتدال مسايرا حركة اليد التي تدنو من الفم أولا، ثم من الجبهة دون أن تمسها، وتركن أخيرا إلى موضعها تاركة خلاء في الهواء كما يترك مرور جناح الحمامة.
Bilinmeyen sayfa