مقدمة
1 - البارق في الظلام
2 - عصر الشاعرة
3 - النشأة والزواج
4 - بيئة الشاعرة
5 - شاعرة بثلاث لغات
6 - أشعارها في الغزل والأخلاق والدين
7 - نثرها
مقدمة
1 - البارق في الظلام
2 - عصر الشاعرة
3 - النشأة والزواج
4 - بيئة الشاعرة
5 - شاعرة بثلاث لغات
6 - أشعارها في الغزل والأخلاق والدين
7 - نثرها
عائشة تيمور
عائشة تيمور
شاعرة الطليعة
تأليف
مي زيادة
عائشة تيمور «شاعرة الطليعة».
مقدمة
الشاعرة عائشة عصمت تيمور هي بنت إسماعيل باشا تيمور. ولدت سنة 1840م بمدينة القاهرة. بدأت حياتها تميل إلى تعلم القراءة والكتابة، وقد آنس منها والدها هذا الميل، فأحضر لها اثنين من الأساتذة؛ أحدهما يعلمها الخط والقرآن والفقه، والآخر يعلمها الصرف والنحو واللغة الفارسية. وبعد ما أتمت حفظ القرآن الكريم تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية، وفي مقدمتها الدواوين الشعرية، حتى تربت عندها ملكة الأدب. تزوجت من السيد توفيق زاده، وكان ذلك في سنة 1854م وعمرها أربعة عشر عاما، فتفرغت للشئون الزوجية، ثم تاقت نفسها إلى الأدب والعلم، فاستحضرت سيدتين لهما إلمام بالنحو والصرف والعروض، فأخذت عنهما حتى برعت وأتقنت نظم الشعر.
تعلمت اللغة التركية، التي أخذتها عن والدتها ووالدها، ووضعت في الشعر ثلاثة دواوين باللغات العربية والتركية والفارسية، وألفت في النثر كتابين هما: «نتائج الأحوال» و«مرآة التأمل في الأمر» وستقرأ عن هذين الكتابين للآنسة مي في هذا الكتاب. توفيت السيدة عائشة تيمور في 2 أيار السنة 1902 وهي في سن الثانية والستين.
الفصل الأول
البارق في الظلام
دعتني جمعية «مصر الفتاة» دعوة كريمة إلى إلقاء محاضرة على أعضائها في الجامعة المصرية. فوعدت. وخطر لي أن خير موضوع أتخذه هو شخصية نسائية غنية ندرسها معا. فتعرض لنا في سياق البحث موضوعات جمة في الأخلاق والأدب والاجتماع نمحصها قدر المستطاع، بينا نحن نرسم من المرأة صورة شيقة. فنسجل للحركة النسائية في هذه البلاد مفخرة أخرى تثير فينا الرغبات، ونستمد من وحيها المثل والمعونة والفائدة جميعا.
وما خطر لي ذلك إلا وصحبه اسم شجي يحيا دواما بزفراته الحارة المنغومة. زفرات تناقلتها الأصداء يوم لم يكن للمرأة صوت يسمع، فرسمت من الذاتية خطا جميلا حين كانت صورة المرأة سديما محجوبا وراء جدران المنازل وتكتم الاستئثار.
برغم ذلك أنشأت أنقب في تاريخ المرأة المصرية. وكنت كلما دققت نمت «التيمورية» في ذهني وتفردت صورتها أمامي؛ إذ لم يقم على مقربة منها صورة تسابقها أو تشبهها ولو شبها بعيدا. ونظرت إلي بعينيها المجهولتين المرمدتين باثة حسرتها، باكية شجوها، مهمهمة لي في خلوتي أبياتا كثر أمثالها في ديوانها «حلية الطراز»؛ حيث تقول:
حي الرفاق وصف للحي أشواقي
وحدث الركب عن تسكاب آماقي
قد جرعتني صروف الدهر مرتغما
لواعجا كحميم أو كغساق
أسال حر الهوى قلبي وأبرزه
جفني على يد آماقي وأحداقي
هذا شواظ الهوى في القلب ملتهب
وفي التنفس من آثار إحراقي
فطالعت كل ما عثرت عليه من آثارها، وجمعت من المعلومات عنها ما تيسر، وفكرت في نشر بحوث عنها. وكان يدفعني إلى ذلك:
أولا:
أن لعائشة فضل المتقدم بيننا وهي طليعة اليقظة النسوية في هذه البلاد.
ثانيا:
أن الجمهور يعرف أنها «شاعرة» دون أن يلم بما تتكون منه شاعريتها، ودون أن يقف على حال من أحوال حياتها أو يحلل ميلا من ميولها.
ثالثا:
أن النظرة في مقدرتها إنما هي اكتناه للذات المصرية ليس من الجانب النسوي بل بوجه عام. وسنرى بعد التحليل أن لعائشة مكانتها بين أدباء عصرها وليس بين الأديبات الشرقيات وحدهن.
رابعا:
أنها من عمال دولة القلم عاشت في وحدتها كثيرا، وأعطتنا في شعرها ونثرها صورة مؤثرة. أما رأيها في الحياة فحقيق بالانتباه والتبصر؛ لأنه رأي جمهور كبير من الشرقيين والشرقيات كان شائعا في زمانها وليس بالنادر في أيامنا هذه.
خامسا:
أن مثل هذا البحث يرافقه سرور متضاعف. أليس أن جميع طبقات الناس تلذ لها الروايات، وهي إنما تمثل حياة أشخاص وهميين؟ فكيف بحياة أشخاص عاشوا قبلنا وعانوا صامتين كل ما يعانيه أبطال الروايات! هم الذين توفرت لديهم شروط اليقظة أيام كان الجمهور منا في سبات واستكانة! وكم من نابه قضى تاركا آثاره فاكتفينا بالثناء عليها وعليه ثناء النائحات على كل ميت، فظلمناه في مماته بعد أن كان مظلوما في حياته! فلم نستجل من آرائه رأيا ولم نحلل من العوامل التي كونته عاملا.
كلا، لم نحلل بعد رأيا ولم نستجل عاملا؛ لأننا ما زلنا في هذا الفن الجليل أطفالا. نظرة إلى ما يكتب عن ثمرات المطابع عندنا ترينا (مع استثناء صغير) أننا نقابل الكتب الجيدة بأحد الأنواع الثلاثة التالية.
الأول:
أن نغفل ذكرها إغفالا حتى وإن كانت عنوانا قيما ليقظتنا الفكرية، وخطوة واسعة تستدعي الإعجاب والاغتباط. ولا يبرر هذا الإغفال حتى ولا الاعتذار بأن الجمهور يتطلب الآن موضوعات معينة لا يرضيه سواها؛ لأن هذا الجمهور المتهم هو هو الذي يبتاعها ويستهلك طبعاتها، فكيف يجد متسعا من الوقت لمطالعة كتاب بكليته ويضيق وقته وصبره دون قراءة سطر عنه؟
النوع الثاني:
هو إما مرقة دهنية لزجة مزجت فيها مواد الثناء والمدح والإطراء يطلى بها ذكر الكتاب، دع عنك كونه صائبا أو غير صائب، وإما تقريظ بالاستعارات المألوفة التي لم تعد تعني شيئا يختم (كما تختم جميع الصلوات بآمين) بكلمات لا مفر منها مثل «حث الجمهور على اقتناء هذا السفر النفيس» أو «التمني أن يصادف هذا الكتاب الشيق النافع ما يستحقه من الرواج والانتشار».
أما النوع الثالث:
الذي أرادوا أن يطلقوا عليه اسم «النقد الحديث» فهو نقيض «التقريظ» العتيق. ويفكهني أن أتخيل أحيانا أن جميع اصطلاحات الثناء والإطراء «أضربت عن العمل» هي الأخرى لحين ما فتكأكأت في مكان واحد متماسكة متجمدة، ففاجأتها قنبلة تائهة فافرنقعت متطايرة أشظاظا ملتهبة تقمصت بفضل بعض النقدة «العصريين» قذفا وطعنا وتهجما.
ومما يؤسف له أن من هؤلاء النقدة من هو ذو مقدرة كبيرة، لو هو أنال مقدرته كل موهبة من التثقيف والصقل والملاينة والكياسة الفنية، فتذكر أن نقده ليس بالبلاغ العسكري يعلن الأحكام العرفية، ولا هو بالمنشور الأسقفي يحرم عضوا من شركة المؤمنين وشفاعة القديسين، ولا هو بأمر «المعلم» القروي (على الطراز القديم) غضب على تلميذ مسكين لم يحفظ أمثولته كما ينبغي فحظر عليه أن يأكل، أو يشرب، أو يتحرك، أو يتنفس بغير سماحه . كلا. ليس النقد بشيء من ذلك. إن هو إلا نظرة فرد معرض للخطأ في عمل فرد آخر معرض للخطأ يختلف عنه ميولا وتأثيرات وكفاءة ووراثة. وإذا كان الأدب واجبا في الخطاب الشفهي، فهو في الخطاب الكتابي أوجب. وأول مظاهر الأدب هو التهيب أمام شخصيات الناس لكونها شخصيات إنسانية فحسب، فكيف بها إذا هي بذلت مجهودا ما، وكانت ذات ميزة علمية، أو فنية وأخلاقية؟
إن ألزم مميزات الناقد هي العطف. لست أعني العطف بمعنى الإغضاء والتساهل واعتبار العيوب والنقائص حسنات وكمالات. وإنما أعني عكس التحامل والتعنت ليتهيأ له التجرد من ذاتيته تجردا موقوتا يتسنى معه الدخول في حياة المنقود شاعرا معه، متوجعا لحاجته، مراعيا عادات بيئته ومطالبها، خاضعا لجميع مؤثرات المحيط، طالبا لحين غايته من الحياة. وإلا فكيف يدعي أنه فهم المنتقد عليه؟ وإن لم يفهمه فكيف يكون رسوله إلينا؟ كيف يجرؤ امرؤ على تحويل حاجات الناس إلى حاجته، وحصر عقلياتهم في عقليته، وسجن قلوبهم في قلبه، وقياس أحوال حياتهم بمقياس حياته، ثم يأتينا بحكم يزعمه نهائيا بلا نقض ولا إبرام؟! إلا أن ذاك هو الهاجي وليس بالناقد. هو المتصلب وليس بالفنان. هو الذي يتجاهل أن النقد لا يقوم بإظهار العيوب (وجميع الناس بارعون فيه) وإنما هو إحكام التمييز والتعليل، شأن المصور في توزيع الأنوار والأظلال على ما يجب أن تكون في اللوحة الواحدة.
أعلم أن بين نقدة الفرنجة كثيرين من المتحاملين، ولكن ما يأتونه من ضروب الطعن والنهش لم يقنعني بأن العصمة في جانبهم، ولم أر في أحكامهم سوى رأيهم الخاص ليس إلا ... وهذه الصورة التي أرسم من التيمورية إنما هي نظرة فردية في طبيعتها ولا زعم لي أنها صورة مطلقة. وأتمنى أن تتنبه الرغبة في معرفتها في نفس كل من شاء مسايرتي فيدرسها معي متصفحا روحها، راسما لذاته صورة منها خصيصة. فإن الحرية الفكرية هي ما ننعم به ولله الحمد. وبها سيبقى الإنسان كبيرا نبيلا وإن كان في سواها عبدا ذليلا. •••
وقد أحصيت الأسباب العمومية لدرس الشاعرة ، ولكن لدي سببا آخر؛ وهو مقابلة معنوية جرت لي معها منذ حداثتي القصوى.
كان ذلك في تلك البلدة بفلسطين وقد بدا الحي متجليا ببهجة الأعراس وبهائها لزواج ذلك الوجيه السري. ونصب صوان عظيم على سطح الدار الواسعة ليقام فيه مهرجان الفرح كل ليلة. فما يخيم الظلام إلا وتعزف الآلات الشرقية تحت الخيمة الوضاءة بتألق الأنوار ومعالم الزينات، الغاصة بوجوه القوم وأعيانهم من تلك البلدة وضواحيها.
إذ ذاك يهرع أهل الحي إلى الشرفات والنوافذ وسطوح المنازل يتسمعون إلى آهات الطرب الشائعة في الفضاء حتى لتتهادى أصداؤها نحو ما جاور من جبال الجليل. والأطفال مغتبطون بأن يحتضنهم صدر دافئ ويحميهم من أهوال الظلام، فتتنبه منهم النفوس لتفهم أعجوبة الألحان.
كنت على ذلك في ليلة فإذا بصوت ينشد على نقرة العود:
كحل بعينيك أم صبغ من الرحمن
جفن من السحر أم سحر من الأجفان
خال بخديك أم صنع من الديان
توهت فكر الأنام في الجفن والخالات
1
تبارك الله ما أحلاك من إنسان
سمعت وأصغيت ليس بنفسي كما كانت صغيرة وقتئذ بل بكل قواي الكامنة التي سينميها المستقبل وبكل ما في الأيام التي عشتها وسأعيشها من أمل ويأس وسعادة وشقاء. ولعلي استشعرت ببعض ما سأفهمه بعدئذ من نجوى الموسيقى الشرقية ... تقول إن الإنسان يجهل كيف ولماذا ولد، ولكنه يعلم أنه يحتاج إلى السعادة التي لم يفز بعد منها سوى بفتيت موهوم. تقول للطفل والشاب أنهما أكبر سنا مما يظنان، وتقول للقوي الظافر أنه ضعيف مدحور، وتقول لكل أحد إن حياته كانت إلى هذه الساعة خالية سخيفة قحطاء. تقول له إن في الدنيا أمورا لم يختبرها وإن جهله لها فقر وضنك وذل وعبودية وموت سبق الموت. تقول إن الاجتهاد والجهاد عقيم النتائج؛ لأن العمر قصير سريع العطب، وإن كل لحظة يجب أن «تعاش» بأكملها ليستخرج منها أقصى ما تكن. تقول إن القلب روي بالعبرات ينتظر اليد القادرة تضرب عليه ليتفجر كصخرة موسى ... وإذ تنطلق الأصوات سابحة كالأجنحة في فردوس من الألحان، ثم تصبح متفجعة منتحبة ، ثائرة، عاصفة تلج وتتمادى يخيل أن الفزع قد جوف تحتها هاوية تترامى فيها الأصداء المرتعشة. فتعكف النفس على حاجتها ووحدتها وحيرتها بين هذه الهاوية وذلك الفردوس، وتطلب التوازن والراحة في سحر الحب وذوب الحنان ... ولكن العمر قصير سريع العطب، وكل ما فيه موسوم بوسمه ... ولكن الحياة مراوغة في استقامتها، شحيحة في كرمها، وكل ما فيها كريم شحيح مراوغ مستقيم ...
هذا بعض ما قاله لي فيما بعد شهيق الأوتار، فهل فهمت منه عندئذ شيئا؟! لا أدري! ولكن كم ذا انتقش الظلام بالمشاهد الخلابة لذكر ذلك الشخص العجيب الذي لم يكن أحد يعلم ما إذا كان جمال عينيه كحلا أم صبغا من الرحمن! ذاك الشخص الذي تاهت به أفكار الناس فتجمهرت لتهتف: تبارك الله، ما أحلاك من إنسان! أتتصورون أثر هذا الرسم في مخيلة صغيرة شديدة التيقظ، وفي نفس لينة ترتعش أمام مظاهر الفن والجمال حتى لقد تبكي لمرور سحابة زاهية في الأفق الأزرق؟ •••
ولطالما سمعت هذا «الموال» بعدئذ من منشدين أصوليين وغواة يقبلون عليه إقبالهم على جميع الأدوار المصرية المشوقة. ولكن أكانوا يعلمون من هي شاعرته؟
أرجح أن تلك كانت نشوتي الموسيقية الأولى. فأبقت في أثرا، كأنما هو إشارة من روح التيمورية تنبهني. وما تبينت تلك الإشارة إلا عند مطالعة ديوانها والاهتداء إلى ذلك «الموال» فيه. فأدركت أنها حدثتني منذ زمن بعيد تلك الروح التي غاصت نفثاتها الحزينة الطروبة في أرواح المنشدين فحبست على أوتارهم ألحانا، وانطلقت على أمواج الهواء فنا وتغريدا وإبداعا. وهكذا تلك المرأة التي وقعت زفراتها في وحدة خدرها وراء الحجاب، صار الشجن والطرب منها فعالا تتناقله أجواء الأقطار وتتأثر به ليالي الأفراح في نازح الديار.
كذلك برقت التيمورية في تلك الظلمة وكان ذلك النور منها رمزا لنور آخر خطير. إن عائشة عصمت ظهرت حين كانت المرأة في ليل دامس من الجهل. فجاءت بارقا يبشر المرأة المصرية ومستقبلها.
الفصل الثاني
عصر الشاعرة
الحياة الفكرية والاجتماعية
بزغ القرن الخامس عشر على ربوع الغرب فجرا ما برح ينتشر ويعمم حتى شمل بنوره نهضة التجدد الكبرى. وما تولى إلا وقد جاء بحادثين بدلا حظ البحر الأبيض المتوسط وحظ مرافئه في الحركة التجارية والعمرانية. وهما اكتشاف فاسكو دي جاما طريق الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح، بعد أن شق كولمبس البحار وصولا إلى الأقطار الأمريكية. وبينا التطور يتتابع في الغرب حثيثا سواء في العلم وأسباب المواصلات وامتزاج الشعوب والصناعة والتجارة والثروة والحرية الفردية والكرامة القومية - كانت مصر، وقد حرمت من مرور تجارة الشرق، تتقهقر ببطء حتى انقطعت العلاقات بينها وبين العالم. وظلت ثلاثة قرون يحكمها بالاسم ولاة عثمانيون وتدفع الجزية السنوية إلى تركيا إلا أنها تعثو فيها تلك الفئة الطاغية من المماليك «البكوات». ففشت في أنحائها الخزعبلات والأوهام، واشتد العوز مهددا بالأمراض والمجاعات. والدول التي تتنافس الآن في اكتساب صداقاتها كانت قد نسيت حتى الوجود من هذه البلاد الفريدة بتربتها وتاريخها وحضارتها العريقة، الفريدة بموقعها الحربي المنيل النفوذ السياسي والرواج التجاري لجمعه بين القارات الثلاث وسيطرته على طريق المشرقين.
أي عجاجة لا تثير أعمال الرجل العظيم! هبط نابليون الشرق يستغله ويقيم عليه الركن الأول من عرش، أراد أن يخيم ظله على الشرق والغرب جميعا. فهبت الدول تقاتل الجبار وتتحالف لهزيمة جحافله. وصار القطر المهجور محجة للغايات؛ لأن البطل أدخله في خريطة أطماعه.
جاءت القوة العثمانية بقيادة القبطان حسين باشا وتكاتفت والحملة الإنجليزية في الرحمانية فزحفتا معا على القاهرة. فسلم الفرنسيون نهائيا في سبتمبر 1801 بعد الاحتلال بثلاثة أعوام دون جني أية فائدة حربية. وكم من عمل يؤتى في سبيل غاية تفشل، فإذا به موفور العائدة لغاية أخرى!
فقد أسفرت الإغارة الفرنساوية عن ثلاث نتائج:
الأولى قومية:
إذ شعر المصريون بأهمية بلادهم وبمقدرة الشعب على إزعاج الحكومة المستبدة إذا هو اتحد وتضامن. كما لمحوا وميضا من المدنية الأوروبية الحديثة ورغبوا في اقتباسها.
الثانية علمية:
إذ استصحب نابليون جماعة من العلماء الأخصائيين. فدرسوا طبيعة البلاد ومواردها، وأدخلوا الطباعة ونشروا الصحف وأسسوا «المجمع العلمي المصري»، وجاءوا في مختلف الموضوعات بأبحاث قيمة، منها وصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر الذي سيستفيد منه دلسبس، وأحدثوا إصلاحات كثيرة ذهب جلها إنما بقي منها جرثومة ستنمو بعد الآن على يد حكومة البلاد.
الثالثة سياسية:
أن بين ضباط القوة العثمانية كان ذلك الرجل الذي ولد هو ونابليون وولنجتون في سنة واحدة «1847م» وحكم مصر بعد محوه المماليك ... وبين رجال محمد علي رجلان يختلفان أصلا وعملا أحدهما كردي وهو محمد تيمور بن إسماعيل بن علي كرد، الذي كان ضابطا وساعد في استئصال دولة المماليك حتى صار من خاصة الوالي. فترقى في المناصب من كاشف، إلى محافظ، وتوفي سنة «1264ه/1847»، والآخر تركي الأصل وهو عبد الرحمن أفندي الإستانبولي الذي كان كاتبا في الديوان الهمايوني عند السلطان سليم الثالث ثم صار ذا مكانة عند محمد علي حتى أنه بعد وفاته دفنه في القلعة. وكان لسلالة هذين الرجلين أن تحمل علامة اليمن. فقد تزوج محمد تيمور بابنة عبد الرحمن أفندي فكانا جدي الشاعرة. •••
ولدت عائشة سنة 1256 هجرية قبل وفاة محمد علي بتسعة أعوام، وتوفيت بعد تولية عباس الثاني بعشرة أعوام؛ أي إنها شهدت تطور بلادها على عهد أربعة ولاة هم: محمد علي وإبراهيم وعباس الأول وسعيد، وثلاثة خديوين هم: إسماعيل وتوفيق وعباس الثاني.
كان لمحمد علي مطامع سياسية معينة فبذل المجهودات لتأييدها في الداخل بإنشاء المدارس الحربية والمستشفيات العسكرية، وتنظيم الجيش وتخريج الأطباء، ونشر المعارف وإرسال البعوث إلى أوروبا لتتلقى العلوم الفنية والميكانيكية والحربية. أما في الخارج فكان يؤيد مطامعه بالحروب والفتوح.
وتتابع التطور ضئيلا خلال ولاية إبراهيم التي لم تدم سوى شهرين اثنين، وولايتي عباس الأول وسعيد حيث كان غرض التعليم محصورا في تخريج موظفين للحكومة وضباط للجيش. وإن امتاز عهد سعيد بأمور ذات شأن، منها وفاء ديون الحكومة، وحذف الجمارك الداخلية والاحتكارات، وإرجاع الحرية الفردية وحق الملكية إلى الفلاحين - بعد أن كان محمد علي قد جمع الأملاك بين يديه جاعلا الحكومة تسيطر على كل تجارة مع الخارج. وتم في عهد سعيد إنشاء القناطر الخيرية التي بدئ بها بأمر من محمد علي. وسعيد هو الذي فوض إلى صديق طفولته دلسبس أن يباشر حفر قناة السويس.
بيد أن الاندفاع الأكبر جاء في عهد إسماعيل فعاد إلى معالجة مشروعات محمد علي مرسلا البعثات إلى أوروبا، موجدا المكتبة الأهلية ومتحف الآثار المصرية، حافرا الترع للري ومجملا المدن الكبيرة.
وأصدر أمرا في أواخر عهده يعلن رغبته في أن يحكم بواسطة مجلس نظار، بعد أن كان أصدر أمرا بتشكيل مجلس نواب تأخذ الحكومة رأيه فيما تسن وتحور من النظم والقوانين وكان كاهل مصر قد أثقل بالديون مما أدى إلى قبول الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. فقام يوما ينكر على الموظفين الأوروبيين حق التدخل في شئون بلاده. فحملته الدول أثر ذلك على التنازل لولده توفيق تحت الرقابة الفرنساوية الإنجليزية فيما يتعلق بالمالية.
وقامت الثورة العرابية مطالبة - فيما طالبت به - بإلغاء الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. وكان ما كان من احتلال إنجلترا وتفويضها إلى لورد دوفرن درس مختلف المشاريع وتنفيذها في مصر. وبعد توقف القطر عامين استطرد فيه التنظيم والتقدم بحيث تمكن القاضي المفكر قاسم أمين أن يقول في رده الفرنسوي على الدوق داركور:
إن الحرية التامة سواء في التفكر والكتابة أصبحت مباحة، وإن المصري يتمتع الآن بكل ما ضمنه الإعلان الشهير من «حقوق الإنسان» وإن الجميع يتوقون إلى العلم ويتعلمون معتبرين أن هذا هو السبيل الوحيد للنهوض. منذ ثورة عرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته. استنار ذهنه فجعل يهتم بنظام الحكم وبالشئون العامة يقدرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة فإن مصر تيقظت بالفعل.
1
نشر قاسم هذا الكتاب سنة 1894. ولما توفيت عائشة بعد ثمانية أعوام كانت حركة التطور في ازدياد وقد أضيفت إليها عناصر فنية متنوعة. •••
أهي يقظة الفكر عند الأفراد تهيئ اليقظة القومية أم هي يقظة الجمهور ومطالبه والأحوال المحيطة به التي تخلق الأفراد وتحبوهم بالمواهب الضرورية ليتكلموا بصوت الجماعة؟
أظن أن التفاعل هنا محتم كما هو في كل أمر آخر. فالأفراد يخلقون الجمهور والجمهور يخلق الأفراد؛ لأن القوى البشرية محكمة الترابط فيما بينها، فإذا انتبهت إحداها تأثرت بذلك الانتباه جميع القوى وهبت متجددة نابضة ، مبدعة. كأنها الصوت الواحد يحدث هزة في مكان من الهواء فتتناقله الموجات المسارعة حتى يرن في أقطاب الفلك جميعا.
ولكن يخيل أنه قبل تنفيذ أي عمل يقتضي رسم خريطة خيالية جلية في الذهن الناضج الصافي، خريطة من الخرائط التي يسمونها المتهكمون «نظريات» وهذه النظريات التي تثني لذكرها شفاه العلميين هي من الأهمية بحيث إن الطبيعة لا تجمع عادة (وإن فعلت نادرا بشذوذ جميل) بين مقدرتي النظر والعمل في شخص واحد؛ إذ إن لكل منهما صفات تنافي صفات الأخرى. يهيئ النظريون الخرائط الذهنية، فينظر فيها سواهم بعين النقد والتمحيص مستخرجين منها ما لاءم حاجة الوقت، وينفذها آخرون فتصير شيئا محسوسا يستخدم ويخدم. كأنما هي «المثل الأفلاطونية» التي بموجب نظريتها لا تكون المحسوسات إلا انعكاس أفكار كائنة في ذهن الإله الأعظم. تلك هي حكاية التلغراف اللاسلكي التي ابتدأت مع مكسويل وهرتز وبرنلي نظريات وتعديلات علمية، فصارت مع ماركوني عاملا آليا تعنو له مجاري الجواء في نقل الأفكار. وتلك هي حكاية الغواصات التي كانت في كتب جول فرن الفرنسوي رؤى وأخيلة علمية. فبسط أديسن الأمريكاني لوزارة بحرية بلاده إمكان إنشائها في تقرير نسخه الألمان سرا، وسيروها خلال الحرب مدنا متحركة تخفر البحار وتصادر سفن الأعداء وسفن من كان لهم مواليا وظهيرا. وتلك هي حكاية الثورة الفرنساوية أعدها الكتاب والمفكرون، والثورة الروسية التي مهد لها الروائيون والشعراء سبيلا. •••
وانتحت الحياة الجديدة في مصر هذا النحو. فإنه إلى جانب التحسين الزراعي والحربي والميكانيكي والمدرسي، ظهرت حركة أخرى راودها الغموض في البدء، إنما جعلت تتسع وتنجلي مع الأيام. نشأت عن تواصل الاحتكاك بمدنية الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشبان العائدين من أوروبا وقد تطعمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء، وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرت إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقنوا من الدروس الأوروباوية. وقدم مصر جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين أثر النكبات فكان صدم أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر العربي عموما.
بلغت تلك الحركة أشدها في عهد إسماعيل وقد بدت أدبية اجتماعية بعد أن كانت ميكانيكية علمية، يمتزج فيها استيحاء الجديد وتجديد «القديم» الاستيحاء بالاطلاع على مؤلفات الأجانب ونقل ما تيسر نقله منها إلى العربية. والتجديد بإعلاء شأن روح اللغة؛ إذ كانت يومئذ آلات مطبعة بولاق الأميرية والمطابع الأهلية الأخرى تشتغل لإعادة نشر مؤلفات «المدرسيين» من كتاب الإسلام وعلمائه الأقدمين. وكثرت الصحف حتى بلغ عددها السبعة والعشرين فترتب على ذلك «نشر أغراض عامة في تلك الجرائد ومباحث علمية وأدبية في صحيفة روضة المدارس وتخريج نوابغ من طلبة مدرسة دار العلوم على يد أستاذهم المرحوم الشيخ حسن المرصفي واستفادة بعض النبهاء من طلبة الأزهر بطول اختلاطهم بالمرحوم الشيخ جمال الدين العالم العصري حين ذاك، سلوك سبل أخرى في الإنشاء تستمد منها الأقلام. فعوضا عن الاشتغال بكتابة التهاني أو البشرى بمولود، أو التأسي على مفقود أو المدح أو الهجاء أو العتاب أو الاستعطاف أو التغزل بالغيد والغانيات أو مكاتبة الأصحاب والأحباب والرجاء والاعتذار التي هي من الأغراض الخصوصية، مالت الأقلام إلى الكتابة في حب الوطن وما يستلزمه من خير العمل والحث على الفضيلة والتباعد عن الرذيلة وحق الحاكم على المحكوم والمحكوم على الحاكم وغير ذلك من شرح حكم عالية هي من الأغراض العمومية. كل هذا كان أعظم مرشد للمطلعين عليها حتى ترتب على ذلك تغيير عظيم في الأساليب الإنشائية، وفي الحركة الفكرية وفي الشعور بالذاتية».
2
ذكر هنا أمين باشا سامي ذلك الرجل الشرقي الشبيه بفلاسفة الماضي كسقراط وسواه الذين لم يكتبوا وإنما أرسلوا تعاليمهم ضمن المحادثات العادية. وكانت أهم المحافل الفكرية هي الحلقة التي تعقد حول جمال الدين «في القهوة التي قرب قهوة البورصة القدي ...» «ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان» هذا رأي الدكتور شبلي شميل الذي عرف الأفغاني وجالسه وناقشه. ويتابع الحديث عنه قائلا: «لم يكتب فيما أعلم شيئا
3
وإنما يلقي على آخرين مقالات ضافية تنشر في «جريدة مصر»
4
تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده ويده الكاتبة لما كان لصوته صدى ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها عنه وماتت معهم؛ إذ كانت كل تعاليمه حديثا يلقيه بحسب مقتضى الحال» «وقبل «جريدة مصر» كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه. وأما «جريدة مصر» فكانت سببا كبيرا لإذاعة صيته ونشره في الآفاق.» «ولم يتهيأ له أن وقف خطيبا في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضا. وكان ذلك بمسعى أديب إسحق. وفي تياترو زيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبنى وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو أدنى تعب أن يتلعثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم.»
5
جاء الأفغاني مثالا محسوسا لتفاعل الأفراد والجمهور. إذ رأى ببصيرته النافذة ما يحرك نفوس إخوانه من العوامل المستفزة نفسه، دون أن يهتدوا إلى كيفية التلخيص والإفصاح. فتكلم فيهم بلغته «الممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب وإنما وقعها على الأذن كان محبوبا.
6
تكلم فيهم بفصاحته النارية فكان له اليد الطولى في تحريض الأفكار وإضرام الثورة العربية» فهو زعيم الناقمين في ذلك العهد، هذا الأفغاني الذي أرسلت شعلة روحه الشرر من أفغانستان، إلى بلاد فارس، إلى وادي النيل حيث مر كتيار لفاح.
شعر الفكر المتغير المتكيف بوجوب تبديل أستاره والتجلي بزي يوافق صورته الخفية فكان ذلك التطور في نتاج القرائح والأقلام من شعر ونثر، وإن كان في الشعر أسبق أما في النثر فأوضح. وظهرت مع الشعر الفصيح ضروب من الشعر العامي كالمواليا التي لم يألف معالجتها نفر من كبار الشعراء. وتجدد «الزجل» الطلي. وأما وضوح النثر فجاء من انتشار العلوم الطبيعية والرياضية، فمال الناس معها إلى إحكام المعنى وإخراجه من معمعة السجع والجناس والاستعارة والتورية. وبديهي أنه لم يفلح في ذلك أولا غير النفر اليسير، وتفرقت من الآخرين الطرق. فتحدى بعضهم أسلوب الأقدمين من صدر الإسلام أو من صدر العباسيين. وتسربت إلى أسلوب غيرهم ركاكة لغة الدواوين التي لم تخلص منها حتى في هذه الأيام. ولعل أقرب الأساليب منالا هو أسلوب الصحافة التي كانت وما زالت عندنا ميدانا للعلماء والشعراء والأدباء، وقد تحتم عليها التوفيق بين مختلف الأذواق والكتابة بلغة يفهمها الجميع على السواء. ولصحافتنا في ذلك تاريخ أعز. وما فتئ التحسن يبدو عليها من عام إلى عام وهي عامل كبير في رفع فكر المجموع، وربما كانت العامل الأكبر؛ لأنها العامل الأشمل. •••
وإذا كانت الحالة الفكرية والاجتماعية في تفاعل مستديم، فكيف كانت يا ترى العيشة العائلية؟ كيف كانت حالة المرأة؟ أكان يصل إليها صدى الخارج؟ أكانت تشتغل لرقي بلادها في دائرة الأسرة وتدرك معنى المطامع القومية؟
هاك شبه جواب عن هذه الأسئلة عند أمين باشا سامي الذي يخبرنا أنه في عصر محمد علي كان الأهالي: «عقبة كئودا في طريق تعليم بنيهم. غير أنهم لما تحققوا أن تعليمهم في تلك المدارس ومكثهم بها ينقل حالة أبنائهم إلى حالة أرقى من التي انتشلوا منها تحققت الرغبة عندهم.» «أما تعليم البنات فلم يصادف تسهيلا في عصره حتى اضطر إلى إصدار أمره إلى حبيب أفندي في 4 جمادى الثانية سنة 1247ه (10 نوفمبر سنة 1831م)
7
بشراء عشر جوار سودانيات صغيرات السن ينتخبن بمعرفة كلوت بك لتلقي فن الولادة ومعهن اثنان من آغوات الحرم يتعلمان فن الطب والجراحة.»
8
كانت عامة الفتيات تتعلم التطريز وأشغال الإبرة سواء في بيوتهن أو بالتردد على المعلمات القبطيات وغيرهن. ومنهن من يتعلمن القرآن على فقيه البيت. ونفسي تحدثني أن ذلك الفقيه كان ينطبق عليه وصف صاحب مذهب «هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد.»
ليأخذن التلاوة عن عجوز
من اللائي فغرن مهتمات
يسبحن المليك بكل جنح
ويركعن الضحى متأثمات
فما عيب على الفتيات لحن
إذا قلن المراد مترجمات
ولا يدنين من رجل ضرير
يلقنهن آيا محكمات
سوى من كان مرتعشا يداه
ولمته من المتثغمات
9 •••
أليس هذا قد كان رأي أكثر الأهل في معارف البنت وفي الذين يتولون تعليمها؟ بيد أن السيل متابع مجراه والوفود الأوروبية ترد أفواجا ومعها البعوث الدينية تؤسس المدارس للبنين والبنات. فأنشئت مدرسة راهبات الراعي الصالح في شبرا منذ 1844، وتلتها مدرسة الأمريكان للبنات بالأزبكية سنة 1856، ومدرسة راهبات الفرنسيسكان الإيطالية سنة 1859. وبينا مدارس الجوالي تتكاثر في أنحاء القطر أسست مدرسة البنات بالسيوفية سنة 1873 (ولم يسبقها من المدارس الأميرية سوى مدرسة الممرضات والقوابل منذ عهد محمد علي). وهي المدرسة التي تعرف اليوم بالمدرسة السنية. وتلتها مدرسة القربية سنة 1874 ثم انضمت ومدرسة السيوفية وعرفت بها. وكان عدد المدارس للبنات والبنين في ازدياد سريع حتى أنشئ منها في حياة «عائشة» ما يقارب الألف من مدارس أميرية ومدارس تابعة لمجالس المديريات أهلية وأجنبية عدا المعاهد الدينية والكتاتيب.
بيد أن المرأة لم تكن وصلت إلى دور تثقيف نفسها. بل كانت راتعة في انقطاعها وجهلها شأن من اعتاد الهواء الفاسد يضيق منه النفس ويعتل إذا هو انتقل إلى حيث الهواء نقي. وإنما هي الأقلية المتنورة من الرجال التي كانت تطلب في الزوجة شريكة وصديقة، وللأبناء التربية المنزلية الصالحة، وللبيت ذلك الجو المفرح الذي تخلقه المرأة بعذوبة حبها إذا هي قرنت بالحصافة والمعرفة. وكان أولئك الرجال يتشاكون الغم فيما بينهم، وليس من يقتحم مصادرة الرأي العام. حتى انبرى قاسم لا يبالي بتطعين الحراب، هادئا كمن جس مقاتل الخصم وتسلح بصارم الحق واليقين.
الحياة المنزلية
نحن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، في مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية قبل أن تبدل معالمها يد الهدم والبناء. وقبل أن تصقل بعض جوانبها يد التحسين الجديد. مدينة شرقية توالت عليها نوائب التاريخ واختلطت فيها أجناس الشعوب وهي لسرها الطويل كتوم توزعت في مختلف الجهات، منها البقايا الأثرية والجوامع البديعة الفائقة على الثلاثمائة، والحمامات والأسواق و«السبل» المرمرية المقدمة ماءها العذب لكل ظمآن يرتوي وفوق المدينة الجاثمة ترتفع تلك المآذن بقاماتها الهيفاء فيخيل أحيانا أن الإنسانية أعلت هياكلها في الهواء الأزرق ليس ليصل صوت المؤذن إلى المؤمنين على مسافة بعيدة فحسب، بل ليكون المبتهل في صلاته أقرب إلى باريه وأرسخ في الثقة بالاستجابة. وطورا تبدو تلك المآذن كأنها حراب أرسلتها أيادي الإسلام تنبئ الجائب بأنها على دوام الاستعداد لدفع الطوارئ عن الذمار.
في الشوارع والساحات تبصر أخلاطا من الثروة والفقر، أناسا يرتدون الأثواب النفيسة وعليهم دلائل النعمة والرخاء، وآخرين يرتدون الأطمار البالية وعليهم دلائل الذل والشقاء. ولكن «رغم مشهد الفقر والمرض عند الشعب فإن شوارع القاهرة ليست لتوحي الأسف والخيبة اللذين يشعر بهما المسافر في الأستانة ذات المنظر الفخم من الخارج، المحزن في الداخل. نعم إن أكثر هذه الشوارع مظلمة ملتوية متشابكة الواحد في الآخر كأنها مجاهل التيه، يعترضها هنا وهناك ممرات خفية وغاية ما يسع عابرها أن يستسلم لحكمة دابته وثقافتها. على أنها نظيفة يتعهدونها بالكنس والرش المنظم وبدلا من بلاط الأستانة الشنيع وتلك السلالم الحجرية في غلطة وبيرا، لا تجد هنا إلا أرضا مستوية صلبة تسير فوقها بلا عناء. أما المنازل القائمة على جانبي الشارع فهي في الغالب أشهق من بيوت عاصمة تركيا وأتقن صنعة، ففي كل وقت تبصر العين الواجهة المزخرفة بالنقش العربي، أو النافذة ذات المشبك الخشبي الدقيق الفن الأنيق التفاصيل، فيكاد المرء يغتفر لأجلها الغيرة التي أقامت هذا الحاجز بين داخل المسكن وتطلع السابلة.»
10 •••
كاتب أجنبي يجيئنا بهذا القول لا يرى في ذلك «الحاجز» سوى رمز «للغيرة». كأن الغيرة من واردات الشرق التي يتفرج عليها الغرب ولا يكابدها. ولكن هلم نقف أمام أحد هذه المنازل، أمام المنزل الذي نتطلع الآن نحو الماضي لأجله. هلم نستعين بالخيال حين لا وسيلة سواه، فنخترق جانبا من الحديقة الحافلة بالورد والرياحين تحت رعاية الأشجار ذات الظل الوارف. هو ذا الآغا يسير بنا إلى دار الحريم حيث تلقانا طغمة من الجواري والخادمات وتدعونا إلى الجلوس في الفسحة الواسعة الموفورة النور والهواء أرضها تختفي وراء البسط العجمية والطنافس الفاخرة. والمقاعد والأرائك تدور في جوانبها، تتخللها الطاولات الصغيرة وعليها أدوات التدخين من علب اللفائف وأطباق صغيرة للرماد (منافض). وعلى جدرانها تتألق مياه المرايا العميقة الصافية. وقام في وسطها خوان كبير من الخشب المموه بالذهب، تتدلى فوقه الثريا العديدة الشموع المنحدرة من السقف المصنوع من خشب الجوز المجمل بالنقش والزخرف بل هي هبطت من صميم رسم مثل وردة كبيرة تناوب فيها الحفر والتخريم بنتوء مستدير وسيم. فكان النور خلال تلك التخاريم من جهة إلى جهة نفيذا.
هذه هندسة أكثر منازل الطبقة العليا وما دونها قليلا في ذلك العهد وما بعده حتى أوائل القرن العشرين. أما البذخ والترف في بيوت الكبراء فيبدو في اتساع الغرف والردهات، وفي تعدد المقاعد والمرايا ونفاسة الأقمشة والثريات والطنافس. ولا بد من قاعة أو قاعات للاستقبال. على أن السيدات يقابلن عادة في هذه «الفسحة» فسحة الدار، كل شهور الصيف الطويلة. وهنا تنعقد اجتماعات الأسرة سواء في الليل والنهار.
اقتبس هذا الوصف من كتاب الزوجة الأولى لصاحب الدولة حسين رشدي باشا. كانت السيدة فرنسية ووضعت كتابين بلغتها وقعتهما باسم «نية سليمة» المستعار فوصفت فيهما المجتمع المصري وعاداته على ما أدركته في أواخر القرن الماضي. وإنما استندت على هذا الكتاب
11
لأن هدى هانم شعراوي التي تفضلت فأعارتنيه مع الكتاب الآخر
12
قالت لي إنه أصدق ما قرأت من نوع هذه الكتب في وصف العادات المصرية، وأكثرها إنصافا وأقربها إلى الواقع. وإذا أضفنا إلى ذلك أن «نية سليمة» عاشت في ذلك المجتمع وعاشرته وأحبته، غير ضاربين صفحا عن بطء التطور الاجتماعي، ولا سيما في الشرق وفي الأيام الخالية، أمكننا أن نقول إن هذا الكتاب وإن أنشئ في أواخر القرن التاسع عشر فهو يقرب كثيرا إلى ما كانت عليه في أيام عائشة.
فلتكن إذن «نية سليمة» دليلنا. •••
هي تقول لنا إن هذه السيدة الجميلة البشوشة التي جاءت مرحبة وجلست على المقعد قربنا هي ربة المنزل. أما أولئك النسوة الجالسات على «الشلت» فهاك خبرهن: «إنهن من المترددات على المنزل، وليس لهن أن يجلسن قرب السيدات على المقاعد، وإن كن أرفع قدرا من الخادمات الجاثمات على البساط أو على الحصيرة»، «هن من الجواري البيض المعتوقات ومن الجواري السود اللاتي حججن. ومعهن الدلالات بائعات الأقمشة والبضائع. ومعهن المراضع وأخوات الرضاعة وقارئات القرآن وسواهن من النديمات ومن المختلفات إلى المنزل لأغراض شتى. يأتين ويجلسن القرفصاء كل اثنتين أو ثلاث على «الشلتة» الواحدة، ويشتركن في الحديث ويروين الأخبار.» «أما الزائرات المهمات فتأتين وبعد كلمات الترحيب وتقديم لفائف التبغ تحضر القهوة التي يستغرق تقديمها من الزيارة زمنا. فالعادة في الطبقة المتوسطة أن يؤتى بها مصبوبة في الفناجين على طبق من الفضة. أما في البيوت الكبيرة فيتعاون في تقديمها ثلاث خادمات على الأقل: إحداهن تحمل الطبق يجلله غطاء مخملي مزركش وقد تهدلت من حواشيه الهدبات الذهبية والفناجين مصفوفة عليه. وتحمل الخادمة الثانية أبريق القهوة في شبه مجمرة فضية امتلأت بالرماد المتلظي. بينما الخادمة الثالثة تصب القهوة، وتدور بها على الزائرات»
13
أما الأحاديث فهي طبعا لا تختلف عن المألوف حتى اليوم في الدوائر النسائية غير المتنورة و... وربما المتنورة أحيانا. موضوعات لا تنفد مادتها كأنها الماء كلما غالبت في الإسراف منه زاد تدفقا وسيولا. وتلك الموضوعات هي الولادة، والخطبة، والزواج، والموت، وخصام الأزواج، وخصام العائلات فيما بينها، والثروة، والاغتياب إلخ. ولكن يخيل أن السيدات المصريات لم يكن يومئذ لتنطبق عليهن التهمة التي يحب الرجال أن يلصقوها بالمرأة؛ لأن «نية سليمة» تقول بجلاء إنه:
ليس من الغريب أن يقطع الأحاديث غير مرة سكوت طويل وربة البيت لا تقلق من جراء ذلك ولا تجهد ذهنها للاهتداء إلى موضوع جديد. فقد حضرت مجالس السيدات قليلات التزاور فيما بينهن يظللن جالسات معا دقائق طويلة ثم يفترقن دون أن يتبادلن كلمات التبجيل المبتذل والمجاملة الشائعة ذات المراسيم المسهبة والجمل المهلهلة. فهي تنطوي على تمنيات ودعوات صالحات يتيسر ترديدها مرات عديدة دون أن يكون في ذلك غضاضة أو خشية الهزوه والنكتة.» «ثم تأتي زائرات أخريات فتنهض صاحبة المنزل للاحتفاء بهن ويحذو حذوها الجميع، فتلقي الواصلات الجديدات التحية، ولكن ما أدق الفوارق في أساليب التحية! إنهن يقبلن يد السيدة المسنة ويدعونها «عمتي»، ويقبلن وجنة مثيلتهن في السن والمرتبة ويدعونها باسم «الأخت» العذب، ويقابلن معارفهن الأقل مؤالفة بتحية «تركية» أما السيدات الأوروبيات فيصافحنهن باليد.
14
إن اللائي يحضرن اجتماعات السيدات المصريات يعلمن أن وصف صنوف السلام ما زال حيا بحياة الواقع في أيامنا. ولقد كانت دواما ساعات السلام لي أوقات اغتباط ودرس أتبين فيها العادات الراسخة وأحلل أسبابها ما أمكن، بيد أن هناك نوع سلام آخر يدخل في الصنف الثاني الذي وصفته «نية سليمة» إلا أنه يتجاوزه للإفراط في التودد والتعاطف. وهو ضم الخد إلى الخد مرة بعد أخرى وإرسال قبلات سريعة متوالية في الهواء يسمع لها مصيص شائق كأنه تغريد طائفة خاصة من الطير. وفيما يتعلق بالتحية «التركية» أو «اللاتوركا» كما يقولون فهي كما تقول «نية سليمة»:
كم من نبل وكياسة في التحية التركية، وكم تنويعها ميسور؛ فاليد اليمنى تنفتح بهيبة وبلا توتر وتستطيل في تحدر أكثر أو أقل بعدا حتى ليصل إلى الأرض عند الضرورة. ثم إن النصف الأعلى من الجسد الذي انحنى يعود إلى التقويم والاعتدال مسايرا حركة اليد التي تدنو من الفم أولا، ثم من الجبهة دون أن تمسها، وتركن أخيرا إلى موضعها تاركة خلاء في الهواء كما يترك مرور جناح الحمامة.
والوداع يشبه السلام فتعاد عنده طقوس الاحتفاء والتبجيل ذاتها. أما التفصيل الحري بانتباه خاص فهو أن السيدات اللاتي لا يرين مطلقا أزواج صاحباتهن يحسبن مخلات باللائق إن لم يبعثن إليهم بالسلام مع زوجاتهم. وربة البيت لا ترافق زائراتها بل تتقدمهن إلى الباب فيتبعنها.
15
لطيف هذا! ومعناه المشيعة تسهل لزائراتها السبيل وأنها تخرج من منزلها على نوع ما بخروجهن أو هي تودع معهن شيئا منها. وإني لأوثر هذا على السير وراء الزائرات كما تطردهن طردا وتقتفي أثرهن لتكون على ثقة من ذهابهن والتثبت بأنها تخلصت لحين ما من ورطة وجودهن ...! •••
هب أن هذا المنزل الذي زرناه الآن متبينين فيه بعض عادات ذلك العهد هو منزل إسماعيل تيمور باشا،
16
وأن تلك السيدة ربة البيت التي رحبت بنا هي والدة عائشة، «وهي جركسية الأصل معتوقة والدها إسماعيل تيمور باشا»،
17
فأين عائشة الصغيرة نفسها؟ أين الشاعرة العتيدة التي نلتفت اليوم إلى معالم الأمس لننال لمحة من حجر نعمتها وما فيه من خطوط ألفتها فكان هيكل زفراتها وهديلها؟!
ألا فاعلم أن عائشة اليوم بنية صغيرة لا تحضر مجالس «السيدات» ولا تختلط بالزائرات إلا لتقبل أيديهن إن كن من صديقات والدتها وقريبات أسراتها. وإذا شئت أن تراها فعليك بذلك المخدع المنفرد حيث تجدها مع أختيها.
الفصل الثالث
النشأة والزواج
نشأة الشاعرة
مع أختيها؟ إذن بين فتيات ثلاث متقاربات سنا، متماثلات حالا، كيف لنا أن نهتدي إلى ضالتنا؟ لو عرفنا صورتها امرأة لاستدللنا بملامحها المتركزة لنتبينها الآن بين أختيها لاعبة لاهية - أو هادئة راصنة كما كان وما زال كثيرون من الشرقيين يريدون لأبنائهم جاعلين حداثتهم شيخوخة، مكبلين منهم البداهة على نوع ما فيحرمونهم مرح الطفولة الهنيء وذكريات الغفلة ونعومة البال. إلا أن الشخص الوحيدة الذي في وسعه أن يطلعنا على تفاصيل معيشتها، أعني شقيقها الجليل أحمد تيمور باشا
1
يفوته من حياتها قسط وافر؛ لأنه ولد قبل وفاة والده بسنة (1871) يوم كانت عائشة في الحادية والثلاثين، تعيش زوجة وأما في منزلها بعيدا عن دار والدها. لذلك رغم كل ما نقلناه عند أحمد باشا من الاستعداد لتلبية السائل، فإنك لتراه أحيانا يتوقف عن الجواب ريثما يراجع تذكاراته، ثم يقول ببسمة الآسف «والله ما اعرفش.»
بيد أني فزت منه بهذا الوصف الظريف في إبهامه؛ «كانت لا طويلة ولا قصيرة، لا بيضاء ولا سمراء، لا سمينة ولا نحيفة» أما عطوفة إدريس راغب باشا الذي رآها في حداثته في زيارة والدته فطنت هانم حرم إسماعيل راغب باشا
2
فقد رد على استفهامي بقوله: «مش في بالي تمام كانت ازاي، لكن كانت حلوة والله»، كذلك بعد مرور أعوام، وقد تقدمت عائشة في السن، رأتها حرم شعراوي باشا تزور الزوجة الثانية لوالدها محمد سلطان باشا.
3
وقالت لي إن كل ما تذكر منها أنها «كانت ست كدا الأتوركا» مفهوم أنها لم تكن ألافرانكا»!
ولكن أظننا بلا دليل ولا علامة قد نعرفها بمجرد الاستسلام لهدى الفراسة. إن التي ترجح على أختيها بمثل ما رجحت عائشة لا بد أن تحوي ملامحها منذ الصغر شيئا يختلف عما يرى في وجه عادي الصغار. فنحب أن نتصورها طفلة دمثة في العاشرة من عمرها، تنضح شفتاها المتوسطتا الحجم بطلاوة العاطفة وشوق المحبة. شفتان تهمان بالافترار لتذوق المستطاب المستساغ من طعوم الحياة جاهلتين ما وراء ذلك من حنظل وغسلين. ونحب أن نتخيل في العينين القاتمتين من معاني الشجن وغزارة العواطف ما يتفق مع معاني الوجوم واللذاذة في الثغر. ونكاد نرى تينك الشفتين تختمان بالخط اللطيف البارز بدقة كأنه حفر حفرا، الذي يرى في شفاه أهل الفن والذوق، وفي شفاه بعض الشعراء. كأنه يشير إلى الأوزان التي سيضبط توقيعها العواطف المستفيضة الشاردة، ويقتنص الزفرات الملتهبة المتدافعة ليسكبها فيما يظل منضدا على القرطاس نظيما، ويظل على شفاه الطروب من الناس شاديا. •••
من أين جاءت هذه الصغيرة بميلها المبكر إلى الكتب، وبوراثتها الشعرية والبيانية، وميل جدها جلي لحمل سلاح الجندي دون سلاح الكاتب؟! أمر لا تتيسر معرفته، إلا للذي اطلع على ما يجهله كبير الأسرة الحالي، أحمد تيمور باشا، من تاريخ التيموريين قبل الهجرة إلى مصر. بيد أن المعروف عن والدها أنه كان راغبا في العلم والأدب، فألف كتابا ضمنه خلاصة مطالعاته محاكيا به سفينة الراغب
4
ووضع لأسرته تاريخا باللغة التركية كان في نية السيدة عائشة أن تنقله إلى العربية (نروي هذا عن أحمد باشا وقد أخبرته به شقيقته الشاعرة فيما بعد). وجمع مكتبة نفيسة تشتتت بعد وفاته كما تبعثرت أصول الكتابين اللذين لم يطبعا. على أن لذلك الفاضل أجمل أثر يحمد في تعليم ابنته والعناية بتثقيفها في عصر ضنين على النساء بالتعليم والتثقيف وإن عائشة لتذكره دواما بالشكر والتحنان، وترثيه بعد وفاته بقصيدة ملأى بالعبرات:
أبتاه، قد حش الفراق حشاشتي
هل يرتضي القلب الشفوق جفائي؟
يا من بحسن رضاه فوز بنوتي
وعزيز عيشته تمام رخائي
إن ضاق بي ذرعي إلى من أشتكي
من بعدك فقدك كافلا برضائي؟
5
ليس هذا من مألوف الشكوى والثناء. بل هو كان لها على الدوام نصيرا منذ الصغر في جهادها ضد والدتها التي كانت تحثها على تعاطي أشغال الإبرة.
ولا يفوتنا الآن - في هذه النقطة من بحثنا - ما زلنا أيام كان أبناء العظماء، حتى الملوك أنفسهم، يتزوجون من معتوقاتهم. ولطالما استهجن كتاب الفرنجة هذه العادة ذاهبين إلى أن دماء العبيد تجري في عروق أكثرية الشعوب الشرقية. وما هي منهم إلا نظرة سطحية؛ إذ ليس أولئك الجوار دواما من أصل وضيع؛ فمنهم الكريمات أسيرات الحروب. وقد قذفت حرب المورة، مثلا، إلى مصر بكمية وافرة من بنات اليونان، ومنهن الشريفات المخطوفات، ومنهن الشركسيات يبيعهن الأهل مدفوعين بحب الرفعة والتقدم لأولادهم الذين إذا عاشوا في جبالهم كان حظهم محدودا، أما إذا انتقلوا إلى بلاد أخرى عن هذا الطريق فلهم أن يتعللوا بأكبر الآمال ويرتقوا أعلى المراتب.
لست مبررة عمل الأهل، إنما أنا شارحة إحساسهم، نعم إن كثيرين من أولئك الأولاد يحلون بيوتا صغيرة يعملون فيها للخدمة فيجيء الإعتاق متأخرا، ويكون الزواج فقيرا والجهاز ضئيلا. ولكن الشرع الإسلامي شديد الرفق بالرقيق، جم العناية بحاله. ثم قد يسعد الصبي فيصير «مملوكا» ألمعيا، وتصير البنت «هانما» غنية. ولهم أن يحلموا حتى بالعروش.
هذا من جانب الأهل. أما الأزواج فلم يكونوا يومئذ ليطلبوا في المرأة سوى خصائص الصحة والجمال الجسدي وجودة البنية، فتزيد أو تنقص قيمة الجارية بقدر ما تحوز من تلك الخصائص. فيخرجونها على أعمال معروفة كتدبير المنزل، وأشغال الإبرة، وفنون الرقص والعزف والغناء أحيانا، ويربونها على عادات الكبراء وعلى طريقة من الطاعة تتلاقى فيها الأنفة والإذعان.
وهناك سبب اجتماعي آخر في مصلحة الجارية، وهو كونها بكليتها لعائلتها الجديدة. يقول الظرفاء إن آدم كان أسعد الأزواج؛ لأن حواء كانت «مقطوعة» فظل حياته في نجوة من صولات أهلها وجولات أنسبائها. والحق يقال من عيوب المجتمع الشرقي ذلك التطاول المرق الذي يسمونه «وحدة حال» أو «يا سلام! الناس بالناس!» وبه يستبيح بعض الأقارب والأنسباء ما كان يجب أن يحجموا ويقفوا دونه. مسلم أن البر بالأقارب حسن ومحمود، ولكن على شريطة ألا يكون ذلك باعثا على إضرار العائلة وتنغيصها، وألا يكون معناه انتهاك حرمة البيت من ذلك الجيش الجرار الذي تسحبه بعض النساء الشرقيات كأنه الهدية الواحدة من هدايا العرس المنقلبة ضربة لازب، جيش يصير همه ابتداع الأكاذيب وتلفيق الروايات، لا سيما إذا كثر الاختلاط وظهرت أسباب المنافسة والحسد. وإنما باعتدال المعاشرة والاحتفاظ بعادات كل عائلة، والسهر على استقلالها الداخلي وراحتها وأسرارها يتحقق التفاهم بين الأقارب وتنمو المودة، أما التطاول والتهجم فمؤديان إلى القطيعة حتما. وقد بدأ الشرقيون يفهمون أن البنت عند زواجها ثمرة نضجت فسقطت عن شجرتها، فأضحى أول واجباتها محصورا في العائلة الجديدة التي تنشئها، كما تتقيد البذرة بالثمرة الجديدة التي كونتها تنفيذا لناموس الخليقة. ولقد كان هذا الاستقلال العائلي، وتقديس حدود البيت والتفرغ للاعتناء به، والقيام بما يعود عليه بالرفاهية والهناء؛ من أكبر عوامل تقدم الأمة الإنجليزية. كما أن نقيضه في كثير من الأسر الشرقية من أهم عوامل التقهقر؛ إذ كيف يتقدم وينجح من كان في حياته البيتية شقيا!
هذا ما كان ينجو منه زوج المعتوقة. وقد ذكرت «نية سليمة» قول سيدة مصرية معتوقة إنها ستبتاع في الأستانة زوجة لولدها؛ لأن «بنات باشواتنا كثيرات الدلال. أريد لابني زوجة بلا حم ولا حماة لأضمن سعادته»!
6
يدرك القارئ والحالة هذه، أن والدة عائشة لم تكن تفهم تشبث ابنتها بالكتب، ويدرك أنها كانت تجدها شاذة فتسأل الله عليها صبرا ولها معونة! •••
غير أن الأب الحصيف قريب يسمع ويتبصر. فتقول لنا زينب فواز في كتابها «الدر المنثور» إن الباشا عندما رأى الجدل متتابعا بين زوجته وابنته تفرس في هذه النجابة وقال لوالدتها: «دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقرب». وأحضر لها اثنين من الأساتذة، وظل يعنى بها، فما تمكنت من معرفة إلا يسر لها الأخذ بأخرى. وتشهد لنا عائشة بفطانة والدها وعطفه في مقدمة كتابها «نتائج الأحوال»؛ حيث تقول والدتها إذ تراها عاكفة على الكتاب والقرطاس كانت تأتي:
وتعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزد إلا نفورا، وعن صنعة التطريز قصورا. فبادر والدي، تغمد الله بالغفران ثراه وجعل غرف الفردوس مأواه، وقال لها: «دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها فأدبيها بما شئت من الحكمة.» ثم أخذني بيدي وخرج بي إلى محفل الكتاب، ورتب لي أستاذين؛ أحدهما لتعليم اللغة الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية. وصار يسمع ما أتلقاه من الدروس كل ليلة بنفسه ...
وهي تتبسط في هذا الحديث في مقدمة ديوانها التركي والفارسي
7
بكلام مشوق، لا سيما أنه أهم ما لدينا لمسايرتها في نشأتها. فتكرر القول أن والدتها كانت تحثها على تعلم التطريز ورأيها «أن هذا النسيج هو أداة النساء وأستاذ المعارف لبنات حواء ...» أما عائشة فلا تراه إلا «كالهم العنيف ...» فتتابع: «وبالرغم مما كان متأصلا في نفسي من الميل إلى تحصيل المعارف من جهة والحصول على رضى والدتي من جهة أخرى، فإن نفسي ما برحت نافرة من المشاغل النسوية.» وكان من دأبي أن أخرج دائما إلى قاعة منزلنا (السلاملك) فأمر بمن يوجد هناك من الكتاب لأصغي إلى نغماتهم المطربة. ولكن أمي - أقرها الله في رياض الفراديس - كانت تتأذى من عملي هذا فتقابلني عليه بالتعنيف والتهديد والإنذار والوعيد. وتجنح أحيانا إلى الوعود اللطيفة والترغيب بالحلي والحلل الطريفة. أما أبي، رحمه الله، فكان يخاطبها بمعنى قول الشاعر التركي:
إن القلب لا يهتدي بالقوة إلى الطريق المطلوب
فلا تجعل النفس معذبة في يد اقتدارك ...
فاحذري من أن تكسري قلب هذه الصغيرة وأن تثلمي بالعنف طهره، وما دامت ابنتنا ميالة بطبعها إلى المحابر والأوراق فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها. وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي «عفت» وأعطيني «عصمت». وإذا كانت لي من عصمت كاتبة وشاعرة فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي.
ثم وجه أبي خطابه إلي قائلا: تعالي إلي يا عصمت. ومنذ غد سآتيك بأستاذين يعلمانك التركية والفارسية والفقه ونحو اللغة العربية. فاجتهدي في دروسك، واتبعي ما أرشدك إليه، واحذري أن أقف موقف الخجل أمام أمك» فوعدت أبي بامتثال هداه، ووعدته على أني سأبذل جهدي لأكون موضع ثقته ومحققة أمله.
8
في مناقشة هذين الأبوين وتغلب الأب في النهاية، أمثولة لكثير من الوالدين في هذا العصر. فالأهل يقر رأيهم منذ حداثة أبنائهم في الغالب ، على السبيل التي سيسلكون. فيقولون: نجعل هذا طبيبا، وذاك محاميا، والآخر مهندسا، وأخاه تاجرا ... إلخ. ولو هم تفحصوا الميول والممكنات لربما وجدوا أن المحامي المزعوم لن يفلح في غير الطب، وأن المهندس خلق للتجارة أو للصحافة وأن الطبيب هيأته الطبيعة لبيع الأثاث القديم في المزاد العلني. وهلم جرا. هذا عدا تعويد الولد لباسا وأساليب لا تتفق مع مقدرته المالية، وبث الأطماع الجنونية فيه حيث لا كفاءة ولا حذق يؤهلانه لتحقيق الغايات الكبيرة. كثير من شقاء العالم اليوم راجع لسوء تدبير الأهل. فيصرف الأولاد الأعوام في تلمس السبيل مجهدين نفوسهم في نيل ما ليس لهم، معذبين الآخرين وكل قلق حائر ففي صراع الأنانيات لتركيز الحظوظ وتنظيم المعيشة.
أما شاعرتنا فقد نعمت بأب يجمع بين الإدراك والمقدرة. فسيرها في هذا الاتجاه الذي تطلب نازعة عن الإبرة التي تكره، والمنسج الذي تلقى، حتى إنها لا تذكر تلك الأشغال النسائية إلا بالاستنكاف والاشمئزاز.
هنا ملاحظة صغيرة؛ لأن هذا القول عن عائشة سيزيد في تعميم الخطأ الشائع؛ وهو أن الفتاة إذا هي أحبت الدرس والعلم، وإذا هي برعت في معرفة أو فن، رغبت عن أشغال المرأة وترجلت. وأنا أقول - وإني لأعلم ماذا أقول - إن هذا إلا مذهب طائش غبين. إني أعرف فتيات ونساء ينهضن من المسرات الأدبية والفنية، بل ومن أعمق وأعوص النظريات الفلسفية، إلى أشغال الإبرة والتفصيل، بل إلى ما دونها من رفو ورتق، وتدبير المنزل ومزاولة الطبخ. فيجدن في كل ذلك راحة وسلوى. ويدخلن في تلك الأعمال الوضيعة شيئا من التفنن محولات ما فيها من خشونة إلى ضرب من الكياسة.
كذلك رأي طائش وغبين ذاك القائل إن الاطلاع والعلم «يرجلها ...» إنها لتتضاعف بالعلم أنثويتها. ومن السخافة أن ينعى على المرأة المتعلمة التأنق والزينة واللطف. حتى أن صورة المرأة «المتعلمة» لتكاد تستحضر لمخيلة الناس عجوزا دميمة متصلبة شرسة. ولماذا؟ أترى الرغبة في تنوير الأذهان والتوق إلى حياة داخلية سامية، يعني الزهد في الدنيا، والانقطاع عن العالم، والانفراد للدرس والتحبير شأن الرهبان في الأديار؟!
ثم أليس من الغريب أن الرجل إذا هو برز في الشعر أو الفن أو الفلسفة، تأنث بعض الشيء،
9
بمعنى أنه يدق فكره وتصقل عواطفه؟ فكيف تتحور العوامل التي يتأنث بها الرجل فتكون عند المرأة مدعاة للترجل؟
لا أنكر وجود المترجلات بين المتعلمات؛ والسبب أنهن بطبيعتهن كذلك. وقد تجد المترجلات بين الجاهلات الغبيات، كما تجد بينهن من لا يعنيها أمر بيتها ولا إلمام لها بتطريز أو بتفصيل أو بتنظيم. شغلها الشاغل الزينة والثرثرة والانتقال من زيارة إلى زيارة. وقد تكون كذلك دون ترجل، وبالعكس. فإن لم تهتم عائشة بأشغال الإبرة فإنها على غير استعداد طبيعي لها. ولو لم تحب الكتب والكتابة لما زاولت تلك الأشغال، ولو زاولتها ما أتقنتها. وذلك لم يقلل من عذوبة أنثويتها الخالصة.
وعلى كل فلنغبطها على الوصول إلى غايتها، ولنصغ إليها تخبرنا باختصار كيف أنها منذ السابعة من عمرها إلى الثالثة عشرة صار دأبها التزام الانزواء، «منكبة على دروسي أجتهد فيها فوق ما كان ينتظر أبي مني. غير أن أبي لم يكن يأذن لي بالخروج إلى مجالس الرجال، وتولى بنفسه تعليمي كتب البلاغة الفارسية مثل شاهنامة الفردوسي والمثنوي الشريف، واختصني من ساعتين من وقته في كل ليلة أقرأ فيهما عليه ...»
10
هذا الأب الذي يعرف أن يكون أستاذا وصديقا معا جدير بكل شكر وثناء. •••
أنت الشاعر، أنت الأديب، أنت الفنان، أليس أنك تذكر من أعوامك الأولى ظرفا خاصا، أو مشهدا جميلا، أو كلمة محمسة، أو وجها محبوبا أهاج بلابلك، ولفتك إلى نفسك، وكأنه وسع فيك أفق نور وفتح في جنانك بركان نار؟ أليس أن لك ساعة تفتق فيها من نبوغك البرعم الأول؟
ولعائشة مثل تلك الساعة! ما هو الباعث فيها على الشعر؟ هو الوجه الذي تسفر له المرأة المحجوبة؛ وجه الطبيعة. حنت الطبيعة ذات ليلة على الشاعرة الصغيرة فتولدت في نفسها الفتية خوالج جديدة، ورأت البدر منيرا والليل جميلا، وكأن لصفحة السماء روحا تحس وتناجي. دعها تلقي علينا حديث وحيها:
في خلال هذه المدة كنت أنظر في دواوين الشعراء ، وأعالج النظم بالأوزان السهلة. وفي إحدى الليالي جاءتني مربيتي بباقة ورد وضعتها في مشربيتي. وكانت الليلة ليلة البدر. ففيما أنا أمتع ناظري بذلك المنظر دعتني أمي إليها. فجعلت باقة الورد في أمانة البدر. ثم عدت من عند أمي فوجدتها مبددة فأحزنني ذلك كثيرا ... ووضعت ناصيتي في كفي، وأخذت أفكر فجادت قريحتي ببيتين من الشعر الفارسي ...
11
ألا يحلو لك تيقظ العاطفة على هذا النمط؟ أتبصر معي تلك الطاقة النضرة في نور القمر، والبنية تستعطف البدر لأجل ما تحب؟ ثم تعود فترى البدر غافلا، وطاقة الورد مبددة، وتوسلها وأملها هباء ...
رمز يا عائشة، رمز إلى ما في الحياة الممتدة أمامك! فلا ما هو موضوع الإعجاب والرجاء ليستجيب، ولا ما هي نضرة الأزهار لتبقى. وإنما الإنسان هو الذي يثق ويبتهل ويخيب ويحزن. فيؤدي به ذلك إلى تجربة مرة، أو عاطفة جريحة، أو اختبار قاس!
ذاك وحيها الأول، وهو منظر ما زال غني الوحي لقرائح الشعراء، ومخيلات العاشقين، بل لجميع القلوب الحساسة. ولكن لنصغي إلى بقية الحديث.
وعندئذ دخل علي أبي فرأى ما بي من الحزن وسألني عن حالي، فأنشدته الشعر وأنا في خجل وحذر. وإنما كنت كذلك لأن أبي كان كلما رأى في يدي ديوان شعر يقول لي: «إنك إذا أكثرت من مطالعة الشعر الغزلي فسيكون ذلك سبب زوال كل دروسك من ذاكرتك ...»
أما الآن فإنه لما سمع شعري أعاد كلامه الأول وزاد عليه قوله: «إن الشعر إذا لم يكن باللغات الثلاث - العربية، والفارسية، والتركية - لا تكون له حلاوة ...» ثم قال لي: «إذا أتممت الكتب التي بدأت بها سآتيك بمعلمة تعلمك العروض. وإني أتوسم فيك السرعة في تعلمه ما دامت عندك هذه الرغبة ...» فأجبته بأني قد حصلت على قليل من معرفة النظم باللغات الثلاث. فطلب مني أن أنظم قطعة من الشعر. فقبلت ذيله وانزويت في غرفتي. ففتحت كتاب المثنوي الشريف مستمدة من روحانية ناظمه. وبدأت أنظم على وزن شعر الرباعيات الذي مطلعه: عزم ديدار تودار دجان ما .
12
نظمت هذا الشعر باللغات الثلاث الفارسية والعربية والتركية، وأنشدته والدها. فضمها إليه وقال:
إن ما فيه من غلطات اللغة وسقطات القافية ستدركينه بنفسك فيما بعد. وإذا بقينا أحياء إلى العام القادم فإنني سأدع الكتب التي أقرئك إياها وأجعلك تبدئين بقراءة متن «الكافية». «ولكن لم يحل العام القادم بعد طول الانتظار حتى تقيدت بقيد الزواج.»
13
بهذه الكلمات القليلة ذات الروح الجديدة في قدمها، تخبرنا عن نفسها إلى حادث الزواج الذي لا تذكره إلا بكلمة واحدة. ومن ثم تنتقل في تلك المقدمة إلى الكلام عن ذاتها بعد مرور عشر سنوات على زواجها. أما أنا، فعند هذه الكلمة الوحيدة التي تغير حياة الفتاة بكليتها، أقف طويلا وأتأمل. وكم كنت أود استطلاع ما شعرت به عندما أبلغت أنه تم اختيار ذاك الذي سيكون زوجها. أي عواطف جاشت في نفس تلك الشاعرة الصغيرة؟ أي حنان وخوف؟ أي صبابة وإجفال تناوبت على قلب ناظمة القصيدة التي روت لنا الآن حكايتها مع أبيها، فجعلت هذه الأبيات العربية بين الأبيات الأخرى من تركية وفارسية:
يا شهي الذات يا حلو اللما
ضاع عمري في عسى ولعلما
إن عددت النوح مني طالما
قد جرى دمعي بخدي عندما •••
إن سقى دمعي الثرى لست الملوم
مذ سقاني العبد مقدور الظلوم
ذقت حبا والهوى نار السموم
قاطف زفراتي، بخلاق السما •••
مت حرصا فيك أن قربتني
ودنا أجلي إذا أبعدتني
إن حرمت الأنس أو آنستني
فعلى كل جوابي أينما
هذا ما قالته وهي في الثالثة عشرة قبل أن تطلق لعواطفها العنان وقبل أن «يرخص لها رسميا» أن تتخذ لنشيدها موضوعا حيا. فأي الأناشيد تغرد الآن في القلب الصغير إذ ترقب «وجهه» من وراء النافذة وهو داخل؟ وإذ ينقلون إليها أخباره؟ وأن تتصوره فيه اليوم وهو بعيد؟ وإذ تفكر في الغد حين تكون معه؟ ليتها دونت لنا يومياتها في ذلك العهد؛ إذن لتمتعنا بتأثرات بريئة شهية! ... ولكن لقد أغفلت الكتب وأسلمت الكراريس للغبار والسكون، ولهت التلميذة المجتهدة بتهيئة الأثواب الجميلة الزاهية والحلى المتألقة الغالية. والأيام تحدو الأيام سراعا في إتمام معدات العرس. ولقد أقبل أخيرا اليوم العظيم يوم تنفتح السماء فوق المرأة مرسلة إليها قضاء السعادة أو قضاء الشقاء.
وها هي ذي بطلتنا الآن ليست شاعرة بل هي عروس شعر في بهجة أعوامها الأربعة عشر، تنجلي على عرش الصبا والرواء والحب. الأمل يزهو على شفتيها، والتأثر يلهب خديها، والرغد يبسم في نظراتها، ويخافون عليها عين السوء في مهرجان الفرح فيذرون فوقها وحواليها حفنات الملح، كما تذر في القاعة حفنات النقود للبائسين.
ها هي ذي تسير في موكب العرس إلى بيت عريسها يتقدمها ثلة من البوليس، وأخرى من الفرسان، وحملة الشموع والأزهار، والموسيقى الوطنية الشجية بألحان الناي ونقر الطبول. تتبعها مركبتها المجللة بنفيس الأقمشة ووراءها خط طويل من مركبات المدعوات. ها هو ذا بيت الفرح تخفق حوله الأعلام المصرية الحمراء، وتلمع بينها عديد المصابيح الملونة ... ها هم وصلوا، ووقفت مركبتها ... وقد جاء الخاطب يستقبل عروسه ويقودها بيده إلى مخدعها وسط جلبة المدعوات، وتراكض الخدم والآغاوات، والأصوات والزغاريد الممزقة الهواء.
وبينما هي تبدل أثوابها وتخرج إلى قاعة الفرح لتحضر دورا آخر من الرقص والغناء يذهب الزوج الفتى «بزفة» إلى الجامع بين أصحابه، لتأدية فريضة الصلاة. ولكن ها هو قد عاد، وجاء يقابل عائشة التي تنزل عن درجات عرشها (كوشا) وتقف مرتعشة مسدولة الخمار، في انتظار إتمام الطقس المألوف ... الفتى يجثو للصلاة. ثم ينهض ويدنو من الفتاة فيرفع الحجاب وينظر في وجهها للمرة الأولى، ويشبك على صدرها حلية ثمينة فتقبل يده شاكرة ويرد هو على هذه القبلة، بقبلة على جبهتها. ويلقي بحفنة من النقود إلى من بقي حولها من النسوة فيختفين. ويصعد العروسان إلى (الكوشا) فيجلسان في بهجة الفرح وسرور الأهل والأصدقاء. وبعد هذه الليلة تستهل حياة جديدة.
وهنا نترك الشاعرة وشأنها تحيا قصيدة ليست هي نظما ولا نثرا.
بعد الزواج
تزوجت عائشة فانتقلت بالزواج إلى عالم جديد له ما يرافقه من حرية ومسئولية، وما يخالطه من مسرات وغموم، ولقد كان يشوقنا أن نقف على وقع هذا الظرف الخطير في نفسها، وأن نستشف اللون الذي بدت لها الحياة به بعد أن اختلفت في بعض جوهرها عن حياتها في بيت أبيها.
ترى أكان لها من هذا الانتقال مستطاب الأثر أم مستنكف الخبر؟ أكانت به محظوظة أم مغبونة؟
حسن أن نعلم، بفضل «الدر المنثور» أنها «هنالك اقتصرت عن المطالعة وإنشاد الأشعار والتفتت إلى تدبير المنزل وما يلزم له خصوصا حينما رزقت بالأولاد والبنات.» ولكنا مضينا على تخمين ذلك وإن لم نخبر به؛ لأنه أمر طبيعي. أمر طبيعي كذلك أن يسوقها كسواها عباب الحياة اليومية متشابها للجميع بمادته، وإن تغاير حتما لكل امرئ بتغاير مزاجه وبتفاعل هذا المزاج والأحوال التي تعالجه ويعالجها. أما ما ولده هذا الانتقال في الشاعرة من خوالج، أما نسيج شعورها في تلك الأعوام السحيقة فذاك ما يظل مغلقا علينا لولا لمحات نسترقها فيما كتبت، ولولا القليل الذي ترضى أن تلقي به إلينا، فتقول:
وبعد انقضاء عشر سنوات كانت الثمرة الأولى من ثمرات فؤادي، وهي توحيدة نفحة نفسي وروح أنسي، قد بلغت التاسعة من عمرها، فكنت أتمتع برؤيتها تقضي يومها من الصباح إلى الظهر بين المحابر والأقلام، وتشتغل بقية يومها إلى المساء بإبرتها فتنسج بها بدائع الصنائع فأدعو لها بالتوفيق شاعرة بحزني على ما فرط مني يوم كنت في سنها من النفرة في مثل هذا العمل، ولما بلغت ابنتي الثانية عشرة من عمرها عمدت إلى خدمة أمها وأبيها فضلا عن مباشرتها إدارة المنزل ومن فيه من الخدم والأتباع. فتسنى لي أن أنصرف إلى زوايا الراحة.
14
إذا نظرنا إلى توحيدة بعيني أمها وجب أن نسلم بأنها فتاة غير عادية. وسيكون لها من محبة والدتها نصيب فوق نصيب كل من إخوتها وأخواتها، وبسبب توحيدة هذه ستبكي عائشة كثيرا، كثيرا. •••
كانت قبل الزواج قد تلقت عن مؤنس أفندي القرآن الشريف والفقه والخط، ودرست على الأستاذ خليل رجائي علم الصرف واللغة الفارسية التي سبق فعلمنا أن والدها تولى متابعة تلقينها إياها قبيل زفافها، مكرسا لابنته كل يوم ساعتين من وقته. ثم تلت أعوام جاءت في مطلعها توحيدة التي شبت فطنة الذهن، يقظة الفؤاد، فحملت على منكبيها الفتيين تبعة الإدارة المنزلية والتنظيم. فانقلب بشاغل عائشة ذلك الشوق القديم، وعاد إليها بقوة الحب الذي ساير عمرها في الحزن والفرح - حب الدرس والمطالعة: «حينئذ خطر لي أن أستأنف ما فاتني في صغري من تعلم فن العروض فجئت بمعلمة» ... «ولكن لم يمض على الشروع في الدرس ستة أشهر حتى انتقلت المعلمة إلى رحمة ربها. وكانت بنتي تلازم دروسنا في تلك المدة فاستطاعت - بسبب حداثة سنها وتوقد ذهنها - أن تلم بفن العروض أكثر من إلمامي به.»
15
توحيدة مرة أخرى! ترى لماذا تشغف الشاعرة بذكرها، والإشادة باسمها، وإظهار محاسنها، ألما تنطوي عليه من توقد وذكاء؟ ألأنها جاءت العالم وعائشة حديثة السن فكانت الأم لابنتها - فيما كانته - أختا كبيرة، وكانت البنت لوالدتها أختا صغيرة؟ ألأنها رفعت عنها عبء التدبير المنزلي وكانت، في الوقت نفسه، أقرب أولادها إلى تفهم ذوقها وميولها؟ أم لاجتماع هذه الميزات في توحيدة بعد كونها البكر وهي تلك الميزة الأولى التي ذاقت الشاعرة بها لذة الأمومة للمرة الأولى؟
يتعلق بعض الأهل - لا سيما الأمهات - كل التعلق بأبكارهم. ولئن أردف قوم من المدعوين بعلماء النفس الذين لا تطمئن منهم الخواطر إلا إذا أوجدوا لكل سيل جبلا يصدمه - أن هذا التعلق يخف بعد أعوام محدودة يوم يفتح الولد على الشئون عينا ترقب وتبرز من شخصيته الخصائص المستقلة. وأن جماعة من الأمهات يداخل حبهن عندئذ بعض الكره والنكد؛ لأنهن يرين في بناتهن المنافسات والمسابقات. هذا إذا كانت الأم من دعيات التأنق وعاشقات اللألاء الاجتماعي في الأندية والحفلات.
لئن قال بعض السادة العلماء ذلك فإن قولهم ينطبق على فئة وتتملص منه أخرى. تتملص منه وتحلق فوقه في جو المحبة والرحمة والدراية تلك الفئة الصالحة من الرجال والنساء المولودين، ليكونوا آباء وأمهات؛ لأننا هنا أيضا نجد المختارين الصميمين، وعلى مقربة منهم يدب الدخلاء ويتحرش المتطفلون. والحالة الوالدية - كأية حالة طبيعية أو اجتماعية سواها - إن هي كيفت الأفراد فهي لا تكيف منهم سوى فطرتهم بجبلتها ورغباتها وميولها. لذلك لا تبدو بأسنى مظاهرها وأبقاها إلا في الشخصيات المهيأة لها. •••
وعائشة مهيأة لذلك على ما نرى من ولعها بتوحيدة - توحيدة الآلة القادرة التي تتحول بواسطتها رواكد العاطفة الوالدية عند الشاعرة تيارا دافقا. فهي تحب منها المواهب والحسنات وتخلف للعيوب الهزيلة تفسيرا لا يهتدي إليه ويترجمه بهذا اللطف، إلا من استنار بنور الجنان.
هاك مثلا لذلك:
الفتاة التي كانت تقوم بإدارة المنزل ورقابة وضيع أعماله الداخلية كانت، على ما يلوح، لا تقصر دون إتقان أعمال أخرى تقتضي بعض اللباقة، كاستقبال الزائرات والاحتفاء بهن.
فجاءت يوما بعض السيدات (ويظهر أن الغرض من زيارتهن أن يخطبنها، وهي تجهل ذلك) فخفت توحيدة ترحب بهن ريثما تأتي والدتها، وقالت ملاطفة بموجب الطقس المألوف «أوحشتونا». إلا أنها كان بلسانها لثغة خفيفة قضت بأن تجيء أوحشتونا «أوحستونا!» وهنا دخلت السيدة عائشة فسمعت الكلمة التي حرفها العيب اللفظي، فمضت تشرح ذلك العيب على هذه الصورة:
قال العواذل مذ قالت مؤانسة «أوحستنا» أنها تجفو وذاك غلط
لم يبدل الشين سينا لفظها غلطا
بل لم يسع ثغرها الزاهي ثلاث نقط
16
ومرت على الشاعرة فترة - تقول زينب فواز - فقدت خلالها والدها (سنة 1882) ثم زوجها بعد ثلاثة أعوام، «وصارت حاكمة نفسها، فأحضرت لها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض إحداهما تدعى فاطمة الأزهرية، والثانية ستيتة الطبلاوية، وصارت تأخذ عليهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره وأحسنت الشعر وصارت تنشد القصائد المطولة والأزجال المتنوعة ...»
17
يجوز الاعتراض هنا بأن عائشة نظمت كثيرا قبل تعلم النحو والعروض على هاتين السيدتين. فقد طالعنا في ديوانها مثلا قصائد الترحيب بميلاد أخيها، وتأبين والدها، وغير ذلك، وجميعه وقع قبل أن «تبرع في الشعر وتتقن بحوره»، ومن هنا نستنتج أن استفادتها من قليل الدروس السابقة كانت غير هزيلة.
ولكن، أليس أن ضوابط النظم تتعلق بالموسيقى السمعية أكثر منها بالقواعد المدونة؟ والواقع أن هذه القواعد لم تكن إلا تقريرا محسوسا لتلك المطالب الدقيقة التي تجهر بها حاسة السمع، فتلبيها أفراد الطائفة الواحدة كل من جانبه على غير تعاهد من الآخرين. حتى إذا أجمع كثيرون على أمر واحد عرفوا أنه حاجة أولية فعرفوه بيانا، ودونوه قاعدة، ترجع إلى حكمها الأجيال من هذه الطائفة. لا لأنها «حكم»، بل لأن هذا الحكم يترجم عن الحاجة النفسية التي نشدتها حواس الشعراء في الماضي وستنشدها على الدوام. لذلك نرى أن شعراء جميع البلدان في جميع العصور أوجدوا في مختلف اللغات - غير متحالفين فيما بينهم وجاهلين بعضهم بعضا - بحورا للشعر وأوزانا وضوابط موسيقية ذات وقع لفظي في النفس (حتى لمن لا يفهم اللغة)، بينما المعنى الشعري يحبو النفس بوقعه الخاص. وعوارض المغالاة والإغراق والتمسك بصيغة النظم دون المبالاة بالجوهر، طوارئ تداهم اللغات تبعا لحالات الأقوام ووفقا لنواميس الاجتماع، إلا أنها لا تنقص من الشعر دعامته الموسيقية المؤثرة.
كذلك قد يعترض بعض أهل الذوق اعتراضا خافتا على أن معلمة العروض تدعى ... الطبلاوية، قائلين إنه على التي تعلم الأوزان الشعرية أن تنتحل لها اسما يتفق مع عملها ويوحيه للسامع. ولكن، أليس للطبل من موسيقى؟ وإن لم يكن للطبل شدو اللحن والنغم، أليس أن له موسيقى الفصل والوقع والتعريف؟ والسيدة الطبلاوية لم تكن تلقن الشعر، وهو ليس بما يتلقن، بل تعلم كيفية التمييز بين اتزانه وانكساره. فاسمها بهذا متضمن لعلمها وعملها.
وسواء رضي أهل الذوق لهذا الشرح أم لم يرضوا فليذكروا أنه أمر فائق أن يوجد بين السيدات الشرقيات من يستطعن في ذلك العهد المظلم للنساء أن يدرسن هذه الدروس، في حين أن من يستطعنه اليوم نادرات بيننا وقليلات عند الشعوب الأخرى. أذكر أن كاتبا فرنسويا كبيرا (أظن ألفرد كابس
Alfred Capus ) ندد قبيل الحرب الأولى في مجلة «فمينا» بالسيدات الفرنساويات؛ لأنهن، بعد إحصاء فئة من المتعلمات بينهن، ظهر أن العارفات بقواعد النظم وأصول البحور الشعرية، يكدن لا يبلغن الخمس في المائة. فما أعظم فضل تينك السيدتين الأزهرية والأخرى، ولو كانت الطبلاوية، بما كانتا تعرفان، وبأنهما أضافتا إلى مصباح عائشة زيتا يعين على تغذية نوره!
بيد أن تمتع الشاعرة بالابنة المحبوبة لن يطول. قدر على توحيدة أن تموت باكرا في ربيع الصبا . علة مجهولة ترقبها وتنفث في جسدها وهي تكتم أمرها رفقا بالتي تحبها. وها هي تسرد لنا طرفا من حديثها المحزن:
قبل أن تنطرح على فراش المرض فاجأتها في أحد الأوقات وهي في رداء نومها وبين أناملها قلم تكتب به القطعة العربية الآتية:
اسمع مقالي يا أريب
وقصتي شرح مريب
قد كنت في دوح الصبى
أهتز كالغصن الرطيب
أصبحت حالي عبرة
يبكي على مثلي الغريب
كلا، ولا لي منهل
أروى به إلا النحيب
فالدمع مني ساجم
والرمس أضحى لي قريب
يا رب عجل رحلتي
واغفر ذنوبي بالحبيب
فلما رأتني مقبلة عليها دست رقعة الشعر تحت وسادتها بسرعة، ولكني بادرت في الحال لاستخراجها، فاختطفتها مني، ثم خاطبتني قائلة: «لا تعبئي يا أمي المشفقة بمثل هذه الثرثرة.» ثم قالت لجاريتها: «خذي هذه الورقة فاحرقيها.» فلحقت بالجارية وأخذت الورقة منها وألححت عليها بالسؤال فأجابتني: «إن سيدتي تتناول الطعام معك إذعانا لرأفة أمومتك، ولكن الطعام لا يبقى بعد ذلك لحظة في جوفها وهي تذهب كل ليلة إلى سرير نومها تطمينا لقلبك غير أنها لا يغمض لها جفن» ...
18
إن نحن وجدنا هنا دليلا جديدا على لطافة توحيدة وحرصها على راحة والدتها، فلا يسعنا إلا التعجب كيف أن الأم الشديدة الحب لم تلمح على وجه ابنتها أمارات المرض. نتعجب - لولا الاستدراك بأن التي ترى أن ثغر توحيدة الزاهي لا يسع ثلاث نقط فيقلب الشين سينا قد تعثر بسرعة على عذر شعري يكتفي به قلبها لكل تغير وكل شحوب.
أما وقد ثبت أن الفتاة مريضة حتى لترثي نفسها، فهاتوا الأطباء، وهاتوا العلاجات، وبالغوا في الاعتناء والمداراة! إلا أن المقدور نافذ لا محالة. والمريضة تعلن ذلك وتلقي على والدتها كلمات التعزية والتشجيع. إنها أقبلت على عالم السر والرهبة فاستمدت منه الحكمة التي تهبط على كل من حاذاه. واستلهمت الغيب إرشادا للمتخلفين فقامت، وهي الصغيرة وهم الكبار، تعظهم بسطوة الراحل وحقه على النصح والتوديع الهادئ:
عبثا تدفعك الشفقة يا أماه إلى معالجة أمراضي؛ فإنه قد آن الأوان. ولا مناص من تلبية نداء المنادي «كل من عليها فان»، وإني أضرع إلى الله أن يلهمك صبر أيوب وأن يمنحني نعمة رضاك فيكون ذلك سبب الرحمة والتجاوز عن سيئاتي وأن يصون شقيقتي وإخوتي.
ثم ضمتني إلى صدرها فاعتنقنا. وبتنا ليلتنا إلى الصباح في بكاء وانتحاب ونواح.
19
قضت توحيدة، فأقامت لها الأم مناحة دامت سبعة أعوام متوالية، فأضعف البكاء نظرها وأصابها الرمد. «وهنالك كثرت لواحيها وعواذلها من أولادها وصويحباتها.» «وأخيرا سمعت قول الناصحين وقللت شيئا فشيئا من البكاء والنوح حتى شفاها الله من مرض العيون.»
20
وهذا خبر ذلك الشفاء من قلمها:
أصبح جسمي الضعيف كأنه فاقد الحياة لكثرة أتعابي وأوصابي. ثم أنعم الله علي بالشفاء وأشرقت ظلمات كآبتي بنور وجود ابني محمود، فكان فرحة بيت الحزن.
21
يخيل أن هذا الفتى محمود شب على شيء من ميول توحيدة، وكأنه قد صمم على أن يقوم ببعض ما كانت تقوم به أخته الكبرى ليفوز بتعزية والدته ويربح محبتها الخاصة. ويظهر أنه نجح؛ لأنه هو «فرحة بيت الحزن» الذي شرع ينصح ويؤاسي ويذكر الأم الحزينة بالآية الكريمة:
وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . وهو الذي طلب أشعارها العربية ليجمعها، وأشعارها التركية ليطبعها فتكون «أثرا من آثار براعتك وفصاحتك.»
22
فقالت:
في استطاعتي أن أنظم الآن شيئا من الشعر شكرا لله، تعالى، على ما وهبني من النعم، أما أشعاري الماضية فكنت قد أحرقتها كلها، ولا أظن أن في مكتبتي إلا الشيء اليسير منها بالعربية والتركية. وأما أشعاري الفارسية فإنها لما كانت في محفظة فقيدتي فقد أحرقتها بمحفظتها كما احترق كبدي. «إن أمك يا بني لم تبق عندها الآن رغبة في قراءة شيء من كتب الأدب»، «وسأنصرف إلى الانكباب على تفسير القرآن ومطالعة الحديث النبوي وإني وهبتك ما عندي من الكتب والأوراق فاصنع بها ما شئت»، وإذا «رأيت فيها جدارة بالطبع فاطبعها.»
23
وكان ميل محمود شديدا - وكل ابن لأم ذكية يدرك ذلك - إلى إظهار فضل والدته بصورة عامة. فنشر الكتب وكان له بذلك علينا حق الامتنان. •••
في عنوان هذا الفصل، «بعد الزواج» شبه وعد بشرح أحوال غير معروفة وتبيين دقائق غامضة. وها أنا لم آت إلا ببعض الخطوط الكبرى التي استطعت تناولها. بيد أن الشرح لا ينتهي بانتهاء هذه الصحيفة. وعندما ننظر في شعر عائشة ونثرها وآرائها نظل مماشين تسلسل الأيام والأعوام في حياتها؛ لأن كل ما لدينا منه دونته إلا القليل بعد الزواج.
يخيل أن آجال الأفراد عموما تخضع لمقدرين أكبرين اثنين؛ أحدهما مداومة السير واستمرار التتابع ضمن حدود طبيعية وفي دائرة قوانين محتومة. والمقدر الآخر هو أن يعمل المرء طول حياته، مع بعض التغير في أنواع العمل بمقتضى الأطوار المختلفة، باختيار مسير - إن صح الجمع بين هذين النقيضين. وكأن العمل ينجز هو الآخر ضمن حدود ضربت له وفي دائرة قوانين لا يحرقها إلا مستهترا مفسدا على نفسه إمكان المعيشة.
جداول جداول تجري أعمار الأفراد نحو ما وراء الموت مما لا يحد ولا يدرك. جداول يسيطر عليها ذانك المقدران الشاملان في المرض والعافية، في الفرح والترح، في الأمل والقنوط، في الرغبة والاشتياق، في المحبة والكراهة. والأصوات المختلفة المتصاعدة بتأثير هذه العوامل تكون شدو الجداول البشرية - ذلك الشدو المطرب المشجي. وهذا الجدول من عمر عائشة هو الذي سنسمعه شاديا فيما يلي بإبهام كل خرير، ولذة كل قديم، وتبشير كل رائد ...
الفصل الرابع
بيئة الشاعرة
بيئتها الاجتماعية
ترى هل الحاضر إلا خلاصة ما أتمته الحياة واستهلكته من المطالب والجهود؟ وما هي البيئة إن لم تكن تلك «الخلاصة» منظمة بيد الإنسان وبمشورته أو منتظمة بحكم الأحوال والاسترسال؟ وهل اليوم إلا الماضي لغد، وهل يكون الغد إلا ماضيا لبعد غد؟
إن كل صباح وكل مساء يأتيان بمجهودهما وخبرتهما ليضيفاهما إلى ذخيرة الماضي الفسيح، وكل خيط من خيوط الزمان ينسج نسيجه في رحاب ما يمر ويتجمع ويبقى. وعندما ننتقل من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان، ومن آن إلى آن، لن نجد أمامنا إلا صورا مختلفة من صور الماضي الحي في كل حاضر وفي كل مستقبل.
فإذا ما ولد الطفل تلقته دائرة من دوائر الماضي التي تدعى «البيئة»، فوجد فيها بداهة ما يقوم بحاجته؛ لأنه هو كذلك صورة أخرى من تجمع الماضي، فلا غرو أن يقوم كل نوع بنوعه ولا غرو أن تحتشد أسرار الحياة وتوجز في البيئة التي هي صورة مصغرة من العالم. ولا غرو أن تكون ممثلة المعالم وللحياة في إغداق نعمها ومواهبها بلا سبب على بعض أسراها، وتكون لآخرين أقسى مثال للجور والتعسف والحرمان.
وليست البيئة من خصائص الإنسان، بل للجماد، والحيوان والنبات بيئتها الموافقة لنموها، الملائمة لطبيعتها. إلا أن الإنسان قد يكون في بيئته الحسية يقوم بكل فرائض مرتبته الاجتماعية ومطالبها ويعد فيها من السعداء أو من البؤساء، ويظل في داخله شاعرا بشعور غير هذا الذي يحسبه الناس عليه، ويرتبونه بموجبه. قد يكون جائعا وهو يقيم الولائم، سائرا في القفار وهو يتخطر في الحدائق، مستعطيا متسول الفكر والعاطفة وهو كثير الفضل والمنح. وعلى نقيض ذلك قد يشعر بأجنحة الحرية تصطفق في نفسه وهو مكبل بالقيود والأصفاد. وقد يلمس مكمن مقدرته وهو في أدنى دركات العجز. وقد يتضح في وجدانه أعلى نهج للمعرفة والحكمة وهو أمي جاهل لا يدري، بموجب تعريف البشر، الفرق بين اللغة والفن ولا ماذا يميز بين الموسيقى والكيمياء.
البيئة الاجتماعية هي دائرة الإنسان الاجتماعي. إلا أنها لا يأبه لها الإنسان الخفي في الإنسان، الذي كثيرا ما يحتاج إلى بيئة غير هذه، ويختار أقاربه وعشراءه وأحبابه مختلفين تمام الاختلاف عن الذين تجعلهم البيئة والحياة أقاربه وعشراءه وأحبابه. وفي هذه البيئة المعنوية صورة أخرى من الماضي الباقي. ولكم أنمت الحياة نفسها بحصر هذه المتناقضات في شخص واحد! ولكم خلق الماضي لنفسه مستقبلا جميلا من لهف الحرمان، وزفرات الأسى، وتجمد الدماء التي لا تسيل! •••
وعائشة ابنة ذلك السري الوجيه والموظف الكبير الذي، بعد تقلب المناصب أيام عباس الأول وسعيد وإسماعيل، انتهى بأن يكون رئيسا للديوان الخديوي؛ عائشة لم تفارق مرتبتها الاجتماعية بزواجها من محمد بك توفيق نجل محمد بك الاستامبولي الذي كان حاكما في السودان. ظلت في تلك المرتبة تتمتع بما هيأت لها بيئتها من رغد حسي، وتعاشر مثيلاتها نساء العظماء والكبراء. ولقد ذكرت عرضا في أواخر كتابها «نتائج الأحوال» شيئا عن اختلاطها بالبلاط، وذلك لشرح كلمة «واي واي أي غوث وأنا أي شيذرتوانا» التي تقولها الأعاجم حينما ترمى بهول فجأة قالت: ... كانت تدعوني ربة المعالي وكنز اللآلئ والدة صاحب السمو إسماعيل باشا الخديوي السابق، تغمدها الله برحمته ومنحها فسيح جناته، بالقصر العالي للترجمة عند حضور أقارب ملوك العجم. فكنت أسمع هاته اللفظة من أفواههن. وهي كلمة تقال عند مفاجأتهن بشيء ما. وكنت أقيم معهن على قدر إقامتهن وأتسامر معهن وأستفسر عن عوائدهن وأخلاقهن.
في هذه الأوساط تجد ما ألفته من كياسة وتهيب، وما أحسنته من آداب المحادثة والمجاملة واللطف. على أن أولئك السيدات لا يعنين بغير الشئون المعتادة في العائلة والاجتماع وما أفعمت به من مسرات وأحزان. أما عائشة فشأنها شأن العاشق الذي تبدو له جميع محافل الأنس والطرب مقفرة لتغيب الحبيب عنها.
في تلك المرتبة الرفيعة فخامة الصروح، وضخامة الألقاب، وأبهة المظاهر، ولكنها فيها يعوزها القوت، ويعوزها السرور، وتعوزها الحرية. إنها تتوق إلى الاختلاط بالذين يعرفون ما تعرف، ويفكرون بما تفكر، ويحبون ما تحب. في الخارج حركة التطور تجري مجراها الطبيعي، وإن وثبت حينا، وتريثت حينا. وفي الأفكار غليان، وفي الحماسة فتوة، وفي القلوب أشواق. ولا تخلو المدينة من دوائر علمية يتحاضر فيها أهل الفضل على طريقة العصر، ويتناقش فيها الأدباء كأنهم في وفاقهم وفي اختلافهم أعضاء الأسرة الواحدة. ولكن عائشة المعنوية إن هي تجاوزت نساء عصرها بالمعرفة والفهم، وسبقتهن باقتحام عواطفها وتقدم مطالبها، فإن عائشة الاجتماعية تظل مخدرة محجوبة.
صدمتها الحياة للمرة الأولى في النضال مع والدتها بين الكتاب والإبرة. فأيدها الوالد الحصيف وسيرها إلى ما تريد وجرت خطوات في فرجة الأعوام فإذا بصدمة أشد وأصلب، صدمة العادة والتقليد. هذه لن يحميها منها الوالد القادر ولن تخرج عليها نفسها القلقة. أخبرني كيف تثور على جماعتها امرأة هي ابنة رجل معروف وأم أولاد محبوبين، وليس بين جماعتها صوت ينكر تلك العادة ويدعو إلى تغيير ذلك التقليد؟ يومئذ كان قاسم حدثا، ولعله كان من دعاة الحجاب. ولعلها هي كذلك لم تفكر في وجوب السفور. بل عمدت إلى تلك العلامة الأخرى من علامات النبوغ ورضيت بها: الاحتمال حيث لا منفذ غيره.
امتثلت واحتملت. ولكن حتى للاحتمال والامتثال ساعات لا مندوحة للمرء فيها عن أن ينفس كربته، ويندب حسرته، ويرسل ما هو أشبه ببثة السجين المظلوم. فقالت إنها دعتها:
الرأفة بكل مغبون لقي ما لقيت، ودهي بما به دهيت، إلى أن أبدع له أحدوثة تسلية عن أشجانه عند تزاحم الأفكار، وتلهيه عن أحزانه في غربة الوحدة التي هي أشد من غربة الديار
1 ...
هذه الكلمة تكفي لنشعر مع عائشة بوحدتها المضاعفة. وهذه الكلمة وهي لوحة تصويرية تامة، تدهش عند امرأة سبقتنا بثلاثة أرباع القرن. وغريب أن تهتدي يومئذ إلى حقيقة تلك «الوحدة» وأن تعبر عنها، وهي ابنة عصر التطويل والتبسط، بهذا الإيجاز البليغ.
وكأنها مرة أخرى تجد بعض الراحة في شرح ألمها بشكل الاعتذار المجلل بالسجع والتورية: «... لم يمكن لي دخول محافل العلماء المتفقهين» ... «فكم التهب صدري بنار شوق إلى محافلهم اليوانع، وأدر جفني على حرماني من اجتناء ثمرات فوائدهم در المدامع. وقد عاقني عن الفوز بهذا الأمل حجاب خيمة الأزار، وحجبني قفل خدر التأنيث عن سناء تلك الأقمار. وأحلاني بسجن الجهل حليف أثقال وأوزار. فكانت تلك الحجب لمن لام في هفوات هذا المسطور أكبر أعذار. فلا تلوموا معشر الأفاضل خيبة، ولا تعبثوا بسجينة شجية ...»
2 ... وخصوصا ... لا تلوموا معشر القراء في هذا العصر كاتبة مسجعة. لأنكم لو رجعتم إلى ما كتبه بعض «كبار» الناثرين في عهد الخديوين لعثرتم على ما ليس فيه شيء من أحكام عائشة ولا ذرة من صدق عواطفها. ولي من هذا البيان معارض لما جاء في جريدة «الأفكار» الصادرة يوم 13 مارس 1923، استهلالا لمقال عن الصالونات الأدبية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وعلاقة الآداب في تلك البلاد بالدوائر النسائية الفكرية. قالت «الأفكار»:
كنا نريد أن نكتب شيئا عن السيدة عائشة تيمور باعتبار أن تاريخ حياتها يفيض النور على الحركة الأدبية الفكرية في مصر في عهد إسماعيل وتوفيق. ولقد أجهدنا أنفسنا على غير طائل وراء الحصول على وصف ولو مجمل أو غير دقيق للدائرة الأدبية التي ظلت سنين عديدة تجتمع بلا انقطاع في منزلها «بدرب سعادة». ولكننا سنتكلم عن سيدة إنكليزية (ليديا وايت) تشبه السيدة عائشة تيمور من حيث جعل منزلها ملتقى كبار الكتاب والشعراء في عصرها ...
من أين جاء كاتب هذه الفقرة بمعلوماته؟ أهو استند على قول عائشة: ... «صرت أتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نغمة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة» ... وهي تعني بذلك أيام اختلافها ووالدتها في حداثتها القصوى قبل أن تتحجب؟ أم هو رأي ما قد يشير إلى ذلك في القصائد العربية والتركية التي رثت بها بعض العلماء؟ أم لديه دليل آخر؟
حاولت الاستفسار عن ذلك من المسيطرين على «الأفكار» في ذلك الحين، فلم أظفر بالجواب الشافي. وتيمور باشا الذي قال قبلئذ إن شقيقته كانت «محجوبة» أجاب على السؤال الجديد بقوله إنه يظن «أن ذلك لم يحصل.»
أسافرة كانت عائشة - أحيانا - أم محجوبة دواما؟ نقطة في غاية الأهمية ولكن يتعذر جلاؤها، خصوصا بسبب تباين السن تباينا كبيرا بين تيمور باشا وشقيقته. فإذا جاء يوما من يثبت بالحجة الناصعة سفور عائشة في تلك المحافل الكريمة سجل للشاعرة فضلا جديدا وشجاعة فائقة، وأظهر أنها بشير التحرر النسوي ليس الوجه النظري والعلمي فحسب، بل بالعمل كذلك؛ لأنها تكون قد حققت قاسما قبل أن يتكلم قاسم. •••
أما وأندية الرجال ليست، في الظاهر، لشاعرتنا فلنتحول إلى اللاتي قد تتفاهم معهن من النساء. وفي مقدمتهن «ربة الأدب الباهر والقدر الشريف السيدة وردة بنت الفاضل الشيخ اليازجي نصيف» فإن عائشة لتتمثل بها وتذكرها بإعجاب في ديباجة «حلية الطراز»، وأهدت إليها نسخة من ديوانها بعد صدوره. فشكرتها «وردة العرب» نثرا ونظما، وأعقب هذه الصلة الأولى تبادل بعض الرسائل أثبتتها زينب فواز في كتابها «الدر المنثور». لن تجد في تلك المراسلة كل الحياة التي يودعها بعض الأدباء في رسائلهم حتى ليتغذى بها أصحابهم أياما وأسابيع، ويتعشقونها كأنها قطع من أرواحهم. بيد أنك ستجد سبك الكلام اللطيف، والثناء المأنوس، والنظم الحلو الرنان الذي يرضي ويجعلك شاكرا لهاتين السيدتين ما أبرزتا لك من أسلوب المجاملة النسائية الكتابية في ذلك العصر.
3
وهناك سيدتان قيل لي إنهما كانتا تقولان الشعر وهما ابنتا حبيب أفندي الكتخدا، ومن عشيرات الشاعرة. لم أوفق إلى شيء من آثارهما وقد قل من سمع بآدابهما بين المصريين. حتى أني قيل لي مرة عند ذكرهما أني أبتدع شعرهما في مخيلتي على نحو ما فعل زفس بابنته بالاس - أثينا التي أخرجها من رأسه تامة الجمال والكمال. لا شيء من ذلك، بل قال لي أحد الفضلاء إنه قرأ لإحداهما أبياتا جيدة.
ومن معاصراتها الست المغربية والبون بينها وبين عائشة شاسع جدا طبقة وحالة ومعرفة. إلا أنها كانت امرأة ذكية، سريعة الخاطر، تمازح الناس بشيء من الجرأة المتطرفة، وتتطارح الأزجال مع الشيخ علي الليثي وغيره. ومن المأثور عنها من دلائل سرعة الخاطر أنه اتصل بها يوما أن أحد الباشوات كان يرميها بما هو غير حسن وغير ممدوح. فأجابت المغربية بابتسامة ذات معنى خطير: «والله كلام سعادة الباشا في محله» ...
كذلك نعرف زينب فواز السورية المولد المصرية الموطن، منشئة «الرسائل الزينبية» فضلا عن فصولها الأخرى وقصائدها. وهي التي عقدت في كتابها «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» فصلا مطولا عن شاعرة آل تيمور. وصدرت الكتاب المذكور بخطاب من السيدة عائشة مثقل بالثناء والتبجيل من نحو ما كانوا يثنون يومئذ ويبجلون. •••
ويحدثنا «المقتطف» في عدد يونية 1897 عن السيدة ليلى هانم «كريمة المرحوم خليل باشا شريف من وزراء الدولة العلية، وأخي المرحوم علي باشا شريف رئيس مجلس شورى القوانين السابق». فيقول إن هذه السيدة «تكتب بالإنجليزية مقالات تنشر في أشهر المجلات» وإنها كتبت رواية غرامية اسمها
A Turkish Love Story
ترجمها محرر «المقتطف» ونشرها متتابعة في المجلد السادس والعشرين سنة 1901 باسم «رواية أمينة». قرأت هذه الرواية بثوبها العربي بكل سرور في العام الماضي، ولا شك عندي أن الوصف فيها «لحريم» الأستانة يومئذ أصدق من كل ما كتبه الإفرنج في هذا الباب.
وليست لتقصر يقظة المرأة على الكاتبات والأديبات بل للمهتمات بالشئون العمومية عن غير طريق القلم أثر قيم. لذلك يتسع المجال هنا لذكر المغفور لها البرنسس عين الحياة، الزوجة الأولى للسلطان حسين (يوم كان أميرا)، ووالدة البرنس كمال الدين حسين. فإنها كانت معروفة بالمقدرة والفطانة وحب السعي الحميد. ومن مآثرها الخطيرة الشأن «مبرة محمد علي» أول جمعية خيرية للسيدات المسلمات، بيد أنها لم تشهد نتيجة ما دعت إليه. ولم يتم إنشاء المستوصف الأول الذي أطلق عليه اسمها وما زال معروفا به «مستوصف عين الحياة» إلا بعد وفاتها في أوائل 1911. أما الغرض الذي عينته لنفسها هذه الجمعية فهو «العمل جهد الطاقة؛ أولا لتقليل عدد الوفيات الجسيم من الصغار في القطر المصري. ثانيا لتقليل عدد وفيات الأمهات الناجمة عن حميات النفاس.»
وماذا أقول عن البرنسس نازلي الملتهبة ذكاء، البارعة في الموسيقى وفي اللغات التي عرفتها، الخارجة على عادات زمنها بمقابلة من شاءت من أفاضل الرجال والتدخل في مختلف الشئون العالمية والحوادث الوطنية. ولقد نشر المرحوم ولي الدين يكن في كتابه «المعلوم والمجهول» صورة خطاب أرسلته إلى عبد الحميد في أيام بطشه وجبروته. وحسب القارئ الاطلاع على هذا الخطاب ليعرف ما كانت عليه من الجرأة والذكاء والنزعة الاستقلالية. قالت تخاطب صاحب الجلالة اليلدزية الرهيبة:
مليكي
قرأت مع الأسف الشديد في جرائد أوروبا التي وردت في هذا الأسبوع أن مولاي الأعظم غاضب علي غضبا شديدا. وعلمت أن السبب في غضبه حضوري مؤتمر «تركيا الفتاة» الذي عقد بباريس. ولهذا أرجو الإذن لي ببيان ما يدور بخلدي في هذا الباب:
إن استهدافي للغضب الملوكي ليس بالأمر الحادث، ولكنه مستمر منذ أربع سنوات. وإذا وجب أن يميز من حل بهم ذاك الغضب سهل تعيين الفئة التي ينبغي أن أحشد في عدادها. غير أن حضوري مذكرات هذا المؤتمر ليس تذرعا للشهرة؛ فهو إذن منزه عن كل غرض ذاتي.
يذكر مولاي الأعظم أنه قال ذات يوم للمرحوم خليل باشا شريف: «إني مغرم بكلمة الحق.» ولقد بشرني المرحوم بهذه البشارة الملكية وتعاهدنا كلانا منذ ذلك أن لا نحيد عن كلمة الحق.
قرأت ما ينشره هذا المؤتمر منذ زمن مديد واطلعت على اللوائح التي رفعها إلى الأعتاب الشاهانية. ولما كانت هذه المنشورات بمثابة كلمة حق في وصف الدمار الذي باتت فيه المماليك المحروسة الشاهانية، رأيت أن أحضر مذكراته عند نزولي بباريس.
فشهدت من الجميع منتهى الود والولاء للمقام الملوكي وللوطن والأمة. ورأيت الجميع باكين لحال الوطن الذي بات على شفا الفناء. فهاجني ذلك وتذكرت أن مولاي كان مغرما بكلمة الحق، فظننت، وا أسفاه، أنه ربما تسلى من ذلك الغرام. ولكن هز فؤادي ما عاهدت الله عليه وأيقنت أن العشق يزول والعهد يبقى.
ولما زرت الأستانة منذ أربع سنوات أوصاني بعض المقربين بأن أرفع إلى مولاي عريضة أستقيل بها من هفواتي، ولما لم يكن لي علم بهفوة سبقت لي لم أقدم على هذا الأمر. فقد تغيرت سياسة مولاي مع الإنكليز. وذهب الرضاء الذي كان توسط لي في نيله المرحوم السير هنري لايرد: وأني لأتلقى بكل ارتياح توسط الإنجليز في إحراز رضاء مليكي. بل أشكر اليوم ما أصابني من الغضب الملوكي. وإن في بعدي عن مشاهدة ما وقع بالأستانة من الزلازل وما نزل بالرعية من الفقر، وما جرى من دماء المظلومين الذين ذبحوا كما تذبح الأضحية، وعن سماع استغاثات المظلومين وتأوهاتهم ما يسليني وما أحمد الله على بعدي عنه. وسأستمر لذا على العمل بنص الأمر الملوكي الذي بلغتنيه الحكومة المصرية غير رسمي - ما دامت لي الحياة.
على أني لا أبرح داعية بطول عمر مولاي وبقاء دولته. ولا أبرح داعية بأن يعود له سالف غرامه بكلمة الحق. فإذا قدر الإله ليزولن بؤس اليوم كما تزول الرؤيا المفزعة. فيصبح سعيدا مهنأ. ويلقى رعيته في رغد بالاتحاد والحرية فإن رعيته لا تريد منه إلا أن يكون أبا مشفقا.
ولعلي تجاوزت الحد وأسأت البيان. فلست أدري مبلغ وقع ما أتشرف بعرضه. فليثق مولاي أن كلام أصدق عبيده في زماننا هذا لا يختلف عما جرى به قلمي. وليوقن مولاي أن ورقتي لم تسطر إلا بخالص النية وصادق الولاء.
4
خادمتك نازلي
بنت المرحوم مصطفى فاضل باشا المصري
القاهرة في 22 أكتوبر سنة 1896
يجب لتعلم قيمة هذه الرسالة أن تعلم من هو عبد الحميد، وكيف كان ينتقم من مناهضيه في أية بقعة كانوا من الأرض فكيف بهم في مصر ومن أعضاء الأسرة المالكة.
قد يفوتني أسماء أخرى معروفة. وقد يكون ثمة سيدات كثيرات ذكيات قديرات من اللاتي يدمجن في «الطراز القديم» وقد يدهشن العالم والمحنك بأسلوب إدارة بيوتهن وأعمالهن وأملاكهن لوفرة ما يبدين من الخبرة والدراية - حتى ولو كن أميات. ولكن أيكون لمثل عائشة من مثيلاتهن بيئة معنوية؟
بيئتها
لم يكن للشاعرة من بيئتها الاجتماعية البيئة المعنوية المطلوبة. ولا أظنها نعمت من ذلك العصر بما نحن اليوم نفتقر إليه.
ما سمعت أديبا يذكر أهمية المحيط ومبلغ تأثيره إلا سمعت منه الشكوى. ما حدثني مطلع على شئون الشبان العائدين من أوروبا إلا قال إنهم بعيد وصولهم يشعرون بنقص علمي عظيم حولهم، ولا يلبثون أن يفهموا أنهم عائشون في وحدة فكرية وفنية بعيدا عن تواصل الحركة الذهنية في العالم. ولا يعرف مرارة تلك الوحدة وصقيعها إلا الذي أرغم على تقطيع الأعوام والأعوام تبليه في انفراد ووحشة. لا يعرفها إلا الذي صرف الأيام والليالي جائعا عطشا، وهو يعلم أنه في قفر لن ينبت له في القريب العاجل قوتا ولن تفجر له منه المفاوز منهلا.
حال محزنة حال التأنق إلى ما يعلو على العيشة الملامسة الثرى. حال محزنة حال الأديب الصميم في عصرنا والمتأدب. إنه سرعان ما يتصدى له من يناقض ويعاكس ويتمطى ليقدم له ويؤخر، ويفصل في قماشه ويخيط، وسرعان ما ينبري له وللعالمين من يقدح ويهجو لسبب أو لغير سبب، أو لسبب جدير بالتقدير. وسرعان ما يسمع المدح المائع المتهدل لا اعترافا بالأهلية، بل عن هوس ، أو حمق، أو لغاية. وقد يجد من يمتدح بإخلاص ولكن ببلاهة فيجعل الذبابة فوق النسر، أو يسيرهما في فلك واحد فإنهما يطيران وكلاهما من «ذوات الأجنحة».
5
أما تجانس الخواطر، وحب الآداب، وسعة الإدراك في تحليل الأشياء وتقديرها، والإحكام في وضعها وتربيتها، والغوص في المعاني الواسعة، وفهم مناحي الحياة والعناية بخصائصها كما هي لا كما يراد حصرها في شخصية واحدة؛ كل تلك الغبطة المعنوية التي نطلبها بأشواقنا ولا نحسن التعبير عنها، فليست بعد لنا. وهي مفقودة في هذه البلاد. بل ندر الذين يفهمون ارتفاعها ونبلها من الأفراد.
وأولئك هم المعذبون.
وستبقى هذه الحياة مفقودة ما بقي التعاطف الأدبي غير موجود. وإذا طرح اليوم متحمس النداء المستثير فكأنه يستنهض أنبتة تضطرب وتتحرك في مكانها وقد حظر عليها الخطو والانتقال. وتمضي الصيحة الرجافة فترتطم نبراتها في الهواء ثم ترتد على مرسلها ثقلا باهظا كأنما يتعرضها المضي جدار كثيف تختنق عنده الأصداء فترتد على قلب مرسلها ثقلا يجر معه معاني المحال وانقطاع الرجاء - إلى حين.
والمدهش بعد كل هذا أن نجد منها من يشب وينهض ويتفوق. يتفوق ليس على قياس مدح المداحين، وهجو الهجائين، ومسيري الذبابة والنسر في خط واحد. بل هو يرتفع رغم المثبطات فوق الصدمات والموانع ...
يرتفع ويبدو عظيما وكأن اسمه وحده يكفي ليقول: «إني موجود وأثري متسرب إلى جمودكم ليقلبه حركة! إني موجود، وحميتي ماضية في خمولكم لتثيره نهوضا! إني موجود، وعزمي متغلغل في قلقكم لينسقه انتظاما!» قلت: مدهش ذلك؟ كلا، بل هو خطير!
أليس أشد دلائل القوة خطرا في أن يظل النسر محلقا ولو مهشما داميا؟ أن يظل محلقا. حتى بجناحين مهشمين داميين؟ •••
ولعل الحياة تحتال على بنيها، لا سيما الأصفياء منهم عندما توسعهم مقاومة وتشبعهم تعذيبا؟ لعلها تودعهم حاجات ومطالب تعلم سلفا إنها غير مهيئة لها ما يقوم بها ويحققها. وما ذلك إلا لتلح على الفرد الموهوب أن يجني المعونة والتعزية والقوة من أعماق وحدته، من أعماق وجعه، من أعماق قنوطه! لعل لها غرضها من المنع والحرمان فيظل لابنها المختار أن يخلق لنفسه عالما يملأه ببرايا هواجسه وبأشباح ما يحب ويأمل وينشد. يظل له أن يبدع ما ينقصه إبداعا ما، إبداع التخيل والتدوين، فتكون الحياة لذاتها عن هذه الطريق صورا جديدة من لهف الحرمان، وزفرات الأسى، وتجمد الدماء التي لا تسيل؟
أم لعل الحياة في أحشائها كلوم يعوزها البلسم، وهو لا يستخرج من شكوى البؤساء. فتخلق لهم المحن لتسمع مثل هذه الزفرات التي ترسلها عائشة في خلوتها:
أعلل نفسي والأماني كثيرة
وما كان أغنى النفس عن ذا التعلل
فلا الوقت في أمري فأقضى مآربي
ولا الدهر يصفو لي فأكمد عذلي
ولا النيل يدنو لي فأروي بفيضه
ولا الصبر طوع لي فتحلو الحياة لي
ولا الحظ ذو سعد ولا البخت مسعف
ولا مهجتي صلد أقول تحملي
ولا لوم إن واريت في الترب جثتي
وقلت أقيمي حيث ذلك منزلي
أي إنها تحبذ الانتحار في هذا البيت الأخير. ومن ذا الذي لا يشتهي الموت في بعض لحظات الألم؟ ثم تعود إلى طلب المسرة والهناء، ولكن لتلقى خيبة أخرى:
والله ما همت حظا باسم داعية
إلا وأعقبت فيها الهم من أسفي
ولا سعيت بأقوى العزم في أرب
إلا رجعت طريح الأرض في دنف
أو لترى السرور يتحول إلى الألم شأن كثير من مسرات الحياة!
وما منحت بيوم قد أتى غلطا
بالأنس إلا وقامت فيه غاراتي
ويظل الاختبار يحذر وينذر:
لا تفرحن بدنيا أقبلت وصفت
بكل ما ترتضي، واحذر عواقبها
وترقب أحوال الناس فيسوءها منها الخلل والفساد:
حسن الوفاء وصدق الود قد صرعا
واستوحشا بفيافي الغدر وانصدعا
كلاهما من سقام لا مساس له
حزنا على الحق والإنصاف مذ صرعا
وأولئك الأدعياء الناعتون نفوسهم بما ليس فيهم، المتلمظون لأن الفرص سنحت لهم ضلالا بأن ينزلوا الأذى بما يحيط بهم. وهم يحسبون واجب البشر كله في إيقاف الجهود على إشباعهم وإرضائهم - كيف تذكر أولئك إن لم يكن بلهجة الازدراء والأخطار هذه:
آل الغرور لقد ساقوا نجائبهم
شرقا فغربا فداست كل ما لاقت
ظنوا الزمان على رغم يطاوعهم
وأن أوقاته طوعا لهم راقت
وليس إلا عدوا سوف يفجأهم
برقط غدر إلى عاداتها اشتاقت
ألا يذكرك هذا البيت، لا سيما الشطر الثاني منه، بالمعري وآرائه في الدهر وعربدته على الدنيا التي كثيرا ما يشبهها بالحية الرقطاء؟
وهكذا تجد عائشة الألم عوضا عن الهناء. وليست الآلام الملموسة البارزة أنكأ الآلام. بل قد نفضل أحيانا أن نصاب بما يسحقنا ويجرفنا بشدة جرف العاصفة لأوراق الخريف، بدلا من معاناة ما نسكت على مضضه مما نأنف التفكير فيه مليا، ونستنكف شرحه مع عجزنا عن مقاومته والابتعاد عنه.
ولربما آثرنا الداهية الدهماء تعبث بنا فتذرنا هباء، على مقاساة نكال متقطع متتابع كوخز الإبر. نكال لا هو يشتد فيقتلنا، ولا هو يكف لحظة لنتخدر. ولا يكون عقابا على ذنب فنثوب ونتفادى. بل كثيرا ما يجيء مكافأة على الحسنى فيفعم القلب مرارة. •••
اجتمعت في أوائل مايو 1922 بالأستاذ الشيخ الغمراوي المفتش الأول للغة العربية في وزارة المعارف. فذكرت عائشة فقال: «إنها شاعرة عصرها وإن أساءوا فهم كثير من معانيها.» قلت: «مثلا» فقال: مثال ذلك قولها:
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي
إلا بكوني زهرة الألباب
فما يفهمه الشخص العادي من هذا البيت أنها تمدح نفسها مدحا يشبه الذم. وما ذلك إلا لقصر النظر أو لتعمد. في حين هذا القول يقرر أمرا واقعا تألمت من جرائه. ذلك أن بعض السيدات كن يسمعن عليها الثناء الذي لم تربحه بالتظاهر والتهويش بل بالكفاءة والكرامة. فيثور منهن الحسد فيعمدن إلى تشويه الحقائق. والتحريف والتعريض. يشعرن بالقصور عن مجاراتها فيستسلمن لتعذيبها وإلحاق الأذى بها على مختلف الأساليب انتقاما لنفوسهن من تفوقها. فشعرت بهذا وتألمت. لذلك قالت: «ما ضرني أدبي ... إلخ.»
هذه خلاصة كلام الأستاذ وهو من الصحة بحيث تجد له طائفة من الأدلة في شعر عائشة كقولها:
وكم حليفة سعد إذ تعنفني
تقول سعيك مذموم النهايات
فأخفض الطرف من حزن أكابده
وأهمل الدمع من تلك المقالات
واها لتلك الدموع! تنصب في القلب عند كلام الحاسد والمتطاول ، وتدفع إلى التشاؤم في نبالة الفطرة البشرية، ثم تنهمر في الخلوة لاذعة محرقة. على أن عائشة عذبة بطبيعتها فهي لا تثور سريعا. بل تتجلد هنا وفي معاكسات أخرى وتكافئ الشر خيرا حتى نفاد الصبر:
ومذ أتت عذلي تبغي مصادرتي
ظلما منحتهمو أسنى الكرامات
وكلما عددوا ذنبا رميت به
بسطت للعفو راحات اعترافاتي
وكلما حرروا منشور مظلمتي
وأظهروا في الورى غدرا جناياتي
أظهرت شكري لهم بالرغم من أسفي
وكان ما كان من فرط التهاباتي
واها لتلك النصال تغمدها في القلوب أيادي الغرباء وأيادي المعارف والأصدقاء!
واها لتلك الأيدي التي أحسنت إلينا، ولتلك الأخرى التي أحسنا إليها، تمتد لتأتي إشارة تمحو جميل الذكرى حينا وتحجب رقيق الشفقة دهرا!
وتلك الكلمات الفاترة الركيكة وذلك الترفع المصنوع الحقير! وتلك العناية التي سرها التقليل! وذلك الشرح للثناء في الظاهر وكل الغرض منه التصغير والتحديد السخيف!
وتلك الشبكة الواسعة التي يحبكها حولك الاغتياب والافتراء ويلصق بك ما يلصق من التهم والذنوب! فتفكر أولا في الدفاع عن نفسك أمام الذين تحسبهم أفطن من غيرهم وأقرب إلى الإنصاف. وبعد قليل تصمم على السكوت كبرا وازدراء. ذلك ما تعنيه الشاعرة:
ولم أفه لذوي رد لمعرفتي
أن الحبيب حبيب في المسرات
طبعا. هم كذلك أصدقاء المجتمع، الأصدقاء السطحيون والآخرون المتقمصون في أثواب الأصدقاء والمتكلمون بلسانهم كيف يركن إليهم. لذلك:
أخفي الأسى إن حسود جاء يسألني
لأين أسعى، وأومي لابتهاجاتي
وقد تخفيه احتشاما وصيانة لكرامة الألم، وقياما بالواجب الذي يمتهنه أولئك الذين يكرهون الناس إكراها على مخاشنتهم ومقاطعتهم؛ لأن الجفاء الوسيلة الوحيدة للتخلص من تطفلهم. يزعجون الناس بلا مراعاة فيخسرون حتما عطف القلوب. يتجاهلون أن لكل شيء حدا طبيعيا، وأن أعصاب بني الإنسان ليست من حديد. فلا تحتمل النواح والشكوى والإلحاح والمضايقة إلا لحين. وإن واجب المرء الأول نحو صحته لا سيما وأن له من مسئوليته وشئونه ما يتحتم القيام به أن يضن بكل تأثر مضن وأن يقلع عن كل اضطراب عقيم.
إن التحدث بالهموم وشكوى الغموم مرض شرقي متأصل. وكأننا أقرب الشعوب إلى رجم الآخرين بآلامنا وأوصابنا في كل زمان ومكان. وليس أدل من هذا على الضعف المعنوي وضعف الخلق ... ليس أدل من هذا على الحاجة إلى التهذيب.
وكأني بعائشة مطبوعة على هذه الصيانة الخلقية والكتمان النبيل فهي تقول:
أقوم والضيم تطويني نوائبه
طي السجل، ولم أسمعه أناتي
إن ضل سعيي فهادي الصبر يرشدني
إلى طريق رشادي واستقاماتي
أما والقلب المعذب يظل على نبله، في حاجة إلى أن يبث كربته لصديق ذي حول ولطافة، فعائشة تتجه إلى القلب الرءوف الأكبر الذي لا يقلقه أنين البرايا:
ولم أزل أشتكي بثي ومظلمتي
لعالم الجهر مني والخفيات
وقد يحسن أن أدغم في هذا الباب ملاحظة أخرى: هناك نكتة تكاد تكون الوحيدة في كل كتاباتها، وقد ظهرت كل الظهور في عصرها دون تمييز في الموضوعات. فتجدها أمامك في المرض والعافية، في رثاء الأحباء وفي آهات الغرام. موضوعها الطب والأطباء.
وقد تشير إلى قلة ثقة الشاعرة بأبناء أبقراط الجهابذة النطس. قالت تتهكم على طبيب في ثلاثة أبيات مفردة:
يا من أتى للجسم يبرئ سقمه
ويظن جالينوس بعض عبيده
أفنيت بالطب الذي تهدي به
أمما، وقربت الردى ببعيده
وزعمت أنك أنت قد جددته
وقد أضعت قديمه بجديده
وهاك ما يعني أن يأس الطبيب في نظرها أمل:
إذا يئس الطبيب وكل عني
بقدرته بما أرجو حباني
وهذا استهزاء بالأطباء وتوجع من رمد عينيها:
تخالفت الأساة بطول وعد
يعللني، ويأس فيه حيني
ومن فظ يهددني جهارا
بمبضعه المصوب في اليدين
وقد عفت الأساة وعدت أرجو
طبيب الكون رب المشرقين
وفي وصفها لأقوياء العالم وضعفهم حيال الردى:
يئوب بالعجز أقواهم إذا ألم
به ألم، ويبدي شر حسرات
يلوذ ضعفا بأذيال الطبيب، وما
يغني الطبيب لدى فتك المنيات
وكذلك كان لها في الرثاء مجال لإظهار عجز الطب والأطباء فقد جاء في مرثاة والدها:
رجع الطبيب بيأسه متسربلا
وأراق جرعته على الحصباء
وفي مرثاة ابنتها:
جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا
إن الطبيب بطبه مغرور
وصف التجرع وهو يزعم أنه
بالبرء من كل السقام بشير
فتنفست للحزن قائلة له
عجل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي، إن والدتي غدت
ثكلى يشير لها الجوى وتشير
وارأف بعين حرمت طيب الكرى
تشكو السهاد وفي الجفون فتور
لما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت، ودمع المقلتين غزير
أماه قد كل الطبيب، وفاتني
مما أومل في الحياة نصير
لو جاء عراف اليمامة يبتغي
برئي، لرد الطرف وهو حسير
ومن مثال ذلك في شعرها الغزلي:
سروري باللقا ونعيم قربي
أعاد بعودك الميلاد ثاني
لقد أرغمت كل طبيب سوء
أضاع بهزله طول الزمان
وغيره:
لو شخص الداء جالينوس أعجزه
وقال لقمان تكليفي به باطل
كيف الشفاء ومن أهواه فارقني
هيهات إن الهوى بحر بلا ساحل
جاء الطبيب يداويني فقلت له
دع عنك طبي ولا تتعب بلا طائل
تعذر الطب والبرء انزوى ونأى
عني، ولوني من فعل الهوى حائل
ما ينفع الطب والأحشاء في حرق
والجفن من فرط وجدي دمعه هاطل
وأحسن دواء ينجح وينشد هو ذا:
أرنا زمان الأنس يا وجه الحبيب
واحذر، حماك الله، أن يدري الرقيب
دعني، لأني باللقا قلبي يطيب
ودع العلاج وما يقول به الطبيب
عفوكم يا سادتنا الأطباء لئن قال بعض الشعراء إن بعض الأمراض خير من بعض الأطباء، فلكم من شاعر قدر أفضالكم على المرضى والأصحاء على السواء.
ولكم من شاعر جعل الطبيب عالما وحكيما ورسولا في آن واحد، عندما يدرك كرامة مهنته وكل ما تقتضيه! وإذا كان الاصطلاح العربي ماضيا على التوحيد بين الطب والحكمة فينادي الطبيب «حكيما» ألا ترون في بيان الشعراء وتوقيع أسجاعهم ما عمل على حفظ تلك العادة التقليدية ونقلها من جيل إلى جيل؟
وبعد هذه العوارض فلنلخص: البيئة المعنوية الصميمة كانت لعائشة في كتبها وأوراقها، وفي الكتب التي تقرأ، وفي الأوراق التي تحبر؛ ففيها كانت تجد التعزية ومنها المعونة. وإذا أصابها الرمد شكت بلغة التوقيع!
إذا شكت الورى سقم العيون
فإني أشتكي ألم العيون
أبيت كواله أضناه وجد
أنادي من جفوني! من جفوني!
فلا جفن يطاوعني فأبكي
ولا صبر أزيل به شجوني
وإذا طال رمدها طلبت كتبها وأوراقها كما يطلب الحبيب الغالي:
أمس الكتب من شغفي عليها
وأبلي حسرة من سوء حالي
وأندب مهجتي حبا لأني
حرمت بدائع السحر الحلال
وليست لتشغف فريدة. بل هي ككل محب تريد عند حبيبها مثل ما عندها. فتنيل الأوراق والمحابر والأقلام روحا تحس وتشوق وتبكي:
نعاني أبيض القرطاس لما
جفاني اليوم نور الأسودين
وقد جفت دواتي وهي تبكي
لما قد راعها من طول أيني
وأقلامي قد انشقت لأني
حرمت مساسها بالأصبعين
كذلك كان وسط عائشة من أرواح المؤلفين والشعراء ومن نفثاتهم، من أرواحهم كان لها أسرة تناجيها. فتتحدث إليها وتصغي حينا بعد حين.
وفي تلك «الغربة» التي تأوي إليها أرواح الخواطر كتبت أشعارها العربية المجموعة في ديوان «حلية الطراز» وديوانها التركي والفارسي «كشوفة» و«نتائج الأحوال» ورسالة صغيرة اسمها «مرآة التأمل في الأمور»؛ هذه هي بيئتها المعنوية المحبوبة.
حبها لاسمها
والاسم ... أليس هو أول علامات الفرد في جماعته؟ «على أي شيء يحتوي الاسم؟» يسأل شكسبير بلسان جولييت، ومن منا لم يتساءل عن اهتداء البشر إلى التسمية وعن رائدهم في ذلك! ألا تصغي إلى همس خفي وراء الاسم، والكنية عند سماعها للمرة الأولى كأن لهما ذاتا خفية وراء المعنى الظاهر؟ أوليس من هذه الروحانية المستترة استخرج معنى الحساب بالأرقام والحروف، الذي لا يستهان به في أصوله الفيثاغورية؟
إلا أن الشاعر العربي القائل «الأذن تعشق قبل العين أحيانا» عبر عن جانب من حقيقة روحانية عميقة ومضت له في لحظة إلهام وإشراق.
راجع ما شئت من الأسماء التي تعرف أصحابها معرفة شخصية أو معنوية، تر استحالة تبديل اسم بسواه. كأنما تلك اللفظة التي يعرف بها المرء عن طريق الانتحال أو بالمناداة منذ الولادة، أصبحت جزءا أساسيا من ذاتيته، أو صارت على الأقل من أدل الدلائل عليها. وفوق ذلك فإن معنى الاسم الواحد يتغير بإطلاقه على أشخاص مختلفين. هذا شيء يعجز الوصف إلا أننا نشعر به بجلاء، ترى ألأن شخصية الفرد تتفاعل وشخصية الاسم بامتزاجها بها ؟
إن ما يحدو بي إلى هذا الشرح هو شغف عائشة باسمها، شغفها بأسمائها الثلاثة؛ فإني لم أر في مطالعاتي كاتبا يشبه عائشة من هذا الوجه، لا في الشرق ولا في الغرب.
شغفت بكل اسم من أسمائها الثلاثة ورضيت بها جميعا في بيئتها المعنوية فلم تنتحل اسما جديدا. وأحسنت توزيعها؛ إذ خصت شعرها العربي باسم «عائشة» وشعرها التركي والفارسي باسم «عصمت» حتى لتكاد ترى هذه الكلمة في ختام كل قصيدة من قصائدها «كشوفة»، وخصت اسم عائلتها بنثرها.
ولماذا هذا الشغف؟ لكأنها متينة الشعور بالصلة بين المسمى واسمه. أو كأنها تذكر قولا مأثورا عند بعض المشارقة، وهو أن الاسم ينزل على صاحبه من السماء! أو كأنها تطرب له لأنه اسمها ليس غير، وأنه أول علاماتها بين الناس! أو كأنها تتشبه بداهة بذلك الفيلسوف الهندي، يقضي الوقت الطويل مكررا لنفسه اسمه حتى تنكشف له حجب الغيب فتستيقظ ذاته البصيرة العليمة رائية ما يجري على بعد مسافات، سامعة ما يقال في البعد السحيق! جميل معنى «عائشة» وجميل معنى «عصمت» أما «تيمور» - فعلى عهدة من شرح لي وفسر - فلفظة تركية أصلها في اللغة العامية «دمير» ومعناها الحديد الصلب الذي لم يصقل بعد. ولذلك يخطئ من يطلق هذه اللفظة على تيمورلنك للتصغير أو للاختصار؛ لأن معنى «تيمورلنك» نصل السيف المصقول.
على أننا قبل الانتباه لمعنى هذا الاسم نتأثر بوقعه المرضي للسمع. وهو يمثل (على ما يلوح لي) مزيجا من نبرة الأمر العسكري وأبهة وقورة رزينة. تمسها كآبة طفيفة ووداعة.
وبعد، أيتسع معنى الاسم فتكون كلمة تيمور رمزا إلى أن الطبيعة النسوية المصرية بدأت تصقل بعائشة؟
لكنها لم تأخذ الاسم كما هو بل أطلقته على نفسها بصيغة النسبة. فإذا بها «التيمورية» وفي هذه الأيام حيث صارت الألقاب والنعوت طوفانا يغمر الصالح والطالح على السواء أصبح عدم اللقب لقبا وغدا التجرد من النعوت نعتا. فجمل بنا أن نوجز في نعت الشاعرة المصرية وأن نسميها، حينا بعد حين، بهذا الاسم الآخر الذي أحبته ووضعته في فم أشخاص يستشهدون بأقوالها ويضربون بأشعارها الأمثال «التيمورية».
الفصل الخامس
شاعرة بثلاث لغات
عبقريتها اللغوية
قالت التيمورية شعرها بالعربية لغة وطنها المصري. وبالتركية لغة آبائها، وهي لغة لا يزال التخاطب بها في بعض الأسر ذات الأصل التركي. وقالته بالفارسية التي هي لفئة من أدباء العرب والترك لغة «مدرسيه»، شأنها عندهم شأن اليونانية واللاتينية عند الغربيين. والسبب في ذلك علاقة الفرس بهذين الشعبين الشرقيين من حيث السياسة والتاريخ.
ليس بوسعي درس شعرها غير العربي لجهلي اللغتين اللتين كتب بهما. على أني أذكر هنا شبه شهادة سمعتها عرضا من شقيقها أحمد تيمور باشا. وهي قول المغفور له السلطان حسين لسعادته أنه «يفكر فيه كلما رأى ابنته قدرية تقرأ في ديوان السيدة عائشة.» وهناك شهادة مسجلة في آخر الديوان المذكور «كشوفة»، وهي رسالة من «إيران دولت عليه سي مصر قاهرة قونسولي سعادتلو دوقتور ميرزا محمد مهدي بك أفندي حضرتلي.»
ولكن هل تعني الشهادة والإنكار دوما كل ما يرصف فيهما؟ نقرأ أحيانا وصف بعض نتاج الأقلام عندنا فنحسب أننا مقبلون على مثل ما أبرز أوربيدس ودانتي وشكسبير. فنحملق بالعيون والقلوب فإذا بنا نطالع شيئا حسنا قد يجوز «تشجيع» صاحبه. أو شيئا غير حسن يتحتم أن يحرم كاتبه من الفاكهة والحلوى طيلة أسبوع على الأقل.
لنكونن إذن من أنصار اللا شهادة ما بقينا في هذه الفوضى الإطنابية. غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بقلم يعالج الشعر والآداب في لغات ثلاث.
لا يذهلنا الآن أن يتكلم الشخص الواحد بثلاث لغات أو أربع، وأن يتكلم باعة الدكاكين وغلمان البواخر والمقاهي والفنادق بما يربو عليها، لعلمنا أنهم لا يستعملون إلا الكلمات المألوفة التي تفي بالأغراض السطحية. لا يذهلنا ذلك لتتابع الاحتكاك والاختلاط بين الأمم. بيد أنه ندر حتى بين مشاهير الشعوب من الأفذاذ من عرف أكثر من لغتين معرفة عبقرية. •••
عبقرية اللغات عبقرية مستقلة. هي حذق عميق رشيق ينفذ في أرواح الشعوب ويأوي إليها، ثم يتحول اتساعا وعلوا فيشملها. كأن الفرد الموهوب يتقمص في كل شعب يدرس لغته فيتوحد وإياه حيا بحياته ، ناطقا بلهجته، مدركا منها الخصائص والمستعصيات . ويفسر الروحانيون هذه الموهبة بما يفسرون به المواهب الأخرى والعبقريات. أعني نظرية الأعمار المتكررة بالتناسخ والتجسد بين شعوب مختلفة.
وقبل الإلماع إلى الشعر العربي والكلام عن شعر عائشة أعلم أن قولي لن يرضي أنصار القديم ولا أنصار الجديد. ولما كنت من ألين الطبائع عريكة كنت مستعدة لتغيير فكري بشرط أن يقنعني السادة المثقفون. وبعد فلنبدأ متوكلين على الله.
ليس أعسر من تعريف الملكة الشعرية وتحديد الشاعر. أصحيح أن الشعر كله رقة وعذوبة وإحساس وموسيقى دون تفكير ومعرفة وبحث وقوة؟ أم هو مزيج من كل ما تفنيه الحياة وتولده من المدركات والمحسوسات، سبك في قوالب متعددة وفقا لأنظمة بديهية تتملص كالشعر نفسه من حظيرة التفهم والإدراك؟
الشعر أحد أساليب التعبير عن خواطر وعواطف وحاجات ما فتئت الإنسانية تستوحيها وتنفعل بها. قليلة هي تلك المعاني الأساسية. بيد أن شعبها ومناحيها تذهب كل مذهب وتضرب من أعماق البحار إلى أقطاب الأرض، إلى فسيح السموات، إلى رحبات الزمن في الأزل منها والسرمد.
ولقد بدأت الهمهمة الشعرية عند كل قوم بوسيلة من الوسائل. عن طريق العبادة، أو تعظيم الأبطال، أو شكوى الآلام وبث الغرام. ويظهر أن الداعي إليها عند العرب هو سير الأظعان في البوادي وانتقال القوافل في وحدة القفار فاهتدوا إلى الحداء مستحثين الإبل في مستعر الرمضاء. فخفت الإبل سيرا وانتعش منها النشاط، وارتاح الحادون إلى النشيد يجدون فيه ملهاة عن المشقة وتسلية التعب والضجر. وتطرقوا بعدئذ إلى تنويع الموضوعات فتغنوا بمزايا المحبوب وشبهوه بما يعجبهم من خصائص الحيوان في الفلوات التي يجتازون. ووصفوا وحشة المضارب المتنقلة والآثار العافية، ومرارة الوداع والفراق. وعددوا مفاخر القبيل والنسب ولذائذ العشق والحرب والغزو والتطعين والإخضاع.
وكان من ثروة اللغة في الألفاظ والاستعارات «لكثرة القبائل المتكلمة العربية» مساعد على التزام البحر والقافية في تنظيم الحداء. فأوجد هذا في الشعر العربي طلاوة وغنى في الوتيرة الواحدة. وجزالة ونكهة بدوية ودقة لفظية تغرد بها دون غيره. ومنه كذلك جميع العيوب التي يسبح فيها شعرنا إلا القليل كما في بحر طام .
يصمم أكثر شعراء العرب على تقليد هذا الشاعر أو ذاك من القدماء بدلا من أن يجروا وراء سليقتهم الفردية، فينجم لنا «طبعات» جديدة مشوهة من الشاعر المقلد. ويخاطبوننا بلغة عصور خلت ونحن اليوم في عصر الحيرة والتردد والثورة الكبرى. فمن الإعجاب بالجزالة البدوية جاء حب النسخ والتقليد، وعنه نجم الفقر في الخيال العربي، والتقيد باللفظ دون المعنى، وجمع الفكرة في كل بيت بمفرده، والخلل في اتساق الخواطر، والقصور في تنظيم أجزاء الخطاب. حتى إنك كثيرا ما ترى وجوب جعل آخر القصيدة أولها ومنتصفها آخرها.
وعن التقليد نتج حصر الشعر في أبواب المدح والهجو والرثاء والحماسة والفخر والنسيب، والحكمة أحيانا. وعند ترتيب الدواوين على الحروف الأبجدية لأن التواني وشيوع الموضوع يفقدان كل قصيدة عنوانها كما يفقدان كل ديوان فهرسه. وعنه خصوصا نجم إهمال التاريخ في قصائد الشاعر ومؤلفات الكاتب. كأن نمو الفكر ومماشاة التطور دورا بعد دور شيء لا يلتفت إليه. مع أن معرفة التاريخ ليست دون معرفة الحوادث والمؤثرات وألسن البيئة أهمية في تفهم فصل أو كتاب. •••
جميع هذه العيوب في ديوان التيمورية حيث لا تنظيم ولا تنسيق، حتى ولا تبويب على الأبجدية، ولا أثر للتاريخ في القصائد - إلا القصائد التاريخية في السطر الأخير منها! ولئن جرت على عادة العرب في التعبير، أي الإفصاح عن عواطفها غالبا باستعارات من سبقها، فالأمر الذي يسبيني في شعرها أن شخصيتها تبدو من خلال المحفوظات كما يبدو الجسد في لوحة تصويرية من خلال الأنسجة الشفافة وقد تفلتت من عيب «المفاخرة» بذويها وأهلها. ولا هي تبدأ بالتغزل لتنتهي بالإطناب. وليس للأطلال والمضارب ذكر في قصائدها. وأما من حيث الصدق فأظنها في مقدمة الصادقين من شعرائنا. ومعظم استسلامها للغلو في جزء خارج عنها وهو شعر المجاملة بينا هي في شعرها الذي يرسم نفسها ساذجة مخلصة عذبة تروي حديثها بأسلوب ليس هو بالهندسي الذي لا يقدر أنصار القديم سواه. إنما هو كما يقول الفرنجة روائي
romantique
يجري عليه بعض شعراء العصر.
وهذا الشعر الوجداني بطبيعته، الغنائي بلهجته، ينقسم إلى خمسة أقسام كبرى. وهي:
شعر المجاملة.
الشعر العائلي.
الشعر الغزلي.
الشعر الأخلاقي.
الشعر الديني أو الابتهالي.
ففي الأقسام الثلاثة الأولى تلقت التأثر من الناس فأعادته إليهم نشيدا. وفي القسمين الأخيرين تلقت التأثر من مختلف الجهات فخاطبت نفسها وناجت نبيها الكريم مبتهلة إلى العزة الإلهية.
شعر المجاملة
لقد حلت المجاملة عندنا مكان الصدق في أمور جمة لخلو محافلهم الاجتماعية من النقد المنصف الحصيف. فإن نحن استنكفنا هذا التطفل من المجاملة، وتأففنا لإدمان معالجيها والراضين بها، فهذا لا يحول دون التقرير بأنها في حالتها المعتدلة علامة للثقافة النفسية. المرء يعيش في بيئته فعليه أن يقلع عما يزعج بني جلدته لغير ما سبب. لذلك هو يضبط خوالج نفسه، ويحاول الشعور معهم والتلطيف إليهم لا خبثا ولا كذبا بل تمرنا على الغيرية بتهذيب ذاته في فن الإرضاء «والدوزنة» واقتبال التضحية الصغيرة التي تسهل بالمران وتتحول شيئا فشيئا إلى سرور وقتي مأنوس استبدل كلمة «نرجو تشريفكم» في دعوة بكلمة «احضر عندنا يوم كذا ساعة كذا» تعلم أن الصراحة ليست هي الخشونة، وتقدر المجاملة المعتدلة وآداب اللياقة. وتعلم لماذا هذه الملح في حالة الدقة والإحكام تلقى في اجتماعات الأنس رونقا سطحيا مستحسنا.
أما عائشة فلديها الوقت الكافي لتتفنن في تنميق الدعوة على هذا النسق:
لقد من الإله لنا بسعد
وأشرقت الليالي بالأماني
وقام الفوز في الدنيا خطيبا
ودق الحظ أوتار المثاني
وأنتم للمنى عين وروح
ومشكاة السرور مع التهاني
لكم صفو المسرة في انتظار
فمنوا بالتعطف والتداني
أجيبوا دعوة الداعي فأنتم
فرائد والمجالس كالجمان
وفي الوليمة يقرأ المدعوون هذه المجاملة الأخرى على لوحة كبيرة:
قد من فضلا بالصفا الفتاح
وضياء توفيق الهنا مصباح
والسعد أقبل والعناية ساعدت
دامت لنا بسرورنا الأفراح
وتطرز اسم رجال الإنشاء:
علام الدر يا غواص غالي
فبعه بما يسام ولا تبال
لقد جاد الإله لنا ببحر
يجود بدره قبل السؤال
وتحيي دولتلو حسين باشا، «أليس هو السلطان حسين بعدئذ» لقدومه من السفر فتقول:
لاحت شموس السعد بالأقطار
وجلت عروس الأنس للأبصار
واستبشرت مصر المنى بقدومه
حسن الخلائق غرة الأنوار
لو للديار فم لقالت مرحبا
بشرى بنير عزتي ومداري
قد أقبلت بالبشر دولتك التي
هي تاج آمالي وعين فخاري
أكثر المجاملة في شعرها لامتداح الخديوين «عشر قصائد تقريبا».
هاك كلاما حلوا رنانا في تهنئة الخديوي بالعودة:
كللت تاج البدر قربا بالشرف
مذ حل في مصر ركابك وانعطف
طربت بمقدمك السني بلطفه
مصر السعيدة والسرور بها هتف
وازينت بكر الحبور وأصبحت
مجلوة بين الرفاهة والترف
وتجملت مصر بما جاد الهنا
ورخيم مطربها على عود عكف
في منتهى اللطف هذان البيتان لا سيما الثاني. وفي الشطر الأخير نفحة شعرية منعشة. وهذا مثله:
وتراقصت مهج النفوس لبشرها
كبلابل غردن في روض أنف
أضحى يقول بسعد بابك نيلها
أقبل على بحر الوفاء ولا تخف •••
أكل هذا محض رغبة في المجاملة والإرضاء؟ بل فيه بعض الصدق، إن للأعياد العمومية والاحتفالات بهجة و«جوا» ينفث في الجماهير فكرة ويبث فيهم توقعا. ويخلق في ذوي الشعور المتيقظ مختلف العواطف. فكيف لا تتأثر المرأة المحجوبة إذ تمر في مركبتها المسدولة الأستار بين معالم الزينة والألوية والأنوار وصفوف الجنود وقرع الطبول؟ كيف لا تهتم بالذات العلية التي تهتز البلاد لحركاتها وهي القريبة إليها بمنصب أبيها، المدينة لها بعض الشيء بمرتبة أسرتها، الملمة ببعض أحوالها بالاختلاط بنسائها؟ فكما تهنئ خديويا بالعودة تهنئ الخديوي التالي توفيق باشا بالتولية:
تيجان يمن الصفا أضحت تكللها
يد السرور بفوز دائم بهج
والسعد أشرق نورا والسما غنيت
عن نور أقمارها والأرض عن سرج
تقلد النير الدري تولية
ضياؤها لسوى الإصلاح لم يهج
هذا الخديوي الذي قرت بموكبه
عين الزمان وقالت للهدى ابتهج
يسوس بالعدل والإنصاف أمته
ويبذل الفضل والجدوى لكل رج
والدهر رنم بالبشرى يؤرخه
يا مصر قد زانك التوفيق بالبلج
وإذ يمر الخديوي ببنها العسل تنظم هذه الأبيات لتكتب على لوحات الزينة:
البشر أجرى ببنها أنهر العسل
والنصر أضحى بتوفيق السعود جلي
وافى «الخديوي» فأضحى نور بهجتها
كالبدر في التم أو كالشمس في الحمل
ما ثم أرض سقاها غيث مقدمه
إلا وفازت بزاهي الأنس والجذل
تهلل القطر بشرا من زيارته
وأيقن القوم حسن الفوز بالأمل
وحين مولد ولي عهده:
قرت عيون للسعادة بالصفا
مذ بشرت بسمي عم المصطفى
عباس أشرق بالمعالي نجمه
من نير التوفيق سعدا أشرفا
رقصت بمنبتها الغصون بشارة
بقدوم من بوجوده دهري صفا
قالت ميامن بشره تهن الورى
فالأمن والتوفيق فوزا أخلفا
إلا أن هذه اللهجة تصطبغ بالجد في قصيدة الترحيب بالخديوي بعد الثورة العرابية:
الله أكبر يوم آب عزيزنا
عيد كبير زانه التشريق
وافى الخديوي الفخيم المرتضى
رب الفخار عزيزنا توفيق
رفعت له الأعلام يوم قدومه
وبدا لها في الخافقين خفوق
وسرت بأرجاء البلاد مسرة
من عطرها روح النسيم عبيق
عزفت له الأفراح ألحان الهنا
وبدا يشير لحسنها التصفيق
ومن ثم تمضي في إنكار تلك الثورة التي لم يرض عنها الخديوي:
ولك السيادة ليس ينكر أمرها
إلا عديم العقل أو زنديق
قدحت بأكباد العدا نار الغضا
واشتد ما بين الضلوع حريق
كفروا بأنعم فيض جدواك التي
تربو على قطر الندا وتفوق
ظلموا نفوسهم بخدعة مكرهم
والمكر يصمي أهله ويحيق
فرقت شمل جموعهم فمكانهم
في الابتعاد وفي الوبال سحيق
هذه مصارحة خطيرة وهي الغمزة السياسية الوحيدة في كتابات التيمورية إذا استثنينا مشايعتها للعرش في قصائد الثناء. مشايعة فيها تتلخص عاطفتها «الوطنية» وبها تحب جو «مصر السعيدة» ونيلها الفياض، وألحان أفراحها. تريد لمصر الخير والصلاح والهناء بواسطة الخديوي الذي ترى فيه أقدر عامل على ذلك، ليس لأنه مصلح أو خير بطبيعته، بل لأنه صاحب الأريكة. فكما أنه فوق رعاياه في المكانة فهو كذلك لهم في الصلاح والعدل المثل الأعلى.
والتيمورية في هذه «المحافظة» السياسية متفقة وطبيعتها؛ لأننا رأينا فيما مضى وسنرى في الباقي من آثارها أنها غير ثائرة.
شعرها العائلي
أليست المجاملة وحب التساهل لتيسر العلاقات بين أعضاء البيت الواحد، وتحل من المشاكل ما قد لا يفلح في حله الصراحة والعناد؟
تكاد تتوحد العاطفة والمجاملة في بعض شعر عائشة العائلي؛ لأن الملاينة تتخذ لهجة أقرب إلى النفس في مثل ترحيبها هذا بولادة شقيقها:
غنى فؤاد الأم أهلا بالذي
مذ جاء أشرقت المنازل بالهنا
وفي قولها يوم بدأ يقرأ، كأنما هي رأت في المستقبل المرتبة العلمية التي هو بالغها:
لاح العود وأسفر التوفيق
وتلا لنا سور العلا توفيق
1
رقم الفقيه له على لوح الهدى
أقبل، فإنك للنجاح رفيق
وفي وصف هدية بعث بها خطيب شقيقتها إلى عروسه:
تهادينا الزهور فعطرتنا
وللنسمات تعطير مضاعف
سألنا ما الذي أذكى شذاها
فقيل لأنها نفحات «آصف»
2
وفي قولها في ختان ولدها:
دقت له العلياء دف سروره
لما زها عن ثغره البسام
وغدت تعوذ نجمه لما بدا
ودعته في أفق المسرة سامي
رمقته أحداق الورى من بشرها
وصفت له الأرواح في الأجسام
هذا شعور الأم. ولأنها ترمق ولدها بالبشر، وتصفو له روحها، فهي لا تقبل في الثناء عليه بعدئذ معارضة ولا إنكار؛ فتكتب إليه مرة تطلب كتاب «درة المختار»:
طروس حررت فورا
فحاكت نسمة الأسحار
سأودعها تحيات
بها عرف الصبا قد سار
إلى عالي المكانة من
سما في المجد والمقدار
له همم إذا ظهرت
توارت دونها الأقمار
وأرجو من معاليكم
سريعا درة «المختار»
وتكتب إليه مرة أخرى مشتاقة صادقة، وفي الشطر الأخير مثال من ذكرها لاسمها، أما السطر الأول فمن ألذ أحاديث الأمومة:
قلبي لبعدك لم يحمد مجاورتي
وفر نحو حبيب في حشاه ربي
فقل بطلعتك الغرا وعزتها
واحكم بما ترتضي متعت بالأدب
من غير قلب أتبقى روح عائشة
لا والذي زان هذا المجد بالأدب
وأصدق صورة من شعرها العائلي في المراثي، ولا سيما مرثاة ابنتها المحبوبة توحيدة وهي القصيدة الوحيدة تقريبا التي يذكرها الناس من شعرها زاعمين أنها خير ما نظمت التيمورية، وحكمهم في هذا حكمهم في كثير من الشئون؛ يقرون رأيا ما، ويعززونه، ويتعصبون له قبل الاطلاع على سواه، بروح التساهل، وقبل أن يصرفوا ولو دقائق في البحث والمقارنة.
وأضيف إلى هذه المرثاة مرثاتها للشيخ إبراهيم السقا الذي يلوح كأنه عضو من عائلتها المعنوية. فتتوجع لفقده:
الدهر أبدل راحتي بعناء
واعتاض صفو تنعمي بشقاء
شجن عرى الإسلام بالظمأ الذي
حل العرى بضمائر العلماء
أضحت حصيدا أرض أزهرنا التي
كانت به كالدوحة الخضراء
تشكو الأوام وما بها من مطفئ
مذ غاب سقاء العلى بالماء
قلبي عليه غدا كجمرات الغضا
وا لوعتي من حره وشقائي
فلأذرفن أسى عليه مدامعي
ما دمت عائشة بخدر فنائي
اسمها من جديد، يصحبه وصف كارب من التحجب؛ إذ تدعو خدرها «خدر فنائها».
أما في مرثاة والدتها فتطلب للراحلة الرحمة، وتهنئ القبر بنزيلته المخدرة التي لم تسفر لغريب:
يا قبر، فاهنأ بالتي أحرزتها
هي درة بالدرج لاحت تسطع
يا رب، فاجعل جنة المأوى لها
دارا بطيب نعيمها تتمتع
واسكب على حصبائها سحب الرضى
فضلا، وإن تك قد سقتها الأدمع
يهنأ لأرباب النعيم نعيمهم
طوبى لمن من نهرهم يتضلع
وبعد هذا الامتثال تنتفض صائحة بالموت الذي فطر حشاشتها. إلا أن صيحتها تظل استرحاما. وما أبلغ وصفها الردى «بمنهل التشتيت» على قياس النظرة الدنيوية التي تختبر به الفراق المر، دون الأمل الروحي الذي يرى فيه وسيلة الاجتماع والاتحاد.
يا منهل التشتيت، حسبك ما جرى
فعيوننا قد أقسمت لا تهجع
ذهب الأحبة واستقر ركابهم
يا ليت روحي ودعت إذ ودعوا
يا ليتهم طلبوا الفداء فهذه
روحي ولكن «ليت» ليست تنفع
وفي رثاء شقيقتها:
أحبيبتي، كيف الرضا بتشتت
قد ضر بالإخوان والأولاد
وفي هذه المرثاة ترتفع التيمورية لحظة إلى ما فوق الندب والرثاء:
يا من أتى للقبر يقرأ طرسه
مهلا، فليس كتابه بمداد
وأعد له نظرا فإن حروفه
كتبت بذوب العين والأكباد
وفيها هذا البيت الذي يسجل بداهة وجوب انحلال الصور الكونية ليتسنى لها أن تتألف وتتشكل مرة أخرى. فيتم بذلك ناموس من أكبر النواميس في الوجود:
وجدت، وأعدمها الزمان حياتها
ما أقرب الإعدام للإيجاد! •••
تولد المرأة أحيانا صنوف التوليد المحسوس. فأحوال حياتها جميعا تتهيأ لهذه الوظيفة وتتجه نحوها اتجاه الأنهار إلى البحر. ولقد شبهت الأم دواما بالطبيعة، تلك الأم العظمى. وكان ما يرمز إلى أمومة الطبيعة ووظيفة التوليد الرائع فيها، أنثى في جميع أديان الأقدمين؛ فإيزيس المصريين «تلك الإلهة التي بدأت التوليد الإلهي، الأم الإلهية التي ولدت جميع الأشياء»، واللواتي قمن مقامها في الميثولوجيات الأخرى، يرمزن إلى المرأة القادرة بأمومتها، الممثلة الطبيعية بوظيفتها، القائمة حلقة مغناطيسية بين الحياة والحياة.
فما هو شعورها يوم ترى مخلوقها جامدا في حضنها هامدا؟
لا عجب أن يبدو الكون عندئذ متهدما في نظر الثكلى وأن ينقلب الروض قفرا، وأن يغشى النور ظلام.
ولا عجب أن يكون غمها الأكبر الذي لا يحتمل أن يظل هذا الكون المتهدم لها عامرا لسواها، ويظل هذا النور منتشرا ينير الناس ويفرحهم في حين يدلهم الجو حولها.
أي مأساة هذه التي تتصدع من جرائها الخليقة؟
أغمضت توحيدة عينيها، فكل الحياة عند عائشة سواد وتهدم وتفجع وتناقض أليم.
ستر السنا، وتحجبت شمس الضحى
وتغيبت بعد الشروق بدور
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى
وغدت بقلبي جذوة وسعير
طافت بشهر الصوم أكواب الردى
سحرا وأكواب الدموع تدور
فتناولت منها ابنتي فتغيرت
وجنات خد شأنها التغيير
فذوت أزاهير الحياة بروضها
وانقد منها مائس ونضير
يا روع روحي، حلها نزع الضنا
عما قليل ورقها ستطير
من أرق قصائد تنسن الإنجليزي وأدلها على شاعريته الحنون قصيدة «ملكة مايو» وهي عادة جرى عليها الإنجليز في بعض المقاطعات أن يختاروا كل عام من بناتهم ملكة للربيع.
فإذا شئت أن تقف على مثال من توارد الخواطر فاقرأ قصيدة تنسن المذكورة
The May Queen
وقابل بينها وبين مرثاة التيمورية لابنتها ضاربا صفحا على الاتساق التام في قصيدة الشاعر الإنجليزي، وعن نقيض ذلك في قصيدة الشاعرة المصرية. تجد العاطفتين تتلامسان في غير موضع. وأذكر أن عائشة كانت تجهل الإنجليزية، وأن هذه القصيدة لم تنقل في عصرها إلى العربية. وأظنها لم تنقل بعدئذ وقد أكون مخطئة.
فتاة تنسن تقول مودعة والدتها ساعة الموت:
3
You’ll bury me, my mother, just beneath the hawthorn shade,
And you’ll come sometimes and see me where I am lowly laid.
I shall not forget you, mother, I shall hear you when you pass,
With your feet above my head in the long and pleasant grass.
I have been wild and wayward, but you’ll forgive me now;
You’ll kiss me, my own mother, and forgive me ere I go;
Nay, nay, you must not weep.
و«توحيدة» تقول:
والقبر صار لغصن قدي روضة
ريحانها عند المزار زهور
وتقول:
أماه، قد عز اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هو منزلي، وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد، رفقا بابنتي
جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة
فتراك روح راعها المقدور
أماه، لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقبور
فتاة تنسن تذكر حبيبها فتقول:
4
And say to Robin a kind word, and tell him not to fret;
There’s many worthier than I, would make him happy yet.
If I had lived-I cannot tell-I might have been his wife;
But all things have ceased to be; with my desire of life.
وتوحيدة لا تذكر اسما، إنما تشير إلى الزواج الذي كان قريبا لولا الموت:
أماه، قد سلفت لنا أمنية
يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت
مذ بان يوم البين وهو عسير
عودي إلى ربع خلا ومآثر
قد خلفت عني لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكارا، فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
وكما تطلب فتاة تنسن الصلاة، وتبارك الكاهن الذي أسر إليها بكلمات الرحمة والسلام فأفهمها عذوبة الغفران، وحبب إليها الموت بعد أن كان مخيفا، وأكد لها أن المسيح الذي «مات لأجلها سيبلغها السماء» كذلك تطلب توحيدة أن يزار قبرها وأن تتلى الصلوات على روحها لتحظى برحمة الرب الغفور:
أماه، لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقبور
ورجاء عفو، أو تلاوة منزل
فسواك من لي بالحنين يزور
فلعلما أحظى برحمة خالق
هو راحم، بر بنا، وغفور
الأم عند تنسن لا تسمعنا صوتها. أما عائشة فتنتحب وتعود فتبكينا:
بنتاه، يا كبدي ولوعة مهجتي
قد زال صفو شأنه التكدير
لا توص ثكلى قد أذاب وتينها
حزن عليك وحسرة وزفير
قسما بغض نواظر وتلهفي
مذ غاب إنسان وفارق نور
وبقبلتي ثغرا تقضى نحبه
فحرمت طيب شذاه وهو عطير
والله لا أسلو التلاوة والدعا
ما غردت فوق الغصون طيور
كلا، ولا أنسى زفير توجعي
والقد منك لدى الثرى مدثور
أبكيك حتى نلتقي في جنة
برياض خلد زينتها الحور
إنها تؤمن بالخلود، لذلك يعقب تفجعها الخضوع، وبينا هي تقول بلسان الجسد:
قد كنت لا أرضى التباعد ساعة
كيف التصبر والبعاد دهور!
ولهي على «توحيدة» الحسن التي
قد غاب بدر جمالها المستور
إذ بها يتجه انتباهها إلى ما وراء الموت فتذكر أن الفراق الطويل والانفصال المحسوس لا يجردانها من فخر الأمومة واغتباطها. فتقول بامتثال حزين وقد نما أملها بالاجتماع المنتظر:
هذا النعيم به الأحبة تلتقي
لا عيش إلا عيشة المبرور
وتشكر الله على كل حال:
قلبي وجفني واللسان وخالقي
راض وباك شاكر وغفور
ابنتها إن فقدت بها «كبدها ولوعة مهجتها» فإنها رغم ذلك، الفتاة الصغيرة التي لا تستطيع أن تكون لوالدتها الحصن الحسي والمساعد الذي يخفف الأثقال ويروج الأعمال. صدر والدها هو لها ذلك الملجأ في الحزن واليأس، ومن قلبه التعزية ومن مقدرته المعونة فيوم تفقده تفقد الشاعرة هذه الشفقة التي تلذ لها من أبيها، وتذلها من الناس ولهذا تقول في رثائها له:
يا حسرة ابنته إذا نظرت لها
بمماته عين من البأساء
يا كنز آمالي وذخر مطالبي
وسعود إقبالي وعين شفائي
يا طب آلامي ومرهم فرحتي
وغذاء روحي، بل ونهر غنائي
أبتاه، قد جرعتني كأس النوى
يا حر جرعته على أحشائي
وهذا الأنين يستحضر لذاكرتي أنين ابن أخيها المرحوم محمد تيمور فيما بعد، عند ضريح والدته في ساعة غم متفجع قانط:
أماه، قومي واسمعي
أماه، ما لك لا تجيبي؟
أرأيت دمع محاجري
وسمعت يا أمي نحيبي؟
هل راع قلبك ما لقيت
من النوائب والكروب؟
إن الوجود صحيفة
ملأى بأسرار القلوب
خلفتني للهم فيه
وللشدائد والخطوب
أماه، إني قد طرق
ت حماك في اليوم العصيب
أبكي على سعدي كما
يبكي الغريب على الغريب
أفنى الغرام تجلدي
وفقدت في أهلي طبيبي
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على حبيب
والفرق بين التيمورية وابن أخيها في هذا الانتحاب أن الشاعر الفتى همه الشكوى وطلب الشفقة؛ إذ ليس من يسمع له ويواسيه غير الأم في قبرها.
أما عائشة فتعود إلى انتباه لطيف في حسرتها، وهو دليل رقة نسائية حلوة، تعنى برضى والدها ميتا وحيا. وفيه كذلك دليل على الأثر الذي تركه الوالد الصالح الحكيم في حياتها:
يا ليت شعري، حينما حل القضا
هل كنت عني راضيا أم نائي؟ •••
أسمعت القصب يشدو؟
ذلك القصب الشرقي الساذج الذي سبق شدو جبروت الفراعنة وجلال الأهرام وكتمان الهياكل - أسمعته يشدو تحت النخيل على ضفاف النيل عند حلول الشفق ؟
لكأن شدو عائشة شدوه.
إنها تجرب مزمارها في المجاملة، وتنتحب فيه بالرثاء، لتبلغ منه أشجى قرار وأحر زفير في شكايات الغرام. وتسمو به بعدئذ مرفرفة كالألحان المجنحة، في الابتهال إلى المهيمن على دوران الأكوان وحظوظ بني الإنسان.
الفصل السادس
أشعارها في الغزل والأخلاق والدين
شعرها الغزلي «الحب عارض في حياة الرجل، ولكنه حكاية حياة المرأة.»
كلمة شهيرة قالتها امرأة من أنبغ نساء العالم في فيض عاطفتها واتساع تفكيرها وفي مقدرتها الأدبية، هي مدام «دي ستيل» الفرنسية التي نالت شهرة غير مختلسة، ومجدا مستحقا، وإعجابا توافق وعبقريتها النادرة. وقد عاشت تلك المرأة الممتازة، عمرها وعواطفها تذوب جوعا، والظمأ إلى الحب الهانئ يبرح بها، ولم تفهم معنى السعادة، على قولها، إلا في الحب المتبادل الذي تم لها في الأعوام الأخيرة من حياتها.
المفروض أن تسير عاطفة الحب عند المرأة سيرها الطبيعي ابتداء بحب الوالدين، إلى حب الأخوة والأخوات، إلى حب الأقارب والأصدقاء، ثم يتجه الحب في حينه إلى الخطيب الذي تطلب فيه المرأة طبعا الحبيب، ثم حب الزوج والولد والعائلة الجديدة بشتى فروعها.
وبرغم أن هذا الحب نسيج حياة المرأة، فإن الرجل الذي اعتاد إذلالها باسم القوة والحصانة، سد في وجهها منفذ الانتباه لعواطفها المشروعة، وأنكر عليها الإفصاح عما ينبئ بأنها ذات يقظة مستقلة. وكل ما اقتحمته في عالم التعبير خلال العصور المظلمة يكاد يتلخص في وصف النبات والحيوان في حكايات قصيرة، ولم تنظم إلا الأناشيد الدينية والصلوات الروحانية، فإذا خرجت من ذلك فلتصوير حياة الرعاة وعاداتهم ومرحهم في عيشة الخلاء، أما النساء العربيات في الجاهلية وفي صدر الإسلام فلم ينظمن - على ما أعلم - إلا في المدح وفي الرثاء وما إليهما. وقليل ما ينسبونه من شعر الغزل والنسيب إلى بعض الشاعرات.
ولو أننا رجعنا إلى أوائل القرن الماضي - وهو عهد مدام دي ستيل نفسها - يوم أنشأت المرأة في الغرب تنزع إلى تحرير فكرها وإطلاق براعتها، وقابلناه بعهد عائشة والمرأة حبيسة خدرها وراء الحجاب، لوجدنا شاعرتنا في طليعة نساء العهد الجديد المتعرفات حقهن في حرية العواطف ومشروعيتها ضمن حدودها الطبيعية، هي في طليعتهن، ليس في الشرق فقط، بل في العالم المتمدن كله. •••
لقد قالت الكثير من شعرها الغزلي محاكاة وتقليدا، كما اعترفت بذلك في تصدير بعض أبياتها حيث تجد: «وقالت متغزلة في غير إنسان والقصد تمرين اللسان.» ولكن، أتكون الأبيات التالية في بساطتها «لتمرين اللسان» كذلك؟
أشكو الغرام، ويشتكي
جفن تعذب بالسهر
يا قلب، حسبك ما جرى
أحرقت جسمي بالشرر
رام الحبيب لك الضنى
لم ذا وأنت له مقر؟
لكن تعذيب الهوى
ما للشجي منه مفر
ويبدو شعرها في أصدق لهجاته عندما تذكر هذا السعير الذي يضرمه الشوق (وكثيرا ما يذكيه الصد في بعض الأمزجة إلى حين) وهي تستوحيه في أكثر غزلها:
حر التهابي ووجدي واحتراق دمي
بفيح وادي الغضا عمن سواك خفي
هاكه في هذا المخمس الذي سمعتهم ينشدونه في سورية:
يا ظبي، في قلبي عليك حرارة
تطفي لظاها - إن سمحت - زيارة
حلو الرضاب، أفي الوصال مرارة
أم في التفاتك للشجي خسارة
وجميع ربحي في الهوى أنفقته
ومن مربعاتها:
لما نأى عني وبان صدوده
والقلب أصبح لا يفيق عميده
ملك الهوى رقي وحق وعيده
والحب خط بالجباه قديم
بهذا الشطر الأخير هي تردد الفكرة الشائعة في الشعر العربي، وهذه الفكرة حقيقة محسوسة، فحواها أن بين جماهير الناس أشخاصا خلقوا للحب وكانوا مفطورين عليه أكثر من غيرهم، وقد قدر على أولئك الأشخاص أن يعرفوا بعضهم البعض وأن يبحث الواحد منهم عن الآخر، أللسعادة أم للشقاء؟ سيان! وإنما للحب وفي سبيل الحب على كل حال. وتمضي عائشة في إتمام مربعاتها، وكلها غنائية تجمع بين بساطة اللفظ وسهولة المعنى وفتنة الغرام الضرورية لتوقيع الإنشاد:
يا ليل، ها أنا فيك ساه ساهر
ولعزة المحبوب شاك شاكر
يا ليل، قد أيقنت أنك كافر
إذ لم يكن لي من دجاك رحيم •••
يا ليل، إنك في الفعال منافق
هذا تسهده، وذاك توافق
وإذا لضيم أن فيك العاشق
ضاعفت شكواه وأنت بهيم
وهذا الخطاب لليل يذكرني بأبيات لابن أخيها، المأسوف عليه محمد تيمور الذي رأى في الليل عكس ما رأت فخاطبه مطمئنا إليه شاكيا غدر الناس:
أنا، يا ليل، أناجي
منك سلطاني الرحيم
أنا في الدنيا وحيد
ولي الناس خصوم
راقهم، إن جد أمر
برق غدر لا يدوم
ورأيت الغدر نارا
ورأوا فيه النعيم
هدموا بنيان ودي
وانمحت منه الرسوم
ومليك الليل بر
هو لي أم رءوم
وهو لي خل أمين
ولأفكاري نديم
أنا، يا ليل، أناجي
منك سلطاني الرحيم •••
ارتكبت قبل اليوم جريمة الصراحة إذ قلت إن الخيال الشعري عندنا من الفقر بحيث ترى المعاني نفسها مكررة في كل جيل بنفس الألفاظ القديمة. وقد بحث السادة الشعراء عن مزيد من القيود فاهتدوا إلى ما يسمونه «المعارضة» التي تفرض عليهم التزام البحر والقافية كما تعهدوا بالتزام اللفظ والمعنى مع شيء من التبديل في الوضع! فهل بعد هذا من لوم على عائشة إذا هي وقفت عند معالم الغزل المألوفة التي قصرت في الكثير من شعرنا على التشبب بالعين والحاجب والخال وأخواتها؟ وشهدت عائشة جميع الأجيال السالفة تلوم العواذل راجية أن يرد كيد اللاحي إلى نحره. ففعلت هي فعلتهم جميعا فلامت العواذل، راجية أن يرد كيد اللاحي إلى نحره. وتغزل الشعراء بالخمرة، وزعم المتصوفة منهم أنهم يرمزون بها إلى الحب، وأحيانا إلى الحب الإلهي، فعلام لا تتحداهم عائشة؟
جهل العواذل ما تريد بشربها
نفسي وما تلقي من السكرات
وسلوها عن جفوة أم صبوة
لفؤادي المضني من الحسرات
شتان بين ظنونهم وسرائري
الله يعلم منتهى غاياتي
كذلك تحدث الأندلسيون في شعورهم واصطناعهم تفهم أسرار الطبيعة وتأويل معانيها، فوصفت حركات حدثت للزهر وللماء؛ لأن المحبوب، الذي تسميه التيمورية بالاسم الطامي في الشعر العربي، أي الغصن، بدا في الروض. فاهتز لظهوره كل ما استطاعت ألفاظ الشاعرة أن تهزه من الموجودات. فإذا بها تتساءل:
إن كان ذلك حال الزهر من عجب
فكيف حال أخي وجد وأشواقي؟
كل هذا التعمل عندها وعند من قلدتهم، بل عند الكثيرين من كتاب الغرب، كان مقدمة طويلة لعهد «الرومنتزم»؛ أي عهد دخول الشعراء والأدباء إلى نفوسهم يلمسون جراحهم بأيديهم ويستوحونها، ويتعرفون حالاتهم النفسية فيتمكنون من النظر إلى الطبيعة تلك النظرة النافذة الرائعة فيكتنهون فيها مغزى المعاني ويرون فيها فاتن الصور والألوان في الحزن وفي الابتهاج جميعا. وما ذكر الإحساس بالطبيعة ونزعة الرومنتزم؛ أي النزعة الوجدانية الصميمة في الأدب، إلا ذكر جان جاك روسو موجد تلك النزعة في آداب الغربية. فسرت من بعد إلينا، وتعلم الجيل الجديد من شعرائنا تعرف ما في نفوسهم وما في الطبيعة من تغير وتنوع في الظواهر وفي الخوافي. بيد أن الرومنتزم، ككل شيء آخر في هذا الكون، أفسح المجال لمذاهب أدبية أخرى تطورت منه ومن فروعه فأصبح اليوم في حكم «القديم» في أوروبا، بينا هو وغيره من شتى المذاهب الأدبية ما زال شائعا عند الجيل الحاضر من شعرائنا وأدبائنا. •••
ولكن عودة إلى التيمورية! إننا رأيناها متكلمة بلهجة الرجل، وذلك راجع طبعا إلى أمرين اثنين ذكرتهما قبلا، وهما:
أولا:
عادة الضغط على عواطف المرأة وإخراس صوتها. فكان أيسر لها أن تتخذ لجهة الرجل المصرح له بما حظر عليها.
ثانيا:
لأنها كانت مقلدة؛ فقد قلدت الرجل في معانيه كما قلدته بداهة في لهجته. الرجال أساتذتنا ومهذبونا ومكيفونا، عليهم نتلقى دروسنا، وعن كتبهم وكتاباتهم نقتبس المعرفة، وبذكائهم نستعين لصقل ذكائنا وإنمائه، ومنهم نستلهم كل فكر عظيم وكل عاطفة جليلة. لقد احتكر الرجال جميع أنواع القدرة والإبداع والتفوق، فما نكاد نفتح عيوننا وأذهاننا حتى نرى جميع مناحي السلطان والسيطرة والنفوذ ممثلة فيهم. بيد أن الطبيعة النسائية تظهر عند عائشة بعض الظهور في الخجل الذي يشعر المرأة أحيانا بأنها صغيرة ضئيلة أمام من تحب، كما يشعرها بأن هذا الرجل الذي اختارته هو الذي يملأ الدنيا حياة ويفيض عليها الرونق والنور:
أنا المسربل بالأعذار من كلفي
إذا التقينا، وأنت الرائق الوسم
وتظهر طبيعة المرأة ظهورا أتم في هذا الخجل الصريح:
وهذه كلمات قادها شغف
إليك، لولاه لم تبرز من القلم
جاءت، ومن خجل تمشي على مهل
تخاف عند لقاها زلة القدم
وقد يكون خير شعرها الغزلي وأصدقه في القصائد التي قيلت خلال رمد عينيها وبعد الشفاء منه، يوم عادت إلى مشهد النور ورؤية وجوه الأحباب. ومنها:
بكعبة الحسن إنسانا أرى فسلوا
عيني التي طالما ضلت من الغسق
وخبروني، أأنساني صفا ودنا
لمستهام رماه البين بالأرق؟
وما لبث أن عاودها الرمد فانقلبت تشكو الظلام الذي هي فيه والألم والحرمان جميعا:
فوا أسفي على إنسان عيني
غدا في سجن سقم واعتقال
حجبت بسجنه عن كل خل
وصرت مخاطبا صور الخيال
ثم ترسل الأمنية الواحدة المتضمنة أماني أخرى:
فيا إنسان عين غاب عنها
وبدلني به طول الملال
عسى ألقاك مبتهجا، معافى
وأصبح منشدا «أملي صفا لي»
لتهنأ مقلتي بسنى حبيب
بديع الحسن، محمود الوصال
وأنظم أحرفي كالدر عقدا
به جيد الصحائف كان حالي
ثم تصف ما تقاسي من العذاب في الظلام والأرق:
فكم أمسي بما ألقى حزينا
وبين النوم معترك وبيني
أبيت ومؤنسي الخفاش ليلا
وحالي معه شر الحالتين
فذاك بنور عينيه مهنى
ولي أسف بحجب المقلتين
وأبسط للظلام أكف بثي
وأشقى لوعة بالظلمتين
تراني معرضا عن كل ضوء
فهل خاصمت نور النيرين؟
ينافرني السنا فأفر منه
كأن الضوء يطلبني بدين
وأجنح للظلام جنوح صب
دنا لحبيبه بالرقمتين
وجاء يوم شفيت نهائيا فمضت تنشد «أملي صفا لي!» على نحو ما تمنت:
روحي بقربك قد نالت من الأرب
ما ترتضيه، فمرها في الهوى تجب
فضع يمينك فضلا فوق مهجتها
تكف بالكف ما عانته من وصب
لا تنكرن مزايا الحب إن له
في الراحتين لراحات من التعب
هذا معنى آخر مقتبس كسائر معانيها، إلا أنه في الأصل ذا مغزى بعيد. ففيه إشارة إلى مغناطيس اليد كم هو مؤثر فعال بين المحبين والأصدقاء، حتى بين الغرباء الذين لا تنافر بينهم. وهو قاعدة علمية تقوم اليوم عليها، أي على مغناطيس لمس اليد، طائفة من تجارب التنويم المغناطيسي وكيف لا يكون لكف الحبيب هذا التأثير، والحب محور الحياة؟
صب لقربك بالحياة يجود
إني له بعد البعاد وجود
بختام طبع الحسن قد طبع الهوى
في قلبه «هذا هو المقصود»
ولكن العواذل - لحاهم الله!- عادوا إلى الاصطياد في الماء العكر، بتعبير كتابنا السياسيين في هذه الأيام. فهل من انتقام أتم من رميهم بالكفر؟
كأنهم بعنادي عصبة كفروا
ما حل في قلبهم صدق وإسلام
أما وهناك ما يؤدي إلى خيبة الأمل وصد العاطفة، فتسخط شاعرتنا، ورغم الألم والمضض تجنح إلى الإعراض والنسيان:
غضضت نواظري عن غصن قد
وعفت حنين قلبي، وهو روحي
فلو عقب الهوى قلبي، وقالت
إذن روحي أروح، لقلت روحي!
وأفكاري تسوح لفرط شوقي
فأطوي لوعتي، وأقول سوحي!
لظبي قد بكت عيني، وقالت
أنوح إلى النشور، فقلت نوحي!
وذاك لميله شرقا وغربا
لنفحات الغبوق مع الصبوح •••
كان الناس في عصر عائشة يتلقفون الأدوار والمواليا، تلك الأغاني الشعبية التي يفهمها الجميع ويستلذونها بلا إجهاد؛ لأنها تخاطب ألصق العواطف وتحدث عنها باللهجة العامة. وتلك الأغاني، كمجموعة المغني العربي القديم والحديث، تكاد تنحصر في شكوى الحب، ولوم الحبيب، ووصف جماله ودلاله، وعبادة ما نثر على وجنتيه من خال وشامة، والتحرق من جراء هجره، والابتهال إليه وإلى الأيام والقدر ليروا جميعا ما يحسن صنعه لتسوية الأمور ... وقصائد عائشة الغزلية لا تعلو هذه الأغاني إلا بكونها منظومة؛ لذلك سهل إنشادها، لا سيما الرباعيات التي يغنوها في سورية وفلسطين لبساطة معانيها وتراكيبها. كذلك سمعت أدوارا ومواليا تنشد في اجتماعات الأنس وحفلات الأفراح، ولم يدر المنشدون أنهم بإنشادهم يلحنون روح التيمورية. كما أن كثيرين منا عندما ينشدون «قدك أمير الأغصان» و«الحلو لما انعطف» وغيرها، يجهلون أنهم منشدون شعرا لإسماعيل صبري باشا. وأن كثيرا من الأدوار الشائعة هي من صنع أدباء كبار نحسبهم تحصنوا في معاقل اللغة الفصحى مزدرين بالأدب الشعبي البليغ. وهاك دورا من وضع عائشة:
حياتي بعد بعدك نوح
ووعدي ضيعك مني
دانت أنت الغذا للروح
وليه ترضى البعاد عني؟
وغيره:
أنا أحب الحب
نفس الغرام روحي
وصبحت أول صب
الناس ترى نوحي
في قلب من جوه
والسر هو هوه
وهذا من المواليا:
يا ألف أهلا، مليك الحسن أهو قابل
وكل مضني بحسن الامتثال قابل
هاروت لحاظه أتى بالسحر من بابل
كم من ضنى تاهت أفكار وقلبه داب
يا قلب، تقبل كدا؟
قال لي: نعم قابل •••
اشتهر كاردوتشي الإيطالي بموهبته الشعرية وبموهبته النقدية معا. وكان يؤثر عنه كذلك ازدراؤه بشاعرية المرأة. وله في ذلك رأي سار مسير الأمثال، وهو أن اثنين عليهما أن لا يعالجا الشعر وهما: الكاهن المسيحي والمرأة. ولكثيرين من الناس في مواهب المرأة رأي لا يختلف عن رأي كاردوتشي ولست أدري هل قدر لهم ما قدر لكاردوتشي فحمله على تغيير رأيه مما سجله بقلمه على نفسه في اغتباط يوم وضع المقدمة لمجموعة الشاعرة الإيطالية آني فيفانتي. ليس أظرف من اندحار هؤلاء العظماء بعد تعنتهم في بعض الآراء غير الناضجة، ولا أصرح من اعترافهم بالخطأ اعترافا خلا من التحفظات والاستدراكات والمداورات التي تشغل جماعة من الكويتبيين وذوي المدارك المحدودة، أولئك الذين كأنهم لا يفتئون يقولون: أعترف، ولكني لا أعترف. صحيح، ولكنه غير صحيح. جميل، وهذا مع ذلك غير جميل!
عدل كاردوتشي رأيه بعد مطالعة أشعار إليزابيث براوننج الإنجليزية، ومدام ديبور فالمور الفرنسية، وآني فيفانتي الإيطالية، مصرحا بأن لدى المرأة شيئا تقوله غير ما تنسخه عن الرجل. ولا عجب في قوله بل العجب في قول المناقضين؛ لأنه مهما فاخر الرجل بعبقريته التي نحبها ونعجب بها ونستحثها فيه، فهو لا يستطيع أن يزعم أنه الطبيعة البشرية كلها؛ لأن الطبيعة لم ترده أن يكون أكثر من النصف الواحد من الذات الإنسانية المكتملة فإذا به هذا النصف النشيط البارع الجميل الذي أوجد لنا ما نتمتع به اليوم من محاسن الحضارة والثقافة ... ومن الباقي الذي نشقى به وهو غير خير وغير حسن ...
أما النصف الآخر فهو المرأة، النصف الذي ظل إلى اليوم مهملا، إن لم يكن مكموما مسحوقا. النصف الذي قد يذكر أحيانا بصفته غير موجود في ذاته ولا حق له على الحياة والحرية، وكل الغرض منه هو إخراج النسل ليس غير. هذا الرأي شائع كثيرا، بيد أنه لا يتناول الأقلية المنصفة من الرجال الذين هم في الحقيقة نبهونا إلى نفوسنا، ولهم الفضل الجزيل في تشجيعنا وإرشادنا ومساعدتنا.
بدهي المرأة في بادئ الأمر تقلد الرجل تقليد التلميذ للمعلم، تقليد الصغير للكبير. بدهي أن تفعل ذلك في مجموعها المستيقظ. ولكن تتفلت من كل تقليد واحتذاء صاحبات العبقرية منذ ظهور نزعتهن، مثيلات سافو، ومدام دي ستيل، ومدام دي نواي معاصرتنا التي فازت العام الماضي بجائزة الآداب من الأكاديمية الفرنسية، ومتليدا سيراوو التي يشبهها بول بورجيه ببلزاك الكبير في رواياتها المشبعة بحياة الشعب وبوصف عاداته وانفعالاته وآلامه.
إن عواطف المرأة وتأثراتها شيء بشري مشروع. وبالمران تتعلم الاستسلام لطبيعتها النسائية والركون إليها في الاهتداء إلى التعبير، بعد أن لجمت خوالجها قرونا طوالا. والصيحة التي ترسلها الآن ستفتح في إدراك البشر وفي آدابهم أفقا جديدا.
أثبت هذا في إيمان وهدوء، دون تحيز ولا تعنت.
إنما نحن من الذات الإنسانية الواحدة الجهة الماثلة إزاء جهة الرجل، فنختبر إذن بفطرتنا ما لا يستطيع الرجل أن يعرفه، كما أن اختبارات حضرته تظل أبدا مغلقة علينا. وإذا قدر للمرأة المصرية أن تلج باب الشعر والأدب وتمعن في المسير في ما وراءه من فسيح المسافات كان مرجع الفضل إلى التيمورية التي نشرت أول علم في الجادة غير المطروقة، وبكرت في إرسال الزفرة الأولى أيام كانت تكتم الزفرات وكان إرسال الصوت في عالم الأدب يحسب للمرأة عارا وجريمة. ويوم ينمو الأدب النسائي في هذه البلاد فيجيء حافلا بحياة فنية غنية، ستظل أناشيد عائشة - هذه الأناشيد الساذجة - لذيذة محبوبة كترنيمة المهد القديمة التي همهمت لنا بها أمهات أمهاتنا، شجية مطلوبة كشدو القصب القائل في ظل النخيل: إن وراء المشاغل والهموم، يلبث القلب البشري معذبا بظمأ لا يرتوي، مثقلا بحنين لا يعرف الاكتفاء والنفاذ ...
شعرها الأخلاقي والديني
كنا في الفصل السابق في أنس وبهجة وكأننا في ليلة من ليالي الأعراس؛ لأن شعر عائشة الغزلي كان مستحضرا لنا نغمة القصب، ونقرة الدف، وشدو المغني، أما هذا الفصل، فإنه سينتقل بنا من «مجلس الأنس الهنيء » إلى ما يشبه خطبة أخلاقية. فكأننا اليوم نقول مع عائشة:
تركت الحب لا عن عجز طول
ولا عن لوم واش أو رقيب
ولا من روع زفرات التصابي
ولا من خوف أجفان الحبيب
ولا حذر الفراق وخوف هجر
به تجري المدامع كالصبيب
ولكني اصطفيت عفاف نفس
تقر بصفوه عين الأريب
والواقع أنني لم أكن مخيرة في انتقاء هذا الموضوع، بل أنا مرغمة عليه بحكم سياق البحث وانسجامه. أما عائشة فتقول إنها «اصطفت عفاف النفس» ولماذا؟
وذاك لأنني في عصر قوم
به التهذيب كالأمر العجيب
نستطيع أن نجعل هذا البيت حدا فاصلا بين ما نظمته التيمورية للمجاملة والمحاكاة والرثاء وتبيان العواطف وبين ما نظمته لتأدية رأي لها في شئون المجتمع، وتبصر في أحواله وأخلاقه بين طوارئ الزمان وتقلبات الأيام.
ورأيها وتبصرها لا تنفرد بهما، بل هما شائعان لا سيما بين الشرقيين. ولكن يهمنا هنا منهما أن شاعرتنا عمدت إليهما وأخذت بهما، ولو من وجهة سطحية. إن عائشة لم تتعمق أصلا في فكرة أو في عاطفة. بل كانت تكتفي بالناحية المطروقة وترضى لها بالتعبير المألوف. ولكن لا ننسين أنها المرأة المصرية الوحيدة في عصرها التي أقدمت على ما لم تدرك أهميته يومئذ مئات الألوف من النساء ومن الرجال أيضا.
ولقد ألمحت غير مرة في شعرها وفي نثرها إلى ما بينها وبين وسطها من عدم التفاهم. وهاكن أبياتا تدل على ما حاولته في سبيل التآلف والتفاهم، في حين وسطها لم يبذل من ناحيته جهدا ولم يبد لملاقاتها اهتماما:
عقدت عزمي وهم حلوا عزائمهم
وفي العزائم محلول ومعقود
ما طابقوا حين لم يبدوا مجانسة
ولا تشابه معدوم وموجود
أبدي ائتلافا ويبدون الخلاف، وقد
غدا لهم في جيوش الهجر تجريد
وكم أقابلهم مستنجزا، ولهم
لسوء حظي، في الأعراض ترديد
لو للسعادة عين في مساعدتي
ما كان لي ساعد بالطوق مشدود
هي تعني أن السعادة لو شاءت أن تساعدها ما كانت أوجدتها مقيدة بقيود هذه البيئة، خاضعة لظلم الوسط الذي يرهقها . وهنا نتأكد مرة أخرى أنها لم تكن سعيدة. وسنفهم شيئا فشيئا أنها كانت تتألم من انفرادها الأدبي، وسط المجهود الذي تبذله في رجاء ونشاط فيئوب عليها مقاومة وفشلا. فإذا بها تلقي إلينا بهذه النصيحة غير الجديدة:
لا تفرحن بدنيا أقبلت وصفت
بكل ما ترتضي، واحذر عواقبها!
وعلام هذا التحذير؟ لأن من صفت له الدنيا من ناحية تجهمت له من ناحية أخرى؛ لأن الصفاء نفسه لا يدوم، وقد لا يطول حتى ينقلب كدرا. فخير شيء وسط هذا التحول في العسر واليسر، انتهاج طريق العفة والاستقامة والصلاح:
ما الحظ إلا امتلاك المرء عفته
وما السعادة إلا حسن أخلاق
وهي تعطينا نصائح أخرى لتشرح لنا قليلا ماذا تعني بالأخلاق الحسنة: فمنها عدم الركون إلى المملقين، ومنها الإقلاع عن البخل وعدم التعلق بالمال والقناعة:
رب الدراهم أحصاها وعددها
في حصن أكياسه ألفا على ألف
والحمد لله إذ عدي لمسبحتي
وعن سواها تراني قاصر الطرف
ومنها حفظ اللسان؛ لأننا جميعا بشر تشوهنا العورات:
احفظ لسانك من ذم الأنام ودع
أمر الجميع لمن أمضاه في القدم
معايب الناس لا يكبرن عن غلطي
إذا نممت بها في محفل الهمم
ومنها صيانة النفس:
وما احتجابي عن عيب أتيت به
وإنما الصون من شأني وعاداتي
ولو كنا في مجال المناقشة كنا أثبتنا أن الصون لا يقوم بإسدال الخمار، كما أن التبذل ليس قائما بالسفور. إنما الصيانة والعفة ملكتان نبيلتان من ملكات النفس، تأخذ بهما المرأة بصرف النظر عن زي الثوب وهندام الرأس. وسنرى عندما ننظر في آراء أخرى لعائشة أنها إن هي فاخرت بالحجاب في شعرها فهي تشكوه في نثرها؛ لأنه حرمها مجالسة أهل الفضل والأدب وحال دون الاستزادة مما ترغب فيه من علم ومعرفة.
أما الآن فحسبنا الإصغاء إلى بقية ما تقول مفاخرة بالحجاب. هي تفاخر، ونحن نوافق على هذه المفاخرة التي نود أن تكون نشيدا للصيانة النسائية الأخلاقية، ونتمنى وجود هذه الصيانة الأبية، وبأرقى مظاهرها، عند كل امرأة وكل فتاة. وهذه هي أبيات المفاخرة الوحيدة في شعر عائشة:
بيد العفاف أصون عز حجابي
وبعصمتي أسمو على أترابي
وبفكرة وقادة، وقريحة
نقادة قد كملت آدابي
ومنها:
ما ساءني خدري وعقد عصابتي
وطراز ثوبي واعتزاز رحابي
ما عاقني خجلي عن العليا، ولا
سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت
صعب السباق مطامح الركاب
بل صولتي في راحتي وتفرسي
في حسن ما أسعى لخير مآب •••
نيات صالحة وآراء طيبة. بيد أني إذ أراها مؤكدة المرة بعد المرة أن السعادة في حسن الأخلاق يخطر لي أحيانا أن أقول: كلامك يا سيدتي على الرأس والعين، لكني لا أراه متطابقا والواقع. الشعر الأخلاقي غير الشعر الغزلي؛ هذا يلقي إلينا بما شاء من العواطف والخيالات والأماني فيروقنا ونطرب له. أما الشعر الأخلاقي فشيء آخر؛ إنه يلقي علي درسا ويختط لي طريقا. فلي الحق أن أناقشه إذا هو لم يفلح في إقناعي بقوله إن السعادة في حسن الأخلاق وفي صيانة النفس وفي حفظ اللسان، إلى آخر ما يسديه إلي من النصائح. فهاك إنسانا صالحا لم يجن إثما، ولا يؤذي أحدا. ويعبد الله ويسالم الناس، ويتكل على ذاته في العمل ليل نهار متبادلا وإخوانه البشر منافع العمل وحسناته. ورغم كل ذلك فهو ليس بسعيد، في حين فلان، وهو سيء الخلق لا يراعي في معاملته ذماما، ولا كرامة، ولا عدلا، ولا حقا، فهو مع ذلك سعيد تبسم له الدنيا ويساعده الحظ في جميع شئونه. ثرثار، طويل اللسان، طويل اليد، الاغتياب دأبه، والنفاق ديدنه، وبرغم ذلك فالناس له مصادقون وأوفياء يعزونه ويكرمونه ويهابون جانبه. فكيف أهتدي إلى الصواب وسط هذا التناقض المبين؟ علام يرغد المنافقون والدساسون حولي، وأنا من الرغد والطمأنينة محروم؟ وأولئك الذين يمزقونني بافترائهم وتطاولهم، ترين بماذا أجيبهم وكيف أعاملهم؟
عبثا نلقي على شاعرتنا هذه الأسئلة، إنها لا تعطي عنها جوابا. بل تحدثنا عما تفعل هي عندما تتألم من مثل ما يؤلمنا وكيف أنها اتخذت من النوائب وسيلة للتشدد والتقوي والتغلب على النفس المتوجعة وعلى العالم الظالم:
كم قابلتني ليال ريحها سحر
بطيئة السير ترمي بالشرارات
لاقيتها بجميل الصبر من جلدي
وبت أسقي الثرى من غيث عبراتي
كم أقعدتني أيام بصدمتها
وقمت بالعزم مشهور العنايات
وأما كلام الناس، أغبياء كانوا لا يدركون فضلها أم كانوا حسادا يتحرقون من تفردها، فإنها تحتمله بتجلد وأدب، ولا تشكوهم لأحد؛ لأنها لا تجهل ما يصطنعونه من اهتمام في الظاهر وهم في سرائرهم غافلون أو مبتهجون. وإن هم من تلقاء أنفسهم تعلموا عندها الاهتمام والعطف أو جاهروا باللوم والنقد تظاهرت هي بالرضى وحدثتهم عن «ابتهاجاتها»:
وكم حليفة سعد إذ تعنفني
تقول سعيك مذموم النهايات
فأخفض الطرف من حزن أكابده
وأهمل الدمع من تلك المقالات
ومنها:
ومذ أتت عذلي تبغي مصادرتي
ظلما، منحتهمو أسنى الكرامات
وكلما عددوا ذنبا رميت به
بسطت للعفو راحات اعترافاتي
ولم أفه لذوي رد لمعرفتي
أن الحبيب حبيب في المسرات
أقوم والضيم تطويني نوائبه
طي السجل، ولم أسمعه أناتي
أخفي الأسى إن حسود جاء يسألني
لأين تسعى؟ وأومي لابتهاجاتي
وعلام هذا الاحتمال؟ ولماذا يكون بين الناس المحظوظ والمغبون؟ الجواب عندها امتثال كئيب:
أقول للصبر: لا عتب على زمن
أعطى لأبنائه أسمى العطيات
فيحدثها الصبر بحكاية تقلب الأيام، فتتذوق الحديث كأن فيه بعض التعزية:
فقال: مهلا، ولا تغررك شوكتهم
فالصحو يعقبه سود الغمامات
فليس كل ملوم دام مكتئبا
وما السعيد سعيد للملاقاة
فدهرهم غرهم جهلا وما علموا
أن الزمان قريب الالتفاتات
بيد أن هذه التعزية لا تطيب خاطرها ولا تقنعها، فتعود في آخر القصيدة إلى الشكوى والتضرع:
ربي إلهي معبودي وملتجئي
إليك أرفع بثي وابتهالاتي
قد ضرني طعن حسادي، وأنت ترى
ظلمي، وعلمك يغني عن سؤالاتي
ومنها:
فكيف أشكو لمخلوق، وقد لجأت
لك الخلائق في يسر وشدات
فيا لها من جراح كلما اتسعت
أعيت طبيبي رغما عن مداواتي
وهكذا نحن من شعر عائشة الأخلاقي في دائرة صغيرة لا تنفحنا بمتين الحجة أو بمكتمل الرأي القائم بنفسه. بل نعثر فيها على الكلمات المسكنة من صبر وتجلد وإنذار بأن الأيام متقلبة لا تدوم على حال. ودفعا للألم تتمنى عائشة أن تتجرد من كل شعور وكل رجاء، وكل اغتباط، وألا تنتظر السعادة كيلا تفاجأ بالفشل والخيبة:
فلا تقل لي متاع وهو عارية
واليأس عندي راحات اعترافاتي
على أن الراحة الكبرى عندها في الصلاة وفي الالتجاء إلى الله الذي هو وحده يسعد ويشقي. وهذه العاطفة تصل بين شعرها الأخلاقي وشعرها الديني فتجعل منهما مزيجا واحدا. •••
لقد تغذت الإنسانية منذ فجر تاريخها، بعواطف أولية قليلة استدرت منها كل نشاطها وما فتئت تسوقها في جهادها. وتلك العواطف منها الحسن ومنها السيئ. ومن مظاهرها ما هو صالح ومنها ما هو طالح. ومن تمازج هذه العواطف في نفوس الأفراد وفي نفوس الجماهير تتكون الرغبات والشهوات والانفعالات التي تتلاطم وتتعارض فيما بينها. فينجم عن تباينها ومضيها في الاسترسال ما نسميه التطور الإنساني الذي نشهد منه هذه الصور الرائعة دهرا بعد دهر في ازدهار الحضارات، وفي كل ما يهتدي إليه الإنسان من اكتشاف علمي واختراع آلي، ونظام اجتماعي ودولي، وابتكار فني وأدبي.
ومن تلك العواطف الإنسانية الإعجاب بمكارم الأخلاق الذي نجده حتى عند أحط الجناة غريزة، ومنها العاطفة الدينية المتلونة بشتى الألوان على تنوع النفوس، حتى لتبدو أحيانا في مظهر يزعمه البعض «كفرا». على أنها متأصلة عريقة في قلب الإنسان الذي يروعه هذا الكون العظيم فيتساءل «من ذا الذي أنشأه؟» ويذهله النظام الدقيق في الفلك الدائر، في نمو النبات، في سنن الحياة فيبحث عن الغاية التي من أجلها ينفذ هذا النظام. ويجزع مما يهدده من حاجة وألم ومرض وعجز ونكبة وموت فيلجأ إلى بداهة القوة العليا المهيمنة على عوز البشر وبؤسهم، ويبتهل إليها مستسلما لعوامل رحمتها وأحكام حكمتها. هذه هي البواعث الأساسية للشعور الديني الذي يسبك فيما بعد كل نفس في قالبها الخاص. ولقد كانت العاطفة الدينية حية كل الحياة عند شاعرتنا، وقد سمعت من شقيقها المفضال أحمد تيمور باشا، أنها كانت تقية تصوم وتصلي وتقوم بجميع الفرائض الدينية. على أن شعرها الديني لا تعمق فيه ولا روعة. هو كسائر شعرها، يتناول النواحي المألوفة المتداولة. ويمتزج بالعاطفة الأخلاقية من حيث الاعتراف بالذنوب والرغبة في التوبة، ومن ثم يبدو فيه الاستعداد لساعة الرحيل، وذكر هذه الساعة يحملها على وصف ما يجول في القلوب من طمع حيال سرير المحتضر أمام حشرجة النزع، حتى عند هيل الثرى على نعوش الأقربين. وفي هذه الأبيات سخرية طفيفة في مس من الكآبة على ما يبذله الحي من مجهودات لحشد المال:
أراك بلمتي، يا شيب، عظني
وقد حان الرحيل غدا، لعلي!
فأول ما نرى حدث مهول
تهيل ثراه كف أخ وخل
وقد رجعوا كأن لم يعرفوني
وهم نسبي وأبنائي وأهلي
وتشتغل البنون بقسم مال
أنا من حشده في عظم شغل
وليست عائشة بغريبة عن الشعور بحيرة النفس وترددها بين ما يخالجها من عوامل الإغراء بملذات العالم وبين نزعتها إلى البر والتقوى:
كيف المسير إلى أرض المنى وأنا
بطاعة النفس في قيد الضلالات؟
والجواب في الابتهال الذي ألفناه عند عائشة، وهو الذي يدعو إلى نعت هذا الشعر بالابتهالي:
إن كان عصياني وسوء جنايتي
عظما، وصرت مهددا بجزائي
فقضاء عفوك لا حدود لوسعه
وعليه معتمدي وحسن رجائي
يا من يرى ما في الضمير ولا يرى
إني رجوتك أن تجيب دعائي
يا عالم الشكوى وحر توجعي
دائي عظيم القرح، جد بدوائي!
بحبيبك الهادي سألتك دلني
لعلاج أمراض وجلب شفائي!
وهذا الشعر المبتهل من شاعرة مصرية شرقية مسلمة يعيد إلي ذكرى القديسة تريزا الإسبانية الأوروبية المسيحية، التي عاشت في القرن السادس عشر وأسست رهبنة الراهبات الكرمليات، وقد لقبت «بالعذراء الساروفيمية» نسبة إلى الملائكة الساروفيم لفرط تقواها، ونقاء نفسها، وروحانيتها الحارة، وشغفها بالسيد المسيح الذي كانت تتخيل أنه يتجلى لها ويخاطبها في ساعات الانعطاف والرؤيا. وقد نظمت شعرا ابتهاليا جميلا في لغتها الإسبانية، أشهره نشيد وجيز ترجو فيه من الله أن يمن عليها بالموت لتتجرد من ثوب التراب فتراه عندئذ وجها لوجه. فهي في ذلك النشيد الملتهب تقول:
نشيد القديسة تريزا
أحيا دون أن أحيا في نفسي، وأنتظر حياة هكذا رفيعة - حتى إني لأموت لأني لا أموت.
وإني ليزيد في كلفي أن أرى إلهي لدي سجينا حتى أني لأموت لأني لا أموت.
انظر كيف أذوب شوقا إلى رؤياك، ولا طاقة لي على الحياة بدونك، حتى إني لأموت لأني لا أموت.
فمتى يتيسر لي، يا إلهي، أن أقول القول الفصل بأني أموت؛ لأني لا أموت!
ولكن الفرق بين الشاعرتين أن القديسة المسيحية واثقة من رضى الله عنها، عالمة بحبه لها، وإنما تعذبها قيود الجسد التي تشد وثاقها بالأرض وتحول دون فناء روحها في روح الله. ففي صيحتها شيء من التدلل على المحبوب، وفيها كذلك صدحة الشوق والنشوة والظفر، أما التيمورية فمبتهلة في لهجتها.
ولكأنما كانت تيأس لولا رحمة الله الواسعة ولولا شفاعة النبي الكريم الذي تلوذ بحماه وتترنم بمدحه وتمجيد أمته:
طه الذي قد كسى إشراق بعثته
وجه الوجود سناء الرشد والكرم
طه الذي كللت أنوار سنته
تيجان أمته فضلا على الأمم
نعم الحبيب الذي من الرقيب به
وهو القريب لراجي المجد والنعم
روحي الفداء، ومن لي أن أكون له
هذا الفداء، وموجودي كمنعدم
وما هي الروح حتى أفتديه بها
وهي البغاث بغار الظلم والظلم
ومنها:
ولا يحيط به مدح ولو جعلت
جوارحي ألسنا ينطقن بالحكم
وما سوى عز كوني بعض أمته
ذخرا أفوز به من زلة الوصم
إلا التماسي عفوا بالشفاعة لي
من خاتم الرسل خير الخلق كلهم •••
رأينا في هذه المقابلة الصغيرة، أنه كما يتلاقى البشر في أبحاث العلم وضروب الفن والأدب والفلسفة والحكمة، وكما يتفاهمون بالحب وابتغاء الخير العام وبالمعاني الإنسانية الرفيعة، فكذلك تتوحد عواطف البر والتقوى وحب الله في قلوب الصالحين.
امرأتان مختلفتان دينا وجنسا وقارة، تعيشان على تباعد ثلاثة قرون وتزيد، في بيئتين، كل منهما غريبة عن الأخرى، وهما مع ذلك تناجيان إلها واحدا لا إله إلاه، وتصليان صلاة واحدة حافة بالأمل وبالاتكال وبالثقة في لغة الغرب وفي لغة الشرق على السواء.
وبين ما يبدو الآن في الشرق من جديد العوامل والنزعات، نجد الدعوة إلى وحدة قومية ووحدة إنسانية مع احترام العقائد الدينية، وترك الحرية لكل فرد يتمتع بها دون التعدي على حرية أخيه ودون أن تعمل هذه العقائد المتباينة على تفريق الكلمة وتمزيق الشمل. وأسجلها مفخرة لعائشة أن تجيء بقول له، فوق قيمته التاريخية والأدبية، ما يمكننا من هذه المقابلة الجميلة فيتيح لنا الإلماع إلى هذه الوحدة النبيلة التي يتفشى الآن حبها في ربوعنا، والتي يتصافح عندها ويتصافى بنو الإنسان.
الفصل السابع
نثرها
نتائج الأحوال
أما الشعر فقد قرضته عائشة تحديا لبعض من سبقنا من «ذوات الخدر والأحساب» أو كما قالت:
ما قلته إلا فكاهة ناطق
يهوى بلاغة منطق وكتاب
وأما النثر فقد عالجته لملء ساعات الفراغ الطويلة التي لم تكن لتستنفدها محبة الأبناء وواجبات المنزل، ولياقات المجتمع، وفروض العبادة، ونظم القصائد، وقد شعرت قليلا قليلا بأنها تحب أن يكون لديها بلاغ تؤديه إلى قومها. وأما هذا الكتاب خاصة «نتائج الأحوال»، فهي تطلعنا في مقدمته على بواعث إنشائه وتخبرنا كيف كانت دواما تميل إلى استقصاء أحاديث السلف وتحب مسامرة الكبار ومجالسة العجائز لتسمع أخبارهم «وألتقط من تلك النوادر أعاجيب القدر»، ولما تم لها ذلك وأنشأت تطالع «من التواريخ ما قدرت قدرتي أن تدانيه، وما أمكن فكرتي الخامدة أن تصل إلى معانيه». «ولما تأملت في سير الأمم، وتحققت أن السعد والنحس منوطان بالقدر من القدم، وقد شاهدت والله في نفسي صدق هذا الخبر ... فدعتني الرأفة بكل مغبون لقي ما لقيت، ودهي بما دهيت، إلى أن أبدع له أحدوثة تسلية عن أشجانه عند تزاحم الأفكار» ...
إذن فلتعمد هي إلى تخيل الخيالات ونسج الحكايات. ولن يكلفها ذلك أكثر من جمع شتات ما قر في ذهنها من حكمة العجائز وما يتطابق وإياه من تجاربها الشخصية، لتدوين آراء شائعة مقبولة في أحوال هذا الناس: في السعد والنحس، في الصبر والمواساة، في الخيانة والوفاء، في الحب والكراهية، في القضاء والقدر، في التربية والأخلاق، وفيما يستتبع المصائب والرزايا في النفس الرشيدة من تقويم ورجوع عن الغي والضلال. «نتائج الأحوال» هو بالجملة من رواسب تلك القصص التي سمعناها في طفولتنا، خلال الليالي الساهرة في زمهرير الشتاء وهزيم الرعد وتدفق الأمطار. فتمتعنا منها بلذاذتين اثنين: لذاذة التحرز من غضب الطبيعة وصقيعها في ملجأ دافئ، ولذاذة الاستماع إلى سير الملوك والأبطال والجان والعاشقين يتصرف بهم القضاء والقدر، لينتهي بنا الأمر في الغالب إلى اندحار الشر وانتصار الخير.
فإذا تطلعت إلى خلاصة «نتائج الأحوال» فهب أنك تصغي إلي في ليلة صاقعة ممطرة وأنت في ثوب الطفل الغرير ففي هذه الحال تتذوق حكايتي بما فيها مما وعيته من أقاصيص الماضي الساذج. •••
هذه ككل قصة قديمة تحترم نفسها، فيها ملك وابن ملك ووزير ونديم، وعريس وعروس، وغير ذلك كثير. وإليك أسماء أهم الشخصيات:
العادل:
ملك عظيم صالح منصور.
الممدوح:
ولي عهده، محور آماله ومطمح آمال الشعب. وهو بطل الحكاية.
عقيل:
الوزير. وهو واسع الإدراك حاذق التدبير، وقد فوض إليه الملك أن يدير شئون الدولة.
مالك:
النديم. ويظهر أنه على غير ما يستحسن في النديم من عذوبة المنطق وبراعة الظرف ولطف السمر «ولم يبد من أولئك شيء في سياق القصة» فهو ذو مواهب خلقية كالوزير من حيث الاستقامة والوفاء والحصافة وسعة الإدراك وحسن التدبير. قد يحار علماء النفس حيال مثل هذا التركيب السيكولوجي، لكن حيرتهم لا تغير الواقع.
دشنام:
قيم على خزينة المال.
غدور:
قيم على خزينة السلاح.
بوران:
ابنة ملك العجم وخطيبة الممدوح. مشهورة بسداد الرأي، وذكاء العقل، وحسن الإدارة.
أما «حبكة» القصة فمنشأها أن الملك مولع بولده، شأنه شأن الكثيرين من الآباء في الشرق من حيث يسيء فهم المحبة الوالدية ويحسبها قائمة في إنالة الولد جميع مطالبه وعدم التعرض لصد أهوائه. أخذت تظهر نتائج هذه التربية السيئة في سلوك الغلام وفساد أخلاقه، فلم يجرؤ على لفت الملك إلى ذلك سوى الوزير والنديم. لكنهما لم يحدثاه في ذلك مباشرة، بل في حديث رمزي طويل ذكرا فيه حديقة فيها غصن لم يحسن تقليمه. فأدرك الملك اللبيب غرضهما، وأفحمته حجتهما، وندبهما لتثقيف ولده وتعليمه. فقاما بذلك خير قيام، وبدت نتيجة جهودهما في زمن قصير بتحول التلميذ النجيب عن وجهة الطلاح والجموح إلى وجهة الصلاح والسجاحة. ولا تسل عن سرور الملك! إنه عبر عنه تعبيرا فاخرا بالطريقة التي ألفها ملوك الحكايات في عطفهم على من يحسن في سبيلهم البلاء، ويخدمهم في صدق ووفاء.
وإزاء هذين الرجلين الأمينين لمولاهما، ولوظيفتهما، وللمصلحة العامة (إذا جاز مثل هذا التعبير في الحكايات القديمة) نجد مثالا شنيعا للحسد والخيانة والدسيسة في القيمين دشنام وغدور؛ فقد أخذهما الاستياء من نجاح الوزير والنديم، فدأبا ليفسدا عليهما الأمر بتملق الأمير الصغير وإيغار صدره على هذين اللذين يقصيانه عن أندية اللهو والمرح، ويبعدان بينه وبين والده بحجة التعليم والتهذيب، بينما هما في الواقع يكيدان له لانتقاص سطوته وكرامته وتنغيص حياته.
وتبع ذلك جهاد صامت عفيف بين الفريقين؛ فتارة ترجح عند الأمير كفة الإخلاص والاستقامة، وتارة يستسلم لصوت الوشاية والافتراء. وتم الفوز للدساسين في النهاية؛ لأن الحقيقة كثيرا ما تتخاذل وتتوارى في تعمل الغيرة والتفادي، وكثيرا ما يظفر الخونة والمحتالون، فخرج الفتى على أستاذيه الصالحين، وقاطعهما، وتوعر خلقه، وتفاقمت شراسته. وأراد الوزير أن يتلافى الأمر بالتي هي أحسن، فاقترح على الملك أن يزوجه. فوافق الملك على هذا الاقتراح. وأنفذ وزيره إلى إيران يفاوض ملك العجم في خطبة ابنته بوران المشهورة بسداد الرأي، وذكاء العقل، وحسن الإدارة. ومضى النديم إلى الشين (الصين) لإحضار أمتعة الزواج وجهاز العروس.
وخلا الجو للدساسين قرب التلميذ المنقلب عريسا بين عشية وضحاها. فحزن الملك جد الحزن لشراسة ولده، وتعاون الغم والشيخوخة على تهديم صحته وأشرف على الموت. وماذا عسى يصنع المشرف على الموت؟ إنه يستدعي إليه ولده ليزوده بالنصائح. وذاك ما فعله الملك العادل. بيد أن المنية عاجلته قبل أن يمعن في الكلام، فقضى نحبه بين ذراعي ولده مأسوفا عليه من هذا الولد المسكين.
وهنا - وقد سنحت للدساسين الفرصة التي تربصا بها طويلا - قام القيمان بتمثيل الفصل الثاني والأهم من دورهما؛ فأوهما الشعب بأن الملك ما زال على قيد الحياة، غير أنه لمرضه وضعفه عهد إليهما هما القيمان بإدارة شئون الدولة وشئون ولده. وأنفذا الفتى إلى المجلس يحمل كتابا مزورا في هذا المعنى، والفتى في حزنه على والده مشرد الفكر، لا يعرف مضمون الكتاب. ومن ثم يجهدان للتخلص من هذا الفتى فيفوضان أمر الفتك به إلى عبدين يقودانه إلى خارج المدينة للقيام بمهمتهما الغادرة. لكنهما تأخذهما الشفقة عليه، فيكتفيان بإبعاده إلى مكان لا يستطيع العودة منه إلى المدينة.
ومن الناحية الأخرى، لا يفوت القيمين الأفاكين إبلاغ الوزير في إيران أن الأمير عشق صبية من بنات الإفرنج وجرى في أثرها، فعلى الوزير أن يمضي في العالم ليبحث عنه. ويكتبان إلى النديم أن الأمير خرج إلى الصيد فشرد به الجواد «وانساب ذاك الفرس إلى ضيعة حرسها عبيد» فليجدن إذن في طلبه بين العبيد. أين ذلك؟ هنا على مقربة منا، يا أصحابي، في السودان! أجل، في السودان!
وهذا هو ذا صاحبنا الوزير يطوي البراري والقفار، وينتقل من دار إلى دار، وها هو ذا صاحبنا الآخر، النديم، يذرع شواطئ النيل في أعاليه، ويفتش في أقاصي السودان وأدانيه. وينقضي زمن غير قليل وجميع أقطاب القصة (بما فيهم أنا التي أقرا لألخص) في مثل تيه بني إسرائيل يعمهون! وليس من سبيل يتبع في «نتائج الأحوال» سوى اشتباك القصة الصغيرة بالقصة الصغيرة، وارتباك هذه بقصة غيرها، على نحو حكايات «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، وإذ كنت أنا وأصدقائي أشخاص الرواية نجوب الكتاب لنعثر بعضنا على بعض فلا نفوز بغير التطوح والتنائي، كم ذا سألت الله أن يأخذ بيدنا فيجمع شملنا ويرد لهفتنا! لا سيما الفتاة العروس بوران التي ما علمت بما جرى لخطيبها حتى طلبت الانفراد في عزلة عن الناس. وأراد والدها أن يزفها إلى ابن أخيه ليتدارك الحال ويحول مجرى أفكارها قبل الاستفحال في الجوى. ولكنها أبت، وفرت إلى حيث لا يعثر عليها! لأنها على نحو ما ينشد الشيخ سلامة حجازي في الجراموفون:
عرفت هواكم قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وكم كان يغيظني أننا بينا نحن «أي أنا والصلاح من أهل الرواية» تعبث بنا الأقدار وتجد بنا النوى فنتقلى على مثل جمر الغضى ؛ إذ بالغاصبين الخائنين يسرحان في بغداد ويمرحان، لهما تضرب المدافع وتنتشر الألوية، ولهما تقدم الرعية فروض العبودية والإكرام!
بيد أن للأيام دورتها، وأخذت تتحول الأمور على ما يرام. فتلاقى بديا الأمير والنديم فعجلا بالذهاب إلى إيران، حيث تسوق الفتى أشواقه، فهو كعروسه. قد وقع الهوى من نفسه مكانا بعيدا. وظل في مصائبه ويأسه يلازمه خيال الفتاة التي وعدوه بها دون أن يعرفها. وكان للأمير والنديم في إيران رحلات عديدة غير موفقة. إلى أن أقبلا أخيرا على جبل شاهق فإذا هناك إشارة تركها لهما الوزير تدعوهما، فيما لو اهتديا إليها، إلى العراق مباشرة.
فعادا مباشرة إلى العراق واجتمعا بالوزير وهو في زي ناسك، ولك أن تطلق هنا العنان لمخيلتك فتتصور ما شاء لك التصور من سرور وحبور، من بكاء وإغماء، يتلوه يقظة، فسلام، فكلام يناسب المقام. وانضم إلى هؤلاء الثلاثة العبدان اللذان أبقيا على الأمير، وكان القيمان الغاصبان قد أرادا الإيقاع بهما لانكشاف فعلتهما، فأخفق الخائنان ونجا العبدان الوفيان. وكان هذا التلاقي مبعثا لمؤامرة طويلة، وقد آل كل من المتآمرين على نفسه ليصرعن الآفة بالآفة، ويفلن الحديد بحديد مثله، وآزرهم طبيب الملك، ودبر لهم الحيل، فكان الفوز حليفه في كل ما دبر. فأوفد إلى أصحابه المتآمرين عددا من الرجال، وحفروا نفقا يمتد إلى قلب المدينة ويفضي إلى خزينة الدولة! وأبى السعد إلا أن يكلل مساعيهم بالنجاح وإلا أن يهيئ لهم الأفراح والليالي الملاح، فلم شملهم بالعروس بوران! لست بواصفة لك مشهد اجتماع العاشقين السعيدين بعد طوال الفراق! حسبي أن أتمنى لك مثل هذه الساعة مع من تهوى ... وعندما آن الأوان ليثوب كل من الحبيبين إلى رشده، جاهرت الفتاة برغبتها في العودة إلى الوطن ليزفها أبوها إلى خطيبها بالأبهة اللائقة بالملوك. «لا بد لي أن أتوصل إلى بلادي بشرفي - تقول بوران: وأدخل قلعة أبي بصيانتي ثم يبعثني هو إلى هذا العزيز بالصيانة.» وكذلك كان.
وعاد الأصحاب بعدئذ إلى إتمام أعمالهم ففاجأوا البلاد بدخول الأمير منصورا وقبضوا على الخائنين. وتتابعت الحوادث والمشاهد بمثل سرعة الصور المتحركة، منها: موكب الملك، المدافع تقصف والطبول تدوي، هيجان بغداد وأفراحها، فوز الحق والصلاح وانهيار الغدر والطلاح، مجيء العروس في موكب بديع، المناداة بالممدوح خليفة وإجلاسه على «التخت»، أفراح، أنوار، أهازيج، زينات، شموس مجلوة، بدور منيرة، وفوق كل ذلك خطب وأشعار! وبات العروسان يديران كئوس المواد السكرية ويتداولان أقداح الوداد العبقرية.
وفي القصر أقيمت بالطبع حفلة «تشريفات» لمناسبة الجلوس المجيد والزفاف السعيد. فتقاطر المهنئون، وتليت رقاع التهاني، ووزعت الهدايا من العروس على أرباب الدولة. وجادت قريحة الملك فانبرى يخطب في الجموع شاعرا ناثرا، ويمتدح النوائب التي هذبته وعلمته الصبر والحكمة. وهاكم أبياتا من نظمه:
واشتاقني عزي كشوقي للمنى
مذ كنت ألقى لاعج اللوعات
قلدت سيف الصبر كي بجرازه
أسطو على محن الزمان العاتي
حتى قطعت به حبائل محنتي
وسلكت نهج الرشد في طياتي
وأنا المقر بما جنيت، وليس لي
عذر سوى أسفي على هفواتي
فلأشكرن شدائدا لو لم تكن
ما كنت أدري زلتي لمماتي
أدركني العياء في مراجعة هذه القصة المكتوبة للغة «المقامات»، ذات الكناية والسجع الطويل، غير أن مطالعتها ومطالعة أمثالها تتحتم على الباحث عن مصدر التطور، وهذا الفن بارقة للفن القصصي الحديث عندنا، ذلك الفن الذي ما زال في لغتنا جنينا، ولم يبلغ قط عند العرب طور النضج والقوة.
تاريخ الفن القصصي عند العرب يتلخص في سطور وجيزة. فقد نشأ في القرن الأول للهجرة مستندا إلى تاريخ الجاهلية، وظل في نمو يقتبس من التاريخ ومن الخيال معا حتى القرن الرابع. فجاء بتلك القصص أمثال «الجمهرة» و«عنترة» و«بكر وتغلب» و«شيبان وكسرى أنوشروان»، وغيرها من قصص الغرام مثل «مجنون ليلى» و«جميل بثينة» وما إلى ذلك من عديد القصص التي اندمجت بعدئذ في كتاب «ألف ليلة وليلة».
وقد ألف العرب كتبا لا أصل لها في الواقع إنما استمدت موضوعها من العلم والخيال والحكمة جميعا. وربما كان أنفس تلك الكتب «أسرار الحكمة المشرقية» الذي روى ابن طفيل الأندلسي أنه لخصه عن كتاب كبير من وضع الرئيس ابن سينا حيث هذا الحكيم صور نشأة الإنسان وألمع إلى نظرية التطور.
أما كتاب «ألف ليلة وليلة» فهو فارسي الأصل. وقد وضع أصله في القرن الرابع فتناولته أيادي النساخ بالإضافة والتحريف فكان كل منهم يزيد عليه وينقص فيه ما شاء، وذلك حتى القرن العاشر.
ووقف الفن القصصي بجمود اللغة مدة ثلاثة قرون. فحكاية عائشة بعيوبها ورواسبها تجربة أولى في النزعة المتجددة، لا سيما فيما يختص بالأدب النسائي؛ إذ لا علم لي بامرأة عربية اللغة وضعت قصة تامة قبل عائشة. فهي بتجربتها هذه من رواد المنهج الجديد. •••
والرواية بعيوبها ذات مغزى أخلاقي؛ لأن واضعتها جعلت سوء تربية الممدوح وعجزه عن تمييز الصديق من العدو منشأ مصائبه. فقد رأى عدوا فيمن يحسن إرشاده، ويعلمه كبح أهوائه، وينبهه إلى واجباته ومسئولياته. وحسب صديقا من حفز طيشه وغروره، وملق منه الزهو والعجرفة، وشجعه على العبث بكرامة الناس وكرامته الشخصية. فعوقب بنتائج ضلاله. ولكنه يوم ثاب واعترف بخطئه، بعد أن أتمت المحن صقله وهيأته لمنصبه، عادت إليه حقوقه ومسراته وحقق جميع رغباته. ومن ثم اسم «نتائج الأحوال».
أما أن الحياة تتصرف معنا، بني الإنسان، على هذه الكيفية فقد يحدث أحيانا، ولكن نقيضه قد يحدث أيضا. قد يتفق أن يعلو صوت الحق، وينتصر الصلاح، فيظفر المرء بما هو له في حكم الطبيعة والقانون والكفاءة، وقد يثاب المرء عن الخير خيرا، وعن التضحية كرامة. ولكن كم ذا يفوز الشر، ويغلب الظلم والخداع، كم ذا يجار على صاحب الحق في جميع القوانين البديهية والمشروعة! وكم يتألب الناس على سحقه وإهلاكه، وما له من ذنب سوى الإخلاص والتفاني!
وما كان أعدل الدنيا وأنصف الدهر، لو عومل كل بما يأتيه، وكان حقا من نوع العمل.
على أنه لا مندوحة لنا عن الأخذ بالمبادئ الأخلاقية ونشرها. ولا بد من تلقين النشء دروس الصدق والاستقامة والصلاح مهما عصفت حولها الشرور والأكاذيب والمفاسد؛ لأنه ينطبق على المبادئ الأخلاقية السامية ما قاله قولة الجاحد في الألوهية: «لو لم يكن الله موجودا لوجب أن نخترعه .»
أجل، يجب أن نخترع الأخلاق السامية لو لم تكن موجودة؛ لأنها من المواهب الفكرية والذهنية، إنما هي لباب الفضل في الإنسانية، وهي التي لا يتغلب عليها مذهب سياسي ولا تدرك قواعدها ثورة اجتماعية، فعلى من يستطيع تأييدها ونشرها أن يفعل، ليذكرنا على الدوام بأن الدنيا ذخيرة من أنفس ذخائر المثل الأعلى الذي لا يقتصر على جيل أو على فرد، بل تتعاون الجماعات والدهور على تمثيله وتحقيقه.
مرآة التأمل
الشائع أن «باحثة البادية» كانت أول مصرية عالجت الموضوعات الاجتماعية، وقد سبق أن أيدت هذه الفكرة قبل الاطلاع على نثر التيمورية. فأستدرك اليوم لأسجل الأسبقية لعائشة التي كتبت في هذه الموضوعات في صحف عصرها وفي «مرآة التأمل في الأمور» وهذه رسالة وجيزة في 16 صفحة من القطع الكبير. ليس لهذه الرسالة من تاريخ يوقتها، إلا أن كاتبتها ختمتها (على طريقة ذلك العهد) بامتداح لسمو الخديوي السابق، عباس حلمي باشا، فقد نشرت إذن بعد توليته، أي بعد 1892، وفي السنوات العشر الأخيرة من حياة التيمورية.
لغة هذه الرسالة ككل ما نثرت عائشة، وهي لغة المقامات ذات السجع والتطويل، وهي تستهلها بالشكوى وتفكر «لعلي أرى لسماء الصفو هلالا ولعقد الأزمة إنحلالا.» ويظهر أنها عثرت على «انحلال لعقد الأزمة» أو ما يشبه ذلك؛ لأنها «فناداني زعيم الجسارة هلمي إلى مقصورة السلامة، ولا تحذري الانتقاد والملامة، وعليك بإيضاح الدعوى.»
وهنا قامت و«زعيم الجسارة» ذلك - ولعله صديق خيالي - بتخاطب حفل بالتضخيم المسجع شغل صفحتين اثنتين. فوصلنا أخيرا في أول الصفحة الرابعة إلى «إيضاح الدعوى». وما هي سوى انقلاب الأدوار بين الرجال والنساء، وتسرب الفساد إلى داخل الأسرة. وتفصيل ذلك عندها أن جماعة من الشبان «غرهم الله بالغرور حتى إن كل إنسان هم بالاقتران من وضيع ورفيع وخامل ونبيه، كان كل بحثه عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار»، ذلك ليتمتع بما تمتلكه ربات الجمال «... ويريح فكره من الأتعاب ويستغني عن الجهد في الاكتساب، ويسلم الزمام للهوى»، مكتفيا «بتلك الثروة المستعارة، وما يدري بأنه واقع في حبائل الخسارة. فتحتاط به أقرانه.» «ويقوم جيش المداهنين بين يديه» ... «ويظل الزوج بين لهو وتبذير حتى ينفذ من يده الدينار والدرهم، وإذ يعود إلى البيت تقابله الزوجة بالسخط والنفور، ولا يلبث أن ينتقل النفوذ والسيطرة إليها؛ لأن الزوج عاجز إلا عن القصف والتبذير.» «وحق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يرعى الآخر فيما له وعليه. فعلى الزوج أن يقوم بكل حقوقها ومصالحها، كما يجب عليها طاعته والانقياد لأمره.» فإذا انقلب الرأس عقبا فكيف تستقيم الأمور؟ وكيف «لا تلقي المرأة وشاح الحذر وترمي برقع الحياء!»
أتكون الزوجة صابرة كتوما، دفعا للشماتة وحذرا من ذيوع الفضيحة، «فدفنت هذا الويل بجدث قلبها الحزين الولهان»؟ إلا أن الكتمان لا يداوي علة، والتجلد لا يفثأ غلة، بل تجدب في نفسها مادة الحياة و«بدلت القصور بالقبور»؛ إذن فالبشرى للزوج الذي لا يرثي ليتم الأطفال، «بل يأخذ من الميراث ما لقي وأبقى ويجعله صداقا لمن يلقيها في أكفة الشقاء!»
أم تكون المرأة سليطة اللسان وإذ تضيق بالحياة ذرعا تعمد إلى اللوم والمشاجرة؟ إذن تبدأ حياة هي الجحيم؛ إذ لا مقدرة للرجل على زجرها وإسكاتها؛ فيهجر بيته إلى الحوانيت والحانات، «وإذا أتى المنزل نام في الحال خوفا من المرافعة في القيل والقال.»
فكيف تسكت النساء على ضياع شبابهن ونضارتهن وأموالهن وآمالهن في السعادة والهناء؟ إن الحزن والأسى ليلهب قلوبهن! فتمضي الواحدة منهن إلى الجارات مستجيرة من عذابها وكربها. فإذا هي وقعت على امرأة فاضلة تهون عليها الأمر صمتت لحين استئناف الأزمة الجديدة. أما إذا ساقها سوء الطالع إلى تلك الدور التي تبدل منها الصون والحصانة باسم الحرية العصرية، فهناك تغريها من سفلت أخلاقها فتستسلم المرأة وتخرج عن جادة الحشمة. عندئذ يغار الزوج ويقوم بالتهديد والوعيد. ولكن كيف تعبأ المرأة به وبكرامته وهو لم يعرف لنفسه واجبات ولم يقف شروده عند حد؟
هذا منشأ الشقاء على ما يبدو للتيمورية؛ لذلك ناشدت الرجال في آخر الرسالة أن يصغوا إليها ، ورجت منهم «أن لا تنبذوا خطاب هذه الضعيفة ولا تقيسوه بأقوال النساء السخيفة.»
وقد لبى الرجال هذه الدعوة، بداهة أو اختيارا. فالنقد الاجتماعي الذي سيعالجه قاسم أمين بحصافة ولوذعية، قد سبقته التيمورية بهذه الدعوة إلى الإصلاح؛ لأن الكتاب الذي وضعه قاسم أمين بالفرنسية ردا على الدوق داركور صدر سنة 1894م وعقليته لم تتفتق فيه عن تلك الثورة النبيلة الكامنة التي شبت في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وقد صدر الكتاب الأول سنة 1898م وصدر الآخر في 1900م.
لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات
يقول ابن أخي الشاعرة، الأستاذ محمود تيمور، إن التيمورية نشرت مقالات في جريدة «المؤيد»، وأرجح أن خير تلك المقالات أدرجتها زينب فواز في كتابها «الدر المنثور». وقالت أنها اقتبستها عن جريدة «الآداب» الصادرة يوم السبت الموافق 9 جمادى الثانية سنة 1306 الهجرية، أي سنة 1888م، قبل أن يكتب قاسم أمين في هذا الموضوع باثنتي عشرة سنة تقريبا.
أرجح أن هذه خير مقالاتها؛ لأن عائشة كانت وزينب فواز على اتصال وائتلاف. وقد ترجمت زينب لعائشة في حياتها واستقت منها مصادر تلك الترجمة بما فيها نص مراسلتها ووردة اليازجي نظما ونثرا. كما أنها صدرت كتاب «الدر المنثور» بخطاب من عائشة كله ثناء وتقريظ، على طريقة يومها، ولما أدرجت هذا المقال دون سواه فأكبر الظن أنها فعلت بإشارة التيمورية، أو أنها فضلته على غيره نظرا لمحتوياته.
إنه لأثر نفيس حقا؛ لأنه بكر في لمس موضوع خطير. وخير ما تنتهي إليه مباحثنا اليوم ليس بأصدق نظرا، ولا بأصوب حكما مما جاءت به عائشة منذ 37 عاما.
عنوان هذا المقال هو «لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات»، وكما أنها في «مرآة التأمل في الأمور» تجعل منشأ الشقاء في بحث الرجل عن الثروة ليسيء بعدئذ التصرف بها فيهدم بيته بيده، فهي في هذا المقال تلوم المرأة على إسرافها في الزينة دون انتباه إلى واجباتها، وترى في ذلك مبعث الخلل والفساد، وتعجب «من مدنية تشفف بتزيين فتياتها بحلي مستعار، وتستعين على إظهار جمالهن بزخرف المعادن والأحجار ، وتتخيل أنها زادتهن بسطة في الحسن والدلال، والحال أنها ألقت تلك الأحداث في أخدود الوبال؛ لأنه لا يعد عليهن من تلك المستعارات إلا العجب والغرور المؤدي بهن إلى ساحات المباهاة والفجور؛ وذلك لكف بصيرتهن عن الإدراك وعدم علمهن نتائج الأحوال وعواقب الأمور.»
1 •••
موضوع زينة المرأة قد يشغل كتابا أو كتبا لمن يريد أن يتناوله من وجهه المهم دون الاكتفاء بالإرشاد، أو بالتهكم، أو النقد الجارح، لذلك ألقي هنا بكلمة فقط.
أعتقد أن من طبيعة وجود المرأة أن تكون جميلة، كما أن من طبيعة وجود النوع الإنساني أن يكون ذكيا نشيطا. وكما يصقل المرء ذكاءه بالمعرفة والتجربة والاطلاع، فكذلك تصقل المرأة جمالها بالزينة والأناقة والكياسة. الفتاة معدة لتكون ربة منزل، وأم عائلة، وسيدة مجلس زائرة ومزورة، وليست معدة لتنزوي في حياة الزهد والرهبانية؛ فيجب أن تنشأ على ما أعدت له من إبهاج المنازل وتزيين المجتمعات، وبث اللطف والأنس في كل ناحية تحل فيه. ولما كان عليها أن تبهج برخامة صوتها، وحلاوة ابتسامتها، وظرف حديثها، فعليها كذلك أن تروق النظر بحسن هندامها. فالعيب إذن ليس في ميل المرأة (والرجل كذلك) إلى الزينة، ولكن في المغالاة بإرضاء ذلك الميل، وعدم الخضوع لقواعد الذوق السليم في التصرف بمظهره. والغلو عيب في كل أمر، وسقم الذوق نكبة دائمة.
وللتوفيق بين تنظيم الزينة والاقتصاد فيها؛ فعلى الفتاة أن تتعودها منذ نعومة أظفارها. بعكس ما تجري عليه أكثر المدارس، إن لم نقل كلها، في تجريد البنات من كل حلية وإفهامهن أن الزينة لا تجوز إلا بعد الخروج من المدرسة، فينلن حريتهن من هذه الوجهة متأخرات؛ أي إن الحرية في الزينة تفاجئهن مفاجأة بدلا من أن يتعودنها شيئا فشيئا، فيكون شأنهن عندئذ شأن من وجب عليه أن يربي نفسه تربية جديدة تناقض تربيته السابقة من كل وجه. ومن هنا عدم التوازن والاتزان، وعدم وضع الشيء في مكانه، وإغراق في إسراف الوقت والدرهم، والغلو في الأخذ بأهمية الزينة. ومن هنا زعم أكثر النساء بأنهن لا يتجملن أصلا. والواقع أن أكثرهن زعما وتنصلا أوفرهن تبرجا وتجملا، إلا اللائي يأبى التجمل أن يتناسب و«طرازهن» الطبيعي وشكلهن.
ولو شبت جميع الفتيات على اعتبار الزينة المعتدلة المعقولة الفنية جزءا من ترتيب هندامهن على ما يناسب شكلهن وقالبهن بحكم الذوق والزي السائر، لما أنفقن في سبيل ذلك وقتا طويلا ولا بدا ذلك فيهن تكلفا وعملا مستثنى، بل لاندمج في عاداتهن وصار طبيعيا. وإذن لما رأينا المرأة في كثير من العائلات الشرقية بأثواب رثة قذرة بين زوجها وأولادها، بلا لياقة ولا حاسة فنية. حتى إذا استقبلت ضيوفا أو خرجت للزيارات ارتدت أفخر الأثواب وازدانت بأنفس الحلي، فبدت في كل أولئك غريبة بطيئة الحركات مرتبكة السكنات، وكأن كل جارحة فيها تنطق بأنها «مطقمة بزي الآحاد والأعياد» على نحو قول الفرنسيين.
لو درجت المرأة منذ الصغر على الزينة المعقولة لأدركت أن هذه الزينة جزء من جمالها وأنها تعالجها لنفسها لا للناس، ولامتدت عنايتها تلك إلى منزلها فلا تقصر ترتيبه وتزيينه على يوم الاستقبال في الغرف والردهات التي يراها الزائرون والزائرات، في حين هي تبقيه في سائر الأيام على أسوأ ما يكون من التشويش والارتباك، ولامتدت تلك الأناقة غير المصطنعة إلى أفكارها، إلى آرائها، إلى عاداتها إلى نظرتها في الحياة. فالمزية الواحدة، حتى وإن كانت خارجية، تستطيع أن تتناول نواحي شتى، كما أن العيب الواحد قد يهدم حياة بأسرها. ومواعظ المصلحين لم تجد نفعا على طول الأجيال؛ لأن حب الجمال في الإنسان أعرق من أن يخلقه الإرشاد، وليت الإرشاد ينقلب تحويلا إلى الأخذ بالوسائل المغرية بتوقيت الزينة وتنظيمها. •••
طويلة حاشيتي هذه بعد كلام التيمورية، ولكنها غير دخيلة ولا هي تافهة. فمن حق الجميل أن يطمع في المزيد، ومن حق غير الجميل أن يقلل من دمامته، ويسترها، محاولا إظهارها بالمظهر غير المستنكر.
ورغم إنكار الغلو في الزينة الفارغة، فإن التيمورية ترى أن أعنف العتب يقع على الرجل - وباحثة البادية ستقول هذا القول فيما بعد - لأنه القوي وفي وسعه النهوض بالمرأة إلى حيث تتسع مداركها فتصبح له شريكة. فإذا بها تهتف:
فيا رجال أوطاننا! لم تركتموهن سدى؟ وهن بين أناملكم أطوع من قلم؛ فعلام ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعني، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود؟
منذ خمس وثلاثين سنة طلبت عائشة اشتراك المرأة مع الرجل في الأعمال، ولم هذا الاشتراك؟ لأنه طبيعي «من حكم باري النسمات وموجد المخلوقات» ولأنه الأساس الأصلي «لصيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين. ولو أمكن الانفراد لخص عالم الأسرار إحداهما دون الآخر، وهو الأفضل، ولم يفقره إلى ما هو دونه. فكان التأمل في هيولي هذا الكون موجبا على الهيئة الرجولية العناية بتعليم المرأة وتهذيبها لينالوا بذلك أرفع مجدا وأهنأ جد، ولتعتاض الفتيات عن قلق الجهل براحة العرفان»؛ أي ليقمن بواجبات التدبير في منازلهن وفي شئونهن، ويأتين بالمطلوب من عطف ووقاية وحكمة نحو نفوسهنتركتموهن سدى وذويهن، دون شعوذة ولا شرود عن الصواب.
إنها تقول بلغتها بالمساواة بين الرجل والمرأة، تقول بذلك تصريحا لا تلميحا: «إذ لو أمكن الانفراد للرجل لخصه الله بالوجود دون المرأة، فهما ضروريان كل منهما للآخر، موجودان معا تحت شمس واحدة وأحكام واحدة ليأتي كل بقسطه من واجبات متعادلة.»
لقد قالت بهذا في الشرق، ورأت أن يتساوى الرجل والمرأة وأن يشتركا في الأعمال، وهي محجوبة رهن جدران الخدر ... ومتى؟ في حين كان هذا يعد بدعة في أوروبا؛ إذ لا يفوتنا أن لفظة «ذكر» لم يتفق على حذفها من قوانين إنجلترا والاستعاضة عنها بلفظة «رجل» أو «أحد» إلا منذ سنة 1850م. وكان ذلك مقدمة لتحرير المرأة عندهم من حيث إدخالها في الإنسانية. •••
تنطوي التربية على فروض كثيرة وتحتمل شتى الإيضاحات والتأويلات. وعليها تحت قلم عائشة مزيد من الإبهام والمرونة. إلا أنها بقولها «تأديب البنات وتهذيب العائلات» يغلب عليها وجوب تنشئة الفتاة لتكون أهلا للسهر على مصلحة الأسرة والقيام بالمطلوب في سبيل تقدمها وراحتها وهنائها؛ لأن في حجرها تشب الأجيال، ومن كان مهيأ لإعداد الصلاح والعظماء والنبلاء وجب أن يكون على عظمة ونبل وصلاح.
والمساواة؟ هي معنى عارض في كلام عائشة، برغم أهميته بالنسبة للوقت الذي ورد فيه. أما اليوم فقد شاعت هذه الكلمة وذاع معناها لدى من يفهمه ولدى من يزعم أنه يفهمه. ولكن أكثرية الرجال، حتى المتعلم الراقي منهم، تكهربهم هذه الكلمة وتثير سخطهم وتهكمهم، وهم لا يقرون منها ما يقرون إلا بشروط من الحصر والتقييد.
وأرى أن في إنكار المساواة على المرأة تكريما لها، أية كانت الصيغة واللهجة المعبرة بها من ذلك الإنكار، لعل الرجل الذي يجهده كفاح الحياة لا يريد ذلك الكفاح للمرأة، طامعا في ادخارها للراحة والهناء والرخاء والمواساة. بل هو دليل على محبته المتلونة الألوان، وعلى احترامه ولو مسخه أحيانا بشكل الاستخفاف. أذلك الإنكار محض أنانية كما يزعمون؟ وماذا ترى لو كان ذلك؟ ومتى كانت الحياة خالية من الأنانية؟ وما أحب أنانية أحبابنا إلينا! أما الأنانية الممقوتة من القريب والغريب على السواء فهي الأنانية التي تتورم على حسابنا، ولا تجعل لحقوقنا في إحصائها قدرا وشأنا. ومن هنا منشأ كل ثورة، وكل فتنة، وكل ظلم.
إن المرأة التي تنال عوضا عن تأدية واجباتها عطفا وحبا، لا تثور ولا تشكو حتى ولو عسرتها المسئولية، وإنما هي المرأة المظلومة من ناحية العواطف ومن ناحية المعاملة، التي تضج وتلج. يطلبون منها ألف ألف واجب، ويقيدونها بألف ألف قيد، ويرهقونها بألف ألف وقر، ومقابل ذلك، ماذا؟ مقابل ذلك لا رعاية، ولا عطف، ولا محبة، حتى ولا مجاملة. مقابل ذلك أحيانا، لوم وتفنيد، إذن لماذا تحتمل؟ وفي سبيل أية غاية هي تحيا؟ لقد سن لها المجتمع، دون الرجل قانونا للعواطف والأفكار والأعمال، وركز لها ضمن حدود الأسرة هناء القلب ومسرات الحنان. ولم تقدر تلك القوانين أن ما فرضته لها من رضى قد لا يتحقق، في حين تظل المرأة مرغمة على الواجبات الباهظة وتظل تعذبها لجاجة العيش ووخز الحاجة. وليست كل أسرة لتقوم بتلك الحاجة المحسوسة نحو أفرادها، ولا كل رجل، زوجا كان أو أبا، أو أخا، ليعلم ويدرك أن الرجولة لا تقوم بترأس العائلة وبالأمر والنهي، بل بتأدية واجبات ييسرها لها المجتمع قدر الإمكان ويجعلها على المرأة أعسر ما تكون.
قيود واستدراكات وحدود من كل جهة في حياة المرأة. وعلى هذه المخلوقة الضعيفة أن تذعن لها جميعا وأن ترى فيها الفضل والبر والكمال، وأن تأتي بما لا يخجل أن يهمله الرجل شرط أن تظل ضمن حدود الفضل والبر والكمال. وللرجل كل الحرية في الحلال والحرام، في الممنوع وفي الجائز. أيمكن أن يسكت على هذا الجور قلب يحس وينبض؟ إنه ليتآكله الجوى ويكظم عذابه إلى حين، ولكن لا بد أن يتفجر عن الأسى يوما، لا سيما إذا رأى أن لا منفعة له من جهاده وأن خيوط حياته تبلى عبثا ليجني ثمرة تعبه من ليس لذلك أهلا.
واها، أيها الرجال الفضلاء، أنتم الذين تسعدون النساء العائشات تحت رعايتكم، لو علمتم كل ما تكنه الدعوة إلى المساواة من نصال مغمدة في القلوب!
لو علمتم ذلك لعملتم، ليس على نقض معاني المساواة كما تفعلون أحيانا، بل على تعديل القوانين الجائرة وجعلها صالحة لجميع أفراد المجتمع.
Bilinmeyen sayfa