فانحنيت حتى لثمت يده وأنا أقول: يعز علي أن تبقى وحدك.
فقال بهدوء: لست وحدي يا ضعيف الإيمان.
ثم بقوة منعشة: يتصورون أن الهزيمة حلت بي وبإلهي، ولكن إلهي لا يخون ولا يقبل الهزيمة.
وغادرته متورم العينين من البكاء وأنا على يقين من أن الطبيب المنتدب ليحل محلي سيزهق باغتياله أنبل روح حلت بجسد بشري. وغصت في وحدة لم أخرج من وحشتها حتى الساعة ...
نفرتيتي
سمح لي بدخول أخت آتون بإذن خاص من القائد حور محب. مراكز الحراسة المتقاربة تمتد بطول شاطئها على النيل. اخترقت نصف المدينة الشمالي ما بين المرسى وحتى قصر الملكة السجينة، يتقدمني جندي من جنود الحراسة. وطيلة مسيرتي تلقيت من الذكريات تيارا مفعما بالزبد واللآلئ، متلاطما بين العبر والدهشة، تحلق فوقه غربان الفناء. اختفت أرض الشوارع العملاقة تحت ركام الأتربة، ونثار أوراق الأشجار الجافة، وخليط من الأخشاب التي نزعتها العواصف من النوافذ والأبواب. البوابات الكبيرة مغلقة كالجفون المسدلة على أعين باكية، وجفت الحدائق فتلاشت خضرتها وألوانها، ولم يبق منها إلا جذوع خشنة ضامرة كالجثث المحنطة وجواسق متداعية وأسوار منهارة، يخيم فوقها صمت ثقيل مكتوم الزفرات، وفي الوسط مجموعة هائلة من الأنقاض هي ما تخلف عن معبد الإله الواحد المتهدم الذي تجاوبت في أركانه أعذب الألحان المقدسة. اخترقت الكآبة والوحشة والخوف تطل من أعينها نظرات الحقد والانتقام، ويطبعها بطابعه الموت بملامحه الرهيبة الأبدية. كان الوقت عصرا ونحن نقبل على قصر الملكة في أقصى الشمال، وقد تبدى شامخا بأبعاده، مضيئا بحديقته الغناء، حزينا بنوافذه المغلقة عدا نافذة واحدة خفق لمرآها قلبي. وكان الخريف يتوسط عمره، والفيضان محتفظا بفيض من فتوته، والماء ضاربا إلى الاحمرار الداكن، فامتلأت منه بحيرة القصر الصناعية. خفق قلبي وأنا أقترب من ختام رحلتي، وكأنني لم أقم بمغامرتي المثيرة إلا من أجل لقاء هذه السيدة الوحيدة.
ووجدتني في حجرة صغيرة أنيقة، زخرفت جدرانها بالكلمات المقدسة، في صدرها كرسي من الآبنوس يقوم على أربعة أسود من الذهب، وبين يديه يقع كرسي من الآبنوس ذو مقبضين من الذهب الخالص. وجاد الزمان بالرؤية، فرأيت السيدة العجيبة مقبلة في ثوب أبيض فضفاض، رشيقة جميلة عظيمة، لا ينحني ظهرها تحت وطأة أربعين عاما مثقلة بالمحن وسوء المآل. جلست وأشارت إلي بالجلوس، وطالعتني بعينين ساجيتين تنداح في جمالهما الملالة. بدأت بالثناء على أبي ثم سألتني بمرارة: كيف وجدت مدينة النور؟
فغضضت بصري المفتون بجمالها ولذت بالصمت، فأنشأت تقول: لقد سمعت الكثير عنه وعني، فاستمع الآن إلى صوت الحقيقة ... شببت وترعرعت مليئة بحب الحقيقة والدنيا، منتفعة بحكمة أبي آي. لم أشعر بفقد أمي في عامي الأول لما وجدته عند تي من حنان قلب كبير، فكانت لي أما لا زوجة أب، ووهبتني طفولة سعيدة. ولم تتبدل عواطفها بمولد أختي موت نجمت بفضل حكمتها، ونشأنا أختين متحابتين، وإن جنى علي تفوقي بعد ذلك ما يجني من إثارة للغيرة والحسد، وإن لم يستفحل ذلك بيننا إلا فيما بعد. وظلت تي على حنانها لا تفرق بيننا، على الأقل في الظاهر، فشكرت لها ذلك، وكافأتها عليه في حينه فاخترتها مربية للملكة، وأنزلتها بمنزلة الأميرات. وذات يوم جاءنا أبي برجل مبارك ممن يقرءون الغيب، فنظر في طالع الأختين، وقال: هاتان البنتان ستجلسان على عرش مصر.
فدهش أبي وسأله: الاثنتان؟!
فأجابه بيقين على مسمع منا: الاثنتان.
Bilinmeyen sayfa